الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

مجاميعه أنّ الشريف الرضي الموسويّ ـ رحمه الله ـ أحضر إلى ابن السيرافيّ النحويّ (١) ، وهو طفل جدّا لم يبلغ عمره عشر سنين ، فلقّنه النحو ، وقعد معه في الحلقة ، فذاكره بشيء من الإعراب على عادة التعليم ، فقال له : إذا قلنا : رأيت عمر ، فما علامة النّصب في عمر؟ فقال له الرضيّ : بغض علي (ع) ، فعجب السيرافىّ والحاضرون من حدّة خاطره (٢) ، انتهى.

واللؤم ضد الكرم في الأخلاق والحسب ، وبغض على (ع) فوق اللؤم ، لما ورد في ذلك من الآثار الكثيرة والأخبار الشهيرة ، منها ما رواه عبد الله بن مسعود (٣) ، قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : من زعم أنّه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليا فهو كاذب ، ليس بمؤمن ، وكم من هذا. (٤)

أوّل من وضع النحو وحكاية وضعه وشرف علم العربية : «وواضع علم النحو لحفظ الكلام» إتّفق العلماء على أنّ أوّل من وضع علم النحو وابتدعه وأنشأه علي (ع).

قال أبو القاسم الزّجاجيّ (٥) في أماليه : حدّثنا أبو جعفر محمد بن رستم الطبريّ ، حدّثنا أبو حاتم السجستانيّ ، حدّثني يعقوب بن إسحق الحضرميّ (٦) ، حدّثنا سعيد بن مسلم الباهليّ (٧) ، حدّثنا أبي عن جدّي عن أبي الأسود الدئلي (٨) قال ، قال : دخلت على عليّ بن أبي طالب (ع) فرأيته متفكّرا فقلت له : فيم تفكّر يا امير المؤمنين؟ قال إنّى سمعت ببلدكم هذا لحنا ، فأردت له أن أصنع كتابا في أصول العربية ، فقلت : إن فعلت هذا أحييتنا ، وبقيت فينا هذه اللغة ، ثمّ أتيته بعد ثلاث فألقى إليّ صحيفة فيها بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كلّه اسم وفعل وحرف.

__________________

(١) الحسن بن عبد الله أبو سعيد السيرافيّ النحويّ ، عالم بالنحو والفقه واللغة والشعر والعروض والقرآن ، من كتبه «شرح كتاب سيبويه ، الإقناع في النحو و... بغية الوعاة ٢ / ٥٠٩.

(٢) ما ذكرت هذه الحكاية في «ح وط».

(٣) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي صحابي من أكابرهم فضلا وعقلا وقربا من رسول الله (ص) وهو من أهل مكة ، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة. الأعلام للزركلي ٤ / ٢٨٠

(٤) سنن نسائي لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، الطبعة الثانية ، دار الفكر ، بيروت ، ١٤٢١ ه‍. كتاب ايمان ص ١٩٢٠.

(٥) يوسف بن عبد الله الزجاجيّ أبو القاسم ، كان غزير العلم في الأدب واللغة ، صنف : شرح الفصيح ، اشتقاق الأسماء ، الإيضاح في علل النحو والأمالى ، مات سنة ٤١٥. بغية الوعاة ٢ / ٣٧٥.

(٦) يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرميّ البصريّ ، أحد القرّاء العشرة. له في القراءآت رواية مشهورة وله كتب منها : الجامع ووجوه القراءآت. مات سنة ٢٠٥ ه‍ بالبصرة. الأعلام للزركلي ، ٩ / ٢٥٥.

(٧) لم أجد ترجمة حياته.

(٨) ظالم بن عمرو بن ظالم أبو الأسود الدئلي البصريّ كان شيعيا شاعرا ، وهو أوّل من نقط المصنّف ، مات سنة ٦٠٩ ه‍ ق. بغية الوعاة ٢ / ٢٢.

٤١

فالاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ، ثمّ قال لى : تتبعه ، وزد فيه ما وقع لك ، واعلم يا أبا الأسود ، أنّ الاشياء ثلاثة ، ظاهر ومضمر ، وشئ ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنّما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر.

قال أبو الأسود فجمعت منه أشياء ، وعرّضتها عليه ، فكان من ذلك حروف النصب ، فذكرت منها «إنّ وأنّ وليت ولعلّ وكأنّ» ولم أذكر «لكنّ» فقال لى : لم تركتها ، فقلت : لم أحسبها منها ، فقال : بلى هى منها ، فزدها فيها ، انتهى.

ثمّ من عناية الله سبحانه بهذه اللغة أن قيّض لها في كلّ زمان قوما يبحثون عن حقائق هذا العلم ودقائقه ، حتّى صنّفوا فيه الكتب المعتبرة والرسائل المحرّرة ، وأشرب القلوب محبّة هذا العلم حتى أنّه يتعلّمه من ليس من العرب ، ولا له غرض في إصلاح لغتهم لطفا من الله تعالى بهذه اللغة الشريفة ، لئلا تضيع أو تختلّ قواعدها ، فبقيت على مرّ الزمان ، وهى مشيّدة الأركان ، وما أحسن ما أنشده العلّامة أثير الدين أبو حيان لنفسه من قصيدة طويلة يمدح فيها النحو وسيبويه والخليل (١) ثم خصّها بمدح ابن الأحمر : (٢) [من الطويل]

٤ ـ هو العلم لا كالعلم شئ تراوده

لقد فاز باغيه وأنجح قاصده (٣)

وما فضّل الإنسان إلا لعلمه

ولا امتاز إلا ثاقب الذهن واقده

وقد قصرت أعمارنا وعلومنا

يطول علينا حصرها ونكابده (٤)

وفى كلها خير ولكنّ أصلها

هو النحو فاحذر من جهول يعانده (٥)

وناهيك من علم علىّ مشيّد

مبانيه أكرم بالّذي هو شايده (٦)

وما زال هذا العلم تنميه سادة

جهابذة تختاره وتقاصده (٧)

__________________

(١) الخليل بن أحمد الفراهيديّ البصريّ صاحب العربيّة والعروض ، وهو أستاذ سيبويه. وله كتاب «العين». بغية الوعاة ، ١ / ٥٥٧.

(٢) إسماعيل بن يوسف الخزرجيّ المعروف بابن الأحمر ، مؤرخ أريب ، من كتبه «نثر الجمان» و... مات سنة ٨٠٧ ه‍. الأعلام للرزكلي ، ١ / ٣٢٩.

(٣) اللغة : تراوده : تطلبه. الباغي : الطالب.

(٤) اللغة : الحصر : الإحصاء. نكابد : نقاسي شدّته.

(٥) اللغة : يعانده : يخالفه.

(٦) اللغة : ناهيك : كافيك. شائده : رافعه.

(٧) اللغة : السادة : جمع السّيّد. الجهابذة : جمع جهبذ أي النّقّاد الخبير بغوامض الأمور.

٤٢

ولقد أبدع المصنّف (ره) في براعة الاستهلال من ذكر الكلمة والكلام والإبتداء والخبر والعلم والرفع والنصب والكسر والجزم ، وهو من محاسن البديع المرغوب فيها.

ص : وبعد فهذه الفوائد الصّمديّة ، في علم العربيّة. حوت من هذا الفنّ ما نفعه أعمّ ، ومعرفته للمبتدئين أهمّ ، وتضمّنت فوائد جليلة في قواعد الإعراب ، وفرائد لم يطلّع عليها إلا أولو الالباب. ووضعتها للأخ الاعزّ عبد الصّمد ؛ جعله الله من العلماء العاملين ، ونفعه بها وجميع المؤمنين. وتشتمل على خمس حدائق :

معنى الإشارة إلى المصنّفات وإنّها مجازية : ش : «وبعد» بالبناء على الضّمّ لقطعه عن الإضافة لفظا ، وهو ظرف زمان كثيرا ومكان قليلا ، وهنا صالح للأولى باعتبار اللفظ ، وللثّاني باعتبار الرّقم ، والواو للإستئناف ، والعامل فى الظرف ما يفهم من السياق مثل أقول ، أو أعلم ، وهذه الفاء زائدة ، دخلت على توهّم أمّا إشعارا بلزوم ما بعدها لما قبلها ، وقيل : الأصل أمّا بعد ، فحذفت أمّا ، وعوّض عنها الواو تخفيفا لدلالة الفاء عليها ، والإشارة مجازية ، لأنّ الحقيقة أنّما يكون للمشاهد المحسوس الحاضر ، فإذا أشير بها إلى المعدومات أو الموجودات المجرّدة أو المادية الغائبة عن الحسّ ، كان ذلك مجازا تتريلا لحضوره عند العقل مترلة المحسوس الحاضر.

ثمّ الإشارة هنا إلى المتن المعبّر عنه بالفوائد الصمديّة ، والمراد منه أمّا الألفاظ المخصوصة من حيث دلالتها على المعاني المخصوصة ، وأمّا المعاني المخصوصة من حيث عبّر عنها بالألفاظ المخصوصة ، وأمّا عن النقوش المخصوصة من حيث دلالتها على الألفاظ المخصوصة (١) أوّلا والمعاني ثانيا ، وأمّا المركّب من الثلاثة أو الإثنين منها ، وليس لشئ منها حضور في الخارج سوى النّقوش.

أمّا الألفاظ فلعدم حضورها فى الخارج مجتمعة ، وأمّا المعاني فظاهر ، وأمّا المركّبات فلاشتمالها لاأقل على جزء معدوم في الخارج ، ثمّ مجموع النقوش الحاضرة ليس إلا شخصا ما هو معنى المتن ، وهو مطلق النقوش الدالّة على تلك الألفاظ ، فإنّ أسماء الكتب ليست من الأعلام الشخصية ، وإلا كان إطلاقها على غير شخص واحد ممّا يسمّى به مجازا ، بل من الأعلام الجنسية الموضوعة لإشارة إلى الحقائق الكلية ، وليس لها حضور في الخارج ، فعلى تقدير الإشارة إلى النقوش تكون الإشارة إلى الحاضر في

__________________

(١) من أمّا عن النقوش سقطت فى «ط».

٤٣

الذّهن ، هكذا حرّره غير واحد من المحقّقين ، وهو التحقيق ، فما وقع في كثير من كتب المؤلّفين من أنّ الإشارة في مثل هذا تارة تكون حقيقيّة وتارة تكون مجازيّة بحسب وضع الخطبة ليس بشئ الفوائد الصمدية.

النسبة إلى المركّب الإضافىّ المعرّف صدره بعجزه : «أل» للعهد الحضوري ، نحو : هذا الرّجل ، و «الفوائد» جمع فائدة ، وسيأتي معناه لغة وعرفا ، و «الصّمدية» نسبة إلى عبد الصّمد ، على ما تقرّر من أنّ المركّب الإضافىّ المعرّف صدره بعجزه تكون النسبة إلى عجزه ، ويحذف لها الصّدر ، لأنّ العجر هو المقصود بمدلوله ، كالزبيريّ نسبة إلى ابن الزبير ، وكذا إذا كان كنية ككلثوميّ نسبة إلى أمّ كلثوم ، وألحق بها ما خيف منه من اللبس ، كأشهلي نسبة إلى عبد الأشهل ، ومنافيّ نسبة إلى عبد مناف ، وهى هنا كذلك.

وأمّا بناء «فعلل» من جزئى المضاف منسوبا إليه كعبشميّ نسبة إلى عبد الشمس فشاذّ ، والمحفوظ منه ألفاظ يسيرة ، فلا يقاس عليه.

«في علم العربية» أى كائنة فيه على تشبيه ملابسة ما بين اللفظ والمعنى بملابسة الظرفية ، فتارة يجعل المعنى ظرفا للفظ ، كما فعل المصنّف من جهة كونه حاضرا له آخذا بجوانبه بحيث لا يخرج طرف من اللفظ عن طرف من المعنى ، وهو أمر شائع ، يقال هذه الآية في حكم كذا ، وهذا الكتاب في علم كذا ، وتارة يجعل اللفظ ظرفا للمعنى ، كما يقال هذه المسئلة في كتاب كذا ، وهو ظاهر ، حتّى شاع أنّ الألفاظ أوعية للمعاني وقوالب لها وبمترلة الكسوة واللباس.

معنى علم العربية وعلم الأدب وانقسامه إلى اثني عشر قسما : والمراد بعلم العربية هنا علم النحو فقط ، إذ لم يشتمل الكتاب على غيره ، وكثيرا ما يطلق عليه على الخصوص ، وقد يطلق على ما هو أعمّ منه ، كما صرّح به بعضهم حيث قال : علم العربية وعلم الأدب مترادفان ، وهو ـ أعنى علم الأدب ـ علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة.

وقد صرّح الزمخشريّ وغيره بانقسامه إلى اثني عشر قسما ، فمنها أصول ، والبحث فيها أمّا عن المفردات ، فإن كان من حيث جواهرها وموادّها فهو علم اللغة ، وإن كان من حيث صورها وهيأتها فهو علم التصريف ، وإن كان من حيث انتساب بعضها إلى بعضها ببعض بالإصالة والفرعيّة فهو علم الاشتقاق.

٤٤

وأمّا عن المركّبات على الإطلاق أى موزونة أو غير موزونة ، فإن كان باعتبار هيأتها التركيبيّة وتأديتها لمعانيها الأصلية فهو علم النحو ، وإن كان باعتبار إفادتها لمعان مغايرة لأصل المعنى فهو علم المعاني ، وإن كان باعتبار تلك الإفادة في مراتب الوضوح فهو علم البيان.

وأمّا عن المركّبات الموزونة ، فإن كان من حيث وزنها ، فهو علم العروض. وإن كان من حيث أواخر أبياتها ، فهو علم القافية.

ومنها فروع ، والبحث فيها أمّا أن يتعلّق بنقوش الكتابة ، فهو علم الخطّ ، أو يختصّ المنظوم باعتبار النظر فى محاسنه ومعايبه من حيث هو منظوم ، وهذا هو العلم المسمّى بقرض الشعر ، أو يختصّ بالمنثور ، وهو علم إنشاء النثر من الرسائل والخطب ونحوها ، أو لا يختصّ بشئ منها ، بل يكون شاملا لهما ، وهو علم المحاضرات ، ومنه التواريخ.

وأمّا البديع فقد جعلوه ذيلا لعلمى المعاني والبيان. وبعضهم يجعله قسما برأسه ، وهو الأولى ، فتكون الأقسام حينئذ ثلاثة عشر.

«حوت» أى جمعت ، أو أحرزت. يقال : حواه ، أى : جمعه ، أو أحرزه ، «من هذا الفنّ» ، أى فنّ العربية ، والإشارة هنا أيضا مجازية ، ومن للتبعيض ، «ما» نكرة موصوفة ، أى شيئا. «نفعه أعمّ» من نفع ما لم تحوه ، فيجوز أن يكون الجارّ والمجرور (١) حالا منها أو موصولة بمعنى الّذي ، فلا تجوز الحالية حينئذ ، بل الجارّ والمجرور متعلّقان بحوت لا غير.

«ومعرفته للمبتدئين» في هذا العلم ، وهو الّذي ابتدأ فيه ولم يصل منه إلى حالة يستقلّ فيها بتصوير المسائل ، فإن بلغ إلى حالة يستقلّ فيها بتصوير المسائل فهو المتوسّط ، وإن استقلّ التصوير واستحفظ غالب أحكام ذلك العلم وأمكنه إقامة الأدلّة عليه فهو المنتهى ، «أهمّ» من معرفة ما لم يحوه.

معنى الفائدة والغرض والغاية : «وتضمّنت» أى اشتملت على «فوائد» جمع فائدة ، وهي لغة ما حصّلته ، أو حصّل لك من علم أو مال ، وعرفا ما يترتّب من المصلحة على فعل من حيث ترتّبه عليه ، وهو من حيث إنّه على طرف الفعل ونهايته يسمّى غاية فيختلفان اعتبارا ، ويعمّان الأفعال الاختيارية وغيرها.

وأمّا الغرض فقد يفسّر بما لأجله إقدام الفاعل على فعله ، ويسمّى علة غائية له باعتبارين ، فإنّ العلّة بالقياس إلى الفعل والغرض بالقياس إلى الفاعل (٢) ، وعلى هذا

__________________

(١) المجرور سقط في «س».

(٢) الغرض بالقياس إلى الفاعل سقطت في «س».

٤٥

لا يلزم فيه الترتّب ، فيكون أعمّ من الفائدة والغاية من وجه ، ولذلك قيل : قد يخالف الغرض فائدة الفعل كما إذا أخطأ فى اعتقادها. وقد يفسّر بفائدة مترتّبة على الشئ من حيث هي مطلوبة بالإقدام عليه ، وعلى هذا يجب فيه الترتّب ، فيكون أخصّ من الفائدة والغاية صدقا ، «جليلة» أى : عظيمة ، من جلّ الشئ إذا عظم ، ومنه الجليّ للأمر العظيم.

«في قواعد الإعراب» ، أي النّحو ، وإنّما سمّي به مع أنّه باحث عن الإعراب والبناء معا لكونه أشرف ، إذ هو الأصل في الأسماء على الأصح ، ويطلق الإعراب أيضا على إجراء الألفاظ المركّبة على ما تقتضيه الأحكام النحوية ، كما يقال : أعرب هذه القصيدة ، إذا تتّبع ألفاظها ، وبيّن كيفية جريها على قواعد النّحو ، فلو أريد هذا المعنى أيضا هنا لصحّ.

و «فرائد» جمع فريدة ، وهي الدّرّة الكبيرة ، أو الفرائد هي الدرر الكبار الّتي نظمت ، وفصّلت بغيرها ، والمراد بها هنا النكت الحسان والفوائد المرغوب فيها.

«لم يطّلع» كيفتعل ، أي لم يظهر عليها «إلا أولو» أى ذوو ، وهو اسم جمع ، لا واحد له من لفظه ، بل من معناه كما سيأتي بيانه «الألباب» أى العقول جمع لبّ ، فإنّ لبّ كلّ شئ خالصه ، ولبّ الإنسان عقله ، إذ هو سبب الفوز بالسعادة كلّها في الدارين.

قال ابن النفيس (١) فى كتاب «الطريق إلى الفصاحة» : ولفظ اللّب بمعنى العقل يقبح مفردا ، ولا يقبح مجموعا ، كقوله تعالى : (لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران / ١٩٠] ، قال : ولم يرد لفظ اللبّ مفردا إلا مضافا ، كقوله (ص) : «ما رأيت من ناقصات العقل والدين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحدا كنّ» (٢). أو مضافا إليه ، كقول جرير (٣) [من البسيط] :

٥ ـ يصرعن ذا اللّبّ حتّى لا حراك به

وهنّ أضعف خلق الله إنسانا (٤)

انتهى.

قيل : هذا البيت والّذي قبله أغزل شعر قالته العرب قبله :

٦ ـ إنّ العيون الّتي في طرفها حور

قتلتنا ثمّ لا يحيين قتلانا (٥)

__________________

(١) أبو الحسن علي بن أبي الحزم المعروف بابن النفيس ، كان يعدّ من كبار العلماء عصره في الطّب واللغة والفلسفة والفقه والحديث ، توفّي سنه ٦٨٧ ه‍. دائرة المعارف فؤاد إفرام البستاني ٤ / ١٠٦.

(٢) صحيح بخاري ، لأبي عبد الله البخاري ، الطبعة الثالثة ، دار الأرقم ، بيروت ، ١٤١٨ ه‍ ق ، ١ / ١٩٣ برقم ٢٩٣.

(٣) جرير بن عطية شاعر العصر الأموى ، أحد شعراء النقائص (٦٥٣ ـ ٧٣٣).

(٤) اللغة : يصرعن : يطرحن على الأرض ، الحراك : الحركة.

(٥) اللغة : الحور : شدة بياض بياض العين مع شدّة سواد سوادها ، القتلي : جمع القيتل بمعني المقتول.

٤٦

معنى الصّمد ومعنى الإيمان : «وضعتها» أى صنّفتها ، وأنشأتها «للأخ الأعزّ» أي لأجله. وفى القاموس الأعزّ : العزيز ، أبي تراب عبد الصّمد بن حسين بن عبد الصمد العامليّ ، وهو أخوه الأصغر ، كان شيخا فاضلا نبيلا ، إلا أنّه لم يكن في رتبة أخيه ، وله خلف إلى زماننا هذا ، مستوطنون ببلاد العجم. والصّمد السيد المصمود إليه في الحوائج ، من صمد إذا قصد ، والدائم الرفيع. وعن ابن عباس (رض) ، الصّمد : السيّد الّذى كمل في سودده ، وفسّره المشبهة (١) لعنهم الله بالمصمت الّذى لا جوف له ، وردّ بأنّ ذلك لا يكون إلا من صفة الجسم ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

«جعله الله» أى صيّره ، وهي جملة خبرية لفظا ، إنشائية معنى ، «من العلماء العاملين» بعلمهم. والدّعاء له بذلك نهاية إرادة الخير له ، لما ورد في ذلك من الآثار وصحيح الأخبار.

«ونفعه بها وجميع المؤمنين». الإيمان أخصّ من الإسلام ، إذ هو إقرار باللسان ، ومعرفة بالجنان وعمل بالأركان. والإسلام هو الأوّل فقط. أو هما مترادفان كما مرّ. وفيه أربعة أقوال آخر ، والكلام فى ذلك يطول ، وليس هذا محلّه.

و «تشتمل» أى هذه الفوائد الصّمدية «على خمس حدائق» ، جمع حديقة ، وهي الروضة ذات الشجر والبستان من النخل ، أو كلّ ما أحاط به البناء أو القطعة من النخل ، كذا في القاموس ، وفيه استعارة مطلقة. فإن قلت هذه الحدائق هي نفس الفوائد ولا معنى لاشتمال الشئ على نفسه؟ قلت : اشتمالها عليها من قبيل اشتمال الكلّ على أجزاءه باعتبار أنّ المشتمل مجموع الأجزاء ، والمشتمل عليه كلّ واحد منها ، أو أنّ الأوّل مجموعها معا ، والثاني مجموعها لا معا ، أعني أحاد الأجزاء بالأسر ، ويحتمل أن يراد بالفوائد الألفاظ والنقوش ، وبالحدائق المعاني أو بالعكس ، إذ يصحّ أن يقال : الألفاظ قوالب المعاني ، كما يصحّ أن يقال : إنّ المعاني قوالب الألفاظ باعتبارين كما مرّ.

ووجه الحصر في هذه الخمسة أنّ المذكور فيها أمّا مقصود بالذات لا غير ، أو ما يتوصّل به إليه مع شئ مقصود بالذات ، الثاني الحديقة الأولى ، والأول إمّا أن يبحث فيه عمّا يتعلّق بالأسماء أو لا ، الأولي الحديقة الثانية ، والثاني إمّا أن يبحث فيه عمّا يتعلّق بالأفعال أولا ، الأول الحديقة الثالثة ، والثاني إمّا أن يبحث فيه عن الجمل والمفردات ، الأوّل الحديقة الرابعة ، والثاني الحديقة الخامسة ، ولا يضرّ خروج الديباجة ، لأنّ المراد حصر المقصد بالذات ، أو ما يتوصّل به إليه.

__________________

(١) هم فرقة شبهوا الله سبحانه بالأجسام.

٤٧
٤٨

الفصل الأول الحديقة الأولى

٤٩
٥٠

معنى النحو في الأصل وحدّه اصطلاحا

ص : الحديقة الأولى : فيما أردت تقديمه.

غرّة : النحو علم بقوانين ألفاظ العرب ، من حيث الإعراب والبناء ، وفائدته حفظ اللسان عن الخطأ في المقال ، وموضوعه : الكلمة والكلام. فالكلمة : لفظ موضوع مفرد : وهي اسم وفعل وحرف. والكلام لفظ مفيد بالإسناد ، ولا يتأتّى إلا في اسمين ، أو فعل واسم.

ش : «الحديقه الأولى فيما أردت تقديمه» من بيان تعريف العلم الّذي هو بصدده وفائدته وموضوعه وتعريف موضوعه وأشياء أخر تمرّ عليك بالتفضيل إن شاء الله تعالى ، وإنّما قدّم ذلك لما قد تقرّر من أنّه من أراد الخوض بعلم من العلوم على الوجه الأكمل ، ينبغي له أن يتصوّر أوّلا حقيقة ذلك العلم بحدّه ليحصل له الإحاطة بجهة الوحدة الّتي باعتبارها جعلت المسائل الكثيرة علما واحدا ، فيا من فوات ما يعنيه والاشتغال بما لا يعنيه ، وإن يعرف فائدته وغايته ليصون سعيه عن العبث ، وإن يعرف موضوعه الّذي به يعدّ ليكون على زيادة بصيرة في طلبه.

فبيّن ذلك كلّه مقدّما له فقال : «غرّة» أي هذه غرّة ، بضمّ الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة ، وهي بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم ، والغرّة من الشهر ليلة استهلال القمر. وفي الصحاح ، غرّة كلّ شيء أوّله وأكرمه. فعلى التفسيرين الأوّلين يكون فيه استعارة مطلقة للنحو. قال أبو الفتح بن جنّي في الخصائص : هو في الأصل مصدر شائع ، أي نحوت نحوا ، كقصدت قصدا ، ثمّ خصّ به انتحاء هذا القبيل من العلم ، كما أنّ الفقه في الاصل مصدر فقهت الشيء أي : عرفته ، ثمّ خصّ به علم الشريعة من التحليل والتحريم ، وذكر له نظائر في قصر ما كان شائعا في جنسه على حدّ أنواعه.

قال : وقد استعملته العرب ظرفا ، أنشد أبو الحسن (١) [من الرجز] :

__________________

(١) علي بن مؤمن أبو الحسن بن عصفور ، حامل لواء العربية في زمانه بالأندلس ، صنّف الممتع في التصريف ، شرح الجزولية ، ثلاثة شروح علي الجمل ومات سنة ٦٦٩ ، بغية الوعاة ، ٢ / ٢١٠.

٥١

٧ ـ يحدو بها كلّ فتى هيّات

وهنّ نحو البيت عامدات (١)

قيل : وإنّما سمّي هذا العلم به ، لأنّ أمير المؤمنين (ع) لمّا أملى أصوله على أبي الأسود كما تقدّم ، قال له : انح هذا النحو يا أبا الأسود ، فسمّي به تبرّكا بلفظه الشريف.

واصطلاحا «علم» وهو كالجنس ، يدخل فيه جميع العلوم على تفاوت معانيها. «بقوانين ألفاظ العرب» : القوانين جمع قانون ، وهو في الأصل لفظ يونانيّ أو سرياني موضوع لمسطر الكتابة ، وفي الاصطلاح قضيّة كليّة يتعرّف منها أحكام جزئيات موضوعها كقولنا : كلّ فاعل يجب رفعه ، وكلّ مفعول يجب نصبه (٢) وكلّ مضاف إليه يجب جرّه. وترادفه القاعدة والأصل والضابط. وهذا فصل أخرج به ما ليس بقوانين ألفاظ العرب وعلم اللغة ، فإنّه ليس بقواعد كليّة بل بجرئيّات ، وقوله : «من حيث الإعراب والبناء» أخرج به ما عدا العلم المقصود ، فانطبق التعريف عليه جامعا مانعا.

واعلم أنّ هذا الحدّ جار على عرف الناس الآن من جعل علم التصريف قسما برأسه غير داخل في علم النحو ، والمتعارف قديما شمول علم النحو له ، وكثيرا ما ينجرّ مسائل من أحد الفنّين إلى الآخر لما بينهما من شدّة الارتباط ، ولم يكن السلف كسيبويه فمن بعده يفردون أحدهما عن الآخر بالتصنيف إلا ما كان عن أبي عثمان المازنيّ (٣) ، وتلاه أبو الفتح بن جنيّ والزمخشريّ وابن الحاجب (٤) وابن هشام وغيرهم كالمصنّف هنا ، وفي التهذيب (٥) وممّن سلك عرف المتقدّمين من المتأخّرين جمال الدّين ابن مالك وناظر الجيش (٦) وأبو حيّان ، وفيقال : عوضا من قولهم من حيث الإعراب والبناء ، من حيث الإفراد والتركيب.

__________________

(١) لم يسمّ قائله ، اللغة : يحدو بها : أي إبل الحجيج أي يزجرها للمشي ، هيّات : فعّال بمعنى الصياح من هيّت به إذا صاح به ، وهو مجرور لأنّه صفة ، عامدات : قاصدات ، وهي حال من الضمير المستكن في الظرف.

(٢) سقطت «وكل مفعول يجب نصبه» في «س».

(٣) بكر بن محمد أبو عثمان المازنيّ كان إماما في العربيّة ، قيل : لم يكن بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان ، من تصانيفه : كتاب في القرآن ، علل النحو ، تفاسير كتاب سيبويه و... مات سنة ٢٤٩ ه‍ ، المصدر السابق ١ / ٤٦٣.

(٤) عثمان بن عمر بن أبي بكر العلّامة أبو عمرو بن الحاجب ، كان من أذكياء العالم ، صنف في النحو : الكافية وشرحها ونظمها ، الوافية وشرحها ، وفي التصريف : الشافية وشرحها. وله الأمالي في النحو مجلّد ضخم في غاية التحقيق ، مات سنة ٦٤٦ ه‍ ، بغية الوعاة ٢ / ١٣٤.

(٥) التهذيب في النحو لأبي البقاء العكبري المتوفّى سنة ٥٣٨ ه‍. كشف الظنون ، ١ / ٥١٨.

(٦) محمد بن يوسف عبد الدائم الحلبيّ محب الدين ناظر الجيش مهر في العربية وغيرها ، شرح التلخيص والتسهيل ومات سنة ٧٧٨ ه‍ ، بغية الوعاة ، ١ / ٢٧٥.

٥٢

فائدة علم النحو وموضوعه وتعريف الكلمة واللفظ : «وفائدته حفظ اللسان عن الخطاء في المقال» أي في الكلام والاستعانة على فهم كتاب الله تعالى والسّنّة ومسائل الفقه ومخاطبة العرب بعضهم بعضا. قيل : ومن ثمّ كانت معرفته واجبة ، لأنّ تعلّم الشرائع الواردة بلغة العرب لا يتمّ إلا به ، وكلّ ما لا يتمّ الواجب المطلق إلا به فهو واجب.

ثمّ اللحن من أقبح الأشياء في الانسان ، قال بعضهم : «لئن أقرأ فاسقط فأحبّ إلى من أن أقرأ فالحن» وكتب كاتب لأبي موسي الأشعري (١) ، إلى عمر ، من أبو موسى الأشعريّ ، فكتب إليه عمر : عزمت عليك لما قنعت كاتبك سوطا. وذكر أبو عبيدة (٢) أنّ هذا الكاتب هو حصين بن أبي الحرّ العنبريّ وأولاده ينكرون ذلك أشد الإنكار. وقال رجل لبنيه : يا بنيّ أصلحوا من ألسنتكم ، فإنّ الرجل تنوبه النائبة ، فيجب أن يتجمّل فيها ، فيستعير من أخيه دابته وثوبه ، ولا يجد من يعيره لسانه ، ولله درّ من قال [من الكامل] :

٨ ـ النحو يبسط من لسان الألكن

والمرء يكرمه إذا لم يلحن

فإذا طلبت من العلوم أجلّها

فأجلّها منه مقيم الألسن (٣)

«وموضوعه» موضوع كلّ علم ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتيّة ، وهي اللاحقة له أو لجزئه أو لغرض يساوي ذاته كالتعجّب اللاحق للذات لا بواسطة وكالحركة الإراديّة اللاحقة للإنسان بواسطة أنّه حيوان ، ولا شك أنّه جزء الإنسان وكالضحك العارض للإنسان بواسطة التعجّب. «الكلمة والكلام» هذا أحد الأقوال الثلاثة في موضوع علم النحو ، فقد قيل : إنّ موضوعه الكلمة فقط ، لأنّه إنّما يبحث فيه عن الإعراب والبناء وما يتعلّق بهما ، ولا ريب أنّ ذلك من الأحوال اللاحقة للكلمة ، وأمّا الحكم على بعض الجمل بالإعراب المحليّ فلتتريلها مترلة المفرد ووقوعها موقعه ، وقيل : إنّ موضوعه الكلام فقط ، لأنّ الكلمة لعدم استقلالها وحدّها وعدم حسن السكوت عليها لا تقع في المحاورات إلا في ضمن الكلام ، بل لا يظهر أثر الإعراب والبناء في آخرها إلا في ضمنه ، لا سيّما عند من ذهب إلى أنّها قبل التركيب لا معربة ولا مبنيّة.

وقيل : موضوعه كلاهما ، نظرا إلى كلا الوجهين. وقيل : بناء على تعارف القدماء إدراج الصرف تحت النحو وعليه ، فكان على المصنّف أن لا يذكر إلا موضوع علم

__________________

(١) الأشعري (أبو موسى) (ت ٤٤ ه‍ / ٦٦٥ م) صحابيّ ، أحد الحكمين مع عمرو بن العاص في تحكيم بعد صفّين ، المنجد في الأعلام ص ٥٠.

(٢) هو أبو عبيدة معمر بن المثنّى ولد سنة ١١٠ / ٧٢٨ ومن المرجّح جدّا أنّ مولده كان بالبصرة ، وكان يعدّ من أجمع الناس علما بلغة العرب القدامي وتاريخهم. تاريخ التراث العربي ، فؤاد سزگين ٨٠ / ١١١.

(٣) لم أقف علي قائلهما.

٥٣

النحو مجرّدا عن غيره ، لأنّ كتابه لم يشمل إلا عليه لا غيره ، واستمداده من الكلام العربيّ ومسائله المطالب الّتي يبرهن عليها فيه ، كعلمنا بأنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب إلى غير ذلك (١).

وأل في الكلمة والكلام للعهد الذهنيّ ، أي المصطلح عليهما عند النحاة ، فالكلمة شرع في الكلام على حقيقة الكلمة والكلام ، لأنه إنّما يبحث عنها ، والفاء فصيحة ، أي إذا عرفت أنّ موضوعه الكلمة والكلام. «فالكلمة» وأل فيها للعهد الذكريّ ، فإنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى ، كما إذا أعيدت النكرة معرفة ، وهذا أغلبيّ لا كليّ. وفيه كلام طويل ، ليس هذا محلّه. وهي لغة تقال للجمل المفيدة والقصيدة كقوله تعإلى : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) [التوبة / ٤٠] ، أي لا إله إلا الله. وقولهم كلمة الحويدرة أي قصيدته ، والحويدرة لقب شاعر ، تصغير حادرة ، واسمه قطبة بن يحصن ، روي أن حسانا (٢) إذا قيل له : أنشدنا ، قال : أنشدكم كلمة الحويدرة ، يعني قصيدته الّتي مستهلها [من الكامل] :

٩ ـ بكرت سميّة غدوة فتمتّع

وغدت غدوّ مفارق لم يربع (٣)

وهو أمّا من باب إطلاق الجزء مرادا به الكلّ ، أو من باب الاستعارة المصرّحة من حيث إنّ الكلام لارتباط أجزائه بعضها ببعض كالكلمة الواحده ، واصطلاحا عند المنطقيّ الفعل على ما قيل ، وعند النحويّ «لفظ» أي : ملفوظ ، وهو في الأصل مصدر بمعنى الرمي مطلقا ، ثمّ خصّ بالرمي من الفم ، ثمّ أطلق عليه من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، إلا أنّ هذا الإطلاق صار حقيقة عرفيّة ، والخلق بمعنى المخلوق مجاز لغويّ ، واشتهر تعريف اللفظ بأنّه الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائيّة.

لكن انتقد بأنّه لا يشمل اللفظ البسيط ، فمن ثمّ اختير في تعريفه ما قيل صوت معتمد على مقطع الفم حقيقة أو حكما ، فالأوّل كزيد ، والثاني كالمنويّ في فم المقدّر بانت بنا على جواز استعمال المشترك في معنييه الحقيقين إن كان حقيقة فيهما أو الحقيقيّ والمجازيّ ، إن كان حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر ، ولا مخلص عند مانعي

__________________

(١) سقطت هذه الجملة في «س».

(٢) أبو عبد الرحمن حسان بن ثابت بن المنذر ، من قبيلة الخزرج ، ولد بالمدينة ، اتّصل بالغساسنة ، ومدحهم كما اتّصل ببلاط الحيرة ، انتقل إلى الإسلام وناصره بلسانه فلقب شاعر النبي (ص) توفّي سنة ٦٧٤ م / ٥٤ ه‍. حنا الفاخوري ، الجامع في تاريخ الأدب العربي ، الأدب القديم ، لاط ، دار الجيل ، بيروت ، لات ، ص ٤١٣.

(٣) هو للحادرة. اللغة : بكرت : خرجت أوّل النهار قبل طلوع الشمس. غدوة : ما بين الفجر وطلوع الشمس.

٥٤

المسألة ، وهم الأكثر إلا بدعوي أنّه «موضوع» لأمر يعمّها كما قاله ابن هشام في شرح اللمحة.

وإنّما لم يقل لفظه لكونه في الأصل مصدرا ، ومن حقّه أن لا يؤنّث ولا يجمع ، لأنّه موضوع للحقيقه الّتي من شأنها ذلك ، مع أنّ اللفظ أخصّ ، ولو عبّر بالقول بدلا عن اللفظ لكان أولي ، لأنّ القول أخصّ منه لاختصاصه بالموضوع على الأشهر ، فكلّ قول لفظ ولا عكس بالمعنى اللغويّ ، ولم يكن يحتاج إلى التعقيد بقوله موضوع.

معنى الوضع والمفرد ومعنى الاحتراز بالجنس : الوضع لغة جعل الشيء في حيّز معيّن ، واصطلاحا قيل : تخصيص شيء بشيء بحيث (١) متي أطلق المخصّص به فهم المخصّص ، وقيل : تعيين شيء بشيء بحيث إذا علم الشيء الأوّل ، فهم منه الشيء الثاني ، ويسمّى الأوّل دالّا والثاني مدلولا.

«مفرد» وهو ما لا يقصد بجرئه الدالّة على جزء المعنى المقصود حين الجزئيّة كزيد ، فإنّ أجزاءه وهي ذوات حروفه الثلاثة الّتي هي «ز ي د» كلّ منها لا يدلّ على معنى ، ووقع في عبارة كثير من المؤلّفين أنّ المفرد ما لا يدلّ جزءه على جزء معناه ، فإنّ أجزاءه وهي الزاي والياء والدال لا تدلّ على معنى في زيد وهو غلط ، لأن الزاي والياء والدّال ليست أجزاءه ، بل هذه أسماء مسمّياتها ، وأجزاءه ومسمّياتها لا تدلّ على معنى ، إنّما يقال لها حروف المباني ، وتطلق بإزاء حروف المعاني الّتي هي الأسماء والأفعال ، نبّه عليه بعض المحقّقين.

واندرج في المفرد ما لا جزء له كهمزة الاستفهام ، وما له جزء غير دالّ على معنى كما مرّ ، وما له جزء يدلّ على معنى ليس جزء المعنى المقصود كعبد الله علما. وما له جزء دالّ على معنى هو جزء المعنى المقصود ، لكن لم تقصد دلالته حين الجزئية كالحيوان الناطق علما للآدمي ، فالمعنى غير مقصود في عبد الله ، والدلالة غير مقصودة في الحيوان الناطق ، فافترقا.

قال بعضهم : واعلم أنّ الإفراد لللفظ بالذات وللمعنى بالعرض ، يظهر ذلك بالتأمّل الصادق في حقيقتهما ، فجعله صفة لللفظ كما وقع في عبارته أولي من جعله صفة للمعنى كما وقع في عبارة ابن حاجب ، انتهى.

__________________

(١) سقط بحيث في «ح».

٥٥

هذا مفهوم حدّ الكلمة ، وأمّا احترازاته فاللفظ وإن كان في التعريف بمثابة الجنس ، وهو إنّما يؤتى به لبيان أصل الذات لا لإخراج شيء ، إذ ليس قبله غير المعرّف ، إلا أنّه يؤذن بمباينة ما عداه للمعرّف ، وهذا معنى الاحتراز بالجنس كما أفاده ابن هشام في شرح اللمحة. ولذلك لا يقال : يخرج عنه أو يقال : إنّ الجنس هنا وهو اللفظ لما كان أخصّ من الفصل من وجه صحّ الاحتراز به من جهة خصوصه ، وأمّا تعيّنه حينئذ للجنسية دون الفصليّة فلكونه أظهر أوصاف الكلمة ، فقدّم ، وجعل جنسا ، واحترز به عمّا ليس بلفظ ، كالدّوال الأربع ، وهي الإشارات. والنّصب والعقد والخطوط ، فإنّها موضوعة وليست بكلمات ، وخرج بالموضوع غير الموضوع كالمهملات والمحرفات والألفاظ الدّالة بالطبع والعقل ، وبالمفرد المركّب ، وهو ما يدلّ جزؤه على جزء معناه. فإن حسن السكوت عليه فهو التامّ ، وإلا فهو الناقص كزيد قائم وعبد الله غير علم.

معنى المركّب وهل هو موضوع أم لا : وأورد أنّ نحو ضرب مفرد ، مع أنّه لا يصدق عليه تعريفه ، ويصدق عليه تعريف المركّب ، لأنّ جزءه وهو المادّة يدلّ على الحدث ، وجزءه الآخر وهو الهيئة يدلّ على الزمان ، وعلى نسبة ذلك الحدث إلى الفاعل المعيّن أو المبهم على الخلاف في ذلك.

والتحقيق هو الأوّل ، فانتقض التعريف جمعا ومنعا ، وأجيب بأنّ المراد بالجزء المعتبر في التركيب ما يكون مرتّبا في السمع ، والهيئة مع المادّة ليست كذلك ، بل يوجدان مسموعين معا ، فلا انتقاض ، هذا وإنّما يخرج المركّب بقيد المفرد على القول بأنّه موضوع ، وإلا فقد خرج بقيد الوضع كما هو مذهب جمع من المحقّقين منهم الرازيّ (١) وابن الحاجب وابن مالك ، قالوا : ليس المركّب بموضوع ، ودلالته على معناه عقليّة لا وضعيّة ، واحتجّ له ابن مالك في كتاب الفيصل على المفصّل بوجهين : أحدهما أنّ من لا يعرف من كلام العرب إلا لفظين مفردين صالحين لإسناد أحدهما إلى الآخر ، فإنّه لا يفتقر عند سماعهما مع الإسناد إلى معرفة معنى الإسناد ، بل يدركه ضرورة ثانيها أنّ الدالّ بالوضع لا بدّ من إحصائه ومنع الاستيناف فيه كما كان في المفردات والمركّبات القائمة مقامها.

__________________

(١) الرازي : هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا ، كان من أكابر أئمة اللغة ، أخذ عنه بديع الزمان الهمداني وغيره ، له تصانيف كثيرة منها : المجزل في اللغة ، وغريب إعراب القرآن ، توفّي سنة ٣٩٥ ه‍. محمد فريد وحدي ، دائرة معارف القرن العشرين ، المجلد الرابع ، الطبعة الثالثة ، بيروت ، دار المعرفة ، ١٩٧١ م ، ص ٣٩٥.

٥٦

فلو كان الكلام دالا بالوضع ، وجب ذلك فيه ، ولم يكن لنا أن نتكلّم بكلام لم نسبق إليه ، كما لا يستعمل في المفردات إلا ما سبق استعماله ، وفي عدم ذلك برهان على أنّ الكلام ليس دالا بالوضع ، انتهى.

والأصحّ كما قال القرافيّ (١) ، ويعزى إلى الجمهور : أنّ المركّب موضوع ، أي : بالنوع لا بالشخص ، فيكون خارجا بقيد المفرد كما قرّرناه ، وبيانه أنّ الوضع إمّا شخصيّ أن تعلّق بألفاظ معيّنة سماعيّة ، يحتاج في معرفتها إلى علم اللغة ، ونوعيّ أن تعلّق بألفاظ معيّنة ، يعرف به مفردات قياسيّة ، يحتاج في معرفتها إلى علم الصرف ، كما بيّن أنّ كلّ اسم فاعل من الثلاثيّ المجرّد على زنة فاعل ، وكلّ اسم مفعول منه على زنة مفعول ، إلى غير ذلك من القوانين الصرفيّة ، أو يعرف به مركّبات قياسيّة ، يحتاج في معرفتها إلى علم النحو ، كما بيّن أنّ كلّ مضاف مقدّم على المضاف إليه ، والفعل على الفاعل إلى غير ذلك من القوانين النحويّة ، فالوضع جار في المفردات والمركّبات معا.

زاد ابن مالك في التسهيل (٢) في تعريف الكلمة قيد الاستقلال لإخراج أبعاض الكلمات كحروف المضارعة وألف المفاعلة وتاء قائمة وياء النسب ، فإنّها ليست بكلمات لعدم استقلالها ، ومن أسقط هذا القيد كالمصنّف رأي ما جنح إليه الرضيّ من أنّها وما هي فيه كلمتان ، صارتا لشدّة الامتزاج كالكلمة الواحدة ، على أنّه أورد على ابن مالك أنّ مقتضى هذه الزيادة مخرج ضمير الفاعل كقمت مثلا ، فإنّه غير مستقلّ ، مع أنّه كلمة ، وأجيب بأنّ المراد بالمستقلّ ما يشمل المستقلّ بمرادفه ، وبأنّ الأصل في الضمير أن يكون مستقلّا ، نحو أنا وأنت وهو ، فلا يضرّ عروض اتّصاله لمعنى الثاني.

للمفرد ستّة معان : للمفرد ستّة معان ، فإنّه كما يطلق على ما يقابل المركّب كما هنا يطلق على ما يقابل (٣) المثنّى والمجموع على حدّه ، كما في باب الإعراب بالحركات وعلى مقابل المضاف وشبهه ، كما في باب النداء ولا النافية للجنس ، وعلى ما يقابل الجملة ، كما في قولهم الأصل في الخبر أن يكون مفردا ، وعلى ما يقابل العلم المزجيّ والإضافيّ والاسناديّ ، كما في باب العلم وعلى معنى الواحد كما في باب أسماء العدد ،

__________________

(١) شيخ شهاب الدين القرافي أحمد بن إدريس (ـ ٦٨٤ ه‍ ق) مغربيّ عاش ومات في مصر ، من علماء المالكية ، له مؤلفات في الفقه والاصول والعربية. مغني اللبيب ص ١٦٨.

(٢) التسهيل هو كتاب «تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد» في النحو ، للشيخ جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بابن مالك النحويّ المتوفّي سنه ٦٧٢ ه‍. كشف الظنون. ١ / ٤٠٥.

(٣) هذه الجملة محذوفة في «ط».

٥٧

لا يقال فاستعماله حينئذ في التعريف مخلّ ، لأنّا نقول : إنّما يكون استعمال الألفاظ المشتركة في الحدود مخلّا ، إذا لم تقم قرينة تعيّن المقصود ، أمّا إذا قامت قرينة تعيّنه فلا.

أقسام الكلمة الثلاثة وأدلّة الانحصار فيها : قدّم تعريف الكلمة على الكلام ، لأنّها جزءه ، والجزء مقدّم على الكلّ طبعا ، فقدّمها وضعا ليوافق الوضع الطبع ، ومن قدّم الكلام فلأنّه المقصود بالذات ، وهي أي الكلمة باعتبار مفهومها ثلاثة (١) اسم وفعل وحرف ، أي منقسمة إلى هذه الأنواع ، منحصرة فيها ، كما يفيده السكوت في مقام البيان والتقسيم أيضا ، إذ الأصل فيه أن يكون حاضرا ، والأدلّة على هذا الانحصار ثلاثة : أحدها الأثر ، وهو ما روي عن أمير المؤمنين (ع) وقد مرّ. الثاني : الاستقراء التامّ من أئمة العربيّة ، فإنّهم تتبّعوا كلمات العرب ، فلم يظفروا بغير هذه الثلاثة ، ولو كان ثمّ نوع آخر لعثروا عليه ، الثالث : الدليل العقليّ ، ولهم في ذلك عبارات : منها أنّ الكلمة موضوعة ـ كما مرّ ـ فتكون دالة لا محالة ، لأنّ الوضع من أسباب الدلالة.

فنقول : إمّا أن تدلّ على معنى غير مستقلّ بالمفهومية ، أو لا ، الأوّل حرف ، والثاني إمّا أن يدلّ على اقتران معناها بأحد الأزمنة الثلاثة أولا ، الأوّل الفعل ، والثاني الاسم ، ومنها أنّ الكلمة إمّا أن يصحّ إسنادها إلى غيرها أو لا ، فإن لم يصحّ فهي الحرف ، وإن صحّ فإمّا أن تقترن بأحد الأزمنة الثلاثة أو لا ، فإن اقترنت فهي الفعل ، وإلّا فهي الاسم.

ومنها أنّ العبارات بحسب المعبّر عنه ، والمعبّر عنه (٢) من المعاني ثلاث : ذات وحدث عن ذات وواسطة بين الذات ، والحدث يدلّ على إثباته لها أو نفيه عنها ، فالذات الاسم ، والحدث الفعل ، والواسطة الحرف.

وزاد أبو جعفر بن صابر (٣) قسما رابعا ، سمّاه الخالفة ، وهو اسم الفعل ، لأنّه خلف عن الفعل ، ولم يقل بذلك أحد غيره ، ولم يلتفت إليه أحد.

واعلم أنّ تقسيم الكلمة إلى هذه الثلاثة من تقسيم الكليّ إلى جزئيّاته ، كانقسام الحيوان إلى إنسان وفرس وغيرهما ، فيصحّ إطلاق المقسّم على كلّ من أقسامه ، وبهذا يندفع ما قد يقال : إنّ العطف بواو الجمع يقتضي أن تكون الكلمة مجموع هذه الثلاثة ، ومن جعلها أقساما للكلام فهو من تقسيم الكلّ إلى أجزائه ، كانقسام السكنجبين إلى خلّ وعسل ، فلا يصحّ إطلاق المقسّم على كلّ من أقسامه.

__________________

(١) من وهي حتي هنا سقطت في «ح».

(٢) والمعبر عنه سقط في «ط».

(٣) أحمد بن صابر أبو جعفر النحويّ ، الذاهب إلى أنّ للكلمة قسما رابعا ، وسمّاه الخالفة ، بغية الوعاة ١ / ٣١١. ولم يذكر تاريخ وفاته.

٥٨

قال بعض المحقّقين : جرت عادة أرباب التاليف بالتعقيب الحدود بالتقسيمات ، وفائدته أمّا تكميل معرفة المحدود ، أو تحصيل مفهومات الأقسام (١) ببيان ما يختصّ بكل من الأحكام ، انتهى.

وسمّي الاسم اسما آخذا من السّمة ، أو من السمو على ما تقدّم ، لأنّه علامة على مسمّاه ، أو لسموّه على أخويه باستغنائه عنهما للإخبارية وعنه ، ولهذا قدّم عليهما في الذكر.

[وسمّي] الفعل فعلا ، لدلالته بالتضمّن على الفعل اللغويّ الّذي هو الحدث ، واتّبع به الاسم للاخبار به لا عنه ، والحرف حرفا لكونه على حرف ، أي طرف من الكلام من حيث إنّه لا يدلّ على معنى في نفسه ، وإنّه لا يقع عمدة في الكلام بخلافه فيهما ، ولهذا أخّر عنهما.

الكلام ومعناه لغة وحدّه اصطلاحا : «الكلام» لغة يطلق على ستّة معان : الخط ، وشرطه أن يكون معبّرا عنه باللفظ المفيد ، ومنه تسميتهم ما بين دفّتي (٢) المصحف كلام الله تعإلى ، والإشارة المفهمة ومنه قوله [من الطويل] :

١٠ ـ إذا كلّمتني بالعيون الفواتر

رددت عليها بالدموع البوادر (٣)

واللفظ الّذي لا يفيد ، قيل : ومنه الحديث «هذه الصلاة لا يصحّ فيها شئ من كلام الناس ، فإنّها تبطل ولو بالكلمة الواحدة (٤)». وما فهم من حال الشئ وهو المسمّى بلسان الحال ، ومنه قوله [من الرجز] :

١١ ـ شكا إلى جملي طول السّرى

 ... (٥)

ومعلوم أنّ الجمل لا يتكلّم ، وإنّما فهمت الشكوي من لسان حاله.

واسم الحديث الّذي هو التكليم ، ومنه قوله [من البسيط] :

١٢ ـ قالوا كلامك هندا وهي مصغية

 ... (٦)

أي تكليمك هندا.

__________________

(١) محدودات الأقسام «س».

(٢) الدّف : الجنب من كلّ شيء أو صفحته.

(٣) لم يسمّ قائله. اللغة : الفواتر : جمع الفاترة. يقال : عين فاترة اي : فيها ضعف مستحسن. البوادر : جمع البادرة ، بمعنى سريعة.

(٤) ويروى إنّ هذه الصلاة لا يحلّ فيهما ... سنن أبي داود ، للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستانيّ ، ص ١٧٩ ، رقم الحديث ٩٣٠.

(٥) تمامه «صبر جميل فكلانا مبتلي» ، ولم يسمّ قائله اللغة : السّرى : سير عامة الليل (يذكّر ويؤنث).

(٦) تمامه «يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا» ، وهو مجهول القائل. اللغة : مصغية : اسم فاعل من أصغى بمعنى أحسن الاستماع.

٥٩

وما في النّفس من المعنى ويعبّر عنه باللفظ المفيد ، وذلك كأن يقوم بنفسك معنى قام زيد ، وقعد عمرو ، فيسمّي ذلك الّذي تخيلته كلاما ، وهو المسمّى بحديث النفس ومنه قول الأخطل [من الوافر] :

١٣ ـ إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفواد دليلا (١)

قال أبو حيّان في الإرتشاف : والّذي يصحّ أنّ ذلك كلّه على سبيل المجاز لا على سبيل الاشتراك خلافا لزاعمي ذلك.

واصطلاحا «لفظ» ، أي ملفوظ ، ولو عبّر عنه بالقول لكان أولي لما مرّ ، واحترز به عمّا ليس بلفظ ، إن كان جنسا لما تقدّم.

معنى المفيد والفائده في الاصطلاح : «مفيد» أي دالّ على معنى يحسن السكوت عليه ، لأنّ الفائدة في الإصطلاح حيث وقعت قيدا للفظ أو القول ، فالمراد بها الفائدة التامة أي التركيبة لا النّاقصة الّتي هي الإفراديّة ، إذ هي غير معتدّ بها في نظرهم.

والمراد بحسن السكوت عليه ، أن لا يكون مفتقرا إلى شيء ، كافتقار المحكوم عليه للمحكوم به وعكسه ، فلا أثر لافتقاره إلى المتعلّقات من المفاعيل ونحوها ، وهل المراد سكوت المتكلّم أو السامع أو هما؟ أقوال ، أرجحها الأوّل ، لأنّه خلاف التّكلّم ، فكما أن التّكلّم صفة المتكلّم ، كذلك السكوت صفة له ، وخرج به ما لا فائدة فيه كالمركّب الإضافيّ والمزجيّ والإسناديّ المسمّى به كشاب قرناها ، ودخل فيه ما لا يجهل معناه ، كالسماء فوقنا ، والأرض تحتنا ، والنّار حارّة ، إلا أن يراد بالمفيد ، المفيد بالفعل فلا يسمّى كلاما ، وعليه جرى جمع ، وصرّح به ابن مالك في شرح التسهيل ، ونقله عن سيبويه وغيره ، والمحقّقون بل الأكثرون على خلافه ، وإلا لم يكن شيء من القضايا البديهيّة مع كثرتها كلاما مع أنها خبر بلا شكّ وكلّ خبر كلام.

ونازع أبو حيّان في شرحه على التسهيل فيما نقل ابن مالك عن سيبويه ، وقال ما أعلم أحدا يمنع ، قال زيد : النّار حارّة ، ولا قال : الكلّ أعظم من الجزء ، قال : وكان بعض أهل عصرنا يقول : العجب من هؤلاء النحاة يجيبون لا يصدق القضايا ، فيجعلونها ليست بكلام ، كقولنا : النقيضان لا يجمتعان ولا يرتفعان ، والضدّان لا يجتمعان ، وقد يرتفعان. ويلزمهم بأنّهم لمّا شرحوا الكلام بأنّه الّذي يفيد السامع ، علم ما لم يكن يعلم أنّ الكلام إذا طرق سمع الإنسان ، فاستفاد منه شيئا ، ثمّ طرقه ثانيا ، وقد علم مضمونه

__________________

(١) اللغة : الفؤاد : القلب.

٦٠