الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

وليت زيدا صائما عندكم ، لعلّ عمرا قائما في الدار و (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود / ٧٢] ، و [قول الشاعر من مجزوء الكامل] :

٢٦٣ ـ ...

يا جارتا ما أنت جارة (١)

فلا يجوز تقديم الحال في شيء من ذلك لضعف العامل.

الثامنة : أن يكون صفة تشبه الفعل الجامد ، وهو اسم التفضيل ، نحو : هذا أفصح الناس خطيبا ، لجعله موافقا للجوامد لانحطاطه عن درجة اسمي الفاعل والمفعول ، والصفة المشبة بعدم قبوله علامة التأنيث والتثنية والجمع ويستثني من المضمّن معنى الفعل دون حروفه أن يكون ظرفا أو مجرورا مسبوقا بمخبر عنه به ، فيجوز توسيط الحال بين المخبر عنه والمخبر به المتأخّر من الظرف والمجرور ، تقول : في نحو زيد في الدار جالسا ، زيد جالسا في الدار.

هذا قول الأخفش ، وعليه قراءة بعضهم : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا) [الأنعام / ١٣٩] ، وقراءة الحسن البصري (٢)(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر / ٦٧] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٢٦٤ ـ بنا عاذ عوف وهو بادي ذلّة

لديكم فلم يعدم ولاء ولا نصرا (٣)

وجمهور البصريّين على المنع. قال ابن هشام في الأوضح : والحقّ أنّ خالصة ومطويات معمولان لصلة ما ولقبضة (٤) ، وأنّ السموات عطف على ضمير مستتر في قبضة ، لأنّها بمعنى مقبوضة لا مبتدأ ، وبيمينه معمول الحال لا عاملها قال : والبيت ضرورة ، انتهى.

وفصّل ابن مالك في التسهيل ، فأجاز بقوّة إن كان الحال ظرفا ومجرورا ، وبضعف إن كانت غير ذلك ، لأنّ الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها ، ويستثني من أفعل التفضيل ما إذا كان عاملا في حالين لاسمين متّحدي المعنى مختلفيه ، وإحداهما مفضّلة على الأخرى ، فإنّه يجب تقديم الحال الفاضلة خوف اللبس ، كهذا بسرا أطيب منه رطبا ، وزيد مفردا أنفع من عمرو معانا ، فبسرا حال من الضمير في أطيب ، ورطبا حال من الضمير المجرور بمن ، ومفردا حال من الضمير في أنفع ، ومعانا حال من عمرو ، فبسرا و

__________________

(١) هذا عجز بيت للأعشى ميمون بن قيس ، وصدره قوله : «بانت لتحزننا عفارة» ، اللغة : بانت : بعدت وفارقت. عفارة. اسم امرأة.

(٢) الحسن البصرس (أبو سعيد) (ت ١١ ه‍. ٧٢٨ م) : تابعيّ ومتكلّم ومحدث من مشاهير الثقات وكبار الزّهاد. كان إمام أهل البصرة وحبر الأمّة في زمانه. له مكانة عظيمة في التصوف. المنجد الاعلام. ص ٢٢٠.

(٣) لم يسم قائله. اللغة : عاذ به : التجأ إليه.

(٤) كلّ الأية الشريفة (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر / ٦٧].

٣٢١

مفردا حالان مفضّلتان ، والعامل في بسرا ورطبا أفعل التفضيل ، وهو أطيب وفي مفردا ومعانا أنفع.

هذا هو المختار وإليه ذهب المازنيّ وابن كيسان والفارسيّ في تذكرته (١) وابنا جنيّ وخروف ، ونسبه ابن مالك إلى سيبويه ، وذهب الزجاج والمبرّد والسيرافيّ والفارسيّ في حلبياته (٢) إلى أنّهما منصوبان على إضمار كان تامّة صلة لإذا في المستقبل ولإذ في الماضي ، وجوّز بعض المغارب أن تكون كان ناقصة فيكون بسرا ورطبا خبرين لا حإلى ن ، واستدلّ بالتعريف نحو : زيد المحسن أحسن منه المسيء ، ويحتاج إلى السماع.

تنبيه : قد يفعل ذلك في مفهم التشبيه فيعمل في حالين متقدّمة عليه ومتأخّرة عنه ، كقوله [من المتقارب] :

٢٦٥ ـ تعيّرنا أنّنا عالة

ونحن صعإليك أنتم ملوكا (٣)

أي تعيّرنا أنّنا فقراء ، ونحن في حال صعلكتنا مثلكم في حال ملككم ، فحذف مثلا ، وأقام المضاف إليه مقامه مضمّنا معناه لما فيه من معنى التشبيه. قال ابن هشام وهذا الإعراب أجود ما قيل في البيت.

لا تجئ الحال من المضاف إليه إلا بشروط : «ولا تجيء الحال من المضاف إليه» في حال من الأحوال «إلا إذا صحّ» أي «قيام» المضاف إليه عند «مقام المضاف» عند حذفه ، نحو قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [آل عمران / ٩٥] ، فحنيفا حال من المضاف إليه ، وهو إبراهيم ، وجاءت منه لصحّة قيامة مقام المضاف ، وهو الملّة ، فإنّه لو قيل في غير القرآن اتّبع إبراهيم لكان صحيحا.

«أو كان المضاف بعضه» أي بعض المضاف إليه ، «نحو : أعجبني وجه هند راكبة» ، فراكبة حال من المضاف إليه ، وهو هند ، إذ المضاف وهو الوجه بعض هند ، ومثله قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات / ١٢] ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر / ٤٧] ، فكلّ من ميتا وإخوانا حال من المضاف إليه ، وهو الأخ والضمير والمضاف إلى كلّ منهما بعضه ، ولا خفاء في أنّ اشتراط صحّة قيام المضاف إليه مقام المضاف يغني عن هذا الشرط ، فإنّه لو قيل : أعجبتني هند راكبة ، و

__________________

(١) تذكره أبي على الحسن بن أحمد الفارسيّ النحويّ المتوفى سنة ٣٧٧ ه‍ ق ، وهو كبير في مجلّدات لخصّه أبو الفتح عثمان بن جني النحوي. كشف الظنون ١ / ٣٨٤.

(٢) الحلبيات في النحو لأبي على الفارسي النحوي ، المصدر السابق ١ / ٦٨٨.

(٣) لم يسم قائله. اللغة : عالة : فقراء. نحن أنتم مبتدا وخبر صعاليك ملوكا حالان والمعنى : نحن في صعلكتنا مثلكم في ملككم.

٣٢٢

في غير القرآن يأكل أخاه ، ونزعنا ما فيهم من غلّ إخوانا ، لكان صحيحا ، فلو اقتصر عليه لكفاه.

«أو كان المضاف عاملا في الحال» كأن يكون مصدرا أو وصفا ، «نحو : أعجبني ذهابك مسرعا» ، فمسرعا حال من الكاف المضاف إليها ذهاب ، وذهاب مصدر عامل في الحال ، ونحو : هذا شارب السويق ملتوتا اليوم أو غدا ، فملتوتا حال من السويق المضاف إليه شارب ، وشارب اسم فاعل عامل في الحال ، لأنّه بمعنى الحال أو الاستقبال ، واعتماده على المخبر عنه.

وإنّما اشترطوا لمجئ الحال من المضاف إليه أحد هذه الشروط محافظة على ما قرّروه من أنّ العامل في الحال يجب أن يكون هو العامل في صاحبها ، وصاحبها إذا كان مضافا إليه يكون معمولا للمضاف ، والمضاف لا يعمل في الحال إذا لم يشتبه الفعل ، فإذا كان المضاف مصدرا أو صفة ، فالقاعدة موفاة ، لأنّ الحال وصاحبها معمولان لشيء واحد.

وإذا كان المضاف صالحا للسقوط ، وقيام المضاف إليه مقامه ، كان المضاف إليه كأنّه معمول العامل المضاف الّذي هو عامل الحال ، وعلى هذا فالواجب اتّحاد العامل تحقيقا أو تقديرا ، كما يستفاد من المغني بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، فإنّه لا سبيل إلى جعله صاحب حال ، إذ لو قلت : جاء غلام هند ضاحكة أو نحوه لم يجز.

قال ابن مالك وابنه بلا خلاف ، وانتقد بأنّ مذهب الفارسيّ جواز ذلك ، نقله عنه غير واحد من الأئمة ، وقال العلامة أثير الدين أبو حيّان : والّذي نختاره أنّ المجرور بالإضافة إذا لم يكن في موضع رفع ولا نصب لا يجوز ورود الحال منه ، سواء صحّ قيام المضاف إليه مقامه ، أو لم يصحّ ، لما تقرّر من أنّه لا بدّ من اتّحاد الحال وصاحبها في العامل.

وأمّا ميتا من قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات / ١٢] ، فيحتمل أن يكون حالا من لحم ، وإخوانا من قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجرات / ٤٧] ، يحتمل أن يكون منصوبا على المدح ، وحنيفا يحتمل أن يكون حالا من الملّة (١) ، وذكر بأنّ الملّة والدين بمعنى ، أو من الضمير في اتبع.

قال : ومثل هذه القاعدة لا يثبت بمثال أو بمثالين مع الاحتمال ، إنّما يثبت هذا باستقراء جزئيات كثيرة حتى يحصل من ذلك الاستقراء قانون كليّ يغلب على الظّن أنّ الحكم ، منوط به ، هذا معنى ما قاله.

__________________

(١) حالا من الله «س».

٣٢٣

الأسماء اللازمة للحالية : تنبية : قد يلزم بعض الأسماء الحالية ، نحو : كافة وقاطبة ، فلا يضاف ، قال الرضيّ وتقع كافة في كلام المتأخّرين ومن لا يوثق بعربيته مضافة غير حال ، وقد خطاوا في ذلك ، انتهى.

ومنهم الزمخشريّ في خطبة المفصّل قال محيطا بكافة الأبواب. قال ابن هشام في المغني : تجويز الزمخشريّ الحالية من الفاعل ومن المفعول في قوله تعالى : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة / ٢٠٨] ، وهم ، لأنّ كافّة مختصّة بمن يعقل ، ووهمه في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ / ٢٨] ، إذ قدّر كافّة نعتا لمصدر محذوف ، أي رسالة ، لأنّه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عمّا التزمه فيه من الحالية ، ووهمه في خطبته المفصل إذ قال محيطا بكافة الأبواب أشد لإخراجه إيّاه عن النصب ألبتّة.

ووقع للحريرى في المقامات إيراد قاطبة مضافة (١) غير حال ، قال بقاطبة الكتاب. قال ابن الخشاب : استعمال قاطبة مضافة إلى ما بعدها وتعريفها به وإدخاله حرف الجرّ عليها يدلّ على جهله بعلم النحو ، وإنّه كان مقصّرا فيه جدّا.

__________________

(١) سقط مضافة في «س».

٣٢٤

التمييز

ص : الثامن : التمييز وهو النكرة الرافعة للابهام المستقرّ عن ذات أو نسبة ، ويفترق عن الحال بأغلبيّة جموده ، وعدم مجيئة جملة وعدم جواز تقدّمه على عامله على الأصحّ. فان كان مشتقّا احتمل الحال. فالأوّل عن مقدار غالبا ، والخفض قليل ، وعن غيره قليلا ، والخفض كثير.

والثاني : عن نسبة في جملة أو نحوها ، أو إضافة ، نحو : رطل زيتا ، وخاتم فضّة ، (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ،) ولله درّه فارسا ، والنّاصب لمبيّن الذات هي ولمبيّن النسبة هو المسند ، من فعل أو شبهه.

ش : «الثامن» ممّا يرد منصوبا لا غير «التمييز» ، ويقال له التفسير والتبيين والممّيز والمفسّر والمبيّن ، وهو لغة فصل شيء عن شيء ، قال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس / ٥٩] ، أي انفصلوا. «و» اصطلاحا «هو النكرة» أي الاسم النكرة ، ولا ترد الجملة ، وإن اشتهر أنّها نكرة ، فقد قال الرضيّ : الجملة ليست لا نكرة ولا معرفة ، لأنّ التعريف والتنكير من عوارض الذات ، إذ التعريف جعل الذات مشارا بها إلى خارج اشارة وضعيّة ، والتنكير أن لا يشار بها إلى خارج في الوضع ، وإذا لم تكن الجملة ذاتا فكيف يعرضان لها ، انتهى.

فالنكرة كالجنس يدخل فيها الحال وغيرها ، ويخرج عنها المعرفة المنصوبة على التشبيه بالمفعول ، نحو : زيد حسن وجهه ، فإنّ فيه ما في حسن وجها إلا التنكير ، وأمّا نحو قولهم : ما فعلت الخمسة عشر الدرهم وقوله [من الطويل] :

٢٦٦ ـ رأيتك لمّا أن عرفت وجوهنا

صددت وطبت النّفس يا قيس عن عمرو (١)

وقوله [من الوافر] :

٢٦٧ ـ له داع بمكّة مشمعلّ

وآخر فوق دارته ينادي

إلى ردح من الشّيزي ملاء

لباب البرّ يلبك بالشهاد (٢)

فمحمول على زيادة أل ، كما زادها من قال [من الرجز] :

٢٦٨ ـ باعد أمّ العمر من أسيرها

 ... (٣)

__________________

(١) البيت لرشيد بن شهاب إليشكري ، اللغة : صددت : أعرضت ونأيت ، طبت النفس : يريد إنّك رضيت.

(٢) البيتان لأمية بن أبي الصلت. اللغة : المشمعل : الوصف من اشمعلّ بمعنى السريع الماضي ، الردح : جمع الرادح بمعنى عظيم وضخيم ، الشيزي : الشيز : خشب أسود تعمل منه الأمشاط والجفان ، اللباب : خالص من كلّ شيء ، يلبك : من ألبك أي : أفحش في كلامه أو اخطأ في منطقه.

(٣) تمامه : حرّاس أبواب على قصورها. وتقدم برقم ٣٧.

٣٢٥

هذا مذهب البصريّين ، وخالف الكوفيّون وابن الطراوة ، فأجازوا تعريف التمييز تمسّكا بما أوّله غيرهم.

«الرافعة للإبهام المستقرّ» أي الثابت في المعنى الموضوع له من حيث إنّه موضوع له ، فإنّ المستقرّ وإن كان بحسب اللغة هو الثابت مطلقا ، لكنّ المطلق منصرف إلى الكامل ، وهو الوضعيّ ، قاله صاحب الفوائد الضيائية ، ورام دفع ما أورده الرضيّ على ابن الحاجب ، حيث فسّر المستقرّ بالوضعيّ من أنّ لفظ المستقرّ لا يدلّ إلا على الثابت المطلق ، لكن قال بعضهم : هذا لا ينفعه في التفصي (١) عن الإيراد ، إذ الكامل هو الثابت في الوضع والاستعمال معا ، انتهى.

والاحتراز بهذا القيد عن نحو : رأيت عينا جارية ، فإنّ جارية رافعة للإبهام عن العين ، لكنّ الإبهام الحاصل في العين ليس مستقرّا بحسب الوضع بل نشأ من الاستعمال بإعتبار تعدّد الموضوع ، قال بعض المحقّقين : ولو فسّر المستقرّ بما هو الثابت في قصد المتكلّم فإنّ التمييز للتفسير بعدم الإبهام ليتمكّن في النفس ، فالابهام ثابت في القصد في صورة التمييز بخلاف رأيت عينا جارية ، فإن المقصود بالعين المعيّن إلا أنّه لزمه الإبهام من غير قصده فأزاله لكان حسنا ، انتهى.

«عن ذات» مذكورة لا وصف ، واحترز به عن النعت والحال ، فإنّهما وإن رفعا الأبهام المستقرّ لكن لا عن ذات ، بل عن وصف أو عن نسبة واقعة في جملة أو ما ضاهاها ، كما سيأتي بيانه.

تنبيهات : الأوّل : قال شيخ شيوخنا الحرفوشيّ في شرح التهذيب للمصنّف : وعبارته كعبارته هنا ، صنعه أولى من صنع الكافية ، وحيث قال عن ذات مذكورة أو مقدّرة ، انتهى.

وفي الألوية نظر ، بل الأولى ما في الكافية ، وجهه أنّك إذا قلت : طاب زيد نفسا لم يكن في طاب إبهام ولا في ذات زيد ولا في أصل النسبة ، فإنّها معلومة محقّقة ، وإنّما المبهم ذات مقدّرة ، والمعنى طاب أمر من أمور زيد ، ثمّ تفسّر ذلك الأمر بقولك : نفسا ، فالمبهم في الحقيقة هو الشيء المنسوب إليه لا النسبة ، وقولك : نفسا تمييز للمنسوب إليه المجهول لا لنفس النسبة ، ومن قال : إنّه تمييز عن النسبة كالمصنّف فقد تجوّز نظرا إلى أنّ الإبهام ناشيء عن جهة النسبة. وكذا الكلام في زيد طيّب نفسا ، ويعجبني طيبه نفسا.

الثاني : هذا الحدّ منقوض بنحو : رأيت شيئا ، أي حسن رجل والبدل في الضمير المبهم وصفات أسماء الإشارة ومن وما وأيّ ووصف العدد في نحو : قبضت عشرة

__________________

(١) التفصّي : التخلّص.

٣٢٦

دراهم ، ولا مخلص عن هذه الأشياء ، إلا بإخراجها بما يخرج التوابع عن الحدود ، وذكره عصام الدين في شرح الكافية.

وجوه افتراق التمييز عن الحال : «ويفترق التمييز» عن الحال بأوجه سبعة كما في المغني :

أحدها : أغلبية جموده ، أي جمود التمييز بخلاف الحال ، فإنّ الأغلب اشتقاقها كما تقدّم ، وقد يتعاكسان ، فتقع الحال جامدة ، نحو : هذا مالك ذهبا ، والتمييز مشتقا ، نحو : لله درّه فارسا. وتصحّف على بعض المعاصرين من طلبة العجم الجمود بالوجود ، فقال ما معناه شارحا التمييز أكثر وجودا بالنسبة إلى الحال ، وهو غلط فاحش ، فاحذره.

والثاني : عدم جواز مجيئه جملة بخلاف الحال ، فإنّها تجئ جملة بكثرة نحو : جاء زيد يضحك ، وظرفا نحو : رأيت الهلال بين السحاب ، ومجرورا ، نحو : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص / ٧٩] ، والتمييز لا يكون إلا اسما غير ظرف ، وهذا يستفاد من قوله في التعريف النكرة. فإنّ النكرة ضرب من الاسم ، وإن أطلق على الجملة أنّها نكرة فليس حقيقة ، ولو سلم ، فالتنكير من أوصاف المفردات بالإصالة.

والثالث : عدم جواز تقدّمه على عامله مطلقا بخلاف الحال كما مرّ ، سواء كان اسما نحو : عندي رطل زيتا أو فعلا جامدا ، نحو : ما أحسنه رجلا أو متصرّفا تمييزه غير منقول ، نحو : كفي زيد رجلا بإجماع. في هذه الثلاثة كما نقله ابن مالك ، فلا يقال : عندي زيتا رطل ونحوه ، أو متصرّفا تمييزه منقول ، نحو : طاب زيد نفسا ، فلا يجوز نفسا طاب زيد على الأصحّ وفاقا لسيبويه والفرّاء وأكثر البصريّين ومتأخّري المغاربة ، وذلك لأنّ التمييز في هذه الصورة فاعل في الأصل.

وقد نقل الإسناد عنه إلى غيره لقصد المبالغة ، فلا يغيّر عمّا كان يستحقّة من وجوب التأخير لما فيه من الإخلال بالأصل. وقيل : لأنّ التمييز كالنعت في الإيضاح ، والنعت لا يتقدّم على عامله ، فكذلك ما أشبهه ، قاله الفارسيّ ، واستحسنه ابن خروف ، وصحّح ابن مالك وأبو حيّان جوازه قياسا على غيره من الفضلات المنصوبة بفعل متصرّف ولكثرة السماع فيه ، قال [من الطويل] :

٢٦٩ ـ أتهجر ليلي بالفراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق تطيب (١)

وقال الآخر [من البسيط] :

__________________

(١) ينسب هذا البيت للمخبل السعدى ، وقيل : هو لأعشي همدان ، وقيل : هو لقيس بن الملوح العامري.

٣٢٧

٢٧٠ ـ ضيّعت حزمي في إبعادي الأملا

وما ارعويت وشيبا رأسي اشتعلا (١)

وقال الآخر [من الطويل] :

٢٧١ ـ ولست إذا ذرعا أضيق بضارع

ولا يائس عند التعّسّر من يسر (٢)

وقال الآخر [من المتقارب] :

٢٧٢ ـ أنفسا تطيب بنيل المني

وداعي المنون ينادي جهارا (٣)

وللمجيز من الشواهد غير ذلك.

والحق أنّ تأويل كلّ ذلك تكلّف ، كيف وهم يبنون الحكم على أقلّ من ذلك ، لكن لو قيل بجوازه في الشعر فقط لوروده فيه حسب كان انصافا.

تنبيهان : الأوّل : إذا كان العامل وصفا فقياس من أجاز التقديم في الفعل أن يجيزه مع الوصف إلا مع اسم التفضيل. الثاني : اتّفق الجميع على جواز تقديم التمييز على المميّز إذا كان العامل متقدّما ، نحو : طاب نفسا زيد ، قاله ابن الضائع ، وهذا يردّ قول الفارسيّ أنّ التمييز كالنعت لأنّ النعت لا يتقدّم على المنعوت قاله ابن عصفور.

الرابع : عدم توقّف معنى الكلام عليه بخلاف الحال ، فإنّه قد يتوقّف معنى الكلام عليها ، كقوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) [الإسراء / ٣٧] ، (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء / ٤٣] وقوله [من الخفيف] :

٢٧٣ ـ إنّما الميّت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرّجاء (٤)

الخامس : عدم جواز تعدّده بخلاف الحال ، فإنّها تتعدّد كقوله [من الطويل] :

٢٧٤ ـ على إذا ما زرت ليلى بخفية

زيارة بيت الله رجلان حافيا (٥)

وأما قوله [من الطويل] :

٢٧٥ ـ ...

تبارك رحمانا رحيما وموئلا (٦)

فالصواب أنّ رحمانا منصوب بإضمار أخصّ أو أمدح ورحيما حال منه لا نعت ، والقول بأنّهما تمييزان خطأ.

السادس : كونه مبيّنا للذات ، والحال مبيّنة للهيئة ، كما عرفت.

__________________

(١) البيت من الشواهد الّتي لا يعلم قائلها. اللغة : الحزم : ضبط الرجل أمره ، وأخذه بالثقة : ارعويت : رجعت إلى ما ينبغي لي ، والارعواء : الرجوع الحسن.

(٢) لم يسمّ قائله.

(٣) هو لرجل من طيّئ. اللغة : المنون : الموت ، جهارا : علانا.

(٤) البيت لعدي بن الرعلاء. اللغة : كئيبا : حزينا ، كاسفا باله : أراد به المتغير الحال.

(٥) البيت للمجنون. اللغة : الخفية : مصدر خفي ـ بمعنى الاستتار ، الرجلان : الراجل.

(٦) تمامه «بدأت باسم الله في النظم أوّلا» ، وهو مطلع القصيدة الشاطبيّة في القراءات السبع للشاطبي. اللغة : الموئل : الملجأ والملاذ.

٣٢٨

السابع : عدم توكيده لعامله بخلاف الحال ، فإنّها تكون مؤكّدة لعاملها نحو : (وَلَّى مُدْبِراً) [النمل / ١٠] ، فتبسّم ضاحكا ، وأمّا قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) [التوبة / ٣٦] ، فشهرا موكّد لما فهم من أنّ عدة الشهور ، وأمّا بالنسبة إلى عامله فهو اثنا عشر فمبيّن ، وأمّا إجازة المبرّد ومن وافقه نعم الرجل رجلا زيد فمردود ، بأنّ الإبهام قد ارتفع بظهور الفاعل ، فلا حاجة إلى التمييز ، وأما قوله [من الوافر] :

٢٧٦ ـ تزوّد مثل زاد أبيك فينا

فنعم الزّاد زاد أبيك زادا (١)

فالصحيح أنّ زادا معمول لتزوّد إمّا مفعول مطلق إن أريد به التزوّد ، أو مفعول به إن أريد به الشيء الّذي يتزوّده من أفعال البرّ ، وعليهما فمثل نعت له تقدّم فصار حالا ، وأمّا قوله [من البسيط] :

٢٧٧ ـ نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت

ردّ التّحيّة نطقا أو بايماء (٢)

ففتاة حال مؤكدة.

هذا ما ذكره ابن هشام في المغني من وجوه الافتراق بينهما ، وقد زاد بعضهم وجوبا أخر : أحدها : أنّ التمييز قد لا يكون عامله فعلا أو شبهه ، نحو : عشرون في قولك : له عندي عشرون درهما. الثاني : أنّ التمييز بمعنى من والحال بمعنى في حال كذا. الثالث : أنّ التمييز قد يجرّ في بعض المواضع بخلاف الحال ، فإنّها واجبة النصب.

إذا كان التمييز مشتقّا احتمل الحال : «فإن كان» التمييز «مشتقّا احتمل» المشتقّ «الحال» ، نحو : لله درّه فارسا ، أي من حيث إنّه فارس ، أو حال كونه فارسا ، وذهب قوم إلى أنّ انتصابه في مثل هذا التركيب على الحال فقط ، وضعّفه ابن الحاجب في أمإلى المفصّل بأنّه لا يخلو من أن يكون حالا مقيّدة أو مؤكّدة. وكلاهما غير مستقيم ، أمّا المقيدة فلأنّ قولك : لله درّه فارسا لم يرد به المدح في حال الفروسيّة ، وإنّما تريد مدحه مطلقا ، بدليل أنّك تقول : لله درّه كاتبا ، وإن لم يكتب ، بل تريد الإطلاق ، كذلك لله درّه عالما.

والحال المؤكّدة أيضا غير مستقيم ، لأنّ الحال المؤكّدة شرطها أن يكون معنى الحال مفهوما من الجملة الّتي قبلها ، وأنت هاهنا لو قلت : لله درّه لكان محتملا للفروسية وغيرها ولكان قولك : لله درّه عالما أو رجلا أو كاتبا لا يفيد إلا ما أفاده الأول ، فدلّ والحالة هذه على انتفاء الحال المقيّدة ، والحال المؤكّدة ، وإذا بطلتا ثبت التمييز ، انتهى.

__________________

(١) البيت لجرير بن عطية ، اللغة : تزود : أصل معناه : اتخذ زادا ، وأراد منه هنا السيرة الحميدة.

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : الإيماء : الإشارة.

٣٢٩

قال الرضيّ : وأنا لا أري بينهما فرقا ، لأنّ معنى التمييز عنده ما أحسن فروسيّته ، فلا تمدحه وفي غير حال فروسيّته إلا بها ، وهذا المعنى هو المستفاد من قولنا : ما أحسنه في حال فروسيّته وتصريحهم بمن في لله درّك من فارس دليل على أنّه تمييز ، وكذا قولهم : عزّ من قائل ، انتهى.

تنبيه ، ممّا يحتمل الحالية والتمييز أيضا قولك : كرم زيد ضيفا ، إن قدّرت زيدا هو الضيف ، أمّا الحالية فدلالته على الهيئة ، وأمّا التمييز فلدخول من عليه ، والأجود عند قصد التمييز إدخالها عليه دفعا لتوهّم الحالية ، وإن قدّرت زيدا غير الضيف تعيّن التمييز ، وامتنعت حينئذ من ، لأنّه تمييز عن الفاعل ، والأصل كرم ضيف زيد.

«فالأوّل» أي التمييز الرافع للابهام المستقرّ عن ذات يصدر «عن مقدار» صدورا «غالبا» لا دائما ، فإنّه قد يصدر عن غير مقدار كما سيأتي ، ويجوز أن يكون عن بمعنى بعد ، نحو قوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق / ١٩] ، والمراد بالمقدار ما يقدّر به الشيء ، أي يعرف به قدره ويبيّن.

والمقادير إمّا مقاييس مشهورة موضوعة ليعرف بها قدر الأشياء كالأعداد ، وما يعرف به قدر الكيل كالقفيز (١) والإردبّ (٢) والكرّ (٣) ، وما يعرف به قدر الموزون كضبحات الوزن كالطّسوج (٤) والدانق (٥) والدينار والمنّ والرطل وغير ذلك ، وما يعرف به قدر المذروع والممسوح كالذراع وقد راحة وقد شبر ونحو ذلك. أو مقاييس غير مشهورة ولا موضوعة للتقدير كقوله تعالى : (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) [آل عمران / ٩١] وقولك : عندي مثل زيد رجلا ، وأمّا غيرك رجلا وسواك إنسانا فمحمول على مثلك بالضديّة ، وقولك : بطولك رجلا ، وبعرضه أرضا ، وبغلظه خشبا ، ونحو ذلك من المقاييس. أيضا فهذه المقادير إذا نصبت عنها التمييز أردت بها المقدّرات لا المقادير ، لأنّ قولك : عندي عشرون درهما وذراع ثوبا ورطب زيتا ، والمراد بعشرون هو الدراهم لا مجرّد العدد وبذراع المذروع وبرطل الموزون إلا ما يوزن به وكذا في غيرها قاله الرضيّ.

«والخفض» أي خفض إضافة تمييز المقدار بإضافة التمييز إليه كشبر أرض وقفيز برّ ومنوي عسل وتمر «قليل» لما سيأتي ، هذا إذا لم يكن المميّز عددا أو مضافا ، فإن كان

__________________

(١) القفيز : مكيال كان يكال به قديما.

(٢) الاردبّ : مكيال يسع إربعة وعشرين صاعا.

(٣) الكرّ : مكيال لأهل العراق ، أو ستبون قفيزا ، أو أربعون إردبّا.

(٤) الطسوج : حبتان من الدوانيق.

(٥) الدانق : سدس الدرهم.

٣٣٠

عددا نحو : عشرين درهما ومضافا نحو : بمثله مددا ومل الأرض ذهبا تعيّن النصب ، ويصدر «عن غيره» أي غير المقدار صدورا «قليلا» ، وضابطه كلّ فرع حصل له بالتفريع اسم خاصّ يليه وأصله ، ويكون بحيث يصحّ إطلاق اسم ذلك الأصل على ذلك الفرع ، نحو : خاتم حديدا وباب ساجا وجبّة خزّا ، وأمّا الفرع الّذي لم يحصل له اسم خاصّ ، فلا يجوز انتصاب مايليه على التمييز ، نحو : قطعة ذهب وقليل فضة. قال بعض المحقّقين : فيشكل تعريف التمييز بقطعة ذهب ، لأنّ ذهبا يرفع الإبهام المستقرّ عن قطعة ، إلا أن يقال : إنّه تمييز ، لكن لا يجوز نصبه كما في ثلاثة رجال.

«والخفض» أي خفض تمييز غير المقدر بإضافة المميّز كخاتم حديد وباب ساج وجبّة خزّ «كثير» ، لأنّ إبهامه أخفّ من إبهام المقدار لكونه أكثر إبهاما يحتاج إلى مميّز ، ونصب المميّز نصّ على كونه مميّزا ، وهو الأصل في التمييز بخلاف الخفض ، فإنّه علم الإضافة فهو في غير المقدار أولى ، مع أنّ الخفّة معه أكثر لسقوط النونين والتنوين بالإضافة ، ويجوز جرّ النوعين بمن أيضا سواء كان المميّز مضافا ، نحو : مل الأرض من ذهب ، أو لم يكن نحو : رطل من زيت ، وخاتم من حديد.

ويمتنع في ثلاث مسائل : إحداها تمييز العدد ، نحو : عشرين درهما ، ولا يرد على جواز عشرين من الدراهم لخروجه عن التمييز بتعريفه. الثانية : التمييز المحوّل عن المفعول كغرست الأرض شجرا. الثانية ما كان فاعلا في المعنى كطاب زيد نفسا ، وزيد أكثر مالا. واختلف في من هذه فقيل : زائدة ، وقيل : للتبعيض ، وقيل : للتييين ، وهو الصحيح.

تنبيه : تمييز الذات إمّا أن يكون عن عدد أو عن غيره ، والأوّل إمّا أن يكون جنسا أولا ، والجنس إمّا أن يقصد به الأنواع أو لا ، وعلى كلا الوجهين يجب إفراد التمييز ، والأوّل يجب خلوّه عن تاء الوحدة نحو عشرون ضربا أو تمرا ، والثاني يجب كونه مع تاء الوحدة نحو : عشرون ضربة أو تمرة ، فالأوّل لبيان عدد الأنواع ، والثاني لبيان عدد الآحاد ، وإن كان عن عدد وليس بجنس ، نحو : عشرون درهما وجب إفراده والّذي عن غير العدد إن كان جنسا ثنّي إذا أريد تثينته ، وجمع إذا أريد جمعه ، وإلا أفرد ، تقول : عندي مثله تمرا أو تمرين أو تمورا ، وإن لم يقصد من الجنس الأنواع وجب إفراده ، نحو : مثله تمرا ، وإن لم يكن جنسا طوبق به ما يقصد مفردا كان أو مثنّى أو مجموعا ، نحو مثله رجلا أو رجلين أو رجالا.

٣٣١

ومحصّل التقسيم أنّ التمييز عن الذات إمّا أن يكون عن عدد أولا ، والعدد إمّا جنس أو لا ، والجنس إمّا أن يقصد به الأنواع أولا ، وغير العدد إمّا جنس أو لا ، والجنس إمّا أن يقصد به العدد أو لا ، هذا حاصل تقسيم الرضي عليه من الله الرضا.

«والثاني» : أي «التمييز» الرافع للإبهام المستقرّ «عن نسبة» يصدر عن نسبة كائنة في جملة أو نحوها ، وهو إمّا اسم الفاعل مع مرفوعه كزيد متفقّئ شحما (١) أو اسم المفعول معه نحو : الأرض مفجّرة عيونا أو أفعل التفضيل معه ، نحو : أنا أكثر مالا وخير مستقّرا أو الصفة المشبهة معه ، زيد طيب أبا أو المصدر ، نحو : أعجبني طيبه أبا ، وكذا كلّ ما فيه معنى الفعل ، نحو : حسبك بزيد رجلا ، وسرعان ذا إهالة وويلم أيام الشباب معيشة ، ويالزيد فارسا ، أو في إضافة ، نحو : أعجبني طيبه أبا ، وهو داخل في شبه الجملة ، فلا حاجة إلى إفراده بالذكر ، نحو : عندي «رطل زيتا» مثال للتمييز عن المقدار والرّطل بالفتح والكسر ، وهو أفصح ، اثنتا عشرة أوقية والأوقية أستار وثلثاه ، والأستار أربعة مثاقيل ونصف ، والمثال درهم وثلاثة أسباع درهم ، والدرهم سنة دوانيق ، والدانق قيراطان ، والقيراط طسوجان ، والطسوج حبّتان ، كذا في القاموس ، وجعله الفاضل الهنديّ مثالا للمكيل ، وسهاه بعضهم ، وليس بسهو ، فقد قيل في المغرب الرطل بالفتح والكسر ما الّذي يوزن به أو يكال به ، انتهى.

«وخاتم فضة» مثال للتمييز عن غير المقدار («وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم / ٤]» مثال للتمييز عن النسبة في جملة. ولله درّه فارسا مثال للتمييز في نحو جملة ، لأنّ فيه معنى الفعل ، أي عجبنا منه فارسا ، وفي الإضافة أيضا كما هو ظاهر ، ولذلك لم يأت بها بمثال ، هذا وإنّما يصلح مثالا لذلك إن كان مرجع الضمير معيّنا معلوما.

أمّا إذا كان مجهولا كان من مميّز الذات لا من مميّز النسبة ، لأنّ الضمير مبهم فيحتاج إلى ما يميّزه ، والدرّ بفتح الدّال وتشديد الرّاء المهملتين الكثرة ، في الأصل مصدر قولهم : درّ اللبن يدرّ بالكسر والضمّ درّا ، ويسمّي اللبن نفسه درّا أيضا ، وقيل : المراد في مثله الخير لاعتقادهم أنّ اللبن مصدر لكلّ خير يقرونه الضيف ، ويسقونه الخيل.

قال ابن السيدة : أصله أنّ رجلا رأي أخر يحلب نافة ليلا ، فتعجّب من كثره لبنها ، فقال لله درّك ، وقيل : معناه لله درّ اللبن الّذي رضعته من أمّك ، وأكثر ما يمثّل به النحاة مضافا لضمير الغائب ، وقد يضاف للمخاطب ولضمير المتكلّم. وللظاهر أيضا كما صرّح به الرضيّ ، وإنّما أضافوه إلى الله تعالى قصدا للتعجّب منه ، لأنّ العرب إذا أعظموا شيئا غاية الإعظام ، أضافوه إلى الله تعالى إيذانا بأنّ هذا الشيء لا يقدر على

__________________

(١) تفقّأ فلان شحما : امتلأ حتى تشقّق جلده.

٣٣٢

إيجاده إلا الله تعالى : وبأنّ هذا جدير بأن يتعجّب منه ، لأنّه صادر عن فاعل قادر مصدر للأشياء العجيبة ، سبحانه وتعالى.

تنبيهات : الأوّل : قضية إطلاقه أن تمييز النسبة لا يختصّ بما وقع بعد جملة فعلية ، وهو المشهور الّذي ذكره المغاربة خلافا لما في التسهيل من اختصاصه بذلك وما عداه فهو عنده من تمييز المفرد.

الثاني : التمييز عن النسبة أربعة أقسام : محوّل عن الفاعل نحو : (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم / ٤] ، أصله : اشتعل شيب الرأس ، فحوّل الإسناد إلى الرأس ، ونصب شيب على التمييز مبالغة وتوكيدا ، لأنّ ذكر الشيء مبهما ثمّ مفسّرا أوقع في النفس من ذكره من أوّل الأمر مفسّرا.

ومحوّل عن المفعول ، نحو : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر / ١٢] أصله : فجّرنا عيون الأرض ، ثمّ أوقع الفعل على الأرض ، ونصب عيون على التمييز ، هذا مذهب الجزوليّ وابن عصفور وابن مالك وأكثر المتأخّرين ، وأنكره الشلوبين وتلميذة الأبديّ وابن أبي الربيع ، وقالوا هذا القسم لم يذكره النّحويّون ، وتأوّل الشلوبين عيونا في الآية على أنّها حال مقدّرة ، لأنّها حال التفجير لم تكن عيونا ، وإنّما صارت عيونا بعد ذلك ، وأوّلها ابن أبي الربيع على وجهين : أحدها أن يكون بدل بعض من كلّ على حذف الضمير ، أي عيونها ، مثل أكلت الرغيف ثلثا ، أي ثلثه ، أو على نزع الخافض أي بعيون. وردّه ابن هشام في شرح اللمحة بأنّه لو كان كما زعم لم يلتزم العرب في مثله التنكير والتأخير عن الفعل ، ولصرحّوا بالخافض في وقت ، وأيضا فليس العيون مفجّرا بها بل هي نفس المفجر ، انتهى.

ومحوّل عن غيرهما نحو : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) [الكهف / ٣٤] ، أصله : مإلى أكثر من مالك فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو الضمير ، فالرتفع ، وانفصل ، وصار أنا أكثر منك ، ثمّ جئ بالمحذوف تمييزا. وغير محوّل : نحو : امتلاء الاناء ماء ، لأنّ مثل هذا التركيب وضع ابتداء ، هكذا غير محوّل ، وأكثر وقوعه بعد ما يفيد التعجّب ، نحو : لله درّه فارسا ، وحسبك زيدا ناصرا ، أو ما أحسنه رجلا ، وأكرم به أبا.

الثالث : إذا اتّحد مميّز النسبة بما قبله معنى ، طابقه في الإفراد وضديّة ، فتقول : كرم زيد رجلا والزيدان رجلين والزيدون رجالا ، وكذا في المؤنّث ، كما تقول : زيد رجل والزيدان رجلان والزيدون رجال ونحوه ، وأمّا قوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء / ٦٩] ، ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون ترك الجمع فيه لفظا ، لأنّ رفيقا ممّا يستوي فيه المفرد وغيره كالصديق والعدوّ. الثاني : أن يكون الأصل : وحسن رفيق

٣٣٣

أولئك ، فحذف المضاف ، وجاء التمييز على وفقه ، وكذا إن لم يتّحدا فيطابق ، نحو : حسن زيد وجها والزيدان وجوها ، إن لم يلزم إفراد لفظ التمييز لإفراد معناه ، أو لكونه مصدرا لم يقصد اختلاف أنواعه.

فإن كان معنى التمييز مفردا تعيّن إفراد لفظه ، كقولك في أبناء رجل واحد. طاب الزيدون أصلا ، وكرموا أبا ، وكذا إن لم يقصد اختلاف أنواع المصدر ، نحو : زكا الأتقياء سعيا ، وخاب الأشقياء رأيا ، فلو قصد اختلاف المصدر لاختلاف محالّه جازت المطابقة ، نحو : تخالف الناس آراء ، وتفاوتوا أذهانا ، ومنه (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف / ١٠٣] ، وإفراد المباين بعد جمع إن لم يوقع في محذور أولى ، فطاب الزيدون نفسا ، وقرّوا عينا أولى من أنفسا وأعينا لإفادة المقصود باختصار. قال تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [النساء / ٤].

فإن أوقع في محذور تعيّن جمعه ، وإن كان بعد مفرد ، فتقول : كرم الزيدون بمعنى ما أكرمهم من آباء ، ولو أفردت لأوهم أنّ المقصود كون أبيهم واحدا موصوفا بالكرم ، وكذا تقول : نظف زيد ثيابا ، لأنّك لو قلت : ثوبا لأوهمت أنّه ثوب واحد (١) والناصب لمبيّن الذات المبهمة هو هي أي تلك الذات.

واختلفوا في صحّة إعمالها مع أنّها جامدة ، فقيل : لشبهها باسم الفاعل ، لأنّها طالبة له في المعنى ، فعشرين درهما شبيه بضاربين زيدا ، ورطل زيتا شبية بضارب عمرا في الاسميّة والطلب المعنويّ ووجود ما به التمام وهو التنوين والنون. وقيل : لشبهها بأفعل من وذلك في خامس مرتبة ، فإن الفعل أصل لاسم الفاعل ، لأنّه يعمل معتمدا وغير معتمد ، واسم الفاعل لا يعمل إلا معتمدا ، وهو أصل للصفة المشبهة ، لأنّه يعمل في السييّ والأجنبيّ ، فهي لا تعمل إلا في السييّ دون الأجبنيّ ، وهي الأصل لا فعل ، لأنّها ترفع الظاهر ، وهو لا يرفعه إلا في مسألة واحدة ، وهو أصل للمقادير لأنّه يتحمّل الضمير وهي لا تتحمّله ، وصحّح هذا القول ، لأنّ حمل الشيء على ما هو به أشبه أولى ، كذا في التصريح.

ناصب التمييز : «والناصب لمبيّن النسبة» عند سيبويه والمازنيّ والمبرّد والزجّاج والفارسيّ «هو المسند من فعل» ، كطاب زيد نفسا ، «أو شبهه» ، والمراد به هنا ما تضمّن معناه وحروفه من المصدر والوصف ، أو تضمّن معناه فقط كاسم الفاعل ونحو : لله درّه فارسا ، وعبّر في العمدة عن هذا بشبه شبهه ، وذهب قوم إلى أنّه العامل في مبيّن

__________________

(١) سقطت هذه الجمل في «س».

٣٣٤

النسبة ، وهو الجملة الّتي انتصب عن تمامها لا افعل ولا ما أشبه ، واختاره ابن عصفور وعزاه إلى المحقّقين.

وهنا انتقضي كلام المصنّف (ره) في النوع الثاني من المعربات من الأسماء ، وهو ما يرد منصوبا لا غير فشرع في النوع الثالث منها وهو ما يرد مجرورا لا غير ، فقال :

المضاف إليه

ص : النوع الثالث : ما يرد مجرورا لا غير ، وهو اثنان :

الأوّل : المضاف إليه : وهو ما نسب إليه شيء بواسطة حرف جرّ مقدّر مرادا ، وتمتنع اضافة المضمرات ، وأسماء الاستفهام ، وأسماء الشرط ، والموصولات ، سوى «أيّ» في الثلاثة ، وبعض الأسماء تجب إضافتها ، إمّا إلى الجمل وهو : إذ ، وحيث ، وإذا ، أو إلى المفرد ظاهرا أو مضمرا وهو : كلا وكلتا ، وعند ، ولدي وسوى ، أو ظاهرا فقط وهو : أولو وذو وفروعهما ، أو مضمرا فقط وهو : وحده ولبّيك وأخواته.

تكميل : يجب تجرّد المضاف عن التنوين ونوني المثنّى والجمع وملحقاتهما ، فإن كانت إضافة صفة إلى معمولها فلفظيّة ، ولا تفيد إلا تخفيفا ، وإلا فمعنويّة ، وتفيد تعريفا مع المعرفة ، وتخصيصا مع النكرة ، والمضاف إليه فيها إن كان جنسا للمضاف فهي بمعنى «من» أو ظرفا له فبمعنى «في» أو غيرهما فبمعنى «اللام» ، وقد يكتسب المضاف المذكر من المضاف إليه المؤنّث تأنيثه وبالعكس ، بشرط جواز الاستغناء عنه بالمضاف إليه ، كقوله : «كما شرقت صدر القناة من الدّم» وقوله : «انارة العقل مكسوف بطوع هوى» ومن ثمّ امتنع : قامت غلام هند.

ش : «النوع الثالث» من المعربات «ما يرد مجرورا لا غير ، وهو اثنان» لا ثالث لها.

«الأوّل : المضاف إليه» ، والاضافة لغة الإمالة والإسناد ، ومنها ضافت الشمس للغروب ، أي مالت ، وأضفت ظهري إلى الحائط ، أي أملته ، وأسندته إليه. واصطلاحا نسبة تفييديّة بين اسمين توجب لثانيهما الجرّ ، فخرج بالتقييديّة الإسناديّة ، وبما بعده زيد قام ، وقام زيد.

ولا ترد الإضافة إلى الجمل ، لأنّها في تأويل الاسم وبالأخير الوصف ، كزيد الخيّاط ، وما جرى عليه المصنّف من كون المضاف إليه هو الثاني ، فيكون المضاف هو الأوّل ، و

٣٣٥

هو مصطلح سيبويه وابن مالك وأكثر المتأخّرين ، وهو المشهور ، وقيل : عكسه ، وقيل : يجوز في كلّ كلّ.

«وهو» أي المضاف إليه اصطلاحا «ما» أي اسم حقيقة أو حكما ، ليشمل الجملة المضاف إليها نحو : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام / ٧٣] ، «نسب إليه شيء» ، ولا يكون إلا اسما «بواسطة حرف جرّ مقدّر» حال كون هذا المقدّر «مرادا» احترازا عن المفعول فيه والمفعول له ، فإنّ حرف الجرّ مقدّر فيهما ، لكنّه غير مراد. كذا قال ابن الحاجب.

واعترضه الرضيّ بأنّه إن أريد أنّه غير مراد معنى لم يجز إذ معنى الظرفيّة ، والتعليل فيهما ظاهر ، وأيضا فلا معنى لتقدير الحرف إلّا أنّه مراد معنى ، وإن أريد أنّه غير مراد لفظا كان كأنّك قلت : المضاف إليه كلّ اسم صفته ، كذا مجرور بحرف جرّ مقدّر فيقضي إلى الدّور ، لأنّ معرفة حقيقته متوقّفة على معرفة ما أخذ في التعريف ، وهو كونه مجرورا بحرف جرّ مقدّر ، وكونه مجرورا بذلك متوقّف على معرفة كونه مضافا إليه ، انتهى.

تنبيهات : الأوّل : المتبادر من هذا الحدّ أنّه لا يشتمل المضاف إليه بالإضافة اللفظيّة على المشهور من أنّها ليست على معنى الحرف فينتقض به إلا أن يحمل على ما ذهب إليه بعضهم من أنّها على معنى الحرف ، لكنّه لم يبيّن فيما سيأتي تقدير الحرف كما بيّنه في المعنويّة ، وسيأتي تحقيق ذلك.

الثاني : استشكل حكمهم بأنّ كلّ مضاف إليه مجرور بنحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف / ٨٢] ، وأجاب بعض المحقّقين بالتزام أنّ المضاف إليه في ذلك مجرور تقديرا ، معترفا بأنّه تكلّف أمرا بالتأمّل ، وقال بعضهم : وقد يجاب بأنّه عامّ مخصوص ، قال : ولعلّ هذا أقرب ، انتهى. ولا يخفي سقوط هذا الإشكال راسا.

في عامل الجرّ في المضاف إليه : الثالث : في عامل الجرّ في المضاف إليه قولان آخران أحدهما : أنّه الإضافة ، الثاني : أنّه المضاف ، وهو الصحيح ، ولا ينافيه قولنا في تعريف الإضافة : إنّها توجب لثاني الاسمين الجرّ ، لأنّ كونها سببا للجرّ لا يستلزم كونها عاملة له.

ما يمتنع اضافته من الأسماء : واعلم أنّ الغالب في الأسماء أن تكون صالحة للإضافة والإفراد كغلام وثوب. و «تمتنع إضافة المضمرات» خلافا للخليل والأخفش والمازنيّ ومن وافقهم في نحو إيّاي وايّاك ، حيث ذهبوا إلى أنّ أيّا اسم مضمر ، وما بعدها مضمر

٣٣٦

مضاف إليه ، وحجّتهم أنّها جاءت إضافتها إلى الظاهر في قول العرب : إذا بلغ الرجل ستّين فإيّاه وإيّا الشواب (١). وإذا أثبتت إضافته إي الظاهر الّذي يظهر فيه الإعراب وجب الحكم بإضافته إلى الضمير الّذي لا يظهر فيه الإعراب.

وأمّا كون الضماير لا تضاف ، فغير مانع من إضافة هذا النوع ، لأنّ الاحكام العامّة قد تتخلّف في بعض الصور بدليل تخلّف لدن عن جرّ غدوة ، وتخلّف لو لا عن ضمّ المرفوع بها ، وتخلّف عسى عن اتّصال ضمير المرفوع بها بعدها ، فكذلك هذا النوع من المضمرات في منع الإضافة ، واختاره ابن مالك.

والأصحّ ما ذهب إليه سيبويه والأخفش في أحد قوليه وجمهور البصريّين وأبو على من المتأخّرين من أنّ الضمائر لا تضاف مطلقا ، ولا تثبت إضافة إيّا بما رواه الخليل لشذوذه ، وما اتّصل بها إنّما هو حرف يدل على أحوال المرجوع إليه من التكلّم والخطاب والغيبة ، وسيأتي ذكر المضمرات مستوفيا في المبنيّات.

«و» إضافتة «أسماء الإشارة» وسيأتي أيضا ذكرها ثمّة. وأمّا ذلك ونحوه فالكاف فيه حرف خطاب بإجماع النّحاة. «و» إضافة «أسماء الاستفهام» وهي عشرة «كم وكيف ومن ومهما ما وأيّ وأين وأيّان ومتى وأنّي» ، وسيأتي شرح بعضها في حديقة المفردات إن شاء الله تعالى. «و» إضافة «أسماء الشرط» ويأتي ذكرها في حديقة الأفعال. «والموصولات» ويأتي ذكرها في المبنيّات.

وإنّما امتنعت إضافة هذه المذكورات لشبهها بالحرف ، والحرف لا يضاف «سوى أيّ في الثلاثة» أي في أسماء الاستفهام والشرط والموصولات ، فإنّها لا تمتنع إضافتها لضعف الشبه بما عارضه من شدّة افتقارها إلى مفرد مضاف إليه ، سيأتي شرحها مستوفيا في حديقة المفردات ، إن شاء الله تعالى.

ما تجب إضافته من الأسماء : «وبعض الأسماء تجب إضافتها» أعاد الضمير مؤنّثا على بعض مع كونها مذكّرا لاكتساب التأنيث من المضاف إليه كما يجىء بيان ذلك في هذا الباب عن قريب إن شاء الله تعالى. وإضافتها «إمّا إلى الجمل وهو نوعان» : مضاف إلى الجمل مطلقا اسميّة كانت أو فعلية ، ومختصّ بالجمل الفعلية.

فالأوّل : «إذ» من أسماء الزمان ، نحو قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) [الأنفال / ٢٦] ، و (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً) [الأعراف / ٨٦] ، وشرط الاسميّة أن لا يكون خبر المبتدأ فيها فعلا ماضيا ، نحو : زيد قام ، نصّ عليه سيبويه ، والأكثرون على قبحه ، و

__________________

(١) الشواب : جمع شابّة.

٣٣٧

وجّهوه بأنّ إذ لمّا كانت لما مضي ، وكان الفعل الماضي مناسبا لها في الزمان ، وكانا في جملة واحدة لم يحسن الفصل بينهما ، بخلاف ما إذا كان مضارعا ، نحو : إذ زيد يقوم ، فإنّه حسن ، ونقض بنحو : إذا زيد يقوم وأجاب ابن الحاجب بأنّه لحكاية الحال ، والتزم الرضيّ قبحه أيضا. وشرط الفعلية أن يكون فعلها ماضيا لفظا ومعنى كما مرّ ، أو معنى لا لفظا ، نحو : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ) [البقرة / ١٢٧] ، وقد يحذف جزء هذه الجملة ، فيظنّ من لا خبرة له أنّها أضيفت إلى المفرد كقوله [من البسيط] :

٢٧٨ ـ هل ترجعنّ ليال قد مضين لنا

والعيش منقلب إذ ذاك أفنانا (١)

والتقدير إذ ذاك كذلك.

وقد تحذف الجملة بأسرها ، ويعوّض عنها التنوين ، قال أبو حيّان : والّذي يظهر من قواعد العربية أنّ هذا الحذف جائز لا واجب ، وتكسر ذالها حينئذ لالتقاء الساكنين على الأصل ، كقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعة / ٨٤] ، أي حين إذ بلغت الروح الحلقوم ، وزعم الأخفش أنّ إذ حينئذ معربة ، والكسر جرّ إعراب بالإضافة لا بناء ، وحمله على ذلك أنّه جعل بناءها ناشيا عن إضافتها إلى الجملة ، فلمّا زالت من اللفظ صارت معربة ، وهو مردود بأنّه قد سبق لإذ حكم البناء ، والأصل استصحابه حتى يقوم دليل على إعرابه ، وبأنّ العرب قد بنت الظرف المضاف لإذ ولا علّة لبنائه إلا كونه مضافا لمبنيّ ، فلو كانت الكسرة إعرابا لم يجز بناء الظرف وبأنّهم قالوا : بفتح الذّال منوّنا ، وإن كان معربا لم يجز فتحه ، لأنّه مضاف إليه فدلّ [هذا] على أنّه مبنيّ مرّة على الكسر لالتقاء الساكنين ، وهو الغالب ، ومرّة على الفتح طلبا للتخفيف ، وسيأتي تمام الكلام على إذ في حديقة المفردات إن شاء الله تعالى.

«وحيث» ، نحو : جلست حيث جلس زيد ، وحيث زيد جالس ، وشرط الاسميّة أن لا يكون الخبر فيها فعلا ، نصّ عليه سيبويه ، وإضافتها إلى الفعلية أكثر. قال ابن النحاس : ليس في ظروف المكان ما يضاف إلى الجملة غير حيث لما أبهمت لوقوعها على كلّ جهة إحتاجت في زوال إبهامها ، أي إضافتها لجملة كإذ وإذا في الزمان ، انتهى.

وربّما أضيفت إلى المفرد كقوله [من الطويل] :

٢٧٩ ـ ...

 ... حيث ليّ العمائم (٢)

__________________

(١) لم يسم قائله لكن بعض المصادر تنسبه إلى عبد الله بن المعتز. وأكثر المصادر على أنه لا يوجد في ديوان ابن المعتز. اللغة : الأفنان : جمع فنن بمعنى الغصن الملتف ، أو جمع فنّ بمعنى الضرب من الشيء.

(٢) تمامه

«ونطعنهم تحت الحبا بعد ضربهم

ببيض المواضي ...»

وهو منسوب للفرزدق وليس في ديوانه. اللغة : الحبا : جمع الحبوة بمعنى ما يحتبي به من ثوب وغيره ، البيض جمع أبيض بيضاء بمعنى السيوف ، المواضي : جمع الماضي بمعنى القاطع.

٣٣٨

ولا يقاس عليه خلافا للكسائيّ ، ولا يشترط في إضافتها إلى الجمل ظرفيتها ، وزعم المهدويّ (١) شارح الدريدية (٢) أنّ حيث في قوله [من الرجز] :

٢٨٠ ـ ثمّت راح في الملبيّن إلى

حيث تحجّي المازمان ومني (٣)

إنّها لمّا خرجت عن الظرفية بدخول إلى عليها خرجت عن الإضافة إلى الجمل ، وصارت الجملة بعدها صفة لها ، وتكلّف لها تقدير رابط ، وقال ابن هشام : وليس بشيء ، وإذا دخلت عليها ما الكافّة تضمّنت معنى الشرط كقوله [من الخفيف] :

٢٨١ ـ حيثما تستقم يقدّر لك الله

نجاحا في غابر الأزمان (٤)

قال ابن هشام : وهذا البيت عندي دليل على مجيئها للزمان.

«و» النوع الثاني وهو المختصّ بالجمل الفعلية «إذا» عند غير الأخفش والكوفيين ، ويقع شرطها وجوابها ماضيين ، نحو : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) [الإسراء / ٨٣] ، ومضارعين نحو : (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ) [الإسراء / ١٠٧] ، ومختلفين نحو : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة / ٨٣] ، (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم / ٥٨] ، وماضيا وأمرا نحو : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) [الطلاق / ١] وسيأتي تتمّة الكلام عليها في حديقة المفردات.

«أو إلى مفرد» والمراد به ما يقابل الجملة ، وهو أيضا نوعان : ما يجوز قطعه عن الإضافة فينوّن ، نحو : كلّ ، إذا لم يقع نعتا ولا توكيدا ، أو بعض وأيّ ، كقوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء / ٣٣] و (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [البقرة / ٢٥٣] ، و (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء / ١١٠].

وما يلزم الإضافة لفظا ، وهو ما يضاف للمفرد حال كونه «ظاهرا» تارة و «مضمرا» [تارة] أخري ، «وهو كلا وكلتا» نحو : كلا الرجلين وكلاهما وكلتا المرأتين وكلتاهما ، ولا يضافان إلا لما استشكل ثلاثة شروط :

أحدها : التعريف ، فلا يجوز كلا رجلين ولا كلتا امراتين خلافا للكوفيّين ، وذلك أنّ وضعهما للتأكيد ، ولا يؤكّد التاكيد المعنويّ إلا المعارف.

__________________

(١) لعله أبو عبد الله محمد بن جعفر القيرواني (ـ ٤١٢ ه‍ ق) له شرح المقصورة ، والجامع في اللغة. مغني اللبيب ص ٥٤٨.

(٢) الدريدية هي مقصورة ابن دريد اللغويّ البصريّ المتوفى سنة ٣٢١ ه‍. كشف الظنون ، ٢ / ١٨٠٧.

(٣) البيت لمحمد بن الحسن بن دريد صاحب الجمهرة والاشتقاق. اللغة : الملبيّن : جمع ملب ، وهو من يقول لبيّك اللهمّ لبيّك ، تحجّي : أقام ، المأزمان : موضع بين المشعر وعرفات.

(٤) لم يذكر قائله. اللغة : الغابر : الباقي.

٣٣٩

الثاني : الدلالة على اثنين أمّا بالنصّ ، نحو : كلاهما أو بالاشتراك ، نحو قوله [من الطويل] :

٢٨٢ ـ كلانا غنيّ عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا (١)

فإنّ كلمة «نا» مشتركة بين الاثنين والجماعة. وإنّما صحّ قوله [من الرمل] :

٢٨٣ ـ إنّ للخير وللشّر مدي

وكلا ذلك وجه وقبل (٢)

لأنّ ذا مثناة في المعنى ، مثلها في قوله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة / ٦٨] أي وكلاما ذكر.

الثالث : أنّ يكون المضاف إليه كلمة واحدة ، وقد يفرق بالعطف بالواو في الشعر كلا زيد وعمرو ، قال [من البسيط] :

٢٨٤ ـ كلا أخي وخليلي واجدي عضدا

في النّائبات وإلمام الملمّات (٣)

قال بعضهم : ولا ينوّن كلا ، وإن ذكرت من غير إضافة ، لأنّهم يستنكرون تنوين ما غلب عليه التجريد منه لأجل الإضافة.

«وعند» وهو ظرف مكان يستعمل في الحضور والقرب سواء كانا حسّيين ، نحو : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل / ٤٠] ، (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم / ١٥ و ١٤] ، أو معنويّين ، نحو : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ) [النمل / ٤٠] ، (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص / ٤٧].

قال المراديّ في شرح التسهيل : وإذا كان مظروفها معنى كانت للزمان ، نحو : إنّما الصبر عند الصدمة الأولى ، وربّما فتحت عينها ، أو ضمّت ، ولا يقع إلا ظرفا أو مجرورة بمن ، وبها ينبغي أن يحلّ ما ألغز به الحريرى حيث قال : وما منصوب أبدا على الظرف لا يخفضه سوى حرف. وأمّا قول العامّة : ذهبت إلى عنده فلحن ، وأمّا قول بعض المولّدين [من المجزوء الرّمل] :

٢٨٥ ـ كلّ عند لك عندي

لا يساوي نصف عند (٤)

فقال الحريرى لحن ، قال ابن هشام : وليس كذلك بل كلّ كلمة ذكرت وأريد بها لفظها فسائغ أن تتصرّف تصرّف الأسماء ، وأن تعرب ويحكى أصلها ، انتهى.

__________________

(١) هو للأبيرد الرياحيّ أو لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. اللغة : التغاني : الغتناء ، يقال استغني بعضهم عن بعض.

(٢) البيت لعبد الله بن الزبعري : اللغة : مدي : غاية ومنتهي ، وجه : وجهه ، قبل : له عدة معان ، ومنها المحجّة الواضحة.

(٣) اللغة : عضدا : معينا ، النائبات : جمع النائبة ، وهي ما ينتاب الإنسان ويعرض له من نوازل الدهر ، إلمام : نزول ، الملمات : جمع ملمة ، وهي ما يترل بالمرء من المحن والمصائب.

(٤) هو لبعض المولدين في مغني اللبيب ص ٢٠٧.

٣٤٠