الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

فعلى هذا كان على المصنّف جعل المفعول فيه داخلا تحت المنصوب بنزع الخافض كما قلناه في المفعول له فتأمّل. وهاهنا انتهى الكلام على المفاعيل بتمامها.

فائدة : حصر النحاة المفاعيل في هذه الخمسة ، وقال الرضيّ ، عليه من الله الرضى ، يجوز أن يجعل الحال والمستثنى داخلين في المفاعيل ، فيقال للحال مفعول مع قيد مضمونه ، إذ المجئ في جاءني زيد راكبا فعل مع قيد الركوب الّذي هو مضمون راكبا ، ويقال للمستثنى : هو المفعول بشرط إخراجه ، وكأنّهم آثروا التخفيف في التسمية ، انتهى.

قال بعض المحقّقين : ولا يبعد أن يقال : إنّ المفعول ما يتعلّق به الفعل أوّلا وبالذات ، والحال ليست كذلك ، لأنّه تعلّقه بها بواسطة أنّها مبنيّة لهيئة فاعله أو مفعوله ، وكذا المستثنى ، لأنّ تعلّقه به بواسطة أنّه مخرج عن أمر يقع معموله على سبيل الاتّفاق ، ومن ها هنا يظهر توجيه جعل النصب في المفاعيل أصلا وفي غيرها تبعا ، انتهى.

المنصوب بنزع الخافض

ص : السادس : المنصوب بنزع الخافض ، وهو الاسم الصّريح أو المؤوّل المنصوب بفعل لازم ، بتقدير حرف الجرّ وهو قياسيّ مع أن وأنّ ، نحو : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وعجبت أنّ زيدا قائم ، وسماعيّ في غير ذلك ، نحو : ذهبت الشّام.

ش : «السّادس» ممّا يرد منصوبا لا غير «المنصوب بنزع الخافض» ، ونصبه على المفعول به في الحقيقة ، لأنّ سقوط الخافض لا يقتضي النصب من حيث هو سقوط خافض ، بل من حيث إنّ العامل الّذي كان الجارّ متعلّقا به لمّا زال الجارّ من اللفظ ، ظهر أثره لزوال ما كان يعارضه ، وإذا لم يكن في الكلام ما يقتضي النصب من فعل أو شبهه لم يجز النصب ، وأكثرهم لم يفرد له بابا ، لأنّه داخل تحت المفعول به ، بل أكثرهم يسمّيه مفعولا به على إلاتساع ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

«وهو الاسم الصريح أو المؤوّل» : وهذا كالجنس يشمل جميع الأسماء الصريحيه والمؤوّلة ، وقوله : «المنصوب» أخرج ما عدا المنصوبات ، وشملها جميعا. وقوله : «بفعل لازم» أو شبهه إذ كثيرا ما يكتفي عن ذكره بذكر الفعل بتقدير حرف جرّ أخرج جميع المنصوبات ، ما عدا المحدود وبعض أفراد المفعول له ، ممّا عامله فعل لازم على قول الجمهور ، كمّا مرّ ، وفي هذا الحدّ ما مرّ في المفعول له وفيه أيضا أنّه لا مطّرد ولا منعكس.

٣٠١

أمّا عدم اطّراده فلدخول بعض أفراد المفعول له على قول الجمهور كما رأيت مع عدّه له قسما برأسه ، وقد مرّ التنبيه على ذلك ، وأمّا عدم انعكاسه فلعدم دخول المنصوب بفعل متعدّ إلى اثنين ، أحدهما بنفسه ، والآخر بوساطة حرف جرّ مقدّر. وهو جار في القياسيّ والسماعيّ معا أو إلى أحدهما بأحد الأمور الّتي يتعدّي بها الفعل القاصر ، وإلى الآخر بواسطة حرف جرّ مقدّر ، وذا في القياسيّ فقط لفظا ، وقد يكون تقديرا كما سيأتي بيانه ، فتأمّل.

«وهو» أي المنصوب بنزع الخافض «قياسيّ مع أن وأنّ» المصدّرتين بفتح الهمزة فيهما وتشديد النون في الثانية ، وإنّما كان معها قياسيّا لاستطالتهما بصلتهما ، نحو قوله تعالى : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف / ٦٣] ، مثال لما هو مع أنّ المخفّفة النون ، أي من أن جاءكم ، ومثله قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) [الحجرات / ١٧] ، أي بأن ، (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) [الشعراء / ٨٢] ، أي في أنّ ، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) [الحجرات / ١٧] ، (وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) [المائدة / ٨٤] ، ونحو : عجبت أنّ زيدا قائم مثال لما هو مع أنّ المشدّدة النون ، أي من أنّ زيدا قائم ومثله قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن / ١٨] ، أي لأنّ. وهذه الأمثلة كلّها للمنصوب بفعل لازم.

وأمّا المنصوب بالمتعدّي إلى اثنين أحدهما بنفسه ، والأخر بحرف جرّ مقدّر ، فالأوّل نحو : وعدت زيدا أن أكرمه ، والثاني نحو : (يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) [المومنون / ٣٥] ، هذا في القياسيّ ، وأمّا السماعيّ فسيأتي. وأمّا المنصوب بالمتعدّي إلى اثنين أحدهما بأحد الأمور الّتي يتعدّي بها الفعل القاصر والثاني بحرف جرّ مقدّر فلفظا ، نحو : أكرمت زيدا أن يكرمني ، وأكرمته أنّه صالح ، وبعّدت زيدا أن يضرب ، وساعدت عمرا أنّه مظلوم ، وقس على ذلك ، وتقديرا نحو : إيّاك أن تحذف ، أي بعّد نفسك من أن تحذف.

يشترط في حذف الجارّ مع أن وأنّ تعيينه لأمن اللبس : تنبيهات : الأوّل : اشترط ابن مالك في حذف الجارّ مع «أن وأنّ» تعيين الجارّ ليؤمن اللبس ، فلا يقال : رغبت أن تفعل ، إذا لا يدري هل التقدير في أن تفعل ، أو عن أن تفعل ، واستشكله ابن هشام في الأوضح بقوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء / ١٢٧] بحذف الجارّ ، مع أنّ المفسّرين اختلفوا في المراد ، وأجاب في المغني بأنّه أنّما حذف الجارّ للقرينة المعيّنة ، وإنّما اختلف العلماء في المقدّر من الحرفين في الآية لاختلافهم في سبب نزولها ، فالاختلاف في الحقيقة في القرينة ، انتهى.

٣٠٢

وأجاب المراديّ بذلك ، وبأنّه أراد الإبهام ليرتدع من يرغب فيهنّ لجمالهنّ ومالهنّ ، ومن يرغب عنهنّ لدمامتهنّ وفقرهنّ ، واستحسنه بعضهم ، قال : لأنّ من شرط أمن اللبس ، يقول : إذا خيف اللبس ، لم يجز الحذف ، وعند إرادة الإبهام لا يخاف اللبس ، فيجوز الحذف لأجلها ، انتهى.

وممّا يحتملها قول الشاعر [من الطويل] :

٢٤٤ ـ ويرغب أن يبني المعالى خالد

ويرغب أن يرضى صنيع الألائم (١)

أنشده ابن السّيّد ، فإن قدّر في أولا وعن ثانيا فمدح ، وإن عكس فذمّ ، فلا يجوز أن يقدّر فيهما معا في أو عن للتناقض.

الثاني : ما ذهب إليه المصنّف من كون محلّ أن وأنّ وصلتهما بعد نزع الخافض نصب هو مذهب الخليل وأكثر النّحويّين ، حملا على الغالب فيما ظهر فيه الإعراب بما نزع منه الخافض ، وجوّز سيبويه أن يكون المحلّ جرّا ، فقال : بعد ما حكى قول الخليل : ولو قال إنسان إنّه جرّ لكان قولا قويّا ، وله نظائر نحو قولهم : لاه أبوك.

ومن صنع سيبويه هذا نشأ قول ثالث وهو أنّه محتمل للأمرين ، وأمّا نقل جماعة منهم ابن مالك وصاحب البسيط أنّ الخليل يرى أنّ الموضع جرّ ، وأنّ سيبويه يرى أنّه نصب فسهو ، كما قاله ابن هشام في المغني ، ورجّح الرضيّ كونه نصبا بضعف حرف الجرّ عن أن يعمل مضمرا ، ولهذا شذّ نحو : الله لأفعلنّ ونحو قول روبة خير عافاك الله ، وقوله [من الطويل] :

٢٤٥ ـ ...

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع (٢)

وقال ابن هشام : وممّا يشهد لمدّعي الجرّ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن / ١٨] ، (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون / ٥٢] ، أصله لا تدعوا مع الله أحدا ، لأنّ المساجد لله ، وفاتّقون ، لأنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة ، ولا يجوز تقديم منصوب الفعل عليه ، إذا كان أن وصلتها ، لا تقول إنّك فاضل عرفت ، وقوله [من الطويل] :

٢٤٦ ـ وما زرت ليلى أن تكون حبيبة

إلى ولا دين بها أنا طالبه (٣)

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : المعإلى جمع معلاة وهي كسب الشرف ، الألائم : جمع ألأم : الدنيّ الشحيح.

(٢) البيت للفرزدق وصدره. «إذا قيل : أيّ الناس شرّ قبيلة» ، اللغة : الأكف : جمع الكفّ ، أي : الراحة مع الأصابع. الأصابع : جمع الإصبع ، أي : أحد أطراف الكفّ أو القدم.

(٣) هو من قصيده للفرزدق. اللغة : الدين : القرض.

٣٠٣

رووه بخفض دين عطفا على محلّ أن تكون ، إذ أصله لأن تكون ، وقد يجاب بأنّه عطف على توهّم دخول اللام ، وقد يعترض بأنّ الحمل على العطف على المحلّ أظهر من المحلّ على العطف على التوهّم ، ويجاب بأنّ القواعد لا تثبت بالمحتملات ، انتهى.

حكم كي حكم أن وأنّ في جواز حذف الجرّ معها قياسا : الثالث : قال ابن هشام : أهمل النّحويّون ذكر كي هنا مع تجويزهم في نحو : جئت كي تكرمني ، أن تكون كي مصدريّة ، واللام مقدّرة قبلها ، والمعنى لكي تكرمني ، وأجازوا كونها تعليليّة ، وأن مضمرة بعدها ، ولا يحذف معها إلا لام العلّة ، لأنّه لا يدخل عليها جارّ غيرها ، انتهى. وقد أثبتها هو في الأوضح والجامع (١).

«وسماعيّ في غير ذلك» أي في غير أن وأنّ ، وأن لا يتجاوز به حدّ السّماع ، وهو إمّا شذوذا كقوله [من الوافر] :

٢٤٧ ـ تمرّون الديار ولم تعوجوا

كلامكم عليّ إذا حرام (٢)

أي بالديار أو على الديار ، والأوّل أولى لكثرته وقوله [من الطويل] :

٢٤٨ ـ تحنّ فتبدي ما بها من صبابة

وأخفى الّذي لو لا الأسى لقضاني (٣)

أي لقضا على ، وقوله تعالى : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف / ١٦] ، (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) [البقرة / ٢٣٥] ، و (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) [البقرة / ٢٣٣].

قال الرضيّ : والأولى في مثله أن يقال ضمّن اللازم معنى المعتدّي ، أي يجوزون الديار ، وأخفى الّذي لو لا الأسى لأهلكني ، ولألزمنّ صراطك ، ولا تنووا عقدة النكاح ، وترضعوا أولادكم ، حتى لا يحمل على الشذوذ ، كما يضمن الفعل معنى غيره ، فيعدّي تعدية ما ضمّن معناه ، نحو قوله تعالى : (يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور / ٦٣] أي يعدلون عن أمره ، انتهى.

وقال المصنّف في شرح الأربعين : التضمين أولى من الحمل على النصب بترع الخافض ، فإنّ التضمين أكثر ورودا في اللغة وأدقّ مسلكا ، انتهى.

ولكثرة الاستعمال «نحو : ذهبت الشام» أي إلى الشام ، لأنّهم كانوا ينتجعونها كثيرا ، فيحتاجون إلى الإخبار عن ذهابهم إليها غالبا ، فحذفوا الجارّ تخفيفا ، وذهب

__________________

(١) يعني في «أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك والجامع الكبير ، وقد تقدم ذكرهما.

(٢) البيت لجرير بن عطية. اللغة : لم تعرجوا : لم ترجعوا إليها.

(٣) هو لعروة بن حزام. اللغة : تحنّ : تشتاق : تبدي : تظهر ، الصبابة : رقّة الشوق وحرارته ، الأسي جمع أسوة : القدوة.

٣٠٤

سيبويه وجماعة إلى أنّه منصوب على الظرفيّة تشبيها لها بغير المختصّ من أسماء المكان ودعوى الرضيّ الاتّفاق على ذلك باطلة.

تنبيهات : الأوّل : من السماعيّ المنصوب الثاني من باب اختار بتقدير حرف الجرّ ، والحدّ غير شامل له كما قدّمنا ، ونعني بباب اختار كلّ فعل متعدّ إلى اثنين ، أحدهما بنفسه ، والأخر بالجارّ ، ك اختار نحو قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف / ١٥٥] ، أي من قوله ، وأمر نحو قومه : أمرتك الخير فافعل ما أمرت له ، وقد جمع فيه بين الاستعمالين ، ونهي نحو نهيت زيدا القبيح ، أي عن القبيح. واستغفر كقوله [من البسيط] :

٢٤٩ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (١)

وقال ابن الطراوة والسهيليّ : إنّ الوجه في استغفر أن يتعدّي إلى الثاني بنفسه ، وتعديته بمن أنّما هو لتضمّنه معنى استنبت ، ووافقهما ابن هشام في المغني.

وكني نحو كنيته أبا عبد الله ، أي بأبي عبد الله. وسمّي كقوله [من الطويل] :

٢٥٠ ـ سمّيته يحيى ليحيا فلم يكن

لأمر قضاه الله في النّاس من بدّ (٢)

أي بيحيي ، ودعا بمعنى سمّي كقوله [من الطويل] :

٢٥١ ـ دعتني أخاها أمّ عمرو ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان (٣)

أي بأخيها. وصدق بالتخفيف كقوله تعالى : (صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) [آل عمران / ١٥٢] ، أي في وعده. وزوّج كقوله تعالى : (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب / ٣٧] ، أي بها ، (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) [الدخان / ٥٤] ، وقد جمع بعض المغاربة هذه الأفعال ، فقال [من الطويل] :

٢٥٢ ـ أشع حذف حرف الجرّ وانصب محلّه

لدي اختار استغفار صدق إذ دعا

وسمّ وكنّ مرّة زوّجه زينبا

حكاه أبو حيّان للخير قد دعا

وزاد بعضهم كال ووزن ، تقول : كلت زيدا طعامه ، وكلت لزيد طعامه ، ووزنت زيدا ماله ، ووزنت لزيد ماله ، وزيد غير ذلك ، وفي كلام بعضهم ما يوهم أنّ هذه الأفعال كلّها تتعدّى إلى الثاني تارة بأنفسها وتارة بحرف الجرّ ، فلا يكون حينئذ من المنصوب بترع الخافض ، والأوّل هو المشهور الّذي عليه الجمهور ، بل ينبغي حمل ما أوهم خلافه عليه كما فعل بعض المحقّقين.

__________________

(١) لم يسّم قائله. اللغة : المحصي : اسم الفاعل من الإحصاء بمعنى الحفظ والعدّ.

(٢) هذا البيت لم ينسب إلى قائل معين. اللغة : ليحيى : أراد لتطول به الحياة ، لأمر قضاه الله : أراد به الموت.

(٣) هذا الشاهد من كلام عبد الرحمن بن الحكم : اللغة : اللّبان : الصدر ، وقيل : وسطه ، وقيل ما بين الثديين.

٣٠٥

الثاني : اختلف في المنصوب بنصحت وشكرت في قولنا : نصحته وشكرته ، هل هو منصوب بترع الخافض ، أو على المفعول به على الأصل ، وهذا الخلاف مبنيّ على الخلاف في أنّ هذين الفعلين هل الأصل فيهما التعدّي بالحرف ، وكثر فيه الأصل والفرع ، كما في باب اختار ، أم هما من المتعدّي تارة بنفسه وتارة بالحرف ، وليس أحد الاستعمالين مستندرا فيه ، فهو قسم برأسه ، يقال له متعدّ بوجهين ومتعدّ ولازم ، فعلى الأوّل من أنّ الأصل فيهما التقدير بالحرف يكون من المنصوب بترع الخافض ، وعلى الثاني يكون مفعولا به على الأصل ، لأنّ الفعل ليس لازما.

وذهب الرضيّ والسعد التفتازانيّ إلى أنّ الأصل في هذا القسم أن يكون متعدّيا بنفسه ، وحرف الجرّ زائد. قالا : لأنّ الحرف مع الكلمة كهو مع عدمه والتعدّي واللزوم بحسب المعنى لكن لقائل أن يقول : إذا كان اتّحاد المعنى مع تساوي الاستعمإلين يوجب اتحاد الوصف من التعدّي واللزوم ، فليس كونه متعدّيا والحرف زائد بأولى من كونه لازما ، والحرف محذوف توسّعا ، بل قد يترجّح هذا بأنّ دعوى الحذف أولى من دعوى الزيادة ، ومن هنا يظهر ترجيح قول الجمهور في التنبيه الأوّل.

الثالث : ذهب الأخفش الأصغر (١) إلى أنّ حذف الجارّ مع غير أن وأنّ قياسيّ أيضا إذا تعيّن الجارّ ، تقول : بريت القلم السكين ، أي بالسكين ، فحذف الجارّ لتعيّنه ، كذا نقل عنه ابن مالك في التسهيل ، والرضيّ في شرح حاجبية وغيرهما. وقال أبو حيّان : والّذي أورده أصحابنا عن الأخفش إنّما هو في المعتدّي لاثنين أحدهما بحرف الجرّ ، فأجاز : بريت القلم السكين أي بالسكين قياسا على ما سمع من قولهم : أمرتك الخير أي بالخير ، انتهى.

فإن لم يتعيّن الحرف لم يجز نحو : رغبت الأمر ، وكذا إن لم يتعيّن موضع الحرف ، فلا يقال : اخترت إخوتك الزيدين ، إذ لا يدرى هل المختار من الزيدين أو من الإخوة ، وفي شرح المقرّب لابن العصفور أنّ أبا الحسين بن الطراوة ذهب إلى مثل ذلك.

__________________

(١) هو أبو الحسن على بن سليمان أخذ عن المبرّد وثعلب ، له مصنفات منها ، كتاب «الثنية والجمع» توفّي ببغداد سنة ٣١٥ ه‍ ق ، نشأة النحو. ص ١٠٤.

٣٠٦

الحال

ص : السابع الحال ، وهي الصّفة المبيّنة للهيئة غير نعت ، ويشترط تنكيرها ، والأغلب كونها منتقلة مشتقّة مقارنة لعاملها ، وقد تكون ثابتة وجامدة ومقدّرة. والأصل تأخّرها عن صاحبها ، ويجب إن كان مجرورا ، ويمتنع إن كان نكرة محضة ، وهو قليل ، ويجب تقدّمها على العامل إن كان لها الصّدر ، نحو : كيف جاء زيد ، ولا تجيء عن المضاف إليه ، إلا إذا صحّ قيامه مقام المضاف ، نحو : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً.)

أو كان المضاف بعضه ، نحو : أعجبتني وجه هند راكبة ، أو كان عاملا في الحال ، نحو : أعجبني ذهابك مسرعا.

ش : «السّابع» ممّا يرد منصوبا لا غير «الحال» ، تذكّر وتؤنّث ، وهو الأفصح ، يقال : حال حسن وحال حسنة ، وقد يؤنّث لفظها ، فيقال : حالة ، قال [الطويل] :

٢٥٣ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (١)

وقال ابن هشام في شرح «بانت سعاد» : ولم يجعل الجوهريّ الحال والحالة بمعنى واحد ، بل جعلها من باب تمر وتمرة ، وهو غريب ، انتهى.

«وهي» لغة التغيير ، وسمّي به هذا النوع لتغييره غالبا ، واصطلاحا «الصفة المبيّنة للهيئة» حال كون الصفة «غير نعت» والهيئة وتكسر حال الشيء وكيفيّته ، كذا في القاموس ، والمراد به هنا الحالة أعمّ من أن تكون محقّقة أو مقدّرة ، وتسمّى الأولى حالا محقّقة ، والثانية حالا مقدّرة.

وهي أيضا أعمّ من أن تكون حال نفس صاحبها أو حال متعلّقه ، نحو : جاء زيد قائما أبوه ، لكنّه يشكل بجاء زيد والشمس طالعة ، إلا أن يقال : الجملة الحالية تتضمّن بيان هيئة لصاحبها ، أي مقارنا لطلوع الشمس ، وأيضا هي أعمّ من أن تدوم لصاحبها ، أو تكون كالدائم ، لكونه موصوفا بها غالبا ، وتسمّى دائمة بخلاف تلك ، ومن الأوّل المؤكّدة ، وأعمّ من أن تكون محقّقة أو مقدّرة ، فلا تشكل بنحو : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر / ٧٣] ، فإنّ دخول الجنّة ليس في حال خلودهم ، بل حال تقدير الخلود بهم ، وتسمّى حالا مقدّرة ، قاله بعض المحقّقين.

وفي حاشية التسهيل (٢) لابن هشام ، المراد بالهيئة الصورة والحالة المحسوسة المشاهدة ،

__________________

(١) البيت للفرزدق يفتر بإيثاره بالماء غيره. اللغة : ضنّ به : بخل.

(٢) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد في النحو لابن مالك. ومن شراحه ابن هشام. كشف الظنون ١ / ٤٠٥.

٣٠٧

كما هو المتبادر ، وحينئذ يخرج مثل تكلّم زيد صادقا ، ومات مسلما ، وعاش كافرا ، وإن أرادوا الصفة ، فالتعبير بها أوضح ، لكن يخرج عنه مثل : جاء زيد والشمس طالعة ، وجاء زيد وعمرو جالس ، انتهى.

وقد ظهر من النقل المتقدّم أنّ المراد هذا المعنى ، وأنّه لا خروج لما ذكره ، والمراد بالصفة حقيقة أو حكما ، فيشمل الحال الّتي هي جملة ، لتأوّلها بالصفة ، وكذا الجامدة المؤوّلة بها ، وأمّا غير المؤوّلة ففي ثبوتها خلاف ، ولعلّه لم يلتفت إليها لشذوذها ، وبتصدير الحدّ بها لم يدخل نحو : القهقري في : رجع القهقرى.

وقوله «المبيّنة للهيئة» مخرج للتمييز في نحو : لله درّه فارسا ، فإنّه مبيّن للذات ، وقوله «غير نعت» مخرج للنعت في نحو : رأيت رجلا ضاحكا ، فإنّ ضاحكا صفة مبيّنة للهيئة ، لكنّه نعت ، ويتّجه على هذا الحدّ النقض بالخبر في نحو : زيد ضاحك ، فإنّ ضاحك صفة مبيّنة للهيئة غير نعت وليس حالا.

تنبيهان : الأوّل : الهيئة المذكورة قد تكون للفاعل لفظا ، نحو : جئت راكبا ، ومعنى كما في قوله [من البسيط] :

٢٥٤ ـ كأنّه خارجا من جنب صفحته

 ... (١)

أي يشبهه لا أشبهه ، لأنّ المشابهة مقيّدة بحال الخروج وللمفعول لفظا ، نحو : ركبت الفرس مسرّجا ، ومعنى ، كقوله تعالى : (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود / ٧٣] ، فإنّ بعلى خبر المبتدأ ، وهو في المعنى مفعول به لمدلول هذا ، أي أنبّه ، أو أشير ، ولهما معا ، نحو : لقيته راكبين ، وقد قيّد في الكافية المفعول بقوله به ، ولم يقيّده بعضهم ، قيل : ليدخل فيه ضربت زيدا الضرب شديدا ، فإنّ شديدا (٢) حال من الضرب ، وهو مفعول مطلق لا مفعول به.

قال الدمامينيّ في المنهل : وقد يقال : إنّما جاءت الحال نظرا إلى كونه مفعولا به في المعنى ، إذ ضربت زيدا الضرب ، بمعنى أوقعت بزيد الضرب ، قال : هذا ، وأنا لا أري وجها لتخصيص المفعول به من بين سائر المفاعيل لجواز وقوع الحال منه ، إذ لا يمتنع أن يقال : يستوي الماء والخشبة طويلة ، ولا سرت والنيل آخذا في زيادة الفيض ، ولا جئت يوم الجمعة حارّا شديدا الحرّ ، والوقوف عند ما في الكافيّة جمود لا طائل تحته ، انتهى.

__________________

(١) تمامه «سفود شرب نسوه عند مفتأد» ، وهو للنابغة الذبياني. اللغة : السفود : هي الحديدة الّتي يشوى بها الكباب ، الشّرب : جمع شارب ، المفتأد : موضع النار الّذي يشوى فيه.

(٢) فإنّ شديدا سقط في «ح».

٣٠٨

وقال بعض المحقّقين من شرّاح الكافية : هل يجب أن يكون ذو الحال من المفاعيل مفعولا به ، حتى يحوج إلى جعل ضربت الضرب شديدا في تأويل أحدثت الضرب شديدا ، وجئت وزيدا راكبين في معنى جاء زيد راكبا ، أو يعمّ كلّ مفعول كما هو مقتضي إطلاقه في عبارة جار الله (١) وصاحب اللباب (٢) ، إلى كلّ ذهبت طائفة ، والأعمّ هو الأتمّ ، انتهى.

وقد يناقش في شمول التعبير بالمفعول من غير قيد لكلّ من المفاعيل بما أسلفناه في بحث المفعول به ، وذهب سيبويه إلى أنّ الهيئة قد تكون للمبتدإ أيضا ، وصحّحه ابن مالك ، ومنعه الجمهور ، وهو الأصحّ.

ممّا يشكل قولهم : جاء زيد والشمس طالعة : الثاني : قال ابن هشام في المغني ممّا يشكل قولهم في نحو : جاء زيد والشمس طالعة ، أنّ الجملة الاسميّة حال مع أنّها لا تنحل إلى مفرد ، ولا تبيّن هيئة فاعل ولا مفعول ، ولا هي مؤكّدة ، فقال ابن جنيّ : تأويلها : جاء زيد طالعة الشمس عند مجيئه ، يعني فهي كالحال والنعت السببين ، نحو : مررت بالدار قائما سكانّها وبرجل قائم غلمانه ، وقال ابن عمرون : هي مؤوّلة بقولك : مبكّرا أو نحوه ، وقال صدر الأفاضل : الجملة مفعول معه ، وأثبت وقوع المفعول معه جملة ، انتهى (٣).

و «يشترط تنكيرها» أي الحال ، لئلّا تلبس بالصفة في النصب أو عند عدم ظهور إعرابها ، وطردا للباب في غير ذلك ، ولأنّ النكرة أصل ، والمقصود يحصل بها ، والتعريف زائد على المقصود ، وما ورد منها بلفظ المعرفة أوّل بنكرة ، نحو : اجتهد وحدك ، أي منفردا. وادخلوا الأوّل فالأوّل أي مرتّبين ، و [قول الشاعر من الوافر] :

٢٥٥ ـ فأرسلها العراك ...

 ... (٤)

أي معتركة ، جاؤوا الجماء الغفير ، أي جميعا.

هذا مذهب الجمهور ، وأجاز يونس والبغداديّون تعريفها قياسا على الخبر على ما سمع منها معرفة ، وأجازه الكوفيّون ، إن كان فيها معنى الشرط ، نحو : عبد الله المحسن أفضل منه المسئ ، فالمحسن والمسئ حالان ، إذ التقدير : عبد الله إذا أحسن أفضل منه إذا

__________________

(١) جار الله هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري.

(٢) اللباب إما اللباب في علل البناء والإعراب في النحو لأبي البقاء ، وأمّا اللباب في النحو للعلامة الفاضل الإسفرايني المتوفى سنة ٦٨٤. كشف الظنون ٢ / ١٥٤٣.

(٣) مغني اللبيت ص ٦٠٦. يمكن القول : في هذه الجملة ومثلها إنّ الحال تنحل إلى مفرد ، مثلا هنا يمكن القول : جاء زيد متأخّرا ، إذا كان قصدنا أنّه جاء في حالة التأخير ، ومثل ذلك على حسب المعنى المراد.

(٤) تقدّم ذكره في الصفحة ٩٧.

٣٠٩

أساء ، فإن لم يتقدّر بالشرط لم يصحّ ، فلا يقال عندهم : جاء عبد الله المحسن ، إذ لا يصحّ جاء عبد الله إن أحسن.

«والأغلب كونها منتقّلة» أي غير لازمة ، لأنّها مأخوذة من التحوّل أو هو التنقّل ، كجاء زيد راكبا ، فالركوب غير لازم لزيد (١). «مشتقّة» أي مصوغة من مصدر للدلالة على متّصف بها ، لأنّها لا بدّ أن تدلّ على حدث وصاحبه ، وإلا لم تفد بيان هيئة ما هي له ، والأكثر فيما يدلّ على ذلك أن يكون مشتقّا كما مرّ ، «مقارنة» في الزمن لعاملها بأن يكون حصول مضمونها في وقت حصول مضمونه من الحدث الّذي جئ بها لتفييده ، فإن كان مضمون العامل ماضيا كان الحال ، أي مضمونها ماضيا كان أو حالا أو مستقبلا فكذلك ، نحو قوله تعالى (هذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود / ٧٣] ، فإنّ الإشارة المقيّدة بوقت مضمون الحال لم تقع إلى البعل إلا في حال شيخوخته ، فالحال المذكورة بمعنى الحال ، أي حصولها في حال حصول عاملها ، وهو المراد بالمقارنة.

الحال الثابتة : «وقد تكون» أي تكون بقلّة ، فإنّ قد إذا دخلت على الفعل المضارع في كلام المصنّفين لم تكن إلا للتقليل ، قاله ابن هشام في التوضيح ، لكن وقع للمصنّف في غيره موضع من هذا الكتاب أنّه استعملها لمجرّد التحقيق ، فليتنبه له. «ثابتة» أي لازمة غير منتقلة ، وذلك في ثلاث مسائل :

إحداها : أن تكون مؤكّدة ، نحو : زيد أبوك عطوفا ، و (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم / ٣٣] ، و (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس / ٩٩] ، فإنّ الأبوة من شأنها العطف ، والبعث من لازم الحياة ، والعموم من مقتضياته الجميعة.

الثانية : أن يدلّ عاملها على تجدّد ذات صاحبها ، نحو : خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها ، فالزرافة مفعول خلق ، ويديها بدل بعض من كلّ وأطول حال من يديها ملازمة ، ومن رجليها متعلّق بأطول.

والزّرافة بفتح الزاء وضمّها ، ذكره الجوهريّ ، وفي القاموس الزرافة كسحابة ، وقد يشدّد فاءها : الجماعة من الناس ، أو العشرة منهم ، ودابّة فارسيتها : اشتر گاو پلنگ ، لأنّ فيها مشابة (٢) بالبعير والبقر والنمر من «زرّف» في الكلام ، زاد لطول عنقها زيادة على المعتاد ، ويضمّ أوّلها في اللغتين ، جمعها زرافيّ (٣) ، انتهى.

__________________

(١) سقطت هذه الفقره في «س».

(٢) في جميع النسخ شبها ولكن في القاموس المحيط مشابة.

(٣) جميعها زرافي «ح».

٣١٠

قال أبو البقاء : وبعضهم يقول يداها أطول ، بالرفع ، فيداها مبتدأ ، وأطول خبره ، والجملة حالية ، انتهى.

قال في التصريح : ولا تتعيّن الحالية لجواز الوصفية ، لأنّ الزرافة [معرفة] بأل الجنسية (١) ، انتهى. وفيه أنّه يشترط لوصف المعرّف بأل الجنسية بالجملة أن تكون مبدوّة بفعل ، نصّ عليه الرضيّ وغيره.

الثالثة : أن يكون مرجعها إلى السماع ، نحو : (أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام / ١١٤] ، وقال ابن هشام في الأوضح : ووهم ابن الناظم ، فمثّل بمفصّلا في الآية للحال الّتي تجدّد صاحبها ، وقال في المغني : هذا سهو ، لأنّ القرآن قديم. وقال الدمامينيّ في شرحه : السهو من المصنّف ، فإنّ الإنزال يقتضي الانتقال ، والقديم لا يقبله ، انتهى.

الحال الجامدة : و «جامدة» وهي على ضربين : مؤوّلة بالمشتق وغير مؤوّلة ، فالأولى في ثلاثة مسائل :

أحدها : أن يقصد فيها التشبيه ، كقول أبي طيب [من الوافر] :

٢٥٦ ـ بدت قمرا ومالت خوط بان

وفاحت عنبرا ورنت غزالا (٢)

أي مضيئة ومعتدلا ونحو ذلك ، لأنّهم يجعلون ما اشتهر بمعنى كالوصف المفيد لذلك المعنى كقولهم : لكل فرعون موسى ، أي لكلّ جبّار قهّار ، ولك أن تجعله على حذف مضاف أي مثل قمر ومثل خوط بان كما يرشد إليه قول ألفية [من الرجز] :

٢٥٧ ـ ...

وكرّ زيد أسدا أي كأسد (٣)

أي مثل أسد ، وبه صرّح في التسهيل ، فقال : أو تقدير مضاف قبله ، قال في التصريح : وهو أصرح في الدلالة على التشبيه ، لأنّها إذا أوّلت بالمشتقّ خفي فيها الدلالة على التشبيه.

الثانية : أن تدلّ على مفاعلة ، نحو : بعته يدا بيد ، أي متقابضين ، ومعناه الحقيقيّ غير مراد ، وكلّمته فاه إلى فيّ ، أي متشافهين ، وذهب الكوفيّون إلى أنّ أصله جاعلا فاه إلى فيّ ، فهو مفعول به ، وردّه السيرافيّ بامتناع كلّمته وجهه إلى وجهي ، وعينه إلى عيني ، ولو كان على الإضمار ، لم يمتنع ، وذهب الأخفش إلى أنّ أصله كلّمته من فيه

__________________

(١) المعرّف بأل الجنسيّة نكرة معنى ، معرفة لفظا ، وتجرى عليه أحكام المعارف كصحّة الابتداء به ومجئ الحال منه. إميل بديع يعقوب ، موسوعة النحو والصرف والإعراب ، لاط ، عترت قم ، ١٤٢٥ ه‍ ق. ص ١٣٢.

(٢) البيت لأبي الطيب المبتني (٩٢٥ ـ ٩٦٥ ه‍ ق) من كبار شعراء العرب في العصر العباسي. اللغة : الخوط : الغصن الناعم ، البان : ضرب من الشجر ، سبط القوام ، ليّن ، ورقه كورق الصفصاف ، رنت : من رنا ـ : أدام النظر في سكون الطرف ، فاحت : انتشرت رائحته.

(٣) تمامه «كبعه مدّا بكذا يدا بيد» ألفية ابن مالك ص ٣٢.

٣١١

إلى فيّ ، فحذف حرف الجرّ ، فانتصب ما كان مجرورا به على نزع الخافض ، وردّه المبرّد بأنّ تقديره لا يعقل ، إذ الإنسان لا يتكلّم من في غيره ، وأجاب أبو على بأنّه أنّما يقال : ذلك في معنى كلّمني وكلّمته ، فهو من المفاعلة ، والأوّل هو مذهب سيبويه ، وجرى عليه ابن مالك في التسهيل ، قال : وجعل فاه حالا من كلمتّه فاه إلى فيّ أولى من أن يكون أصله جاعلا فاه إلى فيّ ، أو من فيه إلى فيّ ، انتهى.

قال شيخ شيوخنا الحرفوشيّ ، برّد الله مضجعه ، أنّ الأصل في هذه الأمثلة أن يكون المنصوب منها مرفوعا على الابتداء إمّا على اعتبار مضاف كما في بعته يدا بيد ، أي ذو يد بذي يد ، أو بدونه ، كما في غيره ، ثمّ لمّا كان فوه إلى فيّ وقبضتهم بقبضتهم وذو يد بذي يد ونحوها في معنى متشافهين وكافّة ومتقابضين انمحي عنها معنى الكلام والجملة حين قامت مقام المفردات وأدّت معانيها أعرب ما قبل الإعراب منها ، وهو الجزء الأوّل إعراب المفرد الّذي قامت مقامه ، فافهمه ، انتهى.

قال في التصريح : وهذا المثال لا يقاس عليه ، لأنّ فيه إيقاع جامد موقع مشتقّ ، ومعرفة موقع النكرة ، ومركّب موقع مفرد ، والوارد منه قليل ، انتهى.

الثالث : أن تدلّ على ترتيب ، نحو : ادخلوا رجلا رجلا أي مترتّبين ، على هذا النمط ، وعلّمته بابا بابا أي مفصّلا ، قال الرضيّ : وضابط هذا أن يأتي التفصيل بعد ذكر المجموع بجزئيه مكرّرا ، انتهى.

واختلف في نصب الجزء الثاني ، فذهب الزجّاج إلى أنّه توكيد ، والحال هو الأوّل ، وردّ بأنّه لو كان كذلك لأدّي ما أدّي الأوّل ، وذهب ابن جنيّ إلى أنّه صفة للأوّل ، يريد أنّه على حذف مضاف ، فقدّره بعضهم بقبل ، أي بابا قبل باب ، وهذا لا يشمل الباب الآخر ، وقدّره بعضهم ببعد ، أي بابا بعد باب ، وهذا لا يشمل الباب الأوّل ، والمقصود دخول الأبواب كلّها.

قال الدمامينيّ : وقدر يقدّر بمفارق ، أي بابا مفارق باب بمعنى أنّه منفصل عنه غير مختلط به ، بل كلّ باب على حدّه ، وعلى هذا لا يخرج شيء من الابواب ، وذهب الفارسيّ إلى أنّه منصوب بالأوّل ، لأنّه لمّا وقع موقع الحال جاز أن يعمل. قال أبو حيّان :

والمختار أنّه وما قبله منصوبان بالعامل الأوّل ، لأنّ مجموعهما هم الحال ، ونظيره في الخبر هذا حلو حامض ، قال : ولو ذهب ذاهب إلى أنّ النصب إنّما هو بالعطف على تقدير حذف الفاء أي رجلا فرجلا لكان وجها حسنا عاريا عن التكلّف ، لأنّ المعنى أدخلوا رجلا بعد رجل.

٣١٢

قال [السيوطي] في الهمع : وهذا هو المختار عندي لظهورها في بعض التراكيب كحديث : لتتبعنّ سنن الّذين من قبلكم باعا فباعا (١) ، وجزم بما قاله أوّلا بعض المحقّقين ، ويراد أنّ المجموع يستحقّ إعرابا واحدا ، إلا أنّه لمّا تعدّد ذلك المستحقّ مع صلاحية كلّ واحد للإعراب أجرى عليها إعراب الكلّ دفعا للتحكّم ، انتهى.

وقال ابن أمّ قاسم في شرح التسهيل ، ونصّ أبو الحسن على أنّه لا يجوز أن يدخل حرف العطف في شيء من هذه المكرّرات إلا الفاء ، قال الرضيّ : أو ثمّ ، نحو : مضوا كبكبة (٢) ثمّ كبكبة (٣). قال أبو حيّان : والتكرار في مثل هذا لا يدلّ على أنّه أريد به شفع الواحد بل الاستغراق لجميع الرّجال والأبواب ونحو ذلك ، انتهى.

قلت : ومنه قوله تعالى : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(٤) [الفجر / ٢٢ و ٢١] ، وليس المكرّر فيهما توكيدا خلافا لكثير من النّحويّين ، ومن المكرّر لقصد الاستغراق قول العلماء : كلّ فرد فرد ، وكلّ واحد واحد ، والمختار في الجزء الثاني ما اختاره أبو حيّان في النصب.

الحال الموطئة : الثانية [جامدة غير مؤولة بالمشتقّ] في سبع مسائل ، وهي أن تكون موصوفة بمبيّن الهيئة ، نحو : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف / ٢] ، (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم / ١٧] ، وتسمّى حالا موطئة. قال الدمامينيّ : وأكثر الجماعة يقولون : موطّئة ، بكسر الطاء على أنّه اسم فاعل ، لأنّ الحال وهي الاسم الجامد ، وطّأت أي مهّدت الطريق لما هو حال في الحقيقة من الوصف الواقع بعدها وفي اللباب موطّأة بصيغة اسم المفعول ، قال شارحه صاحب العباب (٥) سمّيت الموطاة ، لأنّ ذلك الجامد وطّأ الطريق لما هو حال في الحقيقة ، وهذا إنّما يقتضي كونها موطئة ، لأنّ الجامد هو الحال ، وقد جعل موطئة لطريق حالية الوصف الواقع بعده ، انتهى.

__________________

(١) ويروى سنن من كان قبلكم. القزويني ، سنن ابن ماجه ، الطيعة الأولى ، بيروت ، دار الفكر ، ١٤٢١ ه‍ ق. ص ٩٠٥ رقم ٣٩٩٤.

(٢) الكبكبة : الجماعة من الناس المتضّام بعضها إلى بعض.

(٣) حذف ثمّ كبكبة في «ط».

(٤) في الآية الأولى يبدو أنّه من الأفضل أن نعتبر دكّا الأوّل مفعولا مطلقا ، لأنّه من لفظ دكّت والثاني توكيدا. وفي الثانية من بين الوجوه الإعرابية المذكورة أحسن وجه هو أن نقول : صفا صفا ، ومثل ذلك ، كلاهما حال ، والحال هنا جاءت للتفصيل ، بعد ذكر المجموع ، والتكرار للدلالة على الاستيعاب.

(٥) العباب الزاخر ، في اللغة في عشرين مجلّدا للامام حسن ابن محمد الصغائي مات سنة ٦٥٠ ه‍ ق. المصدر السابق ، ٢ / ١١٢٢.

٣١٣

وفي شرح الباب للزورني (١) ما نصّه ، وفي بعض الحواشي معنى الموطئة أن تأتي الحال المشتقّة بعد اسم جامد ينتصب ذلك الاسم انتصابها ، وتجري هي عليه صفته ، وهي المقصود ، قال : فقوله : أن تاتي الحال المشتقّة بعد اسم جامد يقتضي أن يقال الموطّأة ، على لفظ اسم المفعول ، انتهى.

قال بعض المحقّقين : والقول بالحال الموطّئة إنّما يحسن إذا اشترط الاشتقاق ، وأما إذا لم يشترط ، فينبغي أن يقال في نحو : جاءني زيد رجلا بهيّا إنّما حالان مترادفان ، انتهى.

أو دالّة على سعر ، نحو : بعت الشاة شاة بدرهم ، واشتريت البرّ قفيزين (٢) بدرهم ، أي مقسّطا هذا التقسيط. أو عددا : نحو : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف / ١٤٢] ، و (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء / ٨٨]. أو طورا بفتح الطاء المهملة وسكون الواو ، أي حال واقع فيه تفضيل بالضاد المعجمة ، نحو : هذا بسرا (٣) أطيب منه رطبا.

أو يكون نوعا لصاحبها ، نحو : هذا مالك ذهبا ، وهذا تمرك شهريزا ، بشين مضمومة أو مكسورة مع الإعجام ، ضرب من التمر ، إن شيءت أضفت أو اتبعت مثل ثوب خزّ أو ثوب خز. أو فرعا له ، نحو : هذا حديدك خاتما ، و (تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) [الأعراف / ٧٤] ، وما وقع في غالب نسخ الأوضح لإبن هشام من التمثيل يتنحّتون من الجبال بيوتا فسهو ، فإنّ بيوتا على هذا مفعول به ، لا حال ، نبّه عليه مالكيّ في حاشيته.

أو أصلا له ، نحو : هذا خاتمك حديدا ، وهذا جبّتك خزا ، و (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء / ٦١].

قال ابن هشام في الأوضح : وإنّما قلنا بالتأويل في الثلاث الأوّل ، لأنّ اللفظ فيها مراد به غير معناه الحقيقيّ ، فالتأويل فيها واجب. قال : وزعم بدر الدين بن مالك أنّ الجميع يؤوّل بالمشتقّ ، وهذا تكلّف. وقال الرضيّ : تبعا لابن الحاجب : والحقّ أنّه لا حاجة إلى هذا التكلّف ، لأنّ الحال هو المبيّن للهيئة ، فكلّ ما قام بهذه الفائدة فقد حصل فيه المطلوب من الحال ، فلا يتكلّف تأويله بالمشتق ، انتهى.

__________________

(١) محمد بن عثمان الزوزني من الشراح الّذين شرحوا كتاب «اللباب في النحو» للعلّامة الفاضل الإسفرايني المتوفى سنة ٦٨٤ ه‍ ق. المصدر السابق ، ٢ / ١٥٤٤.

(٢) القفيز : مكيال كان يكال به قديما ويختلف مقداره في البلاء ، ويعادل بالتقدير المصري الحديث نحو : ستة عشر كيلو جراما. المعجم الوسيط ص ٧٥٠.

(٣) البسر : تمر النخل قبل أن يرطب.

٣١٤

الحال المقدّرة : «ومقدّرة» وهي الّتي تكون بمعنى الاستقبال ، بأن يكون زمان عاملها قبل زمانها ، كقوله تعالى : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر / ٧٣] ، أي مقدّرا خلودكم ، لأنّ زمن الخلود لا يتصوّر (١) مقارنته للدخول فلم يبق إلا تقديره ، وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح / ٢٧] ، أي مقدّرين للحقّ أو التقصير ، لأنّ زمنهما متأخّر عن زمان الدّخول الّذي تضمّنه العامل في الحال ، فلا تكون مقارنة له ، ولا حاجة إلى جعل الحال الأولى في الآية ، وهي آمنين مقدّرة ، لأنّ الأمن وإن كان مستقبلا فهو قيد للدخول المستقبل ، فيكون من الحال المقارنة لعاملها.

وتوهّم الدمامينيّ في التحفة (٢) أنّ ابن هشام جعلها من الحال المقدّرة ، فتعقّبه بما ذكرنا وليس في كلامه ما يدلّ عليه ، وقد منع بعض المتأخّرين كون محلّقين ومقصّرين في الآية من الحال المقدّرة أيضا ، قال : لأنّها ليسا في معنى الاستقبال فيكونا مقدّرين ، وإنّما هما في معنى الحال ، وذلك أنّ الله تعالى وعدهم دخول المسجد الحرام في حال تحليق وأمن والدخول.

وإن كان بمعنى الاستقبال فإنّما هو واقع في حال الركوب ، فالحال معه بمعنى الحال ، والحال إنّما تعتبر بالعامل فيها ، فإن كان حدوثه في حال حدوثها ، فهي بمعنى الحال ، أو كان قبل حدوثها فهي بمعنى الاستقبال ، أو بعده فهي بمعنى الماضي ، وأيضا فإنّ الحال بمعنى الاستقبال ، هي ما يصحّ تقديرها بالفعل ولام العلّة أعني لام كي ، كقولك : مررت برجل معه صقر صاعدا به غدا ، أي ليصيد به غدا ، وكذا تقول : زيد رقي المنبر خاطبا ، أي ليخطب ، ومنه قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة / ٢١٣] ، فهما حالان لمعنى الاستقبال ، أي ليبشّروا ولينذروا ، ولو قدّرت اللام في الآية الأولى كان خطأ ، لأنّ الله تعالى لم يعدهم دخول البيت ليحلّقوا وليقصّروا ، بل وعدهم أنّهم يدخلون في حال تحليق وتقصير وأمن وغير خوف ، فهي حال بمعنى الحال ، وليست كهي في قولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، أي استقّر معه صقر ليصيد به غدا ، فاستقرار الصقر معه أنّما هو ليصيد به ، انتهى ، فتأمّل.

وسمّيت هذه الحال مقدّرة ، لأنّ النّحويّين يقدّرون لها تقديرا يرجع فيه إلى معنى الحال ، فإذا قلت : هذا زيد صائدا غدا ، كانت الحال على هذا اللفظ بمعنى الاستقبال يدلّ عليه اقترانه بغد ، ولمّا كان هذا عندهم لا يجوز ، قالوا : هذه حال مقدّرة ، وتقديرها أن

__________________

(١) لا يتصف «ح».

(٢) التحفة الشافية لشرح الكافية شرح على الكافية في النحو لابن الحاجب ، كشف الظنون ٢ / ١٣٧٣.

٣١٥

تقول : هذا زيد مقدّرا لأنّ له الصيد غدا ، فقولهم مقدارا حال بمعنى الحال ، أي يقدّر له ، لأنّ الصيد غدا ، وعليه مسالة الكتاب : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا. قال ابن هشام : كذا يقدّرون ، وأوضح منه أن يقال : مريدا به الصيد غدا. قال ابن هشام : كذا يقدّرون ، وأوضح منه أن يقال مريدا به الصيد غدا كما فسّروا قمتم في : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة / ٦] بأردتم ، انتهى ، وتعقبّه ابن الصائغ (١) وأجاب عنه الشمني بما يطول إيراده.

تنبيهات : الأوّل : قال ابن هشام : الّذي يقدّر وجود معنى الحال هو صاحبها كالمرور به في المثال المذكور ، أي مقدّرا حال المرور به أن يصيد به غدا ، وبني على ذلك عدم صحّة كون جملة لا يسمّعون من قوله تعالى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ) [الصافات / ٧] ، قال : لأنّ الشياطين لا يقدرون عدم السّماع ، ولا يريدونه ، انتهى.

وتعقبه الدمامينيّ بأنّا لا نسلم ذلك ، ولم لا يجوز أن يقدّرها غير صاحبها ، ولو قيل : معنى المثال مررت برجل معه صقر مقدّرا به الصيد غدا على أن يكون مقدّرا اسم مفعول لصحّ ، سواء كان هو المقدّر أو غيره ، انتهى.

وأجاب الشمنيّ بأنّ الدليل على أنّ الّذي يقدّر وجود معنى الحال هو صاحبها أنّ في الحال ضميرا يعود على صاحبها ، فيجب أن يكون في مقدّرا كذلك لأنّه بمعناها فيجب أن يكون مقدّر الحال صاحبها ، انتهى.

الحال المحكية : الثاني : المشهور تقسيم الحال بحسب الزمان إلى هذين القسمين ، وهي المقارنة لعاملها ، وتسمّي المستصحبة أيضا والمقدّرة ، وأثبت جماعة منهم ابن هشام والمراديّ قسما ثالثا ، وهو الحال المحكية ، أي الماضية الّتي يتقدّم وجودها على وجود العامل ، نحو : جاء زيد أمس راكبا.

قال الدمامينيّ : ـ ونعم ما قال ـ أيّ داع إلى ارتكاب كونها محكية مع إمكان جعلها مقارنة بأنّ يكون راكبا أريد به المضيّ المقارن لزمن عامله الماضي ، انتهى.

الأصل تأخّر الحال عن صاحبها : «والأصل» أي الكثير الغالب في الحال «تأخّرها عن صاحبها» ، لأنّها بمترلة الخبر ، والأصل تأخّره كما مرّ ، «ويجب» هذا الأصل «إن

__________________

(١) ابن الصائغ هو محمد شمس الدين بن عبد الرحمن. لازم أبا حيان فمهر في العربية من مصنّفاته ، شرح الألفية ، والتذكرة ، توفي بالقاهرة سنة ٧٧٦ ه‍ ق. نشأة النحو ص ١٦٧.

٣١٦

كان» صاحبها «مجرورا» ، سواء كان جرّه بالإضافة ، نحو : أعجبني وجه هند مسفرة ، وهذا شارب السويق (١) ملتوتا ، فلا يجوز تقديم الحال على صاحبها واقعة بعد المضاف ، لئلّا يلزم الفصل بين المضاف والمضاف إليه ، ولا قبله ، لأنّ نسبة المضاف إليه (٢) من المضاف كنسبة الصلة من الموصول ، فكما لا يتقدّم ما يتعلّق بالصلة على الموصول ، كذلك لا يتقدّم ما يتعلّق بالمضاف إليه على المضاف ، قاله بدر الدين بن مالك.

وحكى والده الاتّفاق على ذلك في شرح الكافية ، إلا أنّه فصّل في شرح التسهيل فقال : إن كانت الإضافة غير محضة جاز التقديم على المضاف إليه ، نحو : هذا شارب ملتوتا السويق ، بالخفض ، لأنّ الإضافة فيه في نيّة الانفصال ، فلا يتعدّ بها ، وإن كانت محضة لم يجز بإجماع ، ونوزع في ذلك بما يطول إيراده.

أو كان جرّه بالحرف ، ويشترط فيه كونه غير زائد ، ظاهرا كان صاحبها أو مضمرا ، اسما كانت الحال أو فعلا ، كمررت بهند ضاحكة ، ومررت بك ضاحكة ، ومررت بهند تضحك ، فلا يجوز تقديم الحال في شيء من ذلك حملا على الحال المجرور بالإضافة ، هذا قول الجمهور ، وقضية إطلاق المصنّف ، وخالف الفارسيّ وابن كيسان ، فأجازوا التقديم مطلقا. قال ابن مالك : وهو الصحيح لوروده في الفصيح ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [السّباء / ٢٨] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٢٥٨ ـ إذا المرء أعيته المروءة ناشيءا

فمطلبها كهلا عليه شديد (٣)

وقال الآخر [من الطويل] :

٢٥٩ ـ تسلّيت طرّا عنكم بعد بينكم

بذكراكم حتى كأنّكم عندي (٤)

وأجيب بأنّ الشعر ضرورة ، وكافّة في الأية حال من الكاف ، التاء فيه للمبالغة لا للتأنيث مع أنّه يلزم على القول بحإليتها من الناس تقديم الحال المحصورة بإلا ، وتعدّي أرسل باللام ، والأوّل ممتنع ، والثاني خلاف الأكثر ، ودفع الأوّل بأنّ تقديم المحصور بإلا ليس ممتنعا عند الجميع كما تقدّم ، والثاني بأنّ مخالفة الأكثر لا تضرّ ، فإنّ تعدّي أرسل باللام كثير واقع في التتريل كقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء / ٧٩].

وفصّل الكوفيّون ، فأجازوا التقديم فيما إذا كان صاحب الحال المجرور مضمرا كمررت ضاحكة بك ، أو كان الحال فعلا ، نحو : مررت تضحك بهند ، ومنعوه إذا لم

__________________

(١) السويق : طعام يتّخذ من مدقوق الحنطة والشعير.

(٢) سقطت هذه الجملة في «ط».

(٣) البيت للمخبل السعدى. اللغة : أعيته : أتعبته ، متعدي عيي بالأمر إذا عجز عنه ، المروءة : آداب نفسانيّة تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات ، والمطلب : المصدر بمعنى الطلب.

(٤) لم ينسب البيت إلى قائل معين. اللغة : طرا : جميعا ، البين : الفرقة ، الافتراق.

٣١٧

يكن كذلك ، وأمّا إذا كان الحرف زائدا فلا يجب معه التأخّر اتّفاقا ، بل يجوز نحو : ما جاءني راكبا من أحد.

حكاية غريبة : قال التقيّ الشمنيّ في حاشية المغني : هاهنا حكاية أخبرنا بها إجازة وإن لم يكن سماعا شيخنا العلّامة أبو الفضل محمد بن الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن الإمام التلمساني (١) ، قال : أخبرنا شيختا القاضي أبو سعيد العقباني (٢) ، قال : اجتمعت بمدينة مراكش بيهوديّ يشتعل بالعلوم ، فقال : ما دليلكم على عموم رسالة نبيكم؟ قلت له : قوله (ص) : بعثت إلى الأحمر والأسود (٣). فقال لي : هذا خبر أحاد فلا يفيد إلا الظّنّ ، والمطلوب في المسألة القطع ، فقلت له قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [السبأ / ٢٨] ، قال : هذا لا يكون حجّة إلا على من يقول بصحّة تقدّم الحال على صاحبها المجرور بالحرف ، وأنا لا أقول بصحته ، انتهى.

وأقول : الجواب عن اعتراض إليهوديّ على هذا الخبر الحقّ أنّه وإن كان أحادا في نفسه ، فهو متواتر معنى ، لأنّه نقل عنه (ص) من الأحاديث الدّالة على عموم رسالته ما بلغ قدر المشترك منه حدّ التواتر ، وأفاد القطع بنسبة معناه إليه ، وإن كانت تفاصيله أحادا كجود حاتم وشجاعة علي (ع) ، وإذا حصل القطع بنسبة معناه إليه حصل القطع بحقيقته ، لأنّ الرسول معصوم ، وكلّ ما هو خبر بالمعصوم حقّ ، وعن اعتراضه على الآية هو الاستدلال على صحّة تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف.

تنبيهات : الأوّل : يجب تأخّر الحال أيضا إذا كانت نكرة محصورة ، نحو : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [الأنعام / ٤٨] ، وكأنّه إنّما أهمل ذكره نظرا إلى أن شرطية عدم الحصر لمّا جوّز تقديمه من الأبواب ممّا الأصل تأخيره غير مختصّ بالحال ، قال في التصريح : ويمكن أن يجئ هنا خلاف الكسائيّ السابق فيما إذا تقدّم المحصور مع إلا ، إذ لا فرق بين الحال والمفعول.

الثاني : أفهم كلامه أنّ الحال إذا لم يكن صاحبها مجرورا لم يجب تأخّرها عنه ، بل يجوز التقديم ، وهو كذلك بأن كان مرفوعا أو منصوبا ، سواء كان ظاهرا أو مضمرا ، كجاء ضاحكا زيد ، وضربت مجرّدة هندا.

__________________

(١) لم اقع على ترجمة له.

(٢) سعيد العقباني (٧٢٠ / ٨١١ ه‍) قاض فقيه مالكيّ من أهل تلمسان ، له كتب منها «شرح جمل الخونجي» و «شرح الحوفية» الأعلام للزركلي ٣ / ١٥٤.

(٣) النيسابوري ، صحيح مسلم ، المجلد الأوّل ، الطبعة الأولى ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ١٤١٨ ه‍ ، ص ٣٠٢ رقم ٥٢١.

٣١٨

هذا مذهب البصريّين ، ومنعه الكوفيّون في المنصوب الظاهر مطلقا ، سواء كانت الحال اسما كما ذكر ، أو فعلا ك رأيت تركب هندا ، وفي المرفوع الظاهر المؤخّر رافعه عند الحال فيمنعون : مسرعا جاء زيد ، ويجيزون : جاء راكبا زيد. قيل : والإجماع على الجواز إذا كان المرفوع مضمرا ، نحو : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ) [القمر / ٧].

يجب تقدّم الحال على صاحبها إن كان نكرة محضة : و «يمتنع» الأصل المذكور ، أي يجب تقدّمها «إن كان» صاحبها «نكرة محضة» غير مخصّصة بشيء من المخصّصات ، لأنّ النكرة تتخصّص بالتقديم ، لأنّها في المعنى مبتدأ وخبر ، ولئلّا تلتبس بالصفة في النصب في نحو : ضربت رجلا راكبا ، ثمّ حمل غيره عليه ، وإن لم يلتبس طردا للباب : و «هو» أي كون صاحب الحال نكرة محضة «قليل» في الكلام. قال سيبويه : أكثر ما يكون في الشعر وأقلّ ما يكون في الكلام ، انتهى.

ومنه الحديث : صلّي وراءه رجال قياما (١). والأغلب كونه معرفة أو مخصّصا إمّا بتقديم الحال كما مرّ ، أو بوصف ، كمررت برجل قرشيّ ماشيا ، وكقراءة بعضهم : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدقا [البقرة / ٨٩] ، ويكفي وصف واحد خلافا لبعض المغاربة في اشتراط وصفين ، وقد حكى سيبويه : هذا غلام لك راكبا ، أو بإضافة ، نحو : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) [فصلت / ١٠] ، أو بمفعول ، نحو : عجبت من ضرب أخوك شديدا أو بعطف ، نحو : هولاء ناس وعبد الله منطلقين. قاله ابن مالك في شرح العمدة.

أو عامّا لكونه في سياق النفي ، نحو (ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء / ٢٨] أو نهي ، كقوله [من الكامل] :

٢٦٠ ـ لا يركنن أحد إلى الأحجام

يوم الوغى متخوّفا لحمام (٢)

أو استفهام كقوله [من البسيط] :

٢٦١ ـ يا صاح هل حمّ عيش باقيا فترى

لنفسك العذر في إبعادها الأملا (٣)

تتمّة : ويمتنع التأخير أيضا إذا أضيف صاحبها إلى ضمير عائد على ملابس الحال ، نحو : لقيني شاتم زيد أخوه ، وجاء زائر هند أخوها ، فيمتنع تقدّمها على صاحبها ، كما لو كان محصورا أيضا ، نحو : ما جاء راكبا إلا زيد وفيه البحث السابق.

__________________

(١) صحيح البخاري ، ١ / ٣٣٤ ، رقم ٦٤٨.

(٢) هو لقطري بن الفجاءة ، وقد نسبة ابن الناظم إلى الطرماح بن حكيم. اللغة : الإحجام : التأخّر والنكول عن لقاء العدو ، الركون إليه : الميل إليه ، والاعتماد عليه ، الوغي : الحرب ، الحمام : الموت.

(٣) إنّه لرجل من طئ ، ولم يعينه أحد ممن استشهد بالبيت. اللغة : حمّ : قدّر.

٣١٩

الأصل في الحال تأخّرها عن عاملها أيضا ، ويجوز تقديمها عليه ، ان كان فعلا متصرّفا ، كقوله تعالى : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ) [القمر / ٧] ، أو صفة تشبهه ، سواء كانت اسم فاعل ، نحو : زيد مسرعا مقبل ، أو اسم مفعول ، نحو : اللصّ مجردا مضروب ، أو صفة مشبهة ، نحو : زيد غنيّا وفقيرا سمح.

«ويجب تقدّمها على العامل إن كان لها الصدر» أي صدر الكلام ، «نحو : كيف جاء زيد» ، فكيف في موضع الحال من زيد ، وهل هي ظرف أو اسم؟ قولان ، وعلى القولين يستفهم بها عن الأحوال ، فعلى القول بالظرفيّة يكون معناه في المثال في أيّ حال زيد ، وعلى القول بالاسميّة على أيّ حال جاء زيد ، وعلى الأوّل لا يفتقر إلى الاستقرار بخلاف أين ومتى ، ويجب تأخّرها ، أعني الحال عن العامل في مسائل :

إحداها : أن يكون العامل نعتا ، نحو : مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها ، قاله ابن مالك ، ووجّهه بأنّ التقديم يؤدّي إلى الفصل بين المنعوت ونعته ، وليس بشيء ، لأنّ الممتنع هو التقدّم على المنعوت ، لأنّ النعت لا يتقدّمه ، فلا يتقدّمه معموله ، ونصوص النحاة طافحة بذلك فما قاله متعقّب.

الثانية : أن يكون فعلا جامدا نحو : ما أحسنه مقبلا ، لأنّ الجامد لا يتصرّف في نفسه ، فلا يتصرّف في معموله بالتقديم عليه.

الثالثة : أن يكون اسم فعل ، نحو : نزال مسرعا ، لأنّ معمول اسم الفعل لا يتقدّم عليه.

الرابعة : أن يكون مصدرا مقدّرا بحرف مصدريّ (١) ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرّجا ، لأنّ معمول المصدر المقدّر من أن والفعل لا يتقدّم عليه.

الخامسة : أن يكون صلة لأل أو لحرف مصدريّ ، نحو : المقبل ضاحكا زيد ، ويعجبني أن يجئ زيد ضاحكا ، لأنّ معمول (٢) صلة أل والحرف المصدري لا يتقدّم عليها.

السادسة : أن يكون مقرونا بلام الابتداء في غير باب أنّ أو لام القسم ، نحو : لأصير محتسبا ، أو لأقومنّ طالعا ، لأنّ ما في حيّز لامي الابتداء والقسم لا يتقدّم عليهما ، واحترزت بغير باب أنّ من نحو : إنّ زيدا مخلصا ليعبد ربّه.

السابعة : أن يكون لفظا متضمّنا معنى الفعل دون حروفه كحرف التشبيه والتمنّي والترجّي والتنبيه واسم الإشارة والاستفهام التعظيمي ، نحو [قول الشاعر من الطويل] :

٢٦٢ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

 ... (٣)

__________________

(١) بالفعل وأن مصدري «س».

(٢) في «س» سقط معمول.

(٣) تمامه «لدى وكرها العناب والحشف البإلى» ، وهو لامرئ القيس. اللغة : الحشف : من التمر : أردؤه ، البإلى : الفاسد.

٣٢٠