الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

حذف عامله جوازا ووجوبا : ثمّ هو أعني المفعول المطلق يجوز حذف عامله لدليل قالي أو حالي كقولك للقادم ، أو لمن قال : سأقدم عليك خير مقدم أي قدمت ، ومنعه ابن مالك في عامل المؤكّد ، قال : لأنّه إنّما جئ به لتقويته وتقرير معناه ، والحذف مناف لهما ، وردّه ابنه بأنّه قد حذف جوازا في نحو : ما أنت إلا سيرا ، ووجوبا في نحو : سيرا سيرا وفي سقيا ورعيا ، وتعقبه ابن مالك لأنّ ما ذكره ليس من التأكيد في شيء ، لأنّ المصدر فيه نائب مناب العامل ، ودالّ على ما يدلّ عليه ، وهو عوض منه بدليل امتناع الجمع بينهما ، ولا شيء من المؤكّدات يمتنع الجمع بينه وبين الموكّد ، انتهى.

قال ابن هشام في بعض حواشيه على الخلاصة : والحقّ أنّ المصدر النائب عن عامله من قسم المصدر المؤكّد (١).

«ويجب حذف عامله» أي المفعول المطلق «سماعا» ولا يقاس عليه ، لأنّه لا ضابط له يعرف به ، وذلك في مصادر كثرت في استعمالهم ، فخفّفوها بحذف أفعالها ، ولم تسمع أفعالها معها مع كثرتها واحتياجهم إليها ، فدّل على وجوب حذفها ، فنصبها يدلّ على عاملها ، وجعل المصدر عوضا منها من حيث إنّه بمعناها ، فهي في المعنى معلّلة بالكثرة ، إلا أنّه لمّا لم يقدر على ضابط يعرف له ما كثر ممّا لم يكثر احتيج إلى السماع ، فلذلك أسند الحذف إليه ، نحو : سقيا ، أي سقاك الله سقيا ، ورعيا ، أي رعاك الله رعيا ، وحمدا ، أي حمدت حمدا ، وشكرا أي شكرت شكرا ، وجدعا أي جدعه الله جدعا.

قال الرضيّ (ره) : إنّ هذه المصادر وأمثالها إن لم يأت بعدها ما يبيّنها ، ويعيّن ما تعلّقت به من فاعل أو مفعول إمّا بحرف جرّ أو باضافة المصدر إليه ، فليست ممّا يجب حذف فعله ، بل يجوز نحو : سقاك الله سقيا ورعاك الله رعيا ، وجدعه الله جدعا ، وشكرت الله شكرا.

وفي نهج البلاغة في الخطبة البكالية «نحمده على عظيم إحسانه ، ونيّر برهانه ونوامي فضله وامتنانه حمدا يكون لحقه قضاء ولشكره أداء» (٢).

وأمّا ما بيّن بالإضافة أو بحرف الجرّ فاعله نحو : كتاب الله وصنيعة الله ، ونحو سحقا له وبعدا ، أو مفعوله نحو : ضرب الرقاب ، وسبحان الله ونحو شكرا له وعجبا منك ، ولم يكن من قبيل النوع ، نحو : (مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) [إبراهيم / ٤٦] ، (وَسَعى لَها

__________________

(١) هذا الرأي وفق قول ابن مالك بعيد عن الصواب ، لأنّه يعتقد أنّ حذف عامل المؤكّد لا يجوز ، لأنّه مسوق لتقرير عامله وتقويته ، والحذف مناف لذلك ، ويقول :

وحذف عامل المؤكّد امتنع

وفي سواه لدليل متّسع

(شرح ابن عقيل ١ / ٥٦٣)

(٢) نهج البلاغة ترجمة دكتر شهيدي الطبعة التاسعة عشر ، شركت انتشارات علمي وفرهنگي ١٣٧٩ ، رقم الخطبة ١٨٢ ص ١٨٩.

٢٨١

سَعْيَها) [الإسراء / ١٩] ، فيجب حذف العامل في جميع هذه قياسا ، إذ قد عرفت له ضابطا كما ذكرنا.

قال : وإنّما وجب حذفه مع الضابط ، لأنّ حقّ الفاعل والمفعول أن يتّصلا بالفعل ، واستحسن حذف الفعل في بعض المواضع إمّا إبانة لقصد الدّوام واللزوم بحذف ما هو موضوع للحدوث والتجدّد أي الفعل كما في نحو : حمدا لك وشكرا لك وعجبا منك ومعاذ الله وسبحان الله ، وإمّا لتقدّم ما يدلّ عليه ، نحو : كتاب الله و (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة / ١٣٨] ، أو لكون الكلام ممّا يستحسن الفراغ منه بسرعة ، كلبيك ، فبقي المصدر مبهما ، لا يدرى ما تعلّق به من فاعل أو مفعول ، فذكر ما هو مقصود المتكلّم من أحدهما بعد المصدر ، ليختصّ به ، فلمّا تبيّن بعد المصدر بالإضافة أو بحرف الجرّ ، قبح إظهار الفعل ، بل لم يجز فلا يقال : كتبت كتاب الله ، ووعد وعد الله ، وأسبّح سبحان الله ، وأحمد حمدا لك ، انتهى ملخّصا.

وصرّح بعضهم بأنّه إذا قلنا : سقاك الله سقيا ، وحمدت الله حمدا ، مع التلفّظ يكون خبرا لا إنشاء ، وإذا كان أنشاء كان المصدر والفعل متعاقبين يريد أنّهما لا يجتمعان ، ولكن إن أتيت بالمصدر ، تركت الفعل وجوبا ، وإن أتيت بالفعل لم يجز أن تذكر المصدر ، انتهى. وليس بشيء إذ ما وقع في الخطبة المذكورة من كلام أمير المؤمنين (ع) ليس مرادا به الخبر ، وهو من الفصاحة بحيث لا يخفى.

تنبيه : من جملة المصادر المذكورة مصادر لم توضع أفعالها أصلا ، فيقدّر لها عامل من معناها على حدّ قعدت جلوسا ، وهي ثلاثة أنواع :

أحدها : ما يستعمل مفردا فقط ، نحو : أفّة وتفّة لك ، أي قذرا ، والأفّ وسخ الأذن ، والتفّ وسخ الأظفار ، وذفرا أي نتنا ، وبهرا له أي تعسا ، أمّا بهرا بمعنى غلبة فله فعل مستعمل ، حكى ابن الأعرابي في الدعاء على القوم بهرهم الله غلبهم.

الثاني : ما يستعمل مضافا فقط ، نحو : بله زيد بالأضافة إلى المفعول ، أي تركه ، ويستعمل اسم فعل ، فتقول : بله زيدا بالنصب ، أي دع زيدا ، واسما مرادفا لكيف ، فتقول : بله زيد بالرفع ، أي كيف زيد.

الثالث : ما يستعمل مفردا تارة ومضافا [تارة] أخري ، نحو : ويحا لزيد وويحه وويلا له وويله أي حزنا له وحزنه ، وكيفيّة التقدير ظاهر من التفسير ، وقيل يقدّر لويح رحم ، لأنّها كلمة ترحّم ، ولويل عذّب ، لأنّها كلمة عذاب.

٢٨٢

«و» يجب حذفه «قياسا» فيما علم له من استقراء كلامهم ضابط كليّ يدلّ على حذف الفعل معه لزوما لما فيه من القرينة الدالّة على خصوص الفعل ووقوع ما يسدّ مسدّه ، ويجرى عليه ما لم يسمع وذلك في مواضع.

منها ما وقع تفضيلا لعاقبة مضمون جملة تقدّمته طلبيّة كانت نحو : قوله تعالى : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد / ٤] ، أي تمنّون منّا أو تفدون فداء ، فجملة قوله فشدّوا الوثاق متضمّنة لشدّ الوثاق ، وعاقبته إمّا قتل وإمّا استرقاق أو منّ أو فداء ، ففصّل هذا المطلوب بقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ،) أو خبريّة كقولك : زيد يكتب فقراءة بعد أو بيعا ، وعمرو يشترى طعاما (١) فإمّا بيعا وإمّا أكلا ، ومنه قوله [من البسيط] :

٢٣٢ ـ لأجهدنّ فإمّا درء واقعة

تخشى وإمّا بلوغ السّؤل والأمل (٢)

فدرء وقوع تفضيل لعاقبة الجهد ، أي إمّا أدرأ وإمّا أبلغ ، وإنّما وجب الحذف في هذه الصورة لوجود القرينة ، وهي نصب المفعول المطلق لإشعاره بالعامل المحذوف ، وسدّ الجملة المتقدّمة مسدّه لمناسبتها له من جهة أنّه تفضيل لعاقبة مضمونها بخلاف ما لو وقع غير تفضيل كمننت منّا ، أو تفضيلا لا لعاقبة مضمون جملة كزيد يسافر سفرا قريبا أو بعيدا.

ومنها ما وقع مؤكّدا لنفسه أو لغيره ، فالأوّل هو الواقع بعد جملة هي نصّ في معناه لا يتحمّل من المصادر غيره ، نحو : له على ألف اعترافا ، فجملة له على ألف نصّ في الاعتراف لا يتطرّق إليها احتمال غيره ، فالمصدر الظاهر بعدها ، وهو اعترافا يؤكّد الاعتراف الّذي تضمّنته الجملة كما أنّ المصدر مؤكّد لنفسه في نحو : ضربت ضربا ، إلا أنّ المؤكّدها هنا مضمون المفرد أي الفعل من دون الفاعل ، لأنّ الفعل وحده دالّ بطريق النصّ على الضرب ، وأمّا في مسألتنا فالاعتراف مضمون الجملة الاسميّة بكمالها لا مضمون أحد جزئيها ، لا يقال : مضمون الجملة ثبوت الألف عليه ومفهوم الاعتراف مطلق ، لأنّا نقول : هذا المطلق مندرج في ذلك المقيّد ، فهو أيضا مضمون الجملة ، وسمّي مؤكّدا لنفسه ، لأنّه بمترلة تكرار ما قبله ، فكان الّذي قبله نفسه ، وقد جوّز فيه الرفع خبرا لمبتدإ محذوف ، أي هذا الكلام اعتراف.

الثاني : هو الواقع بعد جملة تحتمل معناه وغيره ، فتصير به نصّا نحو زيد قائم حقّا ، فجملة زيد قائم ، قبل دخول المصدر كانت محتملة لأن تكون مضمونا ثابتا بحسب الواقع

__________________

(١) سقط «طعاما» في «ح».

(٢) البيت بلا نسبة. اللغة : الدرء : الدفع ، السؤل : ما سألته.

٢٨٣

فيكون حقا ، ولأن يكون مضمونها غير ثابت في الواقع ، فيكون غير حقّ ، فلمّا جاء المصدر المذكور صارت به نصّا في الحقيقة وسمّي مؤكّدا لغيره لأنّه يجعل ما قبله نصّا ، بعد أن كان محتملا ، فهو مؤثّر ، والمؤكّد متأثّر ، والمؤثّر غير المتأثّر ، وإنّما وجب الحذف في هاتين الصورتين لوجود القرينة ، وهي نصب المصدر فيهما لإشعاره بالمحذوف ، وسدّ الجملتين فيهما مسدّه ، والمناسبة ظاهرة.

تنبيه : الأصحّ كما في التسهيل منع هذين المصدرين ، فلا يقال اعترافا له على ألف ، ولا حقّا زيد قائم ، لأنّ العامل فيهما فعل مقدّر يفسّره مضمون الجملة ، أي اعترفت بذلك اعترافا ، وأحقّه حقّا ، ولا يتأتّى ذلك إلا بعد تمام الجملة ، قال الرضيّ : وأنا لا أرى بأسا بارتكاب كون الجملتين بأنفسهما عاملتين في المصدرين لأفادتهما معنى الفعل ، فلا يتقدّم المصدران لضعف العامل ، ولا يكونان إذن من هذا الباب.

ومنها ما وقع محصورا فيه بإلا أو بإنّما أو مكرّرا بعد اسم لا يصلح خبرا عنه ، فالأوّل نحو : ما أنت إلا سيرا ، وإنّما أنت سيرا ، والثاني نحو : زيد سيرا سيرا ، والتقدير ما أنت إلا تسير سيرا ، وإنّما أنت تسير سيرا ، وزيد يسير سيرا ، وقد يجئ ذلك معرّفا نحو : ما أنت إلا سير البريد ، وزيد السير السير ، فالاسم الّذي جاء بعده المصدر في هذه الأمثلة اسم عين ، والمصدر لا يصلح أن يكون خبرا عنه ، فوجب الحذف في ذلك كلّه للقرينة الّتي هي نصب المصدر لإشعاره بالمحذوف كما مرّ مع عدم صلاحيته للخبريّة لو رفع ، وقيام إلا وإنّما في الأوّل وطرفي التكرير في الثاني مقام المحذوف بشهادة أنّ الأوّل لو أقيم لم يكن ثمّ داع إلى التكرير في الإقامة ، وإنّما قامت إلا ، وإنّما مقامه لما في الحصر من التاكيد القائم مقام التكرير.

فإن لم يكن المصدر محصورا ولا مكرّرا لم يجب الحذف ، نحو : أنت تسير سيرا ، وان شيءت حذفت ، فقلت : أنت سيرا ، ولو كان العامل خبرا عن اسم معنى لم يحتج إلى إضمار فعل ، بل يتعيّن رفع المصدر على الخبريّة ، نحو : إنّما سيرك سير البريد ، بخلاف كونه خبرا عن اسم عين كما تقدّم.

وعلّل الرضيّ وجوب الحذف في هذه الصورة بأنّ المقصود من مثل هذا الحصر والتكرير وصف الشيء بدوام حصول الفعل منه ولزومه ووضع الفعل على الحدوث والتجدّد ، وإن كان المضارع يستعمل في بعض المواضع للدوام أيضا ، نحو : الله يقبض ويبسط ، وذلك أيضا لمشابهته لاسم الفاعل الّذي لا دلالة فيه وضعا على الزمان ، فلمّا كان المراد التنصيص على الدوام واللزوم ، لم يستعمل العامل أصلا ، لكونه إمّا فعلا وهو موضوع على التجدّد ، أو اسم فاعل ، وهو مع العمل كالفعل لمشابهته ، فصار العامل

٢٨٤

لازم الحذف ، وقد وقع له في باب المبتدإ ما ينافي هذا ، وذلك أنّه قال : الأصل في سلام عليك ، سلّمك الله سلاما ، ثمّ حذف الفعل للكثرة الاستعمال ، فبقي المصدر منصوبا ، وكان النصب يدلّ على الفعل ، والفعل يدلّ على الحدوث ، هذا هو الحقّ ، والأوّل غير مرضيّ.

ومنها ما وقع علاجيّا للتشبيه بعد جملة مشتملة على اسم بمعناه وصاحبه ، نحو : مررت به فإذا له صوت صوت حمار ، فصوت حمار وقع علاجا للتشبيه بعد جملة هي قوله : فإذا له صوت ، وهي مشتملة على الاسم الّذي بمعنى المصدر ، وهي صوت ومشتملة على صاحب ذلك الاسم ، وهو الضمير المجرور في له ، والجمهور على أنّ هذا المصدر منصوب بفعل مقدّر بين الجملة السابقة ، وبين المصدر تدلّ عليه الجملة المتقدّمة دلالة تامّة مغنية عنه ، فلهذا وجب حذفه ، والأصل له صوت يصوّت صوت حمار ، أي تصويت حمار ، وأقيم مقام المصدر كما في أنبت نباتا.

وظاهر كلام سيبويه أنّ المصدر منصوب بقوله : له صوت ، لا بفعل مقدّر ، ويجب الرفع في نحو : له علم علم الفقهاء ، لأنّ العلم ليس علاجيّا ، إذ العلاجيّ ما كان من أفعال الجوارح ، وفي نحو : صوته صوت حمار ، لعدم تقدّم الجملة وفي نحو : فإذا في الدار صوت صوت حمار ، ونحو : عليه نوح نوح حمام لعدم تقدّم صاحبه فيهما ، ويجوز النصب فيهما على الحال من الضمير ، والمستوفي الشروط إن كان جاز فيه الرفع على البدليّة والصفة ، أو أن يكون خبرا لمحذوف ، وان كان معرفة امتنعت الصفة إلا في الضرورة.

لبيك وسعديك : وأجازها الخليل على تقدير مثل وهل الرفع والنصب متكافئان ، أو لا خلاف ، ذهب ابن خروف إلى أنّ الرفع مرجوح ، لأنّ الثاني ليس هو الأوّل ، والنّصب سالم من هذا المجاز ، وابن عصفور إلى أنهما متكافئان ، لأنّ في النصب التقدير ، والأصل عدمه ، ومنها ما وقع مثنى دالّا على التكرير والتكثير ، نحو : لبيك ، وهو مثنى مصدر لبّ بالمكان إذا أقام به ، وجوّز أن يكون مصدر ألبّ بمعنى لبّ ، فيكون محذوف الزاوئد ، والوجه الأوّل ، لأنّ الأصل عدم الحذف ، فالأصل إذن ألبّ لك لبّين ، أي أقيم على طاعتك لبا كثيرا متتاليا متكرّرا ، وليس المراد خصوص الاثنين ، وجعلت التثنية دالّة على التكثير ، لأنّها أوّل تضعيف للعدد.

وزعم يونس أنّ لبيك مفرد كلديك ، والأصل لببب كجعفر ، قلبت الباء الأخيرة ياء لثقل التضعيف ، ثمّ قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثمّ صارت ياء بالاضافة إلى الضمير كلديك وعليك وسعديك ، وهي تابعة لبيك أي أسعدك

٢٨٥

إسعادين ، ولا تستعمل بدونها ، وتستعمل لبيك بدونها ، ومثل ذلك دواليك ، أي تداول الأمر دوالين ، وحنانيك أي تحنّن تحنّنين ، وهذا ذيك أي أسرع إسراعين ، وهجاجيك أي كفّ كفّين ، وعامل هذين وعامل لبيك من معناها ، وعامل البواقي من لفظها ، وإنّما وجب الحذف في ذلك لوجود القرينة ، وهي النصب المشعر بالحذف وقيام التكرير مقام المحذوف.

كذا قيل ، ودفع بأنّ التكرير لا يصلح لذلك لكونه أمرا معنويّا فلا ينوب عن اللفظ المحذوف ، ثمّ يرد نحو قوله تعالى : (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك / ٤] ، لأنّه مصدر مثنّى ، فيه معنى التكرير ، ولم يجب حذف عامله. قال الرضيّ : ليس وقوع المصدر مثنّى من ضوابط الّتي يعرف بها وجوب حذف فعله سواء كان المراد بالتثنية التكرير ، نحو : (ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ،) أي رجعا كثيرا مكررا أو كان لغير التكرير ، نحو : ضربته ضربتين ، أي مختلفين ، بل الضابط لوجوب الحذف في هذا وأمثاله إضافته إلى الفاعل أو المفعول كما ذكرنا قبل ، انتهى.

وجميع هذه المصادر لا يتصرّف إذ لا يستعمل لها أفعال ، وأمّا لبّى يلبّى فهو مشتقّ من لبيك ، نحو : سبحان من سبحان الله ، وبسمل من بسم الله. وممّا يجب العامل فيه قياسا ما كان توبيخا ، سواء كان مع استفهام أولا ، كقوله [من الكامل] :

٢٣٣ ـ ...

أرضا وذوبان الخطوب تنوشني (١)

وأمكرا وأنت في الحديد. وقوله [من الطويل] :

٢٣٤ ـ خمولا وإهمالا وغيرك مولع

بتثبيت أسباب السيادة والمجد (٢)

قال الدمامينيّ : ولا مانع من أن يقال : همزة التوبيخ هنا محذوفة كما تحذف همزة الاستفهام الحقيقيّ ، انتهى. قلت : نعم لا مانع ولكنّ المراد من عدم الاستفهام عدمه لفظا فقط ، وإنّما وجب الحذف فيه لقيام القرينة ، وهي النصب وسدّ الحال هي سبب التوبيخ مسدّ المحذوف.

__________________

(١) هذا المصراع ذكر في خزانة الأدب ولم يذكر له صدر ولا عجز : اللغة : الذوبان ، جمع ذئب ، جمع كثرة. الخطوب : جمع الخطب ، وهو الأمر الشديد يترل على الانسان ، تنوشني : تنالني وتصيبني. البغدادي. خزانة الأدب ، ٢ / ١٠١.

(٢) لم يسمّ قائله.

٢٨٦

المفعول له

ص : الثالث : المفعول له : وهو المنصوب بفعل فعل لتحصيله أو حصوله ، نحو : ضربته تأديبا ، وقعدت عن الحرب جبنّا. ويشترط كونه مصدرا متّحدا بعامله وقتا وفاعلا ، ومن ثمّ جىء باللّام ، في نحو : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ ،) وتهيّأت للسفّر ، وجئتك لمجيئك إيّاي.

ش : «الثالث» ممّا يرد منصوبا لا غير «المفعول له» ، ويقال له : المفعول لأجله والمفعول من أجله ، «وهو» الاسم «المنصوب بفعل» اصطلاحيّ أو شبهه من مصدر أو وصف كما سيأتي.

«فعل» ذلك الفعل مرادا به اللغويّ ، أي الحدث على طريقة الاستخدام ، «لتحصيله» أي لتحصيل المفعول له «أو حصوله» أي وجوده.

فقوله : المنصوب كالجنس يشمل جميع المنصوبات ، وما بعده مخرج لما عدا المحدود ، فالأوّل وهو ما فعل الفعل لتحصيله ، «نحو : ضربته تأديبا» فتأديبا مفعول له لأنّه منصوب بفعل ، وهو ضربت وفعل الفعل أي الحدث ، وهو الضرب لتحصيله ، فإن قيل : التأديب عين الضرب ، فكيف يحصل به ، قيل : إنّه يحصل به ما تضمّنه التأديب ، وهو التأدّب ، وإنّما نصب التأديب لتضمّنه التأدّب.

قال بعض المحقّقين : ويكذبه امتناع ضربته تأدّبا ، كما صرّح به الرضيّ ناقلا عن النّحاة ، فالجواب منع أنّ التأديب عين الضرب ، بل هو إحداث التأدّب ، والضرب سبب الإحداث ووسيلته ، انتهى.

والثاني وهو ما فعل الفعل لحصوله ، نحو : «قعدت عن الحرب جبنا» فجبنا مفعول له منصوب بقعد ، وفعل الفعل وهو العقود لحصوله ، فالمفعول له هو السبب الحاصل للفاعل على الفعل ، سواء كان علّة غائية للفعل متأخّرة عنه في الوجود كالتأديب للضرب أو علّة مؤثّرة له موجودة قبله كالحين للقعود ، والأوّل يكون علّة للفعل بحسب الوجود الذهنيّ ومعلوما له بحسب الوجود الخارجيّ ، والثاني يكون علّة له بحسب الوجود الخارجيّ ، وأمّا بحسب الوجود الذهنيّ فلا تأثير له ، فبين التأديب والضرب مرابطة ذهنا وخارجا ، وبين الحين والقعود مرابطة خارجيّة فقط.

تنبيه : قيل : في الحدّ المذكور نظر ، لأنّ النصب حكم ، والحكم فرع التصوّر ، والتصوّر موقوف على الحدّ المأخوذ فيه الحكم المذكور ، وأجيب بمنع تسليم أنّ تصوّر النصب الّذي هو الحكم فرع تصوّر المحدود ، لأنّ النصب لا ينحصر فيه ، فلا يتوقّف ولا يتصوّر فهمه على تصوّر المحدود ، ليكون موقوفا على الحدّ ، نعم نصب المحدود يتوقّف

٢٨٧

تصوّره على تصوّر المحدود ، إلا أنّ المأخوذ في التعريف ليس نصب المحدود ، بل مطلق النصب ، ولو سلم فيكفي في الحكم التصور بوجه آخر غير الحدّ ، فليتأمّل.

ثمّ لا يخفى ما في هذا الحدّ أيضا من ارتكاب الاستخدام المنافيّ للحدّ في الإيضاح والتبيين ، فقد قيل : لا ينبغي أن يخترع في الحدود ألفاظ ، بل الواجب استعمال المشهورة منها فيها.

«ويشترط» في نصبه عند الجمهور «كونه مصدرا» ، لأنّه علّة للفعل ، والعلل أنّما تكون بالمصادر لا بالذوات ، وزعم يونس أنّ قوما من العرب يقولون : أمّا العبيد فذو عبيد ، بنصب العبيد الأوّل ، لكونه مفعولا له ، والمعنى مهما يذكر شخص لأجل العبيد فزيد ذو عبيد لا غير ، فالعبيد علّة للذكر ، وقبّح ذلك سيبويه ، وتأوّله على الحال ، كما في الجمّاء الغفير ، وإنّما أجازه على ضعفه إذا لم يرد به عبيدا بأعيانهم.

قال : فلو قلت : أمّا البصرة فلا بصرة لك ، وأمّا الحرث فلا حرث لك ، لم يجز لاختصاصهما ، وأوّله الزجّاج على تقدير أمّا تملك العبيد ، أي مهما يذكر شخص من أجله تملك العبيد فذو عبيد ، وهذا كلّه مراعاة للمصدر ، وجعله بعضهم مفعولا به أي مهما تذكر العبيد.

«متّحدا بعامله وقتا» بأن يكون وقوع الحدث في بعض زمان المصدر ، كجئتك طمعا ، وقعدت عن الحرب جبنا ، أو يكون أوّل زمان الحدث آخر زمان المصدر ، نحو : جئتك خوفا من فرارك أو بالعكس ، نحو : جئتك إصلاحا لك ، وهذا الشرط اشترطه الأعلم وجماعة من المتأخّرين ، ولم يشترطه سيبويه ولا أحد من المتقدّمين.

«وفاعلا» بأن يكون فاعله وفاعل عامله واحدا كقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة / ١٩] ، فالحذر مفعول له ، وفاعله وفاعل الجعل واحد ، وهم الكفّار ، وهذا الشرط رأي المتأخّرين ، ولم يشترطه سيبويه ولا أحد من المتقدمّين أيضا ، كما قاله في الهمع ، وهو مرتضى الرضيّ ، قال : وهو الّذي يقوّى في ظنّي ، وإن كان الأغلب المشاركة ، وعليه فيكون انتصاب خوفا وطمعا من قوله تعالى : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الرعد / ١٢] على المفعول له من غير حاجة إلى تكلّف تقدير إرادة خوفكم وطمعكم ، أو إلى جعل الخوف والطمع بمعنى الإخافة والإطماع ، أو جعل انتصابهما على الحالية لا على المفعول له.

واستدلّ الرضيّ على عدم اشتراط ذلك بقول أمير المومنين عليه السّلام في نهج البلاغة : فأعطاه الله النّظرة استحقاقا للسّخطة واستتماما للبلية (١). والمستحقّ للسخطه

__________________

(١) نهج البلاغه ترجمة شهيدي ، ص ٥.

٢٨٨

إبليس ، والمعطي للنظرة هو الله تعالى ، ومشترط الاتّحاد يتأوّل هذا أيضا كما تأوّل الآية.

وحاصل ما ذكره المصنّف من الشرط ثلاثة : كونه مصدرا ، واتّحاد زمانه وزمان عامله واتّحاد فاعلهما ، وزاد بعضهم رابعا ، وهو أن يكون مصدرا قلبيّا كالرغبة في نحو : جئتك رغبة في إكرمك ، فلا يجوز جئتك قراءة للعلم ، لأنّ القراءة من أفعال اللسان ، قال الشاطبيّ : وهذا الشرط مستغنى عنه بشرط اتّحاد الزمان ، لأنّ أفعال الجوارح لا تجمع في الزمان مع الفعل المعلل ، انتهى. ولم يشترط ذلك الفارسيّ ، فأجاز جئتك ضرب زيد ، أي لتضرب زيدا.

وفاقد أحد الشروط المذكورة يجرّ بحرف التعليل ، وهو اللّام ونحوها ، ممّا يفهم معناها من من والباء وفي والكاف وكي وعلى ، ومن ثمّ إشارة إلى المكان الاعتباريّ كما تقدّم ، أي ومن أجل اعتبار الشروط المذكورة جئ باللام في نحو قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) [الرحمن / ١٠] ، لفقد المصدريّة ، فإنّ الأنام علّة للوضع وليس مصدرا فلذلك جرّ باللام.

ومثله قوله (ع) : إنّ امراة دخلت النار في هرّة (١). أي لأجل هرّة. وفي نحو تهيّأت إليوم للسفر غدا ، لفقد اتّحاد الوقت ، فإنّ وقت التهيئة غير وقت السفر ، ومثله قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍ) [الحجّ / ٢٢] ، أي لاجل الغمّ. وقول الشاعر [من الطويل] :

٢٣٥ ـ فجئت وقد نضّت لنوم ثيابها

لدي السّتر إلا لبسة المتفضّل (٢)

وفي نحو : جئتك لمجيئك إيّاي ، لفقد اتّحاد الفاعل ، فإنّ فاعل المجئ المتكلّم ، وفاعل المجئ المخاطب ، ومثله قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء / ١٦٠] ، (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة / ١٩٨] ، (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة / ١٨٥] أي لهدايته إيّاكم ، وقوله [من الطويل] :

٢٣٦ ـ وإنّي لتعروني لذكراك هزّة

كما انتقض العصفور بلّله القطر (٣)

__________________

(١) تمام الحديث «ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الارض حتى ماتت» وروى بدل ربطتها حبستها. نهج الفصاحة ، مترجم أبو القاسم پاينده ، الطبعة السابعة عشرة ، منشورات منظمة جاويدان ، ١٣٦٢ ش ص ٣٢٧ رقم الحديث ١٥٥٩.

(٢) البيت لامري القيس من معلّقته. اللغة : نضّت. خلعت ، اللبسة : حالة الملابس ، المتفضل : اللابس ثوبا واحدا.

(٣) البيت لأبي صخر الهذلي. اللغة : تعروني : تصيبني وتترل بي ، الذكري : التذكّر والخطور بالبال ، الهزة : حركة واضطراب ، القطر : المطر.

٢٨٩

تنبيهات : الأوّل : الشروط المذكورة معتبرة لجواز النصب لا لوجوبه وتعيّنه ، حتى أنّ المستوفي لجميعها يجوز جرّه بحرف التعليل ، سواء كان مجرّدا من أل والإضافة أم مضافا أم محلي بأل ، لكنّ الأرجح في الأوّل النصب ، وفي الثالث الجرّ ، ويستويان في الثاني ، ونقل عن أبي موسى الجزوليّ منعه في الأول قال الشلوبين : ولا أعرف في ذلك سلفا.

ناصب المفعول له : الثاني : ناصب المفعول له مفهم الحدث الّذي نصب المفعول به المصاحب في الأصل حرف جرّ ، لأنّه جواب له ، والجواب أبدا بحسب السؤال ، فإذا قلت : قمت فكان المخاطب قال مستفهما : لم قمت؟ فقلت : إجلالا لك ، أصله لإجلالك ، إلا أنّه أسقط اللام ، ونصب ، ولهذا تعاد إليه في مثل ابتغاء الثواب تصدّقت له ، لأنّ الضمائر تردّ الأشياء إلى أصولها.

هذا مذهب سيبويه والفارسيّ وجمهور البصريّين وأكثر المتأخّرين ، وخالفهم الزجّاج والكوفيّون ، فزعموا أنّه مفعول مطلق ، ولذلك لم يترجموا له استغناء بباب المصدر عنه ، ثمّ اختلفوا ، فقال الزجّاج : ناصبه فعل مقدّر من لفظه واجب الإضمار لسدّ المصدر مسدّه ، وقال الكوفيّون : ناصبه الفعل المتقدّم عليه ، لأنّه ملاق له في المعنى ، وإن خالفه في الاشتقاق ، مثل قعدت جلوسا.

إذا عرفت هذا فكان على المصنّف (ره) أن لا يعدّ المفعول له قسما برأسه ، بل أن قال بمذهب جمهور البصريّين ، وهو الصحيح ، كان عليه إدخاله في المنصوب بترع الخافض ، كما سيأتي ، وأن قال بمذهب الزجّاج والكوفيّين كان عليه إدراجه تحت المفعول المطلق كما فعله الكوفيّون.

الثالث : صريح حدّه للمفعول له أنّ نحو : قمت لأجلالك ليس مفعولا له ، لأنّه ليس بمنصوب ، وقد أخذ في الحدّ المنصوب ، ولو لم يأخذه لما اقتضاه كلامه أيضا ، لأنّه عدّ المفعول له من نوع المنصوب لا غير ، فلا يكون هذا مفعولا له ، وهو رأي القوم ، بل هو عندهم مفعول به بواسطة حرف الجرّ ، وذهب ابن الحاجب إلى أنّه مفعول له ولا مشاحة في الاصطلاح (١).

__________________

(١) لا مشاحة في الاصطلاح : لا مجادلة فيما تعارفوا عليه.

٢٩٠

المفعول معه

ص : الرابع : المفعول معه : وهو المذكور بعد واو المعيّة لمصاحبة معمول عامله ، ولا يتقدّم على عامله نحو : سرت وزيدا ، ومالك وزيدا ، وجئت أنا وزيدا ، والعطف في الأولين قبيح ، وفي الأخير سائغ ، وفي نحو : ضربت زيدا وعمرا واجب.

ش : «الرابع» ممّا يرد منصوبا لا غير «المفعول معه» ، أي الّذي فعل بمصاحبته ، بأنّ يكون الفاعل مصاحبا له في صدور الفعل عنه ، أو المفعول في وقوع الفعل عليه ، فقوله : معه نائب الفاعل ، أسند إليه المفعول ، كما أسند إلى المجرور في المفعول به والمفعول له والمفعول فيه ، والضمير المجرور عائد على أل.

واعتذر عن نصبه بما جوّزه بعض النحاة من إسناد الفعل إلى اللازم (١) النصب وتركه منصوبا جريا على ما هو عليه في الأكثر ، وإليه ذهب بعضهم في قوله تعالى : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام / ٩٤] ، على قراءة النصب ، وقيل : الوجه أن يجعل من قبيل : وقد حيل بين العير والنزوان (٢) ، فإنّ نائب الفاعل فيه ضمير راجع إلى مصدره ، أي حيل الحيلولة ، لأنّ بين للزوم الظرفيه لا تنوب عن الفاعل ، فعلى هذا يكون معناه الّذي فعل الفعل بمصاحبته (٣) على أن يكون نائب الفاعل ضميرا راجعا إلى مصدره ، والضمير المجرور عائد على الموصول كذا في الفوائد الضيائية وغيرها.

وقال بعض المحقّقين ، والظاهر أنّ ذلك كلّه باعتبار الأصل ، لأنّ المفعول معه في الاصطلاح اسم لهذا النوع كالحيوان الناطق علما للإنسان ، وسمّاه سيبويه بهذا وبالمفعول به على أنّ الباء بمعنى مع ، «وهو المذكور بعد واو المعيّة» ، أي الّتي بمعنى مع لمصاحبته معمول فعل الظرف لغو متعلّق بالمذكور ، أي الّذي ذكر بعد الواو لأجل المصاحبة ، سواء كان ذلك المعمول فاعلا ، نحو : استوي الماء والخشبة ، أو مفعولا نحو : كفاك وزيدا درهم ، وسواء كان الفعل ملفوظا به كالمثالين أو معنويّا ، نحو : مالك وزيدا ، أي ما تصنع.

فقوله : «المذكور» بمترلة الجنس ، وقوله «بعد واو المعيّة» مخرج لما ذكر بعد واو العطف نحو : جاء زيد وعمرو ، وقوله : «لمصاحبة معمول» فعل مخرج لنحو : كلّ رجل

__________________

(١) سقط «اللازم» في «ح».

(٢) العير : الحمار. التروان : السفاد. يضرب للرجل يعوقه عن مطلبه عائق. وهو لصخر بن عمرو بن الشريد ، ومن حديثه أنه طعن فمرض حولا حتى ملّه أهله ، فسمع امرأة تقول لامرأته سلمى : كيف بعلك؟ فقالت : لا حيّ فيرجى ولا ميّت فينعى ، قد لقينا منه الأمرين وقال لها : ناوليني السيف أنظر هل تقلّه يدي؟ فناولته فإذا هو لا يقلّه ، وروى أيضا أن أمّ صخر سئلت عنه فقالت : لا نزال بخير ما دام فينا. فقال [من الطويل] :

أهمّ بأمر الحزم لو استطيعه

وقد حيل بين العير والتروان

موسوعة أمثال العرب ، ٣ / ٦٠٠.

(٣) سقط بمصاحبته في «س».

٢٩١

وضيعته ، فلا يجوز نصب ضيعته خلافا للصيمريّ (١) ، فإنّه وإن كان مذكورا بعد واو المعيّة لكن لا لأجل مصاحبته معمول فعل.

قال الرضيّ : ونعني بالمصاحبة كونه مشاركا لذلك المعمول في ذلك الفعل في وقت واحد ، فزيدا في «سرت وزيدا» مشارك للمتكلّم في السير في وقت واحد أي وقع سيرهما معا ، وفي قولك : سرت أنا وزيد ، بالعطف مشارك في السير ، لكن لا يلزم السيرى ن في وقت واحد ، انتهى.

وأورد عليه في نحو : سر والطريق ، فإنّه من صور المفعول معه قطعا ، وليست الطريق مشاركة للمخاطب في السير المأمور به ، وقد صرّح به نجم الدين سعيد في شرح الحاجبيّة بأنّ المراد بالمصاحبة هنا المصاحبة (٢) المطلقة ، سواء لم يكن ثمّ تشريك في الحكم ، نحو : سر والطريق ، أو كان ثمّ تشريك ، لكن لا يكون مقصودا ، بل القصد إلى مطلق المصاحبة ، نحو : جئت وزيدا ، انتهى. والقول بالمشاركة هو اشتراط الأخفش ، ولم يشترطها غيره ، بل اعتبروا مطلق المصاحبة ، وهو الصحيح.

تنبيهات : الأوّل : قال بعض المحقّقين في نحو الحدّ المذكور : لعلّه لم يقل الاسم المذكور اختيارا لما ذهب إليه صدر الأفاضل (٣) تلميذ الزمخشريّ من أنّ المفعول معه يجئ جملة ، كما في قولك : جاء زيد والشمس طالعة تفاديا عمّا ارتكبوه من التأويل في هذا المثال حيث ادّعوا الحالية ، فإنّ ابن جنيّ قال : جاء زيد طالعة الشمس عند مجئيه ، فجعلها كالحال المفردة السببيّة كمررت بالدار قائما سكّانها. وقال ابن عمرون (٤) هي مؤوّلة بقولك : مبكّرة أو نحوه ، انتهى ، وسيأتي في ذلك مزيد كلام ، إن شاء الله تعالى.

عامل المفعول معه : الثاني : اختلف في عامل مفعول معه على خمسه أقوال :

أحدها : ما ذهب إليه الجمهور من أنّ العامل ما تقدّمه من فعل أو ممّا فيه معنى الفعل وحروفه ، وهو المصدر كعرفت استواء الماء والخشبة ، واسم الفاعل ك أنا سائر والنيل ، واسم المفعول ، نحو : الناقة متروكة وفصيلها ، ولا يضرّ فصل الواو بينهما كما لا تضرّ إلا في الاستثناء.

__________________

(١) عبد الله بن على بن إسحاق الصيمريّ النحويّ له التبصرة في النحو ، بغية الوعاة ٢ / ٤٩.

(٢) سقط هنا المصاحبة في «ط».

(٣) هو القاسم بن الحسين الخوارزمي فقيه حنفي عالم بالعربية. له ثلاثة شروح على المفّصل للزمخشريّ ، وشرح النموذج والأحاجي وهما للزمخشريّ أيضا ، وشرح سقط الزند للمعري. قتله التتار سنه ٦١٧ ه‍. المصدر السابق ٢ / ٢٥٢.

(٤) هو محمد بن محمد جمال الدين أبو عبد الله النحويّ ، روى عنه شرح المفصل ، مات سنة ٦٤٩ ه‍. المصدر السابق ١ / ٢٣١.

٢٩٢

الثاني : ما ذهب إليه الزّجّاج من أنّه فعل محذوف بعد الواو فإذا قلت : جاء البرد والطيالسة (١) ، فكأنّك قلت : جاء البرد ولابس الطيالسة ، وردّ بأنّ الإضمار خلاف الأصل.

الثالث : ما ذهب إليه الكوفيّون من أنّه الخلاف أي مخالفة الأوّل في إعرابه ، فيكون أمرا معنويّا ، وردّ بأنّ الإحالة على العامل المعنوي أنّما يضطرّ عند عدم اللفظيّ.

الرابع : ما ذهب إليه الشيخ عبد القاهر في جملة من أنّه نفس الواو ، وردّ بأنّه لو كان كذلك لاتّصل الضمير بها كما يتّصل بسائر الحروف الناصبة مع أنّه لا يقال : سرت وك.

الخامس : ما ذهب إليه الأخفش من أنّ انتصابه على الظرفيّة ، وذلك لأنّ الواو لمّا أقيمت مقام مع المنصوب على الظرفيّة ، والواو في الأصل حرف ، فلم يحتمل النصب أعطى ما بعده عارية إعرابه كما أعطى ما بعده إلا إذا كانت بمعنى غير إعراب نفس غير كما قيل في له عندي عشرة إلا واحدا أنّ الاصل غير واحد ، ثمّ أنيب إلا عن غيره ونقل الإعراب لما بعدها ، وردّ بأنّه لو كان كذلك لجاز النصب في : كلّ رجل وضيعته مطّردا ، وليس كذلك.

[التنبيه] الثالث : أنّه لا يجوز الفصل بين الواو والمفعول معه بظرف ولا بغيره ، فلا يقال : قام زيد واليوم عمرا ، وإن جاز الفصل بالظرف بين الواو العاطفة ومعطوفها ، لأنّ الواو هنا نزّلت مترلة المجرور من الجارّ ، فمنعوا الفصل بينهما ، قاله في الهمع.

ولا يتقدّم المفعول معه على عامله كما يتقدّم سائر المفاعيل ، فلا يقال : بزيد وعمرا مررت ، لأنّ اصل الواو للعطف ، والمعطوف تابع فحقّه التأخير ، وأجازه الرضيّ ، عليه من الله الرضا ، قال : وأنا لا أري منعا من تقديم المفعول معه على عامله إذا تأخّر عن المصاحب ، لأنّ ذلك مع واو العطف الّذي هو الأصل جائز ، نحو : زيدا وعمرا ضربت ، انتهى.

ولا يتقدّم على المصاحب أيضا ، فلا يقال : مررت وعمرا بزيد ، وأجازه ابن جنيّ محتجّا بقوله [من الطويل] :

٢٣٧ ـ جمعت وفحشا غيبة ونميمة

ثلاث خصال لست عنها بمرعوي (٢)

وقوله [من البسيط] :

٢٣٨ ـ أكينه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقّبه والسوأة اللّقبا (٣)

__________________

(١) الطيالسة : جمع الطيلسان أو الطيلس بمعنى الطالسان وهو ضرب من الأوشحة يلبس على الكتف ، أو يحيط بالبدن وهو ما يعرف في العامية المصريّة بالشال.

(٢) هو ليزيد بن الحكم. اللغة : المرعوي : من الإرعواء ، وهو الكف عن القبيح.

(٣) لم يسمّ قائله في خزانة الأدب ، وقيل : البيت لبعض الفزاريين.

٢٩٣

على رواية من نصب السوأة واللقب ، أراد ولا ألقّبه واللقب والسوأة أي مع السوأة ، لأنّ من اللقب ما يكون لغير السوأة.

قال ابن مالك في شرح الكافيّة : لا حجّة له في البيتين لاحتمال جعل الواو فيهما عاطفة ، قدّمت هي ومعطوفها وذلك في الأوّل ظاهر ، وأمّا في الثاني فعلى أن يكون أصله ولا ألقّبه اللقب ، وأسوأه السوأة ، ثمّ حذف ناصب السوءة ، كما حذف ناصب العيون من قوله [من الوافر] :

٢٣٩ ـ ...

وزجّجن الحواجب والعيونا (١)

ثمّ قدّم العطف ، ومعمول الفعل المحذوف ، انتهى.

ولا يتقدّم على العامل والمصاحب معا ، فلا يقال : وعمرا مررت بزيد إجماعا ، ومثّل لقسمي المفعول معه ممّا فيه العامل لفظيّا بقوله : نحو سرت وزيدا. وممّا فيه العامل معنويّا بقوله : مالك وزيدا؟ أي ما تصنع وزيدا؟ ومثله كيف أنت وزيدا؟ وقدّره سيبويه بلفظ الكون في المثالين ، وقدّره بالماضي مع ما ، وبالمضارع مع كيف ، فقال : الأصل ما كنت وزيدا ، واختلف في تقديره ذلك ، هل هو مقصود له أم غير مقصود؟ فزعم السيرافيّ أنّه غير مقصود ، ولو عكس لجاز ، وزعم ابن ولّاد (٢) أنّه لا يجوز إلا ما قدّره سيبويه ، قال : وذلك أنّ ما دخلها معنى التحقير والإنكار ، وليست سؤالا عن مسألة مجهولة ولو كانت لمجرّد الاستفهام لجاز فيها الماضي والمضارع.

واختلف في كان المقدّرة ، فنصّ السيرافيّ وغيره إلى أنّها تامّة ، فعلى هذا يكون كيف في موضع نصب على الحال ، وأمّا ما فلا تكون حالا ، وزعم بعضهم أنّها مخرجة عن أصلها للسؤال عن الحال ، والصحيح أنّ كان ناقصة ، وكيف وما في موضع نصب خبرها ، والتقدير على أيّ حال كنت أو تكون مع زيد ، وهو مذهب ابن خروف ، قاله في التصريح.

تنبيه : نحو هذا لك وإيّاك ممنوع من جهة أنّ الكلام لم يذكره فيه فعل ولا عامل عمله ، واسم الإشارة وحرف الجرّ المتعلّق بالاستقراء لا يعملان فيه ، فلا يتكلّم به خلافا لأبي على ، قال ابن هشام : وأمّا قول سيبويه : وأمّا هذا لك وإيّاك فقبيح ، لأنّك لم تذكره فعلا ولا ما في معناه ، فقالوا : إنّ مراده بالقبيح الممتنع ، انتهى.

__________________

(١) هذا البيت للراعي النميرى واسمه عبيد بن حصين وتمام البيت «إذا ما الغانيات برزن يوما» ، اللغة : الغانيات : جمع غانية ، وهي المرأة الجميلة ، زججن الحواجب : دققنها وأطلنها ورققنها بأخذ العشر من أطرافها حتى تصير مقوسة حسنة.

(٢) ابن ولاد : هو أبو العباس أحمد بن محمد التميمي فهو نحويّ ابن نحويّ ابن نحويّ وله كتاب الإنتصار لسيبويه ، وكتاب المقصور والممدود ، توفّي بمصر سنه ٣٣٢ ه‍ ق. نشاة النحو ، ص ١٠٧.

٢٩٤

قال ابن مالك : وقد كثر في كلامه التعبير بالقبيح عن الامتناع ، قال الدمامينيّ في شرح التسهيل : وانظر لم لم يقدّر الناصب في ذلك فعلا محذوفا ، كما في مالك وزيدا؟ فإنّ تلك جائزة باتّفاق ، وهذه نظيرتها ، وجواز تلك على إعمال المقدّر ، انتهى.

وأجيب بأنّ التقدير في ما لك وزيدا؟ له داعيان تقدّم ما الاستفهامية الّتي هي بالأفعال أولى ، وتأخّر الجار والمجرور لاقتضائه ما يتعلّق له وجوبا بخلاف هذا لك وأباك ، فإنّه ليس فيه إلا داع واحد ، انتهى.

«وجئت أنا وزيدا» هذا المثال من قسم المثال الأوّل ممّا فيه الفعل لفظيّا ، وإنّما ذكره ، تمهيدا للحكم الّذي بعده وهو قوله : والعطف في المثالين الأولين وهما : سرت وزيدا وما لك وزيدا ، ونحوهما من كلّ جملة اسميّة أو فعلية ، بعدها واو بمعنى مع ، وقبل الواو وضمير متّصل مرفوع أو مجرور غير مؤكّد بضمير منفصل أو بفاصل ما قبيح. أمّا في الأوّل فلأنّ العطف على الضمير المرفوع المتّصل لا يحسن إلا بعد توكيده بضمير منفصل أو بفاصل ما ، أمّا في الثاني فلأنّ العطف على الضمير المجرور لا يجوز إلا بعد إعادة الجارّ في الضرورة ، وهو مذهب البصريّين ، وظاهر كلام المصنّف في باب العطف.

وأمّا الكوفيّون فيجوّزونه في السّعة ، وجوّزه البصريّون في السّعة أيضا ، لكن بإضمار الجارّ لتقدّم ذكره مع أنّه لا يعمل مضمرا لضعفه ، ومنع العطف في المثالين جماعة ، منهم أبن الحاجب وابن هشام في القطر ، والعطف في المثال الأخير وهو جئت أنا وزيدا ونحوه من كلّ جملة اسميّة أو فعلية بعدها واو مع وقبل الواو ضمير متّصل مرفوع مؤكّد بضمير منفصل سائغ فيجوز نصبه على المفعول معه ورفعه على العطف.

وفصّل الرضي بين أن يقصد النصّ على المصاحبه ، فيجب النصب ، وبين أن لا يقصد النصّ عليها فلا يجب ، وهو الصحيح ، والعطف في نحو : ضربت زيدا وعمرا واجب اتّفاقا ، لأنّ أصل الواو الّتي قبل المفعول معه هو العطف ، وإنّما يعدل ما بعده عن العطف إلى النصب نصّا على المعنى المراد من المصاحبة ، لأنّ العطف في نحو : جاءني زيد وعمرو ، يحتمل تصاحب الرجلين في المجئ ، ويحتمل أحدهما قبل الآخر ، والنصب نصّ في المصاحبة ، وفي المثال المذكور لا يمكن التنصيص بالنصب على المصاحبة لكون النصب في العطف الّذي هو الأصل أظهر ، قاله الرضيّ ، عليه من الله الرضي ، وتبعه المصنّف في الحاشية.

٢٩٥

ونقل الإتّفاق غير مرضيّ ، فقد صرّح في الإرتشاف أنّ بعضهم حمل عمرا في المثال على العطف ، وجوّز بعضهم فيه الأمرين ، وقال ابن هشام في المغني نحو : أكرمتك وزيدا ، يجوز كونه عطفا على المفعول به وكونه مفعولا معه ، انتهى.

تنبيهات : الأوّل : بقي هنا للاسم المذكور بعد الواو حالات ، لم يذكرها المصنّف ، أحدها : ما يمتنع فيه العطف من جهة المعنى ، نحو : مات زيد وطلوع الشمس ، لأنّ العطف يقتضي التشريك في المعنى ، وطلوع الشمس لا يقوم به الموت.

الثانية : ما يقبح فيه العطف من جهة المعنى كقوله [من الوافر] :

٢٤٠ ـ فكونوا أنتم وبني أبيكم

مكان الكليتين من الطحال (١)

لأنّ المراد كونوا لبني أبيكم ، فالمخاطبون هم المأمورون بذلك ، وإذا عطفت ، كان التقدير : كونوا لهم وليكونوا لكم ، وذلك خلاف المقصود ، قاله ابن مالك ومقتضى هذا التعليل امتناع العطف لا قبحه.

الثالثه : ما يترجّح فيه العطف مع جواز النصب على مرجوحيّة ، نحو : جاء زيد وعمرو ، لأنّ العطف هو الأصل ، قد أمكن بلا ضعف ، كذا قيل ، والأولى أن يقال : إن قصد التنصيص على المصاحبة وجب النصب ، لأنّ العطف وإن كان أصلا فيجوز فيه العدول عنه لداع ، وهو التنصيص على المصاحبة ، وإلا فلا.

الرابعة : ما يمتنع فيه العطف والمفعول معه كقوله [من الرجز] :

٢٤١ ـ علفتها تبنا وماء باردا

 ... (٢)

وقوله [من الوافر] :

٢٤٢ ـ ...

وزجّجن الحواجب والعيونا (٣)

أمّا امتناع العطف فلانتقاء المشاركة ، لأنّ الماء لا يشارك التبن في العطف ، والعيون لا تشارك الجواجب في التزجيج ، لأنّ تزجيج الحواجب تدفيقها وتطويلها ، وأمّا امتناع المفعول معه فلانتفاء المعيّة في البيت الأول وانتقاء فائدة الأعلام بها في الثاني ، إذ الماء لا يصاحب التبن في العلف ، ومن المعلوم أنّ العيون مصاحبة للحواجب ، فلا فائدة في الأعلام بذلك ، ويجب في ذلك إضمار فعل للاسم على أنّه مفعول به ، أي وسقيتها ماء ، وكحّلن العيون.

__________________

(١) هو لشعبة بن قمير أو للأقرع بن معاذ. اللغة : الكليتين : تثنية كليّة ، الطحال : عضو يقع بين المعدة والحجاب الحاجز في يسار البطن.

(٢) تمامه : حتى شتت همّالة عيناه ، ولم يسمّ قائله. اللغة : شتت : تفرّقت ، وهمالة تمييز وهو من هملت العين إذا صبّت دمعها.

(٣) تقدم برقم ٢٣٩.

٢٩٦

الخلاف في المفعول معه هل هو قياسيّ أم سماعيّ؟ : الثاني : اختلف في المفعول معه ، فذهب قوم إلى أنّه قياسيّ مطلقا ، وهو المختار ، وذهب آخرون إلى أنّه سماعيّ لا يتجاوز به حدّ السماع ، ونقل ابن هشام الخضراويّ عن بعضهم التفضيل بين ما يجوز فيه العطف مجازا ، نحو ، سرت أنا والنيل ، فيكون مقيسا بين ما جاز فيه العطف حقيقة ، نحو : جئت أنا وزيدا ، فيكون سماعيا ، وقيل في المسألة غير ذلك.

الثالث : إذا وقع بعد المفعول معه خبر لما قبله أو حال طابق ما قبله ، نحو : كنت وزيدا قائما ، وجاء البرد والطيالسة شديدا ، يجوز عدم المطابقة ، فيعطى حكم ما بعد المعطوف ، نحو : كنت وزيدا قائمين ، وجاء البرد والطلالسة شديدين ، نظرا إلى المعنى وإلى أصل الواو ، ومنع ذلك ابن كيسان ، ووافقه أبو حيّان ، وابن هشام قال : والسماع والقياس يرتضانه.

فائدة : لم تأت واو المعية في التتريل بيقين ، فأمّا قوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [يونس / ٧١] في قراءة السبعة ، فأجمعوا بقطع الهمزة وشركاءكم بالنصب ، فيحتمل الواو فيه ذلك ، وأن تكون عاطفة مفردا على مفرد بتقدير مضاف ، أي وأمر شركاءكم ، أو جملة على جملة بتقدير فعل ، أي وأجمعوا شركاءكم ، بوصل الهمزة ، وموجب التقدير في الوجهين أنّ أجمع لا تعلّق بالذوات بل بالمعاني ، كقولك : أجمعوا على كذا ، بخلاف جمع ، فإنّه مشترك بدليل قوله تعالى : (فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه / ٦٠] و (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) [الهمزة / ٢] ، قاله ابن هشام في المغني. قال الرضيّ : والأولى أنّه مفعول معه ، وهو الحقّ للسلامة من الإضمار ، لأنّه خلاف الأصل.

٢٩٧

المفعول فيه

ص : الخامس : المفعول فيه ، وهو اسم زمان أو مكان مبهم ، أو بمنزلة أحدهما : منصوب بفعل فعل فيه : نحو : جئت يوم الجمعة ، وصلّيت خلف زيد ، وسرت عشرين فرسخا ، وأمّا نحو : دخلت الدار فمفعول به على الاصحّ.

ش : «الخامس» ممّا يرد منصوبا لا غير «المفعول فيه» ، وسمّي بذلك لأنّه بتقدير معنى في ، وهو اصطلاح كوفيّ ، ويسمّيه البصريّون ظرفا ، لأنّه محلّ للأفعال ووعاء لها ، ولذلك سمّاه الفرّاء محلّا ، ويسمّيه الكسائيّ وأصحابه صفة ، «وهو اسم زمان أو» اسم «مكان مبهم». وهو ما افتقر إلى غيره في بيان صورة مسمّاة ، وهو أسماء الجهات السّت ، وهو أمام وخلف ويمين وشمال وفوق وتحت ونحوها في الإبهام والافتقار ، كناحية وجهة وأسماء المقادير كميل وفرسخ وبريد.

وأطلق اسم الزمان إشارة إلى المبهم والمختصّ فيه سواء ، ونعني بالمبهم ما دلّ على قدر من الزمان غير معيّن ، كوقت وحين وساعة على جهة التأكيد المعنويّ ، لأنّه لا يزيد على دلالة الفعل ، والمختصّ بخلافه كأسماء الأيّام. وأمّا المعدود فمن قبيل المختصّ ، لا قسما ثالثا ، خلافا لبعضهم ، «أو» ما كان «بمنزلة أحدهما» أي اسم الزمان أو المكان المبهم ، ممّا عرضت دلالته على أحدهما ، وهو أربعة كما سيأتي.

«منصوب» صفة اسم «بفعل» اصطلاحيّ أو شبهه ، «فعل» ذلك الفعل مرادا به اللغويّ ، أي الحدث على طريقة الاستخدام كما مرّ في المفعول له ، «فيه» أي في ذلك الاسم ، والمراد بفعله فيه بحسب دلالة اللفظ ، وقد يناقش في هذه العبارة من حيث التصريح بمتعلّق الظرف الّذي هو صفته مع كونه عامّا ، وقد نصّوا على وجوب حذفه ، تأمّل.

فقوله : اسم زمان أو مكان كالجنس يصدق على اسم الزمان من قولنا : يومنا طيّب ، واسم المكان من قولنا : مكاننا حسن ، وقوله : منصوب بفعل يخرج نحو ذلك ، ويصدق على نحو شهدت يوم الجمعة ، فيخرج بما بعده ، فإنّ الشهود وإن كان لا يكون إلا في يوم الجمعة ، لكنّ الّذي يدلّ عليه اللفظ شهود المتكلّم إيّاه ، لا فعله فيه ، وفي هذا الحدّ ما مرّ في المفعول له.

فالمفعول فيه من اسم الزمان المبهم ، نحو : سرت وقتا ، ومن المختصّ ، «نحو : جئت يوم الجمعة» ، وهو اسم من الاجتماع كما مرّ ، سمّي بذلك لاجتماع الناس فيه ، وهذا المشهور في اللغة ، وجاء في الحديث عن النبي (ص) أنّه سمّي بذلك ، لأنّ آدم (ع) جمع

٢٩٨

فيها خلقه (١) ، وقيل : لأنّ سائر المخلوقات اجتمع خلقها ، وفرغ منه يوم الجمعة ، وقيل : لأنّ أسعد بن زرارة (٢) لمّا جمع بالأنصار فصلّي بهم ، وذكّرهم ، سمّوه الجمعة ، حين اجتمعوا إليه ، فعليه فالاسم إسلاميّ ، وقيل : غير ذلك.

ومن اسم المكان نحو : «صليت خلف زيد» ، ومثله جلست أمامك ويمينك وشمالك وفوقك وتحتك ، وسمّيت هذه الجهات السّتّ باعتبار الكائن في المكان ، فإنّ له ستّ جهات ، وممّا هو نحوها في الإبهام والافتقار نحو : جلست ناحية ، وأمّا ما نزّل منزلة أحدهما ممّا عرضت دلالته عليه فأربعة كما ذكرنا.

أحدها : أسماء العدد المميّزة بهما نحو : سرت عشرين يوما ، مثال لما عرضت له اسميّة الزمان ، أو «سرت عشرين فرسخا» ، مثال لما عرضت له اسمية المكان. الثاني : ما أفيد به كليّه أو جزئيّة ك سرت جميع اليوم جميع الفرسخ ، أو كلّ اليوم كلّ الفرسخ ، أو بعض اليوم بعض الفرسخ ، أو نصف اليوم نصف الفرسخ. الثالث : ما كان صفة للزمان أو المكان ، كجلست طويلا من الدهر شرقيّ الدار. الرابع : ما كان مخفوضا بإضافة أحدهما ، ثمّ حذف المضاف ، وأنيب عنه المضاف إليه بعد حذفه ، والغالب في هذا النائب أن يكون مصدرا ، وفي المنوب عنه أن يكون زمانا ، ولا بدّ من كونه معيّنا لوقت أو لمقدار ، نحو : جئتك صلاة العصر أو قدوم الحاجّ ، وانتظرتك حلب الناقة.

وقد يكون النائب اسم عين ، نحو : لا أكلّمه القارظين ، والأصل مدّة غيبة القارظين ، وهو تثنية قارظ بالقاف والظاء المشالة (٣) ، وهو الّذي يجني القرظ (٤) بفتح القاف والراء ، وهو شيء يدبغ به.

قال الجوهريّ : لا آتيك أو يؤوب القارظ العنزيّ ، وهما قارظان ، كلاهما من عنزة ، خرجا في طلب القرظ ولم يرجعا ، وطالت غيبتهما ، قاله في التصريح.

تنبيهات : الأوّل : عدّ بعضهم ممّا أشبه الجهات الستّ في الإبهام والافتقار جانب ومكان ، واعترض جانب بأنّه ممّا يتعيّن معه التصريح بفي ، ومكان بأنّه ليس على إطلاقه ، لأنّ المتعدّي إليه ، لا بدّ أن يكون مشتقّا من الحدث الواقع فيه ، نحو : قاتلت مكان القتال ، أو مشتقّا من مصدر بمعنى الاستقرار ، نحو : قعدت مكانه ، قاله الرضيّ في الثاني ، واعترضه الدمامينيّ بأنّ ذلك يحتاج إلى ثبت.

__________________

(١) لم أجد الحديث في الكتب المتعلّقة بالأحاديث.

(٢) أسعد بن زراره ، أحد الشجعان الأشرف في الجاهلية والاسلام ، من سكان المدينة ، مات قبل وقعة بدر سنة ١ ه‍ ق ، ودفن في البقيع ، الأعلام للزركلي ، ١ / ٢٤٩.

(٣) أي منقوطة ، يقال بالطاء المهملة والظاء المشالة.

(٤) القرظ : شجر يدبغ به ، وقيل : هو ورق السّلم يدبغ به الأدم. ومن أمثالهم : لا يكون ذلك حتى يؤوب القارظان. أي لا يكون أبدا. لسان العرب ٣ / ٣١٩١.

٢٩٩

الثاني : الصالح للانتصاب على الظرفية من أسماء المكان نوعان : أحدهما : المبهم وقد مرّ تفصيله. الثاني : ما اتّحدث مادته ومادة عامله ، ونعني بالمادّة الحروف الأصليّة ، ولا بدّ مع ذلك من موافقته في المعنى كقوله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) [الجن / ٩] ، وشذّ قولهم : هو مني مقعد القابلة ومزجر الكلب ومناط الثريا ، إن قدّر عامله مستقرّا أو نحوه ، فإن قدّر قعد في المقعد وزجر في المزجر وناط في المناط لم يكن ثمّ شذوذ.

الثالث : جاءت ظروف من غير أسماء الزمان والمكان كقولهم : أحقا أنّك ذاهب ، وجهد رأيي أنّك ذاهب ، والأصل : أفي حقّ وفي جهد رأيي ، وقد نطقوا بهذا الأصل وقال [من الوافر] :

٢٤٣ ـ أفي حقّ مواساتي أخاكم

 ... (١)

وذلك شاذّ لا يقاس عليه.

و «أمّا نحو دخلت الدار» ممّا وقع فيه اسم المكان غير المبهم منصوبا بعد دخلت فمفعول به على القول «الأصحّ» لا مفعول فيه ، فلا نقض به ، وكونه مفعولا به إمّا على الاتّساع بإجراء القاصر مجرى المعتدّي بنفسه من حيث إسقاط الواسطة ، ونصبه هو مذهب الفارسيّ وطائفة ، واختاره ابن مالك وعزاه لسيبويه ، أو على الأصل لا على الاتّساع نظرا إلى أنّ دخل متعدّ ، وهو مذهب الأخفش ، وعزاه الرضيّ إلى الجرميّ ، وعليه ينبغي حمل كلام المصنّف ، لأنّه يسمّى المنصوب على الاتّساع بإسقاط الجارّ المنصوب بنزع الخافض ، ويجعله قسيما للمفعول به ، لا قسما منه كما يدلّ عليه تقسيمه. وفي المسألة قول ثالث ، وهو أنّ النصب في ذلك على الظرفية تشبيها له بالمبهم ، وهو مذهب الشلوبين ، وعزاه لسيبويه ، وبعضهم للجمهور ، وبعضهم للمحقّقين.

تنبيه : قال الرضيّ : الّذي أرى أنّ جميع الظروف متوسّع فيها ، فقولك : خرجت يوم الجمعة كان في الأصل : خرجت في يوم الجمعة ، كان مع الجارّ مفعولا به بسبب حرف الجرّ ، ثمّ صار مفعولا به من غير واسطة حرف في اللفظ والمعنى على ما كان ، وكذا المفعول له فهما مثل ذنبا ، في قولك : استغفرت الله دنبا ، إلا أنّ حذف حرفي الجرّ ، أعني في واللام ، صار قياسا في البابين ، كما كان حذف حرف الجرّ قياسيّا مع أن وأنّ ، وليس بقياس في غير المواضع الثلاثة ، انتهى.

__________________

(١) تمام البيت «بمإلى ثمّ يظلمني السريس» ، وهو لأبي زبيد الطائي ، اللغة : السريس : هو العنين من الرجال. والعنين : الّذي لا يأتي النساء.

٣٠٠