الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

وأفعال هذا الباب جميعها «تعمل عمل كان» فترفع الاسم وتنصب الخبر ، فكاد كقوله تعالى : (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن / ١٩] ، وكرب كقوله [من الخفيف] :

١٩٧ ـ كرب القلّب من جواه يذوب

حين قال الوشاة هند غضوب (١)

وأوشك كقوله [من المنسرح] :

١٩٨ ـ يوشك من فرّ من منيّته

في بعض غرّاته يوافقها (٢)

وعسى كما مرّ في الآية ، وإخلولق كما مثّل سيبويه : اخلولقت السماء أن تمطر ، وأنشأ ، كقوله [من السريع] :

١٩٩ ـ أنشأت تنطق في الأمور

كوافد الرّخم الدوائر (٣)

وطفق كقوله تعالى : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف / ٢٢] ، وجعل كقوله [من البسيط] :

٢٠٠ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي فأنهض نهض الشّارب الثّمل (٤)

وأخذ كقوله [من الوافر] :

٢٠١ ـ فأخذت أسأل والرّسوم تجيبني

وفي الاعتبار إجابة وسؤال (٥)

وعلق كقوله [من الوافر] :

٢٠٢ ـ أراك علقت تظلم من أجرنا

وظلم الجار إذلال المجير (٦)

وهب كقوله [من الطويل] :

٢٠٣ ـ هببت ألوم القلب في طاعة الهوي

فلجّ كأنّي كنت باللوم مغريا (٧)

وحقّ الاسم في هذا الباب أن يكون معرفة أو مقاربا لها ، وقد ورد نكرة محضة كقوله [من الطويل] :

٢٠٤ ـ عسى فرج يأتي به الله أنّه

له كلّ يوم في خليقته أمر (٨)

تنبيه : حكى ثعلب مجئ الخبر بعد عسى مرفوعا ، نحو : عسى زيد قائم ، قال ابن هشام : ويتخرّج على أنّها ناقصة ، واسمها ضمير الشأن ، والجملة الاسميّة الخبر.

__________________

(١) قيل : إن هذا البيت لرجل من طيئ ، وقال الأخفش : أنّه للكحلبة اليربوعي. اللغة : الجوى : شدة الوجد ، الوشاة : جمع واش وهو النمام ، الغضوب : صفة من الغضب يستوي فيها المذكّر والمؤنّث.

(٢) البيت لأمية بن أبي الصلت أحد شعراء الجاهلية. اللغة : المنية : الموت ، الغرّات : جمع غرّة وهي الغفلة.

(٣) هو للكميت يهجو رجلا. اللغة : الرخم : طائر.

(٤) هو لعمرو بن أحمر ، أو لأبي حيّه النميرى. اللغة : الثمل : السكران.

(٥) لم ينسب إلى قائل معين. اللغة : الرسوم : جمع الرسم : الأثر الباقي من الدار بعد أن عفت.

(٦) هو بلا نسبة. اللغة : أجرنا : حمينا.

(٧) لم يسمّ قائل. اللغة : لجّ في الأمر : لازمه وأبى أن ينصرف عنه. مغريا : اسم الفاعل من أغرى بمعنى مولعا.

(٨) هو لمحمد بن إسماعيل ، وقيل : هو مجهول القائل.

٢٦١

وهذه الأفعال وإن كانت «تعمل عمل كان» ، إلا أنّها تخالفها في بعض الأحكام ، فمن ذلك إنّ خبر كان قد يكون مفردا ، وقد يكون جملة اسميّة أو فعلية ، وهذه الأفعال «أخبارها جمل» فعلية «مبدوة بمضارع» دائما ، كما مرّ في الأمثلة المذكورة كلّها ، وشذّ مجئ خبري كاد وعسى مفردا منصوبا كقوله [من الطويل] :

٢٠٥ ـ فأبت إلى فهم وما كدت آئبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر (١)

وقوله الآخر [من الرجز] :

٢٠٦ ـ أكثرت في العذل ملحّا دائما

لا تكثرن أنّي عسيت صائما (٢)

وقولهم في المثل : عسى الغوير أبؤسا (٣). قال ابن هشام : كذا قالوا ، والصواب أنّه ممّا حذف فيه الخبر ، أي يكون أبؤسا ، وأكون صائما ، لأنّ في ذلك إبقاء لهما على الاستعمال الأصليّ ، ولأنّ المرجوّ كونه صائما لا نفس الصائم ، انتهى.

وما قاله من التقدير يأتي في البيت الأوّل أيضا ، كما هو ظاهر ، وعليه فلا شذوذ ، وأمّا فطفق مسحا فالخبر محذوف ، أي يمسح مسحا ، وليس هو مسحا كما توهّمه بعضهم ، وربّما جاء خبر جعل جملة اسمية ، كقوله [من الوافر] :

٢٠٧ ـ وقد جعلت قلوص ابني سهيل

من الأكوار مرتعها قريب (٤)

أو فعلية غير مبدوّة بمضارع ، كقوله ابن عباس (٥) : فجعل الرجل إذا لم يسطع أن يخرج أرسل رسولا. قال ابن هشام في شرح الشواهد : وهذا لم أر من يحسن تقديره ، ووجهه أنّ إذا منصوبة بجوابها على الصحيح ، والمعمول مؤخّر في التقدير عن عامله فأوّل الجملة في الحقيقة أرسل ، فافهموه ، انتهى.

وفيه ردّ على ابن مالك حيث قال في التسهيل : أو فعلية مصدّرة بإذا. قال ابن هشام في الحواشي : الصواب أن يقال : أو جملة فعلية فعلها ماض ، فإنّ هذا هو محطّ الشذوذ ، وأمّا نفس إذا فلا وجه لكونها مرجعا للشذوذ. ولهذا لم يقل أحد فيما علمنا أن قوله [من البسيط] :

٢٠٨ ـ وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني

ثوبي ... (٦)

__________________

(١) هذا البيت لتأبّط شرأ. اللغة : أبت : رجعت ، فهم : اسم قبيلته ، تصفر : أراد تتأسّف وتتحزّن.

(٢) هو لرؤبة بن العجّاج بن رؤبة التميمي.

(٣) جاء في لسان العرب ، قال ثعلب : أتي عمر بمنبوذ ، فقال : عسى الغوير أبؤسا أي عسى الريبة من قبلك. وقال ابن الأثير : هذا مثل قديم يقال عند التهمة. لسان العرب ج ٣ ص ٢٩٤٩ (غور).

(٤) هو من أبيات الحماسة. اللغة : القلوص : الشابة من النوق ، الأكوار : جمع كور ، الرحل ، أو هو الرّحل بأداته.

(٥) ابن عباس (عبد الله) (ت ٦٨ / ٦٨٧) : ابن عم النبي (ص) روى الكثير من حديث الرسول. المنجد في الأعلام. ص ١٠.

(٦) تقدّم برقم ٢٠٠.

٢٦٢

شاذّ من جهة التصدير بإذا ، وإنّما جعلوا شذوذه من جهة رفع السيي خاصّة ، انتهى.

قال ابن مالك : أو مصدّرة بكلّما في حديث كما في حديث البخاري (١) فجعل كلّما جاء ليخرج رمي في فيه بحجر (٢). قال في التوضيح : وهذا منبه على أصل متروك ، وذلك أنّ سائر أفعال المقاربة مثل كان في الدخول على مبتدإ وخبره ، فالأصل أن يكون خبرها كخبر كان في وقوعه مفردا وجملة اسميّة وفعلية وظرفا ، فترك الأصل والتزم كون الخبري مضارعا ، ثمّ نبّه على الأصل شذوذا في مواضع ، انتهى.

وعلى هذا فلا يحسن أن يقال في البيتين : والمثل على أنّه ممّا حذف فيه الخبر كما قاله ابن هشام ، إلا انتفي الغرض المذكور مع أنّ التقدير خلاف الظاهر.

تنبيه : يشترط في الفعل المشتمل عليه جملة الخبر أن يكون رافعا لضمير الاسم ، وهو من الأحكام الّتي اختصّت به أخبار هذه الأفعال ، وذلك لأنّها إنّما جاءت لتدلّ على قرب الخبر من الاسم أو ترجّي حصوله أو شروع اسمها في خبرها كما مرّ ، فلا بدّ من ضمير يعود عليه ، وأمّا قوله [من الطويل] :

٢٠٩ ـ وأبكيه حتى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجار وملاعبه (٣)

فشاذّ ، أو مؤوّل بأنّ أحجاره بدل من الاسم. ويجوز في خبر عسى خاصّة أن يرفع الاسم الظاهر المضاف إلى ضمير يعود على اسمها كقول الفرزدق [من الطويل] :

٢١٠ ـ وما ذا عسى الحجّاج يبلغ جهده

إذا نحن جاوزنا حفير زياد (٤)

«ويغلب في خبر» الفعلين «الأولين» وهما كاد وكرب «تجرّده عن» أن المصدرية ، نحو قوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة / ٧١] ، وقوله الشاعر [من الطويل] :

٢١١ ـ سقاني جزاه الله خير جزائه

وقد كربت أسباب قلبي تقطع (٥)

وذلك لأنّهما يدلّان على شدّة مقاربة الفعل ومداومته وذلك يقرب من الشروع في الفعل والأخذ فيه ، فلم يناسب خبرهما أن يقترن غالبا بأن الموضوعة للاستقبال ، ويقلّ اقترانه بها نظرا إلى الأصل كقوله [من الطويل] :

٢١٢ ـ أبيتم قبول السلم منّا فكدتمو

لدي الحرب أنّ تغنوا السّيوف عن السّلّ (٦)

__________________

(١) البخاري (أبو عبد الله محمد) (ت ٢٥٦ ه‍ ٨٧٠ م) من كبار المحدثين ، ولد في بخاري اشتهر بكتابه «الجامع الصحيح» المصدر السابق ص ١١٥.

(٢) صحيح البخاري ، ٢ / ١٢٨ ، رقم ٣٣٦.

(٣) البيت لذي الرمة ، وفي شرح ابيات سيبويه «وأسقيه حتى ...».

(٤) اللغة : الحفير : القبر.

(٥) لم أجد البيت.

(٦) لم يسم قائله. اللغة : السلّ : الانتزاع.

٢٦٣

وقوله [من الطويل] :

٢١٣ ـ سقاها ذوو الأحلام سجلا على الظّما

وقد كربت أعناقها أن تقطعا (١)

وخصّ المقاربة اقتران خبر كاد بالضرورة. وقال البدر الدمامينيّ في شرح التسهيل ، ولم يذكر سيبويه في خبرها إلا التجريد ، انتهى. قلت : وليس كذلك ، بل هو قائل باقتران خبر كاد ، وذلك أنّه قال في قوله [من الطويل] :

٢١٤ ـ ...

ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله (٢)

إنّ الأصل أن افعله ، فاضمرت أن ، فإذا كان يقول باقترانه تقديرا ، فلأن يقول : باقترانه صريحا أولى ، والّذي ذكر ابن هشام وغيره أنّ الّذي لم يذكر سيبويه في خبره إلا التجرّد ، وهو كرب ، قال : وهو مردود بالسماع. وقال المبرّد في «أفعله» في المصراع المذكور : الأصل «أفعلها» فحذفت الألف ، ونقلت حركة الهاء إلى ما قبلها. قال ابن هشام : وهو أولى من قول سيبويه ، لأنّه أضمر أن في موضع حقّها أن لا يدخل فيه صريحا ، وهو خبر كاد ، واعتدّ بها مع ذلك بإبقاء عملها ، انتهى.

ويغلب في خبر فعلين «الأوسطين» وهما عسى وأوشك «اقترانه بها» ، أي بأن ، «نحو قوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) [الإسراء / ٨]» ، وقوله الشاعر [من الطويل] :

٢١٥ ـ ولو سئل النّاس التّراب لأوشكوا

إذا قيل هاتوا أن يملّوا ويمنعوا (٣)

وذلك لأنّ عسى من أفعال التّرجّي ، وهو مختصّ بالاستقبال ، فناسب اقتران خبرها بأن الموضوعة له ، وكان القياس وجوب ذلك ، حتى ذهب البصريّون والجمهور إلى أنّ التجريد ضرورة ، وأما أوشك فإنّما يغلب معها الاقتران حيث جعلت للترجّي أختا لعسى. قال الشاطبيّ (٤) : والصحيح ما ذكر الشلوبين وتلامذته ابن الضايع والأبذيّ (٥) وابن أبي الربيع ، أنّ أوشك من قسم عسى الّذي هو للرّجاء. قال ابن الضائع : والدليل على ذلك أنّك تقول : زيد عسى أن يحجّ ، ويوشك زيد أن يحجّ ولم يخرج من بلده ، و

__________________

(١) البيت لأبي يزيد الأسلمي ، اللغة : الأحلام : جمع حلم بمعنى العقل والاناة ، سجلا : الدلو مادام فيها ماء.

(٢) صدره «فلم أر مثلها خباسبة واحد» ، وهو لامري القيس ، أو لعامر بن جؤين. اللغة : الخباسبة : المغنم ، الغنيمة ، نهنهت : زجرت وكفقت.

(٣) هذا البيت أنشده ثعلب عن ابن الإعرابي ، ولم ينسبه إلى أحد.

(٤) القاسم بن فيرة الشاطبي النحوي الضرير كان إماما فاضلا في النحو والقراءات والتفسير والحديث ، صنف : القصيدة المشهورة في القراءات ، مات سنة ٥٩٠ ، بغية الوعاة ٢ / ٢٦٠.

(٥) هناك نحويّان باسم الأبذي : الأوّل : على بن محمد ، كان نحويّا ذاكرا للخلاف في النحو وقيل هو حدّ النحو في زمانه ، مات سنة ٦٨٠ ه‍. المصدر السابق ٢ / ١٩٩. والثاني إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأبذيّ كان فقيها حافظا ، ذاكرا لللغات والأدب ، نحوّيا ماهرا مات سنة ٦٥٩ ه‍ ، المصدر السابق ١ / ٤٢٤.

٢٦٤

لا تقول : كاد زيد يحجّ إلا وقد أشرف عليه ، ولا يقال ذلك وهو في بلده ، انتهى كلام الشاطبيّ.

وأمّا إذا جعلت للمقاربة كما ذهب إليه المصنّف تبعا لجماعة منهم ابن مالك وابنه ، فيشكل كون الغالب معها الاقتران كالاقتران (١) الغالب في عسى ، قاله في التصريح ، ومن تجرّدهما قوله [من الوافر] :

٢١٦ ـ عسى الكرب الّذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (٢)

والمروي في أمسيت فتح التاء على الخطاب ، قاله ابن هشام تبعا لليمنيّ ، وهو المشهور. وقال الدمامينيّ في التحفة : الّذي سمعناه غير مرّة من مشايخنا بالديار المصريّة ضمّها ، وقوله الآخر [من المنسرح] :

٢١٧ ـ يوشك من فرّ من منيّته

في بعض غرّاته يوافقها (٣)

وقد تقوم السّين مقام أنّ لكونها للاستقبال كقوله [من الطويل] :

٢١٨ ـ عسى طيّئ من طيّئ بعد هذه

ستطفيء غلّات الكلى والجوانح (٤)

«وهي» ، أي أن ، واجبة في خبر إخلوق وحري لما مرّ في عسى ، ولذلك قيل كان القياس وجوبه هنالك أيضا ، نحو : اخلولقت السماء أن تمطر ، وحري زيد أن يقوم.

و «في» خبر الفعلين «الأخيرى ن» وهما أنشأ وطفق ونحوهما من أفعال الشّروع «ممتنعة» لأنّها في الأخذ في الفعل والشروع فيه ، وذلك ينافي الاستقبال «نحو» : أنشأ عمرو يقرأ ، و «طفق زيد يكتب» ، وفي التتريل (٥) : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف / ٢٢]. وقضية كلامه أنّ المقرون بها كالمجرّد عنها في كونه منصوبا على الخبريّة ، وهو قول الجمهور بدليل أنّه لما أتي مفردا لم يظهر مصدرا ، بل اسما كقوله : إنّي عسيت صائما ، ولم يقل عسيت الصوم.

واستشكل بأنّ أن وما بعدها بتأويل المصدر ، فيلزم في نحو : عسى زيد ان يقوم (٦) ، الإخبار بالحدث عن الذات ، ولذلك ذهب سيبويه فيما حكاه عنه ابن مالك إلى أنّ المقرون بها ليس خبرا ، بل مفعول به منصوب على نزع الخافض ، والفعل بمعنى قرب ، و

__________________

(١) سقط كالاقتران في «ح».

(٢) البيت لهدبة بن خشرم العذري من قصيدة قالها وهو في الحبس.

(٣) تقدم برقم ١٩٨.

(٤) هو لقسام بن رواحة. اللغة : غلّات : جمع غلّة : حرراة العطش ، الكلى : جمع كلية ، الجوانح : واحدته جانحة بمعنى الأضلاع تحت الترائب ممّا يلي الصدر.

(٥) «في التتريل» سقط في «ح».

(٦) حذف ان يقوم في «ح».

٢٦٥

التقدير في المثال المذكور قرب زيد من أن يقوم ، ثمّ حذف الجارّ توسّعا أو يجعل الفعل بمعنى قارب ، فلا خلاف ، والمعنى قارب زيد القيام.

والكوفيّون يرون أنّ عسى في ذلك فعل قاصر بمعنى قرب ، وأن والفعل بدل اشتمال من فاعلها ، وردّ بأنّ حينئذ يكون بدلا لازما ، يتوقّف عليه فائدة الكلام ، وليس هذا شأن البدل ، وأجيب بأنّ لا مانع من أن يكون البدل لازما لكونه هو المقصود بالحكم وكونه تابعا لا يقدح في اللزوم ، فقد رأينا بعض التوابع يلزم ، كوصف مجرور ربّ إذا كان ظاهرا. وأجيب عن الإشكال من قبل الجمهور بأمور :

أحدها : أنّه من باب زيد صوم وعدل.

الثاني : أنّه على تقدير مضاف أمّا في الاسم ، نحو : عسى حال زيد أن يخرج ، أو في الخبر ، أي عسى زيد صاحب أن يخرج. قال الرضيّ : وفيه تكلّف ، إذ لم يظهر هذا المضاف إلى اللفظ أبدا لا في الاسم ولا في الخبر (١).

الثالث : أنّ أن زائدة لا مصدريّة ، وليس بشيء ، لأنّها قد نصبت ، ولأنّها لا تسقط إلا قليلا.

الرابع : أنّ المصدر الحاصل في تأويل الوصف ، أي عسى زيد قائما ، ويرجّحه ما جاء في كلامهم عسيت صائما ، وهو يرجع إلى الجواب الأوّل عند الكوفيّين ، لأنّ المصدر المخبر به عندهم بمعنى اسم الفاعل كما مرّ.

الخامس : الفرق بين المصدر وما يؤوّل به ذكره صاحب العباب (٢) ، وارتضاه الشريف الجرجانيّ (٣).

قال ابن هشام في شرح اللمحة : وألطف ما يقال في الجواب ما رأيته بخطّ بعض طلبة ابن مالك ، ونقله عنه ، وهو أن يقدّر الإخبار بالفعل مجرّدا عن أن ، ثمّ لمّا صحّ الإخبار به جئ بأن لتفيد التراخي لا لتفيد السبك ، انتهى.

وأفعال هذا الباب «عسى وأنشأ وكرب» من المذكور وغيرها ممّا لم يذكر جامدة لا تتصرّف «ملازمة للمضيّ» أي لصيغة الماضي ، فلا يستعمل لها مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل ولا مصدر ، واستثني منها أربعة ، وهي كاد وأوشك وطفق وجعل ، فقد جاء : يكاد ويوشك ويطفق ويجعل ، وأمّا كاد فكقوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها

__________________

(١) ولا في الحرف «ح».

(٢) العباب الزاخر في اللغة في عشرين مجلدا للامام حسن بن محمد الصفائي مات سنة ٦٥٠ ه‍. كشف الظنون ٢ / ١١٢٢.

(٣) على بن محمد الشريف الجرجاني ، كان علّامة دهره ، له تصانيف مفيدة ، منها : التعريفات ، شرح القسم الثالث من المفتاح ، توفّي بشيراز سنة ٣١٦ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ١٩٧.

٢٦٦

يُضِيءُ) [النور / ٣٥]. وحكى ابن هشام استعمال مصدر لها ، قالوا : كاد كودا ومكادا أو مكادة ، وحكى غيره كيدا بقلب الواو ياء ، وحكى ابن مالك لها اسم فاعل وأنشد [من الطويل] :

٢١٩ ـ أموت أسى يوم الرّجام وإنّني

يقينا لرهن بالّذي أنا كائد (١)

أي بالموت الّذي أنا كدت آتيه. قال ابن هشام في الأوضح : والصواب أنّه كابده بالباء الموحّدة من المكابدة والعمل ، وهو اسم غير جار على الفعل ، وبهذا جزم يعقوب في شرح ديوان كثّير عزّة ، انتهى.

وقيل حكى ولده أنّه رجع عن ذلك وقال : الصواب ما أنشده ابن مالك إلا أنّه لم يغيّر ما وقع في الأوضح ، لأنّه كان قد شاع ، وبذلك صرّح في شرح الشواهد الكبرى (٢) فقال : والظاهر ما أنشده الناظم ، وقد كنت أقمت مدّة على مخالفته وذكرت ذلك في توضيح الخلاصة ، ثمّ اتّضح لي أنّ الحق معه ، انتهى.

وأمّا أوشك فالمضارع فيها أشهر من الماضي ، حتى أنّ الأصمعيّ أنكر مجئ ماضيها ، وليس كذلك ، بل قد ورد ، ومرّ الشاهد عليه ، وسمع لها اسم فاعل ، قال [من الوافر] :

٢٢٠ ـ فأنّك موشك إلا تراها

 ... (٣)

وقال [من المتقارب] :

٢٢١ ـ فموشكة أرضنا أن تعود

خلاف الأنيس وحوشا يبابا (٤)

قال ابن هشام : وفي حواشي سنن أبي داود (٥) للمنذريّ (٦) حكاية إيشاك مصدر أوشك ، وحكى أبو حيّان منها الأمر وأفعل التفضيل ، وأمّا طفق فقد حكى الأخفش : طفق يطفق بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ، وطفق يطفق بالعكس ، وحكى مصدر طفق بالفتح طفوقا ، ومصدر طفق بالكسر طفقا ، وأمّا جعل فحكى الكسائيّ : أنّ البعير ليهرم حتى يجعل إذا شرب الماء مجّه (٧) ، وفيه شاهدتان ، وهو ورود

__________________

(١) هذا البيت لكثير بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة. اللغة : أسيّ : حزنا وشدّة لوعة ، الرجام : موضع بعينه.

(٢) «الشواهد الكبرى» للعيني المتوفى ٨٥٥ في شرح شواهد شروح الفيه لابن مالك ، كشف الظنون ٢ / ١٠٦٦.

(٣) تمامه «وتعدو دون غاضرة العوادي» ، وهو لكثير عزّة.

(٤) هذا البيت لأبي سهم الهذلي. اللغة : خلاف الانيس : بعد المؤانس ، وحوشا : قفرا خاليا ، يبابا : خاليا ليس فيه أحد.

(٥) سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني (ت ٢٧٥ ه‍ / ٨٩٩ م) من أئمة الحديث ، له كتاب «السنن» من الكتب الستة في الحديث. المنجد في الأعلام ص ١٨.

(٦) زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي الطافظ المنذري المتوفى سنه ٦٥٦ ه‍ ، هو اختصر سنن أبي داود. كشف الظنون ٢ / ١٠٠٤.

(٧) مجّه : لفظه.

٢٦٧

الخبر جملة فعلية غير مبدوّة بمضارع ، وحكى الجرجانيّ استعمال مضارع واسم فاعل من عسى ، وحكى قوم استعمال اسم فاعل من كرب ، وحكى ابن أفلح منه مضارعا ، وأنّه يقال كرب يكرب كنصر ينصر.

كاد إثباتها نفي ونفيها إثبات : تنبيه : اشتهر القول بين المعربين أنّ كاد إثباتها نفيّ ، ونقيها إثبات ، فإذا قيل : كاد يفعل ، فمعناه أنّه لم يفعله ، وإذا قيل لم يكد يفعل فمعناه أنّه فعله ، دليل الأوّل : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء / ٧٣] ، وقوله [من الخفيف] :

٢٢٢ ـ كاد النّفس أن تفيض عليه

إذا غدا حشو ريطه وبرود (١)

ودليل الثاني : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة / ٧١] ، وقد جعل المعريّ ذلك لغزا فقال [من الطويل] :

٢٢٣ ـ أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

جرت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد أثبت

وإن أثبتت قامت مقام جحود (٢)

والصواب أنّ حكمها حكم سائر الأفعال في أنّ نفيها نفي ، وإثباتها إثبات ، وبيانه أنّ معناها المقاربة ، ولا شكّ أنّ معنى كاد يفعل قارب الفعل ، أنّ معنى ما كاد يفعل ما قارب الفعل ، فخبرها منفيّ دائما ، أمّا إذا كانت منفية فواضح ، لأنّه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفي عقلا حصول ذلك الفعل ، ودليله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور / ٤٠] ، ولهذا كان أبلغ من أن يقال لم يرها ، لأنّ من لم يرقد يقارب الروية ، وأمّا إذا كانت المقاربة مثبتة فلأنّ الاخبار يقرب الشيء يقتضي عرفا عدم حصوله ، وإلا لكان الاخبار حينئذ بحصوله لا بمقاربة حصوله ، إذ لا يحسن في العرف أن يقال لمن صلّي قارب الصلاة ، وإن كان ما صلّي حتى قارب الصلاة ، ولا فرق فيما ذكرناه بين كاد ويكاد ، فإن أورد على ذلك : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة / ٧١] ، مع أنّهم قد فعلوا إذ المراد بالفعل الذبح ، وقد قال تعالى : (فَذَبَحُوها) [البقره / ٧١].

فالجواب أنّه إخبار عن حالهم في أوّل الأمر ، فإنّهم كانوا أوّل بعدا من ذبحها بدليل ما تلي علينا من تعنّتهم وتكرار سؤالهم ، ولمّا كثر استعمال مثل هذا في من انتفت عنه مقاربة الفعل أوّلا ثمّ فعله بعد ذلك توهّم أنّ هذا الفعل بعينه هو الدّال على حصول الفعل ، وليس كذلك ، وإنّما فهم حصول الفعل من دليل آخر كما فهم في الآية من

__________________

(١) البيت لمحمد بن مناذر أحد شعراء البصرة يرثي فيها رجلا اسمه عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي. اللغة : الريطة : الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ، وأراد هنا الأكفان الّتي يلف فيها الميت ، البرود : جمع برد.

(٢) هما لأبي العلاء المعري واسمه أحمد بن عبد الله التنوخي الشاعر اللغويّ ، مات سنة ٤٤٩ ه‍. اللغة : جرهم حي من اليمن ، وثمود : قبيلة أخري.

٢٦٨

قوله تعالى : (فَذَبَحُوها) [البقرة / ٧١] ، هذا تقرير ابن هشام في المغني ، وهو حاصل ما ذكره الرضيّ عليه من الله الرضا.

تختصّ عسى وأوشك باستغنائهما عن الخبر : هذه «تتمّة» لما ذكره من مسائل هذا الباب ، و «يختصّ عسى وأوشك» دون سائر أخواتها «باستغنائهما عن الخبر» ومثلهما إخلولق ، ولم يذكره ، لأنّه لم يذكره مع الخلف فيه ، وإنّما يستغنيان عن الخبر في ما إذا وليهما أن والفعل ، «نحو : عسى أن يقوم زيد» ، أوشك أن يذهب عمرو ، فأن وصلتها في موضع رفع بهما على الفاعلية ، ولا يحتاجان إلى خبر ، وظاهر كلام الجماعة أنّ الفعل في ذلك تامّ ، وذهب ابن مالك إلى أنّه ناقص سدّت أن وصلتها مسدّ جزئيه كما في : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت / ٢] ، قال إذ لم يقل أحد : إنّ حسب خرجت في ذلك عن أصلها ، وهو ظاهر عبارة المصنّف رحمه الله.

تنبيهات : الأوّل : إنّما يتعيّن استغناء الفعلين المذكورين عن الخبر في الحالة المذكورة إذا لم يل الفعل الّذي بعد أن ظاهر يصحّ رفعه به ، نحو : عسى أن تقوم وأوشك أن تقعد ، فإن وليه ظاهر بالصفة المذكورة كمثال المصنّف لم يتعيّن ذلك ، بل جاز فيه ثلاثة أوجه أخر : أحدها والثاني : الوجهان الآتيان فيما إذا قدّمت الاسم ، «وقلت : زيد عسى أن يقوم» ، وسيأتي بيانهما ، وعلى هذا يكون مبتدأ موخّرا لا غير ، الثالث : أن يكون ما بعد الفعل الّذي بعد أن مرفوعا بعسى اسما لها ، وأن والفعل في موضع نصب على الخبريّة لعسى مقدّما على اسمها ، فتكون ناقصة ، والفعل الّذي بعد أن فاعله ضمير يعود على فاعل عسى ، وجاز عوده عليه ، وإن تأخّر لتقدّمه نيّة ، ومنع الشلوبين هذا الوجه لضعف هذه الأفعال عن توسّط الخبر ، وأجازه المبرّد والسيرافيّ والفارسيّ.

ويظهر أثر الخلاف في التأنيث والتثنية والجمع ، فتقول على مذهب غير الشلوبين : عسى أن يقوما الزيدان ، وعسى أن يقوموا الزيدون ، وعسى أن يقمن الهندات ، فتأتي بضمير في الفعل ، لأنّ الظاهر ليس مرفوعا به ، بل هو مرفوع بعسى ، وعلى رأي الشلوبين يجب أن تقول : عسى أن يقوم الزيدان ، وعسى أن يقوم الزيدون ، وعسى أن تقوم الهندات ، فلا تأتي في الفعل بضمير ، لأنّه رفع الظاهر الّذي بعده.

الثاني : يجوز أن تقدّر العاملين تنازعا زيدا في المثال المذكور ، فيحتمل الإضمار في عسى على إعمال الثاني فتكون ناقصة ، قاله ابن هشام في المغني ، وفيه نظر ، لأنّ أحد الفعلين جامد ، وسيأتي أنّ التنازع لا يكون بين جامدين ولا جامد وغيره.

٢٦٩

الثالث : إذا قلت : عسى أن يضرب زيد عمرا ، امتنع كون زيد اسم عسى إجماعا ، لئلّا يلزم الفصل بين صلة إن ومعمولها ، وهو عمرا بالاجنبيّ وهو زيد ، ونظيره قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء / ٧٩] ، قاله في المغني. «وإذا» قدّمت على أحد الفعلى ن المذكورين اسما ، و «قلت» في عسى مثلا : «زيد عسى أن يقوم ، فلك وجهان» : أحدهما «إعمالها» أي عسى «في ضمير زيد» ، فتكون مسندة إليه ، وهو اسمها ، فما بعدها وهو أن والفعل في موضع نصب على أنّه خبرها. فتكون ناقصة ، وهذه لغة تميم. والثاني تفريغها عنه ، أي تجرى دها عن ضمير زيد في المثال المذكور ، «فما بعدها» وهو أن والفعل «اسم» مؤوّل «مغن عن الخبر» ، فتكون مسندة إليه ، وهي حينئذ تامّة.

و «يظهر أثر ذلك» أي المذكور من الوجهين «في» حال «التأنيث والتثنية والجمع» المذكّر والمؤنّث. «فعلى» الوجه «الأوّل» وهو وجه الإضمار «تقول : هند عست أن تقوم» ، فهند مبتدأ ، وعسى فعل ماض ناقص ، واسمها ضمير مستتر فيها يعود على هند ، وأن يقوم في موضع نصب على أنّه خبر عسى ، وعسى ومعمولاها في موضع رفع على أنّه خبر المبتدإ. «والزيدان عيسا أن يقوما» ، فالزيدان مبتدأ ، وعسى فعل ماض ناقص والألف المتّصلة بها اسمها ، وأن يقوما خبرها ، وجملة عسى ومعموليها خبر المبتدأ ، «والزيدون عسوا أن يقوموا» كذلك ، والهندات عسين أن يقمن كذلك.

«وعلى» الوجه «الثاني» وهو التفريغ عن الضمير ، تقول : هند «عسى» أن تقوم ، والزيدان عسى أن يقوما ، والزيدون عسى أن يقوموا ، والهندات عسى أن يقمن ، فتقدّر عسى مفرغة عن الضمير «في» أمثلة «الجميع» ، وهي تامّة ، وأن والفعل بعدها في موضع رفع على الفاعلية بها ، وهي ومرفوعها في موضع رفع على الخبريّة للمبتدإ قبلها ، وهو الأفصح ، وبه جاء التنزيل قال عزّ من قائل : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) [الحجرات / ١١].

فائدة : يجوز في عسى إذا أسندت إلى ضمير كسر سينها نحو : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) [محمد / ٢٢] ، قرأ نافع بالكسر وغيره بالفتح ، وهو المختار.

وهنا انقضى كلام المصنّف ، رحمه الله تعالى ، في النوع الأوّل من أنواع المعربات من الأسماء ، وهو ما يرد مرفوعا لا غير ، ثمّ شرع في النوع الثاني منها ، وهو ما يرد منصوبا لا غير فقال :

٢٧٠

المفعول به

ص : النّوع الثّاني ما يرد منصوبا لا غير ، وهو ثمانية :

الأوّل : المفعول به وهو الفضلة الواقع عليه الفعل ، والأصل فيه تأخّره عنه ، وقد يتقدّم جوازا لإفادة الحصر ، نحو : زيدا ضربت ، ووجوبا للزومه الصّدر ، نحو : من رأيت؟

ش : «النوع الثاني» من أنواع المعربات من الأسماء «ما يرد منصوبا لا غير ، وهو ثمانية» بدليل الاستقراء ، ولمّا كان الأصل منها هو المفاعيل الخمسة ، وكان المفعول به أكثرها استعمالا وأشهرها ذكرا وأمكنها في النصب لشدّة احتى اجه إليه ، لأنّه الّذي يلتبس لو لا النصب بالفاعل ، قدّمها بادئا به ، فقال : «الأوّل المفعول به» ، ويقال له : المفعول على حذف الصلة.

قال ابن هشام : جرى اصطلاحهم على أنّه إذا قيل : مفعول (١) ، وأطلق لم يرد إلا المفعول به. ولمّا كان أكثر المفاعيل دورا ، خفّفوا اسمه ، وإنّما كان حقّ ذلك أن لا يصدق إلا على الفعول المطلق ، ولكنّهم لا يطلقون على ذلك اسم المفعول إلا مقيّدا بقيد الاطلاق ، انتهى.

والضمير في به يرجع إلى أل الموصولة في المفعول (٢) ، أي الّذي فعل به الفعل ، وكذا في المفعول له ومعه وفيه. «وهو» الاسم «الفضلة» ، وهي عبارة عما يسوّغ حذفه من أجزاء الكلام مطلقا إلا لعارض. وقال ابن مالك في شرح العمدة (٣) : هي عبارة عمّا زاد على ركني الإسناد كالمفعول والحال والتمييز.

فخرج بها العمدة ، وهي ما لا يسوّغ حذفه من أجزاء الكلام إلا بدليل ، وشملت جميع المنصوبات ، الأصل منها ، والمحمول عليه. وقوله «الواقع عليه الفعل» أخرج سائر المنصوبات ، أمّا بقية المفاعيل فلأنّه لا يقال في شيء منها : إنّ الفعل واقع عليه ، بل يقال في المفعول المطلق : إنّه واقع ، وفي غيره : إنّ الفعل واقع له أو معه أو فيه ، وأما غيرها فظاهر.

والمراد بوقوع الفعل عليه تعلّقه به بلا واسطة ، بحيث لا يعقل إلا به نفيا كان أو إثباتا ، فسقط ما قيل من أنّه غير جامع لخروج نحو : ما ضربت زيدا ، ولا تضرب عمرا ، وأوجدت ضربا ، وخلق الله العالم ، فإن قيل : ذكر الوقوع وإرادة التعلّق حقيقة أم

__________________

(١) سقط مفعول في «ح».

(٢) في «ح» سقط في المفعول.

(٣) العمدة في النحو لابن مالك محمد عبد الله النحوي المتوفى سنة ٦٧٢ ه‍. كشف الظنون. ٢ / ١١٦٧.

٢٧١

مجاز ، لا سبيل إلى الأوّل لعدم الوضع ولا إلى الثاني لعدم الاتّصال بينهما ، قيل : وقوع الفعل على الشيء في عرف النحاة عبارة عن التعلّق المذكور ، فيكون إرادة التعلّق من الوقوع حقيقة عرفيّة ، فلا يلزم دعوى الوضع وبيان الاتّصال ، أو يقال : الوقوع لا ينفك عن التعلّق ، فكان التعلّق لازما للوقوع ، فذكر الملزوم ، وأريد اللازم.

هذا وإنّما استغنى عن إضافة الفعل إلى الفاعل ، كما فعل ابن الحاجب لجعله الفضلة هي الجنس ، فإنّ فائدة إضافته إليه على ما ذكروه إخراج مثل زيد في ضرب زيد بالبناء للمفعول ، فإنّه لم يعتبر إسناده إلى فاعله ، ومثل ذلك خارج بالفضلة ، فإنّه عمدة ، ولو فعله أيضا لكان بسبيل ، فتكون فائدته صرف الفعل عن المعنى الاصطلاحي ، فيصفو إسناد الوقوع إليه عن التجوّز وشمول التعريف لمفعول غير الفعل عن التكلف ، فبطل قول بعضهم : إنّه لا فائدة فيه.

الأصل تأخّر المفعول عن الفعل : «والأصل» أي الراجح في المفعول الّذي ينبغي أن يكون عليه إن لم يمنع مانع «تأخّره عنه» ، أي عن الفعل وعن الفاعل أيضا بدليل ما مرّ في كلامه أنّ الأصل في الفاعل تقدّمه على المفعول ، نحو : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل / ١٦] ، لأنّ طلب الفعل للمسند إليه الّذي لا يتمّ إلا به أشدّ من طلبه للفضلات ، ولأنّ الفاعل منشيء الفعل ، والمفعول مورده ومتعلّقه ، فالفعل ينشأ عن الفاعل ، ثمّ يصل إلى المفعول. وقد يجب هذا الأصل في مسائل :

أحدها : أن يكون الفعل مؤكّدا بالنون الثّقيلة أو الخفيفة ، فلا يقال : زيدا اضربنّ. قال الرضيّ : ولعلّ ذلك لكون تقديم المنصوب على الفعل دليلا في ظاهر الأمر على أنّ الفعل غير مهم ، وإلا لم يؤخّر عن مرتبته ، أي الصدر ، وتوكيد الفعل مؤذنا بكونه مهمّا ، فيتنافران في الظاهر ، انتهى. فإن قلت : فقد قال ابن مالك في ألفيته [من الرجز] :

٢٢٤ ـ والرفع والنصب اجعلن إعرابا

 ... (١)

فقدّم مفعول الفعل المؤكّد بالنّون عليه. قلت : أجيب باحتمال أن يكون الحكم المذكور مفروضا في الاختبار ، وأنّه يجوز التقديم في الضرورة.

الثانية : أن يحصل بتقديمه التباس بالمبتدإ ، نحو : موسى ضرب عيسى.

الثالثة : أن يكون الفعل تعجّبيّا ، نحو : ما أحسن زيدا ، فلا يجوز زيدا ما أحسن ، إذ لا يتصرف في معموله.

__________________

(١) تمامه «لاسم وفعل نحو لن أهابا».

٢٧٢

الرابعة : أن يكون الفعل صلة لحرف مصدريّ عامل ، نحو : كرهت أن تضرب زيدا ، فلا يجوز أن تضرب زيدا كرهت ، ولا أن زيدا تضرب كرهت ، إذ لا يفصل بين الموصول الحرفي وصلته.

الخامسة : أن يكون الفعل مقرونا بلام الابتداء ، نحو : ليحبّ الله المحسنين ، فلا يجوز :

المحسنين ليحبّ الله. هذا إن لم توجد إنّ ، فإن وجدت ، جاز التقديم ، نحو : إنّ زيدا عمرا ليضرب ، أو بلام القسم ، نحو : والله لأقولنّ الحقّ ، فلا يجوز : والله الحقّ لأقولنّ.

السادسة : أن يكون المفعول أن وصلتها ، نحو : عرفت أنّك فاضل ، فلا يجوز أنّك عرفت فاضل ، واختلف في علّة ذلك ، فقيل : كراهية الابتداء بأنّ المفتوحة ، لئلا تلتبس بأنّ الّتي بمعنى لعلّ ، وقيل : لئلا تلتبس بأنّ المكسورة ، ولا تدفع الفتحة الخفيفة هذا اللبس.

فإن قلت : هلّا اجتنبوا هذا اللبس عند وقوع إن وصلتها مجرورة باللام المقدّرة ، بل أجازوا مثل قولك : إنّك فاضل أكرمت. قلت : أجيب بأنّ ذلك لا يوقع في محذور ، إذ المقصود التعليل ، وهو حاصل على كلّ تقدير سواء ظنّ السامع أنّ مفتوحة ، واللام مقدّرة ، أو ظنّها مكسورة ، وذلك لأنّ التعليل مستفاد من كون الجملة المصدّرة ب إنّ المكسورة تقع في مثل ذلك جوابا لسوال عن العلّة مقدّر ، تقول : أكرم زيدا إنّه فاضل ، ولا تكرم عمرا إنّه جاهل ، كأنّه قيل : لم أكرمه؟ أو لم لا أكرمه؟ فقيل : إنّه فاضل ، أو إنّه جاهل ، فاغتفروا هذا اللبس من الفتح والكسر ، لكونه لا يوقع في خلاف الغرض.

قد يتقدّم المفعول على الفعل جوازا ووجوبا : «وقد يتقدّم» أي المفعول به على الفعل لقوّته في العمل ، وليس ذلك خاصّا بالمفعول به ، بل المفاعيل كلّها إلا المفعول معه سواء في ذلك ، ولذا عبّر عنه في التسهيل بمنصوب الفعل ، فيتقدّم جوازا حيث لا موجب لتقدّمه ، ولا مانع منه «لإفادة الحصر» ، أي حصر فعل الفاعل في المفعول ، «نحو : زيدا ضربت» أي لا غيره ، أو وحده بحسب ما يقتضيه المقام.

هذا قول الجمهور ، وكاد أهل البيان يطبّقون عليه ، وخالف في ذلك ابن الحاجب ، وتبعه أبو حيّان (١). قال ابن الحاجب في شرح المفصّل : الاختصاص الّذي يتوهّمه كثير من الناس وهم ، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر / ٢] ثمّ قال : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر / ٦٦] ، وردّ هذا الاستدال بأنّ مخلصا له الدين ، أغني عن أداة الحصر في الآية الأولى ، ولو لم يكن فما المانع من ذكر المحصور في محلّ بغير

__________________

(١) سقطت هذه الجملة في «ح».

٢٧٣

صيغة الحصر ، كما قال تعالى : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) [الحج / ٧٧] ، وقال : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف / ٤٠] ، بل قوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر / ٦٦] ، ولو لم تكن للاختصاص ، وكان معناها اعبد الله ، لما حصل الإضراب الّذي هو معنى بل.

واعترض أبو حيّان على مدّعي الاختصاص ، بنحو : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر / ٦٤] ، وأجيب بأنّه لمّا كان من أشرك بالله غيره ، كأنّه لم يعبد الله ، كان أمرهم بالشرك ، كأنّه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة. وردّ صاحب الفلك الدائر (١) الاختصاص بقوله تعالى : (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) [الأنعام / ٨٤] ، وهو أقوي ما ردّ به ، وأجيب بأنّه لا يدّعي فيه اللزوم ، بل الغلبة ، وقد يخرج الشي عن الغالب.

قال الشيخ بهاء الدين السّبكيّ : وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) [الأنعام / ٤٠ و ٤١] ، فإنّ التقديم في الأولى قطعا ليس للإختصاص ، وفي إيّاه قطعا للاختصاص ، انتهى. وعلى قول الجمهور فشرطه أن لا يكون التقديم مستحقّا.

الحصر والاختصاص مترادفان أم لا : تنبيه : المشهور أنّ الحصر والإختصاص مترادفان ، واختار تقيّ الدين السّبكيّ (٢) التفرقة بينهما ، فقال : اشتهر كلام الناس في المعمول يفيد الاختصاص ، وقد يفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر ، وليس كذلك ، وإنّما الاختصاص شيء ، والحصر شيء آخر ، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر ، وإنّما عبّروا بالاختصاص ، والفرق بينهما أنّ الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور ، والاختصاص قصد الخاصّ من جهة خصوصه من غير تعرّض لنفي غيره ، انتهى.

وقوله : إنّ الفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظ الحصر ممنوع ، فقد ذكرها غير واحد ، وهذه مسألة بيانيّة تطفّلنا بها تبعا للمصنّف ، رحمه الله ، وإلا فالتقديم والتأخير اللّذان يلزم النحويّ النظر فيهما هما ما اقتضته صناعة من الجواز والوجوب فقط ، لا ذكر فوائد هما ، ووجوبا في مسألتين ، أشار إلى الأولى بقوله (٣) «للزومه الصدر» أي صدر الكلام ، وذلك إذا تضمّن معنى الاستفهام ، نحو : (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء / ١١٠] ، أو أضيف إلى ما تضمّن معنى أحدهما ، نحو : علام أيّهم ضربت ، علام من تضرب أضرب.

__________________

(١) الفلك الدائر على المثل السائر لعز الدين عبد الحميد ابن هبة الله المدائني (المعروف بابن أبي الحديد) المتوفى سنة ٦٥٥ ه‍. كشف الظنون ، ٢ / ١٢٩١.

(٢) على بن عبد الكافي السبكي تقي الدين النحويّ اللغويّ ، صنف نحو مائة وخمسين كتابا مطولا ومختصرا ، منها : تفسير القرآن ، الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص ومات سنة ٧٥٥ ه‍. بغية الوعاة ، ٢ / ١٧٧.

(٣) سقط بقوله في «ح».

٢٧٤

الثانية : أن يقع عامله بعد فاء الجزاء في جواب أمّا ، وليس للعامل منصوب غيره ، مقدّم عليها ، نحو : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) [الضحي / ٩] ، وقد تقدّر أمّا نحو : (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر / ٣] ، بخلاف أمّا اليوم فأضرب زيدا.

تنبيهان : الأوّل : منع الكوفيّون تقديم المفعول في نحو : زيدا غلامه ضرب ، لأنّه متأخّر في التقدير من وجوه : أحدها بالنظر إلى غلامه ، لأنّه من تمام خبره ، والثاني بالنظر إلى ضرب ، لأنّه لا مفسّر له قبله بخلاف قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة / ١٢٤] ، لأنّ المنصوب متأخّر من جهة المعموليّة والمفعوليّة.

ومنعوا أيضا غلامه أو غلام أخيه ضرب زيد. وما أراد أخذ زيد ، على أنّ في أراد ضمير زيد ، لأنّ المفسّر فيها هو الفاعل ، ولا يجوز أن تقدّره قبل المفعول المقدّم على الفعل ، لأنّ الفاعل لا يتقدّم على الفعل ، فكيف يفسّر ما هو متقدّم لفظا ، وليس بمتقدّم تقديرا ، بخلاف ضرب غلامه زيد ، فإنّ مرتبة المفسّر قبل الضمير ، ويجوز تقديمه عليه.

ومنعوا ما طعامك أكل إلا زيد ، لأنّك حذفت الفاعل الّذي هو الأصل والعمدة ، واعتنيت بالمفعول الّذي هو الفضلة ، وذلك بأن قدّمته على الفعل ، وأجاز ذلك البصريّون في المسائل الخمس. قال الرضيّ عليه من الله الرضا ، وهو الحقّ اكتفاء بالتقدّم اللفظيّ في الأولى ، ولأنّ مرتبة المفعول بعد الفاعل ، فإذا لم يجز تقديم المفسّر وحده ، أي الفاعل ، أخّرنا ما اتّصل به ضمير المفسّر ، فنقول : إنّ تقدير غلامه ضرب زيد ، ضرب زيد غلامه ، فغلامه واقع في التقدير بعد زيد الواقع بعد عامله ، ولأنّ المستثنى قد سدّ في الأخير مسدّ الفاعل ، ولورود السماع بما منعوه ، فنظير الأولى قوله [من البسيط] :

٢٢٥ ـ كعبا أخوه نها وانقاد منتهيا

ولو أبي بات بالتخليد في سقر (١)

ونظير الثانية قوله [من الخفيف] :

٢٢٦ ـ رأيه يألف الّذي إلف الحمد

ويشقي بسعيه المغرور (٢)

ونظير الثالثة قوله [من الرمل] :

٢٢٧ ـ شرّ يوميها وأغواه لها

ركبت عتر بحدج جملا (٣)

ونظير الرابعة قوله [من البسيط] :

٢٢٨ ـ ما شاء إن شاء ربّي والّذي هو لم

يشاء فلست تراه فاشيأ أبدا (٤)

_________________

(١) لم أجد البيت.

(٢) لم أجد البيت.

(٣) لم يسمّ قائله : اللغة : عتر : امرأة من طسم ، سبيت فحملت في هودج يهزؤن بها والتقدير : ركبت عتر جملا مع حدج ، أو جملا سائرا بحدج. الميداني ، مجمع الامثال والحكم ، الجزء الثاني ، الطبعة الثانية ، دار الجيل ، بيروت ، ١٤٠٧ ه‍ ، ص ٥٣.

(٤) لم أجد البيت.

٢٧٥

ونظير الخامسة قوله [من البسيط] :

٢٢٩ ـ ما المرء ينفع إلا ربّه فعلا ...

م يستمال لغير الله آمال (١)

وعتر بالعين المهملة وسكون النون ثمّ زاء معجمة في البيت الثالث اسم امراة من طسم (٢) ، سبيت ، فحملوها في هودج ، وألطفوها بالقول والفعل ، فقالت : هذا شرّ يومي ، أي حين صرت أكرم للسباء. شرّ منصوب على الظرفية بركبت ، أي ركبت في شرّ يوميها ، والحدج بكسر الحاء المهملة وسكون الدّال المهملة ثمّ جيم ، مركب للنساء كالمحفّة (٣). فإن قلت : المقدّم في المسألة مفعول به ، وهذا ظرف زمان ، فهما مفترقان.

قلت : المسألة مفروصة في أعمّ من المفعول به ، لأنّ التقديم ليس مختصّا به كما تقدّم.

ناصب المفعول به والكلام على إضماره : الثاني : الناصب للمفعول به إمّا فعل متعدّ ، نحو : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل / ١٦] ، أو اسم فاعل ، نحو : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [الطلاق / ٣] ، أو اسم مفعول ، نحو : زيد معطي غلامه درهما ، أو اسم فعل ، نحو : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة / ١٠٥] ، أو مصدر : نحو : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) [البقرة / ٢٥١] ، وإمّا اسم التفضيل فلا ينصب المفعول به ، وإن كان متعديّا ، وكذا الصفة المشبهة ، لأنّها لا تشتقّ إلا من لازم.

والأصل كون الناصب مذكورا كما في هذه الأمثلة ، وقد يضمر جوازا ، إذا دلّ عليه دليل قالي أو حالي ، والأوّل كقوله تعالى : (قالُوا خَيْراً) [النحل / ٣٠] ، أي أنزل ربّنا خيرا ، بدليل : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) [النحل / ٣٠] ، الثاني ، نحو : قولك لمن تأهّب لسفر : مكّة ، بإضمار أتريد؟ أو وجوبا ، وذلك فيما نصب على الاشتغال ، نحو : أزيدا ضربته ، أو على النداء ، نحو : نحن العرب أقري الناس للضيف ، بإضمار أخصّ ، أو على التحذير بإيّاك ، نحو : إيّاك والأسد ، أي إيّاك باعد واحذر الأسد ، أو بغيرها بشرط عطف أو تكرار ، نحو : رأسك والسيف ، أي باعد واحذر ، والأسد الأسد (٤) ، أو على الإغراء بشرط أحدهما ، نحو : المروة والنجاة. وقوله [من الطويل] :

٢٣٠ ـ أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كساع إلى الهيجاء بغير سلاح (٥)

بإضمار الزم.

__________________

(١) لم أجد البيت.

(٢) طسم : حيّ من عاد انقرضوا.

(٣) المحفّة : هودج لا قبّة له ، تركب فيه المرأة. (ج) محافّ.

(٤) سقط الأسد في «ح».

(٥) البيت لمسكين الدارمي أو لا ابراهيم بن هرمة الفرشي أو قيس بن عاصم. اللغة : الهيجاء : الحرب.

٢٧٦

المفعول المطلق

ص : الثّاني : المفعول المطلق : وهو مصدر يؤكّد عامله أو يبيّن نوعه أو عدده ، نحو :

ضربت ضربا ، أو ضرب الأمير ، أو ضربتين والمؤكّد مفرد دائما ، وفي النوع خلاف ، ويجب حذف عامله سماعا ، في نحو : سقيا ورعيا ، وقياسا ، في نحو : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ،) وله على ألف درهم اعترافا ، وزيد قائم حقّا ، وما أنت إلا سيرا ، وإنّما أنت سيرا ، وزيد سيرا سيرا ، ومررت به فإذا له صوت صوت حمار ، ولبّيك وسعديك.

ش : «الثاني» ممّا يرد منصوبا لا غير «المفعول المطلق» ، سمّي بذلك لصحّة إطلاق صيغة المفعول عليه لغة من غير تقييد ، ومن ثمّ قدّمه الزمخشريّ وابن الحاجب على المفعول به بخلاف بقيّة المفاعيل ، فلا يقال فيها : إلا مفعول به أو فيه أو معه ، وأمّا اصطلاحا فيصحّ الإطلاق على كلّ واحد من الخمسة ، وهو ما قرن بفعل لفائدة ، ولم يسند إليه ذلك الفعل ، وتعلّق به تعلقا مخصوصا.

فإن قلت : هذا منتقض بمفعول ما لم يسمّ فاعله ، فإنّه مفعول ، ولم يشمله التعريف. قلت : أجيب بأنّ إطلاق المفعول عليه باعتبار أنّه كان في الأصل مفعولا اصطلاحيّا قال ابن هشام : وهذه التسمية للبصريّين ، وأمّا غيرهم فلا يسمّى بالمفعول إلا المفعول به خاصّة ، ويقول في غيره مشبّه بالمفعول.

«وهو مصدر يؤكّد عامله» الناصب له ، وإن لم يكن مشتقّا منه ، وتوكيده له باعتبار حدثه المفهوم منه مطابقة إن كان مصدرا ، وتضمّنا إن كان غيره ، ويسمّى هذا النوع مبهما أو المبيّن لنوعه ، أو عدده ، أو نوع عامله ، أو عدده ، وذلك باعتبار الحدث المفهوم منه على حدّ ما تقرّر ، ويسمّى كلّ من هذين النوعين مختصّا وموقّتا.

ويدخل في قوله : «عدده» الواحد ، لأنّه عدد بإجماع ، وخرج بقوله : «يؤكّد عامله» إلى آخره ، المصدر في نحو : قمت إجلالا لك ، وكرهت ضربك لانتفاء التوكيد ، وبيان العدد نحو : الفجور الثاني في كرهت الفجور الفجور ، فإنّه وإن كان مؤكّدا لكن لا لعامله ، ولا يرد على الحدّ المفعول به في نحو : كرهت كراهتي ، لأنّ المراد بكون المصدر مؤكّدا لعامله أو مبيّنا لنوعه أو عدده كونه كذلك بحسب دلالة اللفظ ، كما نبّه عليه ابن الحاجب في مثله.

وكراهتي على تقدير كونه مفعولا به ليس بهذه المثابة ، نعم يرد عليه الخبر في نحو : ضربك ضربتان ، وضربك ضرب أليم ، فإنّه مبيّن لعدد في الأوّل ، وللنوع في الثاني ، أو

٢٧٧

صفة بأليم ، فهو منقوض به ، وكذا الحال الموكّدة لعاملها ، إذا كانت مصدرا ، فلو قال : وليس خبرا ولا حالا كما فعله ابن هشام في الأوضح لسلم من ذلك.

إعراب خلق الله السموات : تنبيه : قيل : يرد على هذا الحدّ نحو : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) [الجاثية / ٢٢] ، فإنّ السموات مفعول مطلق على الصواب ، وليس بمصدر ، انتهى.

وقد يمنع الورود باحتمال ذهابه إلى ما عليه الجمهور من أنّها مفعول به لا مفعول مطلق ، والقائل بأنّها مفعول مطلق جماعة من الأئمة ، منهم الشيخ عبد القاهر الجرجانيّ وفخر الدين الرازيّ وجار الله الزمخشريّ وأبو عمرو بن الحاجب وجمال الدين بن هشام : قالوا : لأنّ المفعول به ما كان موجودا قبل الفعل الّذي عمل فيه ، ثمّ أوقع الفاعل به فعلا كضربت زيدا ، فزيدا كان موجودا قبل الضرب ، وأنت فعلت به الضرب ، والمفعول المطلق ما كان فعل الفاعل فيه هو فعل إيجاده كالسموات في : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) [الجاثيه / ٢٢] ، فإنّها لم تكن موجودة ، بل عدما محضا ، والله أوجدها ، وخلّصها من لعدم ، فكانت مفعولا مطلقا لا مفعولا به.

قال ابن هشام : والّذي غرّ اكثر النّحويّين في هذه المسألة أنّهم يمثّلون المفعول المطلق بأفعال العباد ، وهم أنّما تجرى على أيديهم إنشاء الأفعال لا الذوات ، فتوهّموا أنّ المفعول المطلق لا يكون إلا حدثا ، ولو مثلّوا بأفعال الله تعالى لظهر لهم أنّها لا تختصّ بذلك ، لأنّ الله تعالى موجد للأفعال والذوات جميعا ، قال : وكذا البحث في أنشأت كتابا وعملت خيرا ، انتهى.

وأجاب الجمهور بأنّ المفعول به بالنسبة إلى فعل غير الإيجاد يقتضي أن يكون موجودا ، ثمّ أوجد الفاعل فيه شيئا آخر ، فإنّ اثبات صفة غير الوجود تستدعي ثبوت الموصوف أوّلا ، وأمّا المفعول بالنسبة إلى الإيجاد ، فلا يقتضي أن يكون موجودا ، ثمّ أوجد الفاعل فيه الوجود ، بل يقتضي أن لا يكون موجودا ، وإلا لزم تحصيل الحاصل ، وأمّا التزام كونه موجودا قبل الفعل على كلّ حال فدعوى لا دليل عليها ، نحو : ضربت ضربا ، مثال للمفعول المطلق المؤكّد لعامله ، ومثله نحو : قعدت جلوسا (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح / ١٧]. وهل العامل فيهما الفعل المذكور أو مقدّر بمعناه ولفظه؟ قولان :

الأوّل : هو قضية كلام سيبويه على ما قيل في التسهيل ، وهو مذهب المازنيّ والمبرّد والسيرافيّ ومرتضى الرضيّ عليه من الله الرضا ، ونسبه ابن يعيش إلى الأكثرين ، لأنّه لمّا

٢٧٨

كان في معناه وصل إليه ، كما وصل إلى ما هو من لفظه ، لأنّ الأصل عدم التقدير بلا ضرورة ملجاة إليه.

والثاني : هو مذهب الجمهور ، كما قال ابن عقيل ، لأنّ الكثير كون المصدر من اللفظ للفعل ، وكونه بغير لفظه قليل ، فحمل القليل على الكثير ، أو ضربت ضرب الأمير ، مثال للمفعول المطلق المبيّن لنوعه ، وهو عطف على ضربت ضربا بتقدير ، أو ضربت ضرب الأمير ليكون عطف مثال على مثال لا على ضربا فافهم. والأصل ضربا مثل ضرب الأمير ، فحذف الموصوف من الصفة ، ومثله ضربته ضربا شديدا ، أو ضربته الضرب ، أي الضرب المعهود ، فلو أردت بالضرب الجنس ، كان من قبيل المؤكّد على ما ذكره بعض المتأخّرين ، أو ضربت ضربتين مثال للمفعول المطلق المبيّن لعدده ، ومثله (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة / ١٤] ، وضربته ضربات.

وقد ينوب عن المصدر غيره من صفته ، نحو : اشتمل الصّماء (١) ، أو ضميره نحو : عبد الله أظنّه جالسا ، بنصب عبد الله ، أو إشارة إليه كضربته ذلك الضرب ، ولا يشترط كونها متبعة بالمصدر ، وقول ابن مالك باشتراطه مردود بقول العرب : ظننت ذلك ، يشيرون به إلى الظّنّ ، أو مرادف له نحو : شنيته بغضا ، وأحببته مقة ، أو مشارك له في مادّته ، وهو ثلاثة : اسم مصدر ، نحو : اغتسل غسلا ، واسم عين ، نحو : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح / ١٧] ، ومصدر لفعل آخر ، نحو : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزّمل / ٨] ، والأصل اغتسالا وإنباتا وتبتلا.

أو دالّ على نوع منه كقعد القرفصا ، ورجع القهقري ، والأصل قعد القعد القرفصاء ، ورجع الرجعة القهقري ، أو دالّ على عدده ، كضربته عشر ضربات [أو كقوله تعالى] : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور / ٤] ، أو على آلته كضربته سوطا وسوطين وأسواطا ، والأصل ضربته ضربة بسوط وضربتين بسوط وضربات بسوط ، أو كلّ ، نحو : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) [النساء / ١٢٩] ، أو بعض ، نحو : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) [الحاقة / ٤٤] ، أو ما الاستفهاميّة ، نحو : ما تضرب زيدا ، أي أيّ ضرب تضرب زيدا ، أو ما الشرطيّة ، نحو : ما شيءت فنم ، أي أيّ نوم شيءت فنم.

«و» المصدر «المؤكّد» لعامله لا يثنّى ، ولا يجمع ، بل هو «المفرد دائما» باتّفاق ، قال الرضيّ : إذ المراد بالتاكيد ما تضمّنه الفعل بلا زيادة عليه ، ولم يتضمّن الفعل إلا

__________________

(١) اشتمل الصّماء : هو أن يردّ الكساء من قبل يمينه على يده اليسري وعاتقه الأيسر ثمّ يردّه ثانية من خلفه على يده إليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا. لسان العرب ٢ / ٢٢٤١ (صمم).

٢٧٩

الهيئة من حيث هي هي ، والقصد إلى الهيئة من حيث هي هي يكون مع قطع النظر عن قلّتها وكثرتها ، والتثنية والجمع لا يكونان إلا مع النظر إلى كثرتها فتناقضا ، انتهى.

وأمّا العدديّ فيثنّى ويجمع باتفاق ، لأنّ العدد قد يكون اثنين فصاعدا ، وفي المصدر النوعيّ خلاف بين النّحويّين ، فمنهم من ذهب إلى جواز تثنيه وجمعه قياسا لحصول ما يكون معه التثنية والجمع ، إذ النوع المتميّز إذا انضمّ إليه نوع آخر ثبت الأمر الّذي يكون به التثنية ، وإذا انضمّ إليه نوعان فصاعدا ، حصل ما يكون به الجمع ، فيجوز أن تقول : قمت قيامي زيد وعمرو ، وقتلت قتولا كثيرة. ومنهم من منع في غير المسموع ، وهو ظاهر مذهب سيبويه واختيار الشلوبين ، والأوّل هو الأشهر.

عامل المفعول المطلق : تنبيه : عامل المفعول المطلق إمّا مصدر ، نحو : سيرك سير الحثيث (١) متعب ، أو ما اشتقّ منه من فعل ، نحو : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء / ١٢٤] ، أو وصف ، نحو : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) [الصافات / ١] ، أو اسم مفعول ، نحو : الخبز مأكول أكلا.

وشرط الفعل التصرّف والتمام وعدم الإلغاء ، ولا يقال : ما أحسن زيدا حسنا ، ولا أحسن بزيد إحسانا. خلافا للجرميّ لعدم التصرّف فيهما ، فكانا كالجامد ، لا مصدر له ، ولا يقال : كان زيد قائما كونا ، على خلاف فيه ، ولا زيد قائم ظننت ظنّا ، جزم به في التصريح.

وشرط الوصف أن يكون دالّا على الحدوث ، فلا يجوز : زيد حسن وجهه حسنا ، ولا أقوم منك قياما ، وأمّا قوله [من البسيط] :

٢٣١ ـ أما الملوك فأنت إليوم ألأمهم

لؤما وأبيضهم سربال طّباخ (٢)

فلؤما منصوب بمحذوف ، قاله صاحب البديع (٣) ، ولا ينتصب بغير الثلاثة ، لا تقول : نزال نزولا ، ولاصه سكوتا.

إعراب أنت الرجل علما : وزعم ثعلب في نحو أنت الرجل علما ، أنّ مفعول مطلق منصوب بالرجل على تأويله بالعالم ، قال أبو حيّان وغيره : هو تمييز محوّل عن الفاعل بتأويل الرجل بالكامل ، أي أنت الكامل علمه ، وليس مفعولا مطلقا.

__________________

(١) الحثيث : السريع الجادّ في أمره.

(٢) هو لطرفة بن العبد. اللغة : السربال : القميص.

(٣) البديع في النحو للإمام أبي السعادات مبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة ٦٦٦ ه‍. كشف الظنون ١ / ٢٣٦.

٢٨٠