الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

لطيفة يسأل الناس عنها أهل الأدب : لطيفة : ممّا يسأل الناس عنه أهل الأدب قول الشاعر [من الكامل] :

١٦٩ ـ ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب

فأجاب ما قتل المحبّ حرام (١)

فيقولون ما الّذي أجاب به؟ والجواب أنّه تميميّ لإهماله ما ، فاستغني بوقوع الاسمين بعد ما مرفوعين عن أن يصرّح بنسبه ويقول : أنا تميميّ.

رفع المبتدإ ونصب الخبر بلا النافية لغة أهل الحجاز دون غيره : تنبيهان : الأوّل : قال ابن هشام في شرح اللمحة : رفع المبتدأ ونصب الخبر بلاء النافية لغة أهل الحجاز على ما نصّ عليه الزمخشريّ وابن الحاجب والمطرزيّ وغيرهم ، وكثير يظنّ اتّفاق العرب على إعمالها ، ويختصّ الخلاف بما وليس كذلك ، وإذا اختلفوا في القويّ الشبه ، فكيف يجمعون على الضعيفة ، وإنّما ضعف شبه لا بليس ، لأنّ ليس لنفي الحال ، ولا لنفي المستقبل (٢) ، وقد حقّق هذا أنّهم لا يعملونها إلا في الشعر ، انتهى.

فأمّا ليس فقد عرفت حالها ممّا مرّ ، وأمّا ما فقال في المغني : إذا نفت المضارع تخلّص عند الجمهور للحال ، وردّ عليهم ابن مالك بنحو قوله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) [يونس / ١٥] ، وأجيب بأنّ شرط كونه للحال انتفاء قرينة خلافه ، وأمّا لا فالمنقول عن سيبويه أنّ المضارع يتخلّص بها للاستقبال ونقله في المغني عن الأكثرين.

قال الدمامينيّ في شرح التسهيل ولم يزل الفضلاء يستشكلون قول سيبويه ، هذا مع قوله : إنّ المضارع المنفي بلا يقع حالا ، وقول غيره إنّ الجملة الحالية لا تصدّر بدليل استقبال. قال المراديّ في الجني : ومذهب الأخفش والمبرّد وابن مالك عدم لزوم ذلك ، وأنّها قد تكون للحال ، انتهى.

شروط إعمال ما ولا المشبّهتين بليس : الثاني : قضية إطلاق المصنّف أن لا تعمل في الشعر وغيره ، وعليه كثير من النحويين وخصّص بعضهم عملها بالشعر ، بل ظاهر عبارة الرضيّ أنّه رأي جميع النحاة ، وليس كذلك ولكون عمل هذين الحرفين على

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : الواو : بمعنى ربّ ، المهفهف اسم مفعول بمعنى ضامر البطن دقيق الخصر ، الأعطاف (ج) العطف ، وهو من الانسان من لدن رأسه إلى وركه.

(٢) سقط لنفي المستقبل في «ح».

٢٤١

خلاف الأصل. قال الجمهور لم يعملها الحجازيّون مطلقا ، بل بشرط اجتماع ثلاثة أمور فيهما معا سوى ما ينفرد به كلّ منهما كما سيأتي.

أحدها : بقاء النفي ، أي نفي خبرهما ، لأنّ عملهما أنّما كان لأجل النفي الّذي شابهتا ليس به ، فكيف يعملان مع زوال المشابهة بانتقاض النفي ، ولذلك وجب الرفع في نحو : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) [القمر / ٥٠] ، (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [آل عمران / ١٤٤] ولا رجل إلا قاعد ، وما زيد إلا فعله حسن. وأما قوله [من الطويل] :

١٧٠ ـ وما الدّهر إلا منجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذّبا (١)

فمن باب ما زيد إلا سيرا ، والتقدير إلا يدور دوران منجنون ، ويعذّب معذّبا أي تعذيبا.

وقال ابن مالك : أنّه تكلّف على أنّ سيبويه لا يرى أنّ صيغة المفعول تكون بمعنى المصدر ، قال : والأولى أن يجعل منجنونا ومعذّبا خبرين منصوبين بما إلحاقا لها بليس ، قال : وأقوي من هذا قول الآخر [من الوافر] :

١٧١ ـ وما حقّ الّذي يعثو نهارا

ويسرق ليله إلا نكالا (٢)

ولأجل هذا الشرط وجب الرفع في المعطوف ببل ولكن على الخبر ، نحو : ما زيد قائما بل أو لكن قاعد ، على أنّه خبر مبتدأ محذوف ، ولم يجز نصبه بالعطف ، لأنّه موجب.

تنبيهات : الأوّل : تعبيره ببقاء النفي وإن كان أولى من تعبير بعضهم بعدم انتقاض النفي بإلا لشموله الانتقاض بلمّا الاستثنائيّة (٣) أيضا كما رأيت ، إلا أنّه يرد عليه انتقاض النفي بالنسبة إلى معمول الخبر دون نفس الخبر ، نحو : ما زيد قائما إلا في الدار ، فإنّ النفي في ذلك يصدق عليه أنّه قد انتقض ، مع أنّ النصب واجب باجماع ، فتدبّر.

الثاني : إذا انتقض النفي بكلمة غير نحو : ما زيد غير قائم ، فالفرّاء يجيز النصب ، والبصريّون يوجبون الرفع.

الثالث : ما ذكر من وجوب الرفع مطلقا في الخبر المنتقض نفيه هو قول الجمهور. والثاني جواز النصب مطلقا وهو قول يونس ، والثالث جواز النصب بشرط كون الخبر وصفا وهو قول الفرّاء (٤) ، والرابع جواز النصب بشرط كون الخبر مشبّها به وهو قول بقية الكوفيّين ، قاله في التصريح.

__________________

(١) البيت لأحد بني سعد ، اللغة : المنجنون : الدولاب الّذي يستقي عليه.

(٢) البيت لمغلس بن لقيط. اللغة : يعثو : يفسد أشدّ الإفساد ، النّكال : العقاب.

(٣) سقط الاستثنائية في «س».

(٤) في «س» سقط من الثاني حتى هنا.

٢٤٢

و [الشرط] الثاني : تأخّر الخبر عن اسمها ، فلو تقدّم بطل العمل كقولهم : ما مسيء من أعتب ، ولا قاعد رجل ، ويروى مسيئا على الإعمال ، وهو شاذّ وأمّا قول الفرزدق [من البسيط] :

١٧٢ ـ فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

ففي انتصابه أربعة أقوال : قيل : إنّ الفرزدق تميميّ ، وسمع أنّ أهل الحجاز ينصبون الخبر ، ولم يعلم أنّ ذلك يختصّ بالتأخير دون التقديم ، فغلط على لغة غيره لا على لغته فلذلك لم يسقط الاحتجاج بلغته ، وقيل : إنّ إعمال ما في الخبر لغة للعرب إذا تقدّم ، وهذه دعوى. وقيل : إنّ مثلهم ينتصب على الحال ، وإنّ الخبر العامل في الحال محذوف ، كأنّه قال : وإذ ما في الدنيا مماثلا لهم بشر ، وهذا ضعيف ، لأنّ المعاني لا تعمل في الأحوال وتحذف ، وقيل : إنّ مثلهم ينصب على الظرف ، كما تقول : ما أحد مثل زيد ، وأنت تريد ما أحد فوقه في المترلة ولا مكانه في الشرف ، قاله ابن بابشاذ في شرح الجمل ، وقيل : مثلهم مبتدأ ، ولكن بني لإبهامه مع أضافته للمبنيّ.

الثالث : تأخّر معمول الخبر عن الاسم ، فلو قدّم بطل العمل ، كقوله [من الطويل] :

١٧٣ ـ وقالوا تعرّفها المنازل من منى

وما كلّ من وافي منى أنا عارف (١)

فيمن نصب كلّا لضعفهما في العمل ، فلا يتصرّف في خبرهما ولا معموله ، إلا إذا كان المعمول ظرفا أو مجرورا ، فيجوز التقديم ، ولا يبطل العمل ، نحو : ما عندك زيد مقيما ، وما بي أنت مستغنيا ، لتوسّعهم فيهما ما لا يتوسّع في غيرهما كما مرّ (٢) ، وقضية كلامه كغيره إن تقدّم الخبر يمنع العمل ، وان كان ظرفا أو مجرورا.

وصرّح به ابن مالك ، وقيل : لا يمنع حينئذ. قال بعضهم : وهو المختار قياسا على معمول الخبر وعلى خبر أنّ وأخواتها. وقال غيره : ما صحّحه ابن مالك من منع تقديم الخبر الظرفي لا يكاد يعقل ، فإنّ تقديم المعمول فرع تقدّم العامل بل لو عكس فصحّح الجواز في الخبر ، والمنع في معموله لكان أشبه بالصواب ، فإنّ المعمول قد يمنع تقدّمه ، حيث يجوز تقدّم العامل ، ألا ترى أنّ معمول خبر كان لا يتقدّم على اسمها مع جواز تقدّم الخبر.

«ويشترط في ما» خاصّة «عدم زيادة إن» الزائدة «معها» ، فلو زيدت بطل العمل ، كقوله [من البسيط] :

__________________

(١) هو من قصيدة لمزاحم بن الحارث بن عمرة العقيلي. اللغة : تصرّف : فعل أمر ، والمنازل : منصوب على نزع الخافض والأصل : تعرفها في المنازل ، والمنى : موضع النحر بمكة ، وافى : فعل ماضي بمعنى أتى وبلغ.

(٢) سقط مرّ في «ح».

٢٤٣

١٧٤ ـ بني غدانة ما إن أنتم ذهب

ولا صريف ولكن أنتم الخزف (١)

لعدم زيادتها مع ليس المحمولة عليها ، فإذا زيدت مع ما تباينا في الاستعمال ، والقول بأنّ إن هذه زائدة ، وأنّها تبطل العمل هو قول البصريّين. وذهب الكوفيّون إلى جواز النصب معها ، وأنّها نافية مؤكدة ، وعليه خرّج رواية ابن السكيت (٢) في البيت ذهبا وصريفا بالنصب ، قال بعضهم : وعندي أنّ الخلاف في إعمالها ينبغي أن يكون مرتّبا على هذا الخلاف.

لا يجوز الجمع بين حرفين متّفقي المعنى إلا مفصولا بينهما : قال الرضيّ : وردّ على الكوفيّين بأنّه لا يجوز الجمع بين حرفين متّفقي المعنى ، إلا مفصولا بينهما ، كما في إنّ زيدا لقائم ، وأمّا الجمع بين اللام وقد في نحو : لقد سمع ، مع أنّ في كليهما معنى التحقيق ، وفي ألا إنّ مع أنّ في ألا معنى التحقيق ، فلأنّ «قد» يشوبها معنيان آخران ، وهما التقريب والتوقّع ، فلم تكن لبحت التحقيق ، وكذا في ألا معنى التنبيه أيضا.

وإنّما اختصّت ما بهذا الشرط ، لأنّه لا يتأتّي مع لا فلا تزاد معها ، قيل : وفي كتاب الأزهية للهروي (٣) إنّها تزاد معها أيضا ، وأنشد عليه [من البسيط] :

١٧٥ ـ يا طائر البين لا إن زلت ذا زجل

قال أراد لازلت وهو غريب (٤)

ويشترط «في لا» خاصة «تنكير معموليها» أي اسمها وخبرها ، فلا تعمل في معرفة ، لا يقال : لا زيد قائما ، قالوا : وذلك لضعف مشابهتها لليس في خصوص النفي ، لأنّ ليس لنفي الحال ، وهذه لمطلق النفي ، ومن ثمّ شذّ عملها ، حتى ذهب الأخفش والمبرّد إلى منعه ، وخالف ابن جنيّ وابن الشجرى (٥) في هذا الشرط فأجازا إعمالها في المعارف ، وأنشدا للنابغة الجعديّ (٦) [من الطويل] :

__________________

(١) لم يسمّ قائله اللغة : بني غدانة حيّ من يربوع. الصريف : الفضّة الخالصة. الخزف : ما عمل من الطين وشوي بالنار فصارا فخّارا.

(٢) يعقوب بن إسحاق أبو يوسف بن السكيت ، كان عالما بنحو الكوفيّين وعلم القران واللغة والشعر ، له تصانيف كثيرة في النحو ومعاني الشعر وتفسير دواوين العرب ، وهو كان منادم المتوكّل وحينما سأله المتوكل يا يعقوب ، من أحبّ إليك؟ ابناي هذان (المعتز والمؤيد) أم الحسن والحسين؟ قال والله إن قنبرا خادم على خير منك ومن ابنيك. فقتل سنة ٢٤٤ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٣٤٩.

(٣) الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الهروى ، من تصانيفه : الأزهية في النحو ، كشف الظنون ١ / ٧٣.

(٤) وهو بلا نسبة. اللغة : البين : الفرقة ، الزجل : الصوت.

(٥) هبة الله بن علي من أولاد على (ع) المعروف بابن الشجرى ، كان أوحد زمانه وفرد أوانه في علم العربية وأشعار العرب ، صنّف : الأمالى ، كتاب الحماسة ، مات سنة ٥٤٢ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٣٢٤.

(٦) النابغة الجعديّ : أبو ليلي عبد الله بن قيس بن جعدة بن كعب بن ربيعة. مات بأصبهان سنة ٨٠ ه‍. أشهر شعره رائيته الّتي قالها في مدح الرسول (ص). الجامع في تاريخ الأدب العربي ١ / ٤١٦.

٢٤٤

١٧٦ ـ وحلّت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا في حبّها متراخيا (١)

وتأوّله له المانعون.

قال ابن مالك : ويتمكّن عندي أن يجعل أنا مرفوع فعل مضمر ناصب باغيا على الحال ، تقديره لا أشري باغيا ، فلمّا أضمر الفعل برز الضمير ، وانفصل ، ويجوز أن يجعل أنا مبتدأ والفعل المقدّر بعده خبرا ناصبا باغيا (٢) على الحال ، ويكون هذا من باب الاستغناء بالمعمول عن العامل لدلالته عليه ، انتهى.

مع أنّه أجاز في شرح التسهيل القياس عليه ، واعترف في التسهيل بالندور ، فكلامه مختلف ، ومثله قول الآخر [من البسيط] :

١٧٧ ـ أنكرتها بعد أعوام مضين لها

لا الدّار دارا ولا الجيران جيرانا (٣)

وعليه بني أبو الطيب قوله [من الطويل] :

١٧٨ ـ إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذي

فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا (٤)

وقيل : هو لحن منه.

تنبيه : يشترط في «لا» أيضا أن تكون لنفي الوحدة فقط ، نحو : لا رجل في الدار قائما بل رجلان أو رجال ، أو لنفي الوحدة احتمالا مرجوحا ، ولنفي الجنس احتمالا ظاهرا ، نحو : لا رجل قائما ، ويقال في توكيده على الأوّل كما مرّ ، وعلى الثاني : بل امرأة. قال ابن هشام : وغلط كثير من النّحويّين ، فزعموا أنّ لا العاملة عمل ليس لا تكون إلا نافية للوحدة ، ويرد عليهم نحو قوله [من الطويل] :

١٧٩ ـ تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا

 ... (٥)

انتهى. فإن كانت لنفي الجنس نصّا كان عمله عمل أنّ كما سيأتي قريبا ، إن شاء الله تعالى.

الكلام على لات : «فإن لحقتها» أي لحقت لا «التاء» لتأنيث الكلمة أو للمبالغة في النفي كما في علامة أو لهما معا فصارت لات ، وحرّكت التاء لالتقاء الساكنين بالفتح

__________________

(١) اللغة : سواد القلب. حبته ، الباغي : الطالب ، المتراخي : المتواني.

(٢) من لا أرى باغيا حتى هنا سقط في «س».

(٣) البيت مجهول القائل. اللغة : أعوام جمع عام ، الجيران : جمع الجار وهو المجاور في المسكن.

(٤) هو من قصيدة لأبي الطيب المتنبّي واسمه احمد بن الحسين من شعراء العصر العباسي الثالث ، مات سنة ٣٥٤ ه‍. ق.

(٥) تقدم هذا البيت برقم ١٦٨.

٢٤٥

على المشهور ، لأنّها أخفّ الحركات ، وبالكسر على أصل التقاء الساكنين ، وبالضمّ جبرا لما لحقها من الوهن بحذف أحد معموليها لزوما كما سيأتي ، فلات كلمتان : لا النافية وتاء التأنيث ، هذا هو المشهور الّذي عليه الجمهور ، وقال أبو عبيدة وابن الطراوة : هي كلمة وبعض كلمة ، وذلك أنّها لا النافية والتاء الزائدة في أوّل الحين كما جاء [من الكامل] :

١٨٠ ـ العاطفون تحين ما من عاطف

والمطعمون تحين ما من مطعم (١)

قال الرضيّ : وهو ضعيف لعدم شهرة تحين في اللغات واشتهار لات حين ، وأيضا فإنّهم يقولون : لات أوان ولات هنا ولاتا وان ولاتهنا وقيل : كلمة واحدة وهي فعل ماض ، وعلى هذا فهل هي ماضي يليت بمعنى ينقص ، واستملت للنفي ، أو هي ليس بكسر الياء ، قلبت الياء الفاء ، وأبدلت السين تاء كما في ستّ ، قولان ، حكاها في المغني ، ثمّ اختلف في حقيقتها ، فمنهم من ذهب إلى أنّها لا تعمل شيئا ، وإن وليها مرفوع ، فمبتدأ ، حذف خبره ، أو منصوب ، فمعمول لفعل محذوف. وهذا أحد قولي الأخقش ، وعنه أيضا أنّها تعمل عمل أنّ فتنصب الاسم ، وترفع الخبر.

ومذهب الجمهور أنّها تعمل عمل أصلها ، إلا أنّها أقوي منها ، ومنها أيضا في استحقاق العمل لاختصاصها بالاسم ، واختلف في معمولها أيضا ، فذهب الفرّاء إلى أنّها لا تعمل إلا في الحين خاصّة قيل : وهو ظاهر قول سيبويه ، وعليه الجمهور ، وذهب الفارسيّ وجماعة إلى أنّها تعمل في الحين ، وما رادفه كالساعة والأوان والوقت ، وهو مختار ابن مالك والمصنّف ، كما أشعر به قوله : اختصّت بالأحيان ، قال تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص / ٣] بالفتح ، أي لات الحين حين مناص ، وقال الشاعر [من الكامل] :

١٨١ ـ ندم البغاة ولات ساعة مندم

 ... (٢)

وقال الآخر [من الوافر] :

١٨٢ ـ وذلك لات حين أوان حلم

ولكن قبلها اجتنبوا أذائي (٣)

وخصّه بعضهم بما ورد به السماع لا غير وهو كالتوسط بين المذهبين ، وزعم جماعة منهم ابن عصفور أنّها عملت في هنا من قول الشاعر [من الكامل] :

__________________

(١) هذا البيت لأبي وجزة.

(٢) تمامه «والبغي مرتع مبتغيه وخيم» ، قيل : إن هذا الشاهد لرجل من طيي وقال العيني : قائله محمد بن عيسى بن طلحة ، اللغة : البغاة جمع الباغي : الّذي يتجاوز قدره. مندم مصدر ميمي بمعنى الندم ، وخيم من وخم المكان أي : كان غير موافق لأن يسكن.

(٣) هو للطرماح بن حكيم.

٢٤٦

١٨٣ ـ حنّت نوار ولات هنّا حنّت

وبدا الّذي كانت نوار أجنّت (١)

فقالوا : إنّ هنّا اسم لات ، وحنّت خبرها على حذف مضاف ، والتقدير وليس ذلك الوقت وقت حنين. قال ابن مالك : وهو ضعيف ، لأنّ فيه إخراج هنا عن الظرفيّة ، وهو من الظروف الّتي لا تتصرّف ، وفيه أيضا إعمال لات في معرفة ظاهرة ، وإنّما تعمل في نكرة ، انتهى.

والأصحّ أنّها لم تعمل شيئا ، بل هي مهملة ، لا اسم لها ، ولا خبر ، وهنا في موضع نصب على الظرفيه ، لأنّه إشارة إلى مكان ، وحنّت مع أنّ مقدّرة قبلها في موضع رفع بالابتداء ، والخبر هنا والتقدير حنّت نوار ، ولا هنا لك حنين كذا قال الفارسيّ ، وشذّ مجيء غير الظرف بعدها مرفوعا كقوله [من الكامل] :

١٨٤ ـ لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حيث لات مجير (٢)

وارتفاع مجير على الابتداء أو على الفاعلية ، والتقدير حين لات له مجيرأ ، ويحصل له مجير ، ولات مهملة ، وزعم الفرّاء أنّ لات تستعمل حرفا جارّا لأسماء الزمان خاصّة ، كما أنّ مذ ومنذ كذلك وأنشد [من الخفيف] :

١٨٥ ـ طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء (٣)

وأجيب بأنّ الأصل ليس الأوان أوان صلح ، فحذف اسمها ، وما أضيف إليه خبرها مقدّر الثبوت ، فيبني كما فعل بقبل وبعد ، إلا أنّ الأوان لشبهه بترال وزنا بني على الكسر ، ونوّن اضطرارا.

ووجب حذف أحد جزئيها من الاسم والخبر ، وكثر حذف اسمها وبقاء الخبر لكونه محطّ الفائدة ، نحو قوله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص / ٣] ، في القراءة المشهورة بنصب حين على أنّه خبرها ، واسمها محذوف ، أي ليس الحين حين مناص ، وقريء في الشواذ (٤) برفع الحين ، على أنّه اسمها ، وخبرها محذوف ، أي ليس حين فرار حينا لهم. قال بعضهم : وكان القياس أن يكون هذا هو الغالب ، بل كان ينبغي أن حذف المرفوع لا يجوز ألبتّة ، لأنّ مرفوعها محمول على مرفوع ليس ومرفوع ليس لا يحذف ، وهذا فرع تصرّفوا فيه ما لم يتصرّفوا في أصله.

__________________

(١) هو لشبيببن جعيل الثّعلبي. كان بنو قتيه بن معين أسروه في حرب فأنشد ذلك يخاطب أمّه نوار بنت عمرو بن كلثوم. اللغة : حنت : من الحنين ، وهو الشوق ، أجنّت : سترت.

(٢) البيت لشمردل بن شريك الليثي في الرثاء. اللغة : يبغي : يطلب ، المجير : اسم فاعل من أجار بمعنى أنقذ وحمي.

(٣) هو لأبيه زبيد الطائي «حرملة بن المنذر». اللغة : الأوان : الوقت ، الحين.

(٤) «وقري في الشواذ» سقط في «س».

٢٤٧

إن النافية والكلام على إعمالها : تتمّة : لم يتعرّض المصنّف لذكر إن النافية ، لأنّ إعمالها نادر ، كما ذهب إليه ابن مالك ، بل ذهب الفرّاء واكثر البصريّين إلى المنع وأجازه الكسائيّ وأكثر الكوفيّين وأبو بكر (١) وأبو على وأبو الفتح واختلف النقل عن سيبويه والمبرّد. فنقل السهيليّ الإجازة عن سيبويه والمنع عن المبرّد وعكس ذلك النحاس ونقل ابن مالك عنهما الاجازة.

وإعمالها لغة أهل العالية وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة ، ويعتبر فيها من الشروط ما اعتبر في ما إلا عدم زيادة إن ، فإنّها لا تزاد معها كلا نحو قول بعضهم : إن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية ، وإن ذلك نافعك ولا ضارّك. وأنشد الكسائيّ [من المنسرح] :

١٨٦ ـ إن هو مستوليا على أحد

إلا على أضعف المجانين (٢)

وخرّج ابن جنيّ وغيره على ذلك قراءة وسعيد بن جبير (٣) إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم [الأعراف / ١٩٤] بتخفيف إن وكسرها لالتقاء الساكنين ونصب عبادا على الخبريّة وأمثالكم على أنّه نعت لعباد والمعنى ليس الأصنام الّذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم في الاتصاف بالعقل ، فلو كانوا أمثالكم فعبدتموهم لكنتم بذلك مخطئين ضالين ، فكيف حالكم في عبادة من هو دونكم بعدم الحيوة والإدراك.

__________________

(١) هناك كثير من النحاة الكبار باسم أبي بكر مثل ابن الخياط ، ابن السراج ، ابن دريد.

(٢) لم يسم قائله اللغة : مستوليا : اسم الفاعل من استولي ، ومعناه كانت له الولاية على الشيء.

(٣) سعيد بن جبير الاسدي ، تابعيّ ، كان أعلمهم على الاطلاق ، قتله الحجّاج سنة ٩٥ ه‍. ق الأعلام للزركلي ، ٣ / ١٤٥.

٢٤٨

لا النافية للجنس

ص : الرابع : لا النّافية للجنس ، وتعمل عمل إنّ ، بشرط عدم دخول جارّ عليها ، واسمها إن كان مضافا أو شبيها به نصب ، وإلا بني على ما ينصب به ، نحو : لا رجل ، ولا رجلين في الدّار ، ويشترط تنكيره ومباشرته لها ، فان عرّف او فصّل أهملت وكرّرت ، نحو : لا زيد في الدّار ولا عمرو ، ولا في الدّار رجل ولا امرأة.

تبصرة : ولك في نحو : ولا حول ولا قوّة إلا بالله ، خمسة أوجه : الأوّل : فتحهما على الأصل ، الثاني : رفعهما على الابتداء ، أو على الإعمال ، كليس ، الثالث : فتح الأوّل ورفع الثاني بالعطف على المحلّ ، أو بإعمال الثانية ، كليس ، الرّابع : عكس الثالث على إعمال الأولى كليس ، أو إلغائها ، الخامس : فتح الأوّل ونصب الثاني بالعطف على لفظه ، لمشابهة الفتح النّصب.

ش : النوع الرابع من أنواع النواسخ لا النافية للجنس ، أي جنس اسمها ، إن مفردا فمفرد ، أو مثنى فمثنى ، أو جمعا فجمعا ، ومعنى نفي الجنس في المثنّى والجمع نفي كلّ مثنى وكلّ جمع ، وخرج بالنافية لا الناهية ، فإنّها تختصّ بالمضارع ، والزائدة فلا تعمل شيئا ، وبقوله للجنس النافية للوحدة ، والمراد نصّا بقرينة المقام ، وذلك بحيث لا يشذّ عنه فرد من أفراده ، فخرجت النافية له احتمالا ، فإنّهما يعملان عمل ليس كما مرّ.

تنبيه : قال صاحب الفوائد الضيائية وغيره : هذه العبارة محمولة على تقدير مضاف ، أي نافية لصفة الجنس ، إذ لا رجل قائم مثلا لنفي القيام عن الرجل لا لنفي الرجل نفسه ، وتعقّبه عصام الدين في حاشيته فقال فيه : إنّ لا رجل بتقدير لا رجل موجود ، لنفي نفس الرّجل لا لنفي صفته ، والوجود وإن كان صفة لكن إذا نفي عن الشيء يقال : نفي الشيء ، ولا يقال نفي صفة الشيء ، إذ نفي الشيء ليس إلا نفي وجوده ، فنفي الصفة صار بمعنى نفي غير الوجود ، فلا كما تكون لنفي صفة الجنس تكون لنفي الجنس ، فلو حمل قولهم لا لنفي الجنس على نفي صفة الجنس لم تتمّ التسمية فيما هو لنفي الوجود ، ولو حمل على نفي الجنس لم تتمّ فيما هو لنفي صفة الجنس (١) فلا بدّ في التسمية من ملاحظة بعض الأفراد ، وحينئذ يصحّ حمل العبارة على ظاهرها ، فلا حاجة إلى صرفها عنه ، انتهى.

وقال في شرح الكافية : سمّيت بذلك لأنّها للنفي عن الجنس ، فالاضافة لأدني ملابسة ، والنفي عن الجنس يعمّ نفي الوجود ونفي الصفة ، انتهى.

__________________

(١) سقطت «لم تتمّ فيما هو لنفي صفة الجنس» في «س».

٢٤٩

والأولى ما جرى عليه في شرح الفريد (١) من حمل العبارة على ظاهرها لا على تقدير المضاف ولا على جعل الإضافة لأدني ملابسة موجّها لترجيح اعتبار قسم نفي الوجود بكون كلمة الشهادة من أفراده.

تسمّى لا المذكورة لا التبرئة : فائدة : وتسمّى لا هذه لا التبرئة ، لأنّها تنفي الجنس ، فكأنّها تدلّ على البراءة منه ، قاله الأندلسيّ ، وقضية ذلك إطلاقها على النافية مطلقا لاشتمالها على التبرّي ، بل على كلّ أدوات النفي ، ولكنّهم خصّوها بهذه ، لأنّه فيها أمكن من غيرها لما فيها من تأكيد النفي.

قال الدمامينيّ : وجعلت نفس التبرئة مبالغة كما في زيد عدل ، وعليه فالتبرئة صفة للا بالتأويل المذكور ، ولا يقال : إنّه على حذف مضاف ، أي ذات التبرئة لفوات المبالغة ، ويحتمل أن تكون مضافة للتبرئة على حدّ قوله [من الطويل] :

١٨٧ ـ علا زيدنا يوم النّقا رأس زيدكم

 ... (٢)

انتهى ، وفيه نظر.

و «تعمل» لا المذكورة «عمل إنّ» ، فتنصب الاسم ، وترفع الخبر لمناسبتها لها في إفادة المبالغة ، فإنّها للمبالغة في النفي ، كما أنّ إنّ للمبالغة في الإثبات ، فيكون من باب حمل النظير على النظير ، أو النقيض على النقيض ، كذا قال غير واحد ، وانتقد بأنّ اختصاص إنّ بالاثبات غير صحيح لصحّة مثل قولنا : إنّ زيدا ليس بقائم قطعا ، انتهى.

وفيه بحث لأنّ إنّ لتوكيد النسبة بين اسمها وخبرها ، وهي لا تكون إلا ثبوتا ، وإن كان نفس خبرها نفيا ، «بشرط عدم دخول جارّ عليها» ، فإن دخل عليها ، كان العمل له ، ووجب الجرّ لقوّة الجارّ ، ولأنّ لا لا تحول بين العامل وعمله ، نحو : جئت بلا زاد ، وغضب من لا شيء.

قال ابن هشام وعن الكوفيّين : إنّ لا هنا اسم بمعنى غير ، وإنّ الخافض دخل عليها نفسها ، وإنّ ما بعدها خفض بالإضافة ، وغيرهم يراها حرفا ، ويسمّيها زائدة ، كما يسمّون كان في نحو : زيد كان فاضل زائدة وإن كانت مفيدة لمعنى ، وهو المضيّ والانقطاع ، فعلم أنّهم قد يريدون بالزائد المعترض بين شيئين متطالبين ، وإن لم يصحّ

__________________

(١) الفريد في النحو لعصام الدين ابراهيم بن محمد الاسفرائني المتوفى سنه ٩٤٥ ه‍. ق وشرحه له ايضا. كشف الظنون ٢ / ١٢٥٩.

(٢) تمامه «بأبيض ماض الشفرتين يمان» ، والبيت لرجل من طّي. اللغة : علا : فعل ماض بمعنى رفع ، وزيد في الموضعين علم ، يوم النقا : يوم الحرب عند النقاء. والنقاء : كثيب الرمل ، أبيض : السيف ، الماضي : القاطع ، الشفريّين : تثنية شفرة وشفرة السيف : حدّه ، واليمان : نسبة إلى إليمن.

٢٥٠

أصلا لمعنى بإسقاطه كما في مسألة غضب من لا شيء ، وكذا إذا كان يفوت بإسقاطه معنى كما في مسألة كان ، انتهى.

وشذّ جئت بلا شيء بالفتح على الإعمال والتركيب ، ووجهه أنّ الجارّ دخل بعد التركيب ، نحو : لا خمسة عشر ، وليس حرف الجرّ معلّقا ، بل لا وما ركّب معها في موضع جرّ ، لأنّهما جريا مجرى الاسم الواحد ، قاله ابن جنيّ ، وقال في الخاطريات : إنّ لا نصبت شيء ، ولا خبر لها ، لأنّها صارت فضلة ، نقله عن أبي على وأقرّه.

فان كان «اسمها» أي اسم لا «مضافا» إلى نكرة «أو شبيها به» ، أي بالمضاف ، وهو ما اتّصل به شيء من تمام معناه ، سواء كان ذلك الشيء مرفوعا ، نحو : لا حسنا فعله مذموم ، أو منصوبا ، نحو : لا طالعا جبلا حاضر ، أو مجرورا ، نحو : لا خيرا من زيد موجود ، وسمّي مشبّها به لعمله فيما بعده كالمضاف ، ويسمّى المطول والمطول من مطلت الحديد إذا مددتها ، «نصب» أي ظهر نصبه ، وكان معربا باتّفاق كما مرّ ، و «إلا» يكن مضافا أو مشبها به بأن كان مفردا أو مثنى أو مجموعا (١) «بني» ، واختلف في علّة بنائه فقيل : لتضمّنه معنى من الاستغراقية بدليل ظهوره في قوله [من الطويل] :

١٨٨ ـ ...

وقال ألا لا من سبيل إلى هند (٢)

قال الرضيّ : وهو الحقّ ، لأنّ قولك : لا رجل ، نصّ في نفي الجنس بمترلة لا من رجل ، بخلاف لا رجل في الدار بالرفع ، كما أنّ ما جاءني من رجل نصّ في الاستغراق بخلاف ما جاءني رجل ، إذ يجوز أن يقال : لا رجل في الدار بل رجلان ، وما جاءني رجل بل رجلان ، ولا يجوز لا رجل في الدار ، بالفتح ، بل رجلان ، ولا ما جاءني من رجل بل رجلان ، فلمّا أرادوا التنصيص على الاستغراق ، ضمّنوا الاسم النكرة معنى من فبنوها ، انتهى.

وفيه بحث ، أورده ابن الضائع (٣) بأنّ المتضمّن لمعنى من أنّما هو لا نفسها ، لا الاسم النكرة بعدها ، وقيل : لتركيبه مع لا تركيب خمسة عشر ، وهو رأي سيبويه والجمهور ، ويؤيّده أنّهم إذا فصلوا أعربوا ، فقالوا : لا فيها رجل ولا امراة ، وقد جاء تركيب الحرف المؤخر كقوله [من الرجز] :

١٨٩ ـ أثور ما أصيدكم أم ثورين

 ... (٤)

__________________

(١) سقط مجموعا في «ح».

(٢) تمامه «فقام يذود الناس عنها بسيفه». لم يسمّ قائله. اللغة : يذود : يدفع.

(٣) على بن محمد بن على بن يوسف أبو الحسن المعروف بابن الضائع ، بلغ الغاية في فن النحو وله : شرح الجمل ، شرح كتاب سيبويه ، مات سنة ٦٨٠ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٢٠٤.

(٤) تمامه «أم تيكم الجمّاء ذات القرنين» ، وهو مجهول القائل. اللغة : الثور : الذكر من البقر ، الغفير ، الكثير.

٢٥١

ودليل التركيب والبناء ترك تنوينه ، وهو مفعول مقدّم لأصيد ، وأمّا كم فعلى التوسّع بإسقاط اللام ، والمعنى أصيد لكم ثورا أم ثورين ، قاله في التصريح ، قيل : وفي الدليل بحث لجواز أن يكون ممّا حذف فيه التنوين للضرورة ، فتامّل.

وبناؤه «على ما» كان «ينصب به» لو كان معربا ، فإن كان ينصب بالفتحة بني عليها ، وذلك إذا كان مفردا لفظا ومعنى (١) أو لفظا فقط ، أو جمع تكسير لمذكّر أو مونث ، نحو : «لا رجل» ولا قوم ولا رجال ولا هنود «في الدار» ، ومنه لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت.

فإن كان ينصب بالياء بني عليها ، وذلك إذا كان مثنّى أو مجموعا على حدّه ، نحو : «لارجلين في الدار» ولا مسلمين قائمون عندك ، وعن المبرّد أنّ هذا معرب لبعده بالتثنية والجمع عن مشابهة الحرف ، ولو صحّ للزم ذلك في نحو : يا زيدان ويا زيدون ، ولا قائل به. وإن كان ينصب بالكسرة بني عليها من غير تنوين ، وذلك إذا كان ممّا يجمع بألف وتاء ، نحو : لا مسلمات ، هذا قضيّة كلامه ، وهو قول الأكثرين ، وفيه ثلاثة أقوال أخر :

أحدها : كهذا ، إلا أنّه ينوّن ، لأنّ تنوينه للمقابلة لا للتمكين ، فلا ينافي البناء ، جزم به ابن مالك في «سبك المنظوم (٢)» ، ونقله ابن الدهان عن قوم ، وتابعه ابن خروف.

الثاني : أنّه يفتح لأنّ الحركة ليست له ، بل لمجموع المركّب ، وهو لا والاسم قاله المازنيّ والفارسيّ ، وهو حسن في القياس ، ورجّحه الرضيّ وابن هشام.

الثالث : أنّه يجوز الفتح والكسر بغير تنوين وهو الحقّ لثبوته عن العرب ، وقد روى بهما قوله [من البسيط] :

١٩٠ ـ إنّ الشّباب الّذي مجد عواقبه

فيه نلذّ ولا لذّات للشيب (٣)

فلا وجه بعد هذا للاختلاف ، ولذلك قيل : لو وافقوا على السّماع لما اختلفوا (٤) قال الرضيّ : وإنّما بني هذا النوع على ما ينصب به ليكون البناء على حركة استحقتها النكرة في الأصل قبل البناء ولم يبن المضاف ولا شبهه ، لأنّ الإضافة ترجّح جانب الاسميّة ، فيصير الاسم بها إلى ما يستحقّه في الأصل ، أعني الإعراب ، ولا يكون المضاف مبنيّا نادرا ، نحو خمسة عشرك.

__________________

(١) سقط لفظا ومعنى في «س».

(٢) سبك المنظوم وفك المختوم لابن مالك محمد بن عبد الله النحوي المتوفى سنة ٦٧٢ ه‍. ق. كشف الظنون ٢ / ٩٧٨.

(٣) البيت لسلامة بن جندل السعدى. اللغة : الشيب : جمع أشيب وهو الّذي ابيضّ شعره.

(٤) سقطت هذه العبارة في «س».

٢٥٢

تنبيه : نحو لا وتران في ليلة ، قيل : الألف فيه نائبة عن الفتحة على لغة بلحارث ، فيبني على الألف ، قال بعض المحقّقين : وفيه نظر ، فإنّ المنقول أنّ المثنّى في هذه اللغة معرب بحركات مقدّرة على الألف ، فقضيّة ذلك أن يكون بناؤه فيها على الفتح تقديرا لا على الألف.

«ويشترط» لعمل لا «تنكيره» أي تنكير اسمها ، ليدلّ بوقوعه في سياق النفي على العموم وكذا خبرها (١) ، إذ لا يخبر بمعرفة عن نكرة ، فلا تعمل في معرفة إلا بتأويله بالنكرة كقوله عليه السّلام : إذا هلك كسري فلا كسري بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده (٢). وقول عمر : قضية ولا أبا حسن لها ، وقوله [من الرجز] :

١٩١ ـ لا هيثم الليلة للمطيّ

 ... (٣)

قيل : التقدير لا مثل كسري ، وكذا البواقي ، وإليه جنح ابن الحاجب ، وقيل : ولا مسمّي هذا الاسم ، أو ولا واحد من مسمّيات هذا الاسم ، قال ابن مالك : لا يؤوّل بتأويل واحد بل يؤوّل كلّ بما يليق. وحكى الرضيّ عن الفرّاء : أنّه أجاز إجراء المعرفة مجرى النكرة بأحد التأويلين في الضمير واسم الإشارة أيضا ، نحو : لا أباه هاهنا ، ولا هذا قال وهو بعيد غير مسموع.

«و» يشترط أيضا «مباشرته» أي مباشرة اسمها لها بأن لا يفصل بينها وبينه فاصل لضعفها في العمل (٤) ، فلو فصل بينها وبينه بعد عنها فلا تقدر على العمل فيه ، لأنّها عامل ضعيف إذ هي فرع إنّ وإنّ فرع الفعل ، فهي فرع الفرع (٥).

فتلخّص ممّا مرّ إلى هنا أنّ شروط لا في العمل أربعة : الأوّل : أن يقصد بهما نفي الجنس على سبيل التنصيص ، الثاني : أن لا يدخل عليها جارّة ، الثالث : أن يكون اسمها وخبرها نكرتين ، الرابع : أن لا يفصل بينها وبين اسمها فاصل. فإذا توفّرت هذه الشروط عملت وجوبا ، إن أفردت ، وجوازا إن كرّرت.

واختلف في عملها في الخبر مع التركيب ، فذهب قوم إلى أنّه لا عمل لها فيه معه لضعفها به عن العمل فيما تباعد عنها ، بل النكرة مع لا في موضع رفع بالابتداء ، والخبر

__________________

(١) الزمخشري في «المفصّل» يروى عن سيبويه : أنّ كل شيء حسن لك أن تعمل فيه «ربّ» حسن لك أن تعمل فيه «لا». المفصّل في صنعة الإعراب ، ص ١١٢.

(٢) سنن الترمذي ، لابي عيسى محمد بن عيسى ، لاط ، دار الفكر ، بيروت ، لات ، ٤ / ٤٣١ ، رقم ٢٢١٦.

(٣) هو لبعض بني دبير ، وتمامه : «ولا فتي إلا ابن خيبريّ». اللغة : هيثم : اسم رجل كان حسن الحداء للإبل ، المطي : جمع المطية ، وهي من الدواب : ما يمتطي.

(٤) إضافة على هذا يمكن القول أنّ لا النافية مع اسمها في حكم كلمة واحدة ، وهما في محلّ رفع مبتدأ ، ولا يمكن الفصل بين كلمة واحدة.

(٥) سقطت هذه الجملة في «س».

٢٥٣

خبر المبتدأ ، فهو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها بدليل حمل جميع توابعها على الموضع قبل الخبر ، ولو لا أنّها في موضع رفع بالابتداء لم يجز ذلك ، وقيل : بل هي عاملة في الاسم والخبر معا ، وهو مذهب الجمهور ، وصحّحه ابن مالك ، قال : لأنّ كلّ ما استحقّت به العمل من المناسبات باق فليبق ما ثبت بسببه ، ولا يضرّ التركيب كما لم يضرّ أنّ صيرورتها بفتح الهمزه مع معموليها كشيء واحد ، ولو كان جعل لا مع اسمها كشيء واحد مانعا من العمل في الخبر لمنعها من العمل في الاسم فلا يمنع عملها في الخبر ، وأيضا إنّ عمل لا في الخبر أولى من عملها في الاسم ، لأنّ تاثيرها في معناه أشدّ من تاثيرها في معنى الاسم ، انتهى.

ونسب إلى ظاهر مذهب سيبويه ، وصرّح ابن هشام في حواشيه على التسهيل أنّ سيبويه يرى في لا رجل أنّ كلمة «لا» لا عمل لها في الاسم ، ولا في الخبر ، لأنّها صارت جزء كلمة ، لهذا جعل النصب في لا رجل ظريفا كالرفع في يا زيد الفاضل لا على محلّ الاسم بعد لا ، وبه صرّح في المغني أيضا. فتلخّص في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها : عملها في الاسم دون الخبر ، الثاني : عملها فيهما جميعا ، الثالث : منعه فيهما جميعا. وتظهر جدوى الخلاف في نحو قوله [من الوافر] :

١٩٢ ـ فلا لغو ولا تأثيم فيها

 ... (١)

فعلى القول الأوّل والثالث تكون «فيها» خبرا عن المبتدأين ، وعلى القول الثاني يمتنع لاستلزامه توارد عاملين على معمول واحد ، فيكون فيها خبرا عن أحد المبتدأين ، وخبر الآخر محذوفا ، دلّ عليه المذكور.

فإن «عرّف» اسمها أو «فصّل» بينه وبينها بفاصل «أهملت» وجوبا لما مرّ فيرجع ما بعدها إلى الأصل ، ويرفع على أنّه مبتدأ وخبر ، وخالف الكوفيّون في التعريف ، فأجازوا بناء العلم ، وأبو عثمان (٢) في الفصل ، فأجاز معه العمل ، ولكنّه لا يبني ، وقد جاء في السعة لا منها بدّ ، بالبناء مع الفصل ، وليس ممّا يؤوّل عليه ،

قاله ابن هشام في حواشي التسهيل «وكرّرت» وجوبا عند سيبويه والجمهور في غير الضرورة ، أمّا مع المعرفة فليكون التكرار خبرا لما فاتها من نفي الجنس الّذي لا يمكن حصوله مع المعرفة ، لأنّ نفي الجنس هو تكرار النفي في الحقيقة.

__________________

(١) تمام البيت «ولا حين ولا فيها مليم» ، هو من قصيدة لأمية بن أبي الصلت ، يذكر فيها أوصاف الجنّة وأهلها وأهوال يوم القيامة وأهلها. اللغة : اللغو : قول باطل ، التأثيم : نسبة الاثم إلى الغير ، الحين : هلاك وفناء ، المليم. هو الّذي يفعل ما يلام عليه.

(٢) لعله أبو عثمان المازني ، وقد تقدّم ذكره.

٢٥٤

وأمّا مع الفصل فيكون تنبيها على أنّها لنفي الجنس في النكرة بخلاف ما إذا كانت عاملة عمل أنّ ، فعملها كاف في هذه التنبيه ، فتكرارها مع المعرفة ، «نحو : لا زيد في الدار ولا عمرو». وقوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس / ٤٠] ، ومع الفصل نحو : لا في الدار رجل ولا امرأة. وقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات / ٤٠].

معنى لا نولك أن تفعل : وأجاز ابن كيسان والمبرّد عدم التكرار محتجّين بقوله : لا نولك أن تفعل ، وردّ بأنّه واقع موقع لا ينبغي ، فلا هذه في المعنى هي الداخلة على المضارع ، وتلك لا يلزم تكرارها ، والنول مصدر بمعنى التناول وهو هاهنا بمعنى المفعول ، أي ليس متناولك ومأخوذك هذا الفعل ، أي لا ينبغي أن تأخذه وتتناوله قاله الرضيّ ، ومن عدم تكرارها ضرورة قوله [من الطويل] :

١٩٣ ـ بكت جزعا واسترجعت ثمّ آذنت

ركائبها أن لا إلينا رجوعها (١)

في لا حول ولا قوّة إلا بالله خمسة أوجه : هذه «تصبرة ولك» في كلّ موضع كرّرت فيه «لا» على سبيل العطف وكان عقيب كلّ منهما نكرة مفردة بلا فصل نحو : «لا حول» أي عن المعصية ، «ولا قوّة» أي على الطاعة إلا بالله «خمسة أوجه» من الإعراب بالنسبه إلى المجموع :

أحدها : «فتحهما» أي فتح ما بعد لا الأولى وما بعد لا الثانية «على الأصل» من جعل لا في الموضعين لنفي الجنس ، فتبني اسميها كما لو انفردت كلّ منهما عن صاحبتها ، وتقدّر لكلّ منهما خبرا ، أي لا حول موجود ولا قوّة موجودة لنا ، فالكلام حينئذ جملتان. قال ابن الحاجب في شرح المفصل (٢) : ويبقي الإشكال في الاستثناء الواقع بعده ، وهو في المعنى راجع إلى الجملتين ، والاستثناء إذا استعقب الجملتين إنّما يكون للثانية. قال : وأشبه ما يقال إنّ الحول والقوّة لمّا كانا بمعنى كان كأنّه تكرار ، فصحّ رجوع الاستثناء إليهما لتنزّلهما منزلة شيء واحد ، انتهى.

ويجوز أن تقدّر لهما خبرا واحدا ، أي لا حول ولا قوّة موجودان لنا ، أمّا عند سيبويه على ما نقله عنه ابن مالك فلأنّ لا لا تعمل في الخبر مع التركيب ، فهي مع اسمها في

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغه : الجزع : الخوف ، استرجعت : طلبت الرجوع من الرحيل لصعوبة فراق الأحبّة ، آذنت : أعلمت الركائب : جمع الركوبة : المطيّ.

(٢) المفصل في النحو للعلامة جار الله الزمخشري المتوفى ٥٣٨ ه‍ ، وقد اعتني عليه أئمة هذا الفن فشرحه الشيخ أبو عمرو بن عثمان المعروف بابن الحاجب وسماه الإيضاح ، كشف الظنون ٢ / ١٧٧٤.

٢٥٥

موضع رفع ، ولا قوّة مبتدأ معطوف على مبتدأ ، والمقدّر مرفوع بأنّه خبر المبتدأ لا لها ، فيكون الكلام حينئذ جملة واحدة ، نحو زيد وعمرو ضاربان ، وأمّا عند الجمهور فإنّها وإن كانتا عاملتين في الخبر إلا إنّهما لتماثلهما جاز أن تعملا فيه عملا واحدا ، كما في إنّ زيدا وإنّ عمرا قائمان ، وإنّما الممتنع أن يعمل عاملان مختلفان في حالة واحدة عملا واحدا في معمول واحد قياسا على امتناع حصول أثر من مؤثّرين.

و «الثاني : رفعهما» على جواز الإلغاء عند التكرار فيكون الاسمان مرفوعين بالابتداء ، ولا الثانية إمّا زائدة أو ملغاة كالأولى ، ومذهب سيبويه وغيره في هذا الوجه واحد ، إذ لا عامل هنا إلا الابتداء فقط ، فلك أن تقدّر لكلّ واحد خبرا ، فالكلام جملتان ولهما معا خبرا واحدا ، والكلام جملة واحدة ، أو على الإعمال ، أي إعمال لا كليس ، فيكون الاسمان مرفوعين بها في الموضعين إن جعلتهما معا عاملتين عملها ، فلك أيضا أن تقدّر خبرا واحدا أو خبرين ، ووحدة الجملة وتعدّدها بحسب ذلك ، وإن جعلت الأولى كليس فقط والثانية ملغاة أو زائدة أو بالعكس ، وجب تقدير خبرين ، ولا يجوز تقدير خبر واحد ، لئلا يلزم محذوران كون الخبر الواحد مرفوعا منصوبا وتوارد عاملين مختلفين على معمول واحد.

و «الثالث : فتح الأوّل» على جعل لا الأولى عاملة عمل أنّ ، «ورفع الثاني» على أنّ لا الثانية زائدة لتأكيد النفي أو ملغاة ، ورفعه «بالعطف على المحلّ» أي محلّ لا الأولى مع اسمها ، فعند سيبويه يجوز أن تقدّر لهما خبرا واحدا لكونه خبرا لمبتدأ وما عطف عليه ، وعند غيره لا بدّ لكلّ واحد من خبر منفرد ، لئلّا تجتمع لا والابتداء في رفع الخبر ، وهذا التقدير جاز في جعلها زائدة أو ملغاة على حدّ سواء ، أو رفعه على إعمال لا الثانية كليس ، فيكون مرفوعا بها ويلزم تقدير (١) خبر لها على حيالها ولا يجعل الخبر لهما جميعا ، وإلا لزم محذوان ، كما سبق في الوجه الثاني ، فيكون الكلام على هذا جملتين.

و «الرابع : عكس الثالث» وهو رفع الأوّل وفتح الثاني ، فرفع الأوّل «على إعمال» لا «الأولى كليس» فيكون مرفوعا بها «أو» على «إلغائها» فيكون مرفوعا بالابتداء ، وفتح الثاني على إعمال لا عمل نّ ، وتقدير الخبر في هذا الوجه كالّذي قبله سواء على المذهبين.

و «الخامس : فتح الأوّل» على أنّ الأولى عاملة عمل إنّ ، «ونصب الثاني» على أنّ لا الثانية زائدة لتأكيد النفي ، ونصبه «بالعطف» على محلّ اسم لا الأولى عند ابن مالك و «على لفظه» عند غيره ، لأنّه لما اطّرد في لا بناء اسمها معها على الفتح تترّلت مترلة

__________________

(١) يلزم تقديم «ح».

٢٥٦

العامل المحدث للفتحة الإعرابيّة فعطف عليه لفظا لمشابهة الفتح فيه النصب ، وأما الخبر فلا يجوز عند سيبويه أن يقدّر لهما خبرا واحدا بعدهما ، لأنّ خبرما بعد لا الأولى مرفوع عنده بما كان مرفوعا به قبل دخول لا ، وخبر ما بعد لا الثانية مرفوع بلا الأولى ، لأنّ الناصبة لاسمها عاملة عنده في الخبر وفاقا لغيره ، فيلزم ارتفاع الخبر بعاملين مختلفين ولا يجوز ، فيجب أن تقدّر لكلّ منهما خبرا على حياله ، فيكون الكلام عنده جملتين.

كذا قرّره الرضيّ وعند غيره يجوز تقدير خبر واحد لهما ، لأنّ العامل عندهم ، لا وحدها فيكون الكلام حينئذ جملة واحدة ، ويجوز أن تقدّر عندهم لكلّ خبرا ، فيكون الكلام عندهم جملتين أيضا ، هذا الوجه أضعف الوجوه حتى خصّه يونس وجماعة بالضرورة ، لأن نصب الاسم (١) مع وجود لا ضعيف ، والقياس فتحه بلا تنوين ، فهو عندهم كتنوين المنادى المفرد المعرفة ، وجعله الزمخشري منصوبا على إضمار فعل ، أي ولا أري قوّة.

تنبيهان : الأوّل : هذه الخمسة الأوجه مأخوذة من اثني عشر وجها ، وذلك لأنّ ما بعد لا الأولى يجوز فيه البناء على الفتح ، والرفع على الإلغاء ، الرفع على إعمالها عمل ليس فهذه ثلاثة ، وما بعد لا الثانية يجوز فيه ذلك ، ووجه رابع ، وهو النصب. وإذا ضربت هذه الأربعة في الثلاثة الأوّل بلغت اثني عشر ، وكلّها جائز إلا اثنين ، وهما رفع الأوّل على الإلغاء أو على الإعمال عمل ليس ونصب الثاني. وأنهاها ابن الفخار (٢) في شرح الجمل إلى مائة وواحد وثلاثين وجها ، قاله في التصريح.

الثاني : إذا لم تتكرّر لا مع المعطوف وجب فتح الأوّل وجاز في الثاني الرفع والنصب كقوله [من الطويل] :

١٩٤ ـ لا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا (٣)

روى وابن بالرفع عطفا على محلّ لا مع اسمها ، وبالنصب عطفا على محلّ اسمها باعتبار عملها ، وربّما فتح منوّنا معه لا. حكى الأخفش : لا رجل وامرأة بالفتح. وهو شاذّ.

__________________

(١) لأنّ نصب الاسم المفرد «ح».

(٢) محمد بن على بن أحمد يعرف بابن الفخار ، كان مبرّزا أمام أعلام البصريين من النحاة ، مات سنة ٧٥٤ ه‍. بغية الوعاة ١ / ١٧٤.

(٣) هو للربيع بن الفزاريّ. اللغة : مروان : أراد به مروان الحكم ، ابنه : أراد به عبد الملك بن مروان ، ارتدي وتأزّرا : كنى بإرتدائه المجد وتأزّر به عن ثبوته له أفرد الضمير تعويلا على أن إسناد شيء إلى أحدهما كإسناده إليهما جميعا إذ كان الغرض مدحهما معا.

٢٥٧

يكثر حذف خبر لا إذا علم عند حجازيّين وعند التميميّين : تتمّة : يكثر حذف خبر لا إذا علم عند الحجازيّين ، ويجب عند التميميّين والطائيّين ، نحو (قالُوا لا ضَيْرَ) [الشعراء / ٥٠] ، أي علينا ، و (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد / ١٩] ، أي لنا أو نحو ذلك ، فإن جهل وجب ذكره عنذ جميع العرب ، نحو [قوله (ص)] : لا أحد أغير من الله (١). قال ابن مالك : ومن نسب إلى تميم الحذف مطلقا فقد غلط ، وربّما أبقي الخبر وحذف الاسم ، نحو : لا عليك ، أي لا بأس ، أو لا جناح ، ولا يحذفان معا لئلّا يكون إجحافا ، قيل : يحذفان ، لأنّ كلّ واحد ثبت له جواز الحذف ، فلا ضير إذا جمع جائز إلى جائز ، وخرّج بعضهم على ذلك قوله [من الوافر] :

١٩٥ ـ فخير نحن عند الناس منكم

إذا الدّاعي المثوّب قال يا لا (٢)

أي يا قوم لا قرار.

أفعال المقاربة

ص : الخامس : أفعال المقاربة : وهي كاد وكرب واوشك (لدنوّ الخبر) وعسى (لرجائه) وأنشأ وطفق (للشروع فيه) وأخبارها جمل مبدوّة بمضارع ، ويغلب في الأولين تجرّده عن أن ، نحو : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ،) وفي الأوسطين اقترانه بها ، نحو :

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ،) وهي في الأخيرتين ممتنعة ، نحو : طفق زيد يكتب ، وعسى وأنشأ وكرب ملازمة للمضيّ ، وجاء يكاد ويوشك ويطفق.

تتمّة : يختصّ عسى وأوشك باستغنائهما عن الخبر ، في نحو : عسى أن يقوم زيد وإذا قلت : زيد عسى أن يقوم ، فلك وجهان : إعمالها في ضمير زيد فما بعدها خبرها ، وتفريغها عنه فما بعدها اسم مغن عن الخبر ، ويظهر أثر ذلك في التأنيث والتثنية والجمع ، فعلى الأوّل تقول : هند عست أن تقوم ، والزّيدان عسا أن يقوما ، والزّيدون عسوا أن يقوموا وعلى الثاني : عسى في الجميع.

ش : النوع «الخامس» من أنواع النواسخ «أفعال المقاربة» ، مصدر قارب ، وصيغة فاعل بفتح ثالثه ، قد تأتي بمعنى الأصل ، وهو المراد هنا ، فالمقاربة بمعنى القرب ، وقد تسمّي نواسخ ونواقص أيضا على نحو ما مرّ.

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٣ / ٣٩٦ رقم ١٠٦٣.

(٢) هو لزهير بن مسعود الضبتّي. اللغة : الداعي : فاعل من الدعاء بمعنى الطلب ، المثوب : من التثويب ، أصله أن يجئ الرجل مستصرخا فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر.

٢٥٨

وتسميتها بما قاله مجاز مرسل من باب تسمية الكلّ باسم جزئه كتسميتهم الكلام بالكلمة ، وربيئة القوم عينا ، لأنّها باعتبار معانيها ثلاثة أقسام : ما يدلّ على قرب خبرها ، وما يدلّ على ترجّيه ، وما يدلّ على الشروع فيه كما يعلم من كلامه الآتي ، وإنّما خصّوا المقاربة لكونها مرتبة وسطي بين أفعال الرجاء وأفعال الشروع ، والوسط له حظّ في كلا الطرفين ، فكان أحقّ بالترجمة منهما كذا قيل.

قال بعض المحقّقين : والصواب أنّ تسميتها بذلك من باب التغليب ، وذلك لأنّ تسمية الكلّ باسم جزئه عبارة عن إطلاق اسم الجزء على ما تركّب منه ومن غيره كتسمية المركّب كلمة ، وتسمية الأشياء مجتمعة من غير تركيب باسم بعض منها يسمّى تغليبا كالقمرين والعمرين ، إذا تقرّر ذلك ظهر لك أنّ تسمية جميع أفعال الشروع بأفعال المقاربة من التغليب ، لا من تسمية الكلّ باسم الجزء فتأمّله ، انتهى.

«وهي» على ما عدّه ستّة وإلا فهي أكثر من ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، «كاد وكرب» بفتح الراء وكسرها ، والفتح أفصح ، «وأوشك» والثلاثة «لدنوّ الخبر» ، أي لقرب ثبوت خبرها لاسمها ، «وعسى» وإخلوق وحري بفتح الراء والحاء المهمليتن كذا في الصريح.

قال الرضيّ : وقد يستعمل حري زيد أن يفعل كذا بكسر الراء ، وإخلولق عمرو أن يقوم ، استعمال عسى بلفظ الماضي فقط ، ومعناهما صار حريّا ، وحريّا أي جديرا وصار خليقا ، أصلهما حري بأن يفعل ، وإخلوق بأن يقوم ، فحذف حرف الجرّ كما هو القياس مع أن وأنّ ، ويقال أيضا : وهو حري أن يفعل بفتح الراء والتنوين على أنّه مصدر بمعنى الوصف ، فلا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث ، تقول : هنّ حري أن يفعلن ، وإذا قلت : هو حريّ على فعيل ، أو حر بكسر الراء كعم أن يكون ثنيّت وجمعت وأنّثت ، انتهى.

وقال ابن هشام في شرح الشذور : لا أعرف من ذكر حري من النّحويّين غير ابن مالك ، وتوهّم أبو حيّان أنّه وهم فيها ، وأنّما حري بالتنوين اسم لا فعل ، وأبو حيّان هو الواهم ، بل ذكرها أصحاب كتب الأفعال من اللغويّين كالسرقسطي (١) وابن طريف (٢) ،

__________________

(١) لعلّه قاسم بن ثابت السرقسطي ، عالم بالحديث واللغة ، وهو أوّل من أدخل كتاب العين إلى الاندلس ، له كتاب «الدلائل» في الحديث ، مات سنة ٣٠٢ ه‍. الأعلام للزركي ٦ / ٧. أو محمد بن يوسف السرقسطي الأندلسيّ ، من الكتاب الأدباء ، له كتاب «المسلسل» في اللغة ، مات سنة ٥٣٨ ه‍. المصدر السابق ، ٨ / ٢٢.

(٢) عبد الملك بن طريف الأندلسي أبو مروان النحوي اللغويّ ، كان حسن التصرّف في اللغة ، وله كتاب حسن في الأفعال ، مات في حدود الأربعمائة ، بغية الوعاة ٢ / ١١١.

٢٥٩

وأنشدوا عليها شعرا ، انتهى. وممّن نصّ عليها أيضا القاضي عياض في مشارق الأنوار (١) ، وكان أبو حيّان رجع عن إنكارها ، فذكرها في لمحته (٢) لاطلاعه بعد ذلك على ثبوتها ، وبهذا يدفع ما أشار إليه في التصريح من تناقض كلاميه والثلاثة لرجائه ، أي رجاء المتكلّم ثبوت الخبر للاسم في الاستقبال ، فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله وحذف فاعله ، والرجاء الطمع في المحبوب ، ووقع لابن مالك في سبك المنظوم أنّ اخلولق من أفعال المقاربة ككاد ، قال بعض الأئمة : وهو غريب مخالف لما في سائر كتبه.

قد تأتي عسى للإشفاق ، والخلاف في فعليتها : تنبيهان : الأوّل : قد تأتي عسى للإشفاق كالترجّي ، قال ابن هشام في شرح اللمحة : عسى طمع فيما تهواه ، وإشفاق فيما تخشاه ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة / ٢١٦] ، قال ابن برّي (٣) : ويحتمل أن يقال : إنّها تلازم المعنيين ، لأنّ المترجّي للشيء طامع فيه مشفق أن لا يناله (٤) ، والأجود أن يقال : إنّها للتوقّع كما في لعلّ ، فإن كان لمحبوب فهو الترجّيّ ، أو لمكروه فهو الإشفاق.

الثاني : القول بفعلية عسى مطلقا ، هو ما عليه الجمهور ، وذهب ثعلب وابن السّرّاج إلى أنّها حرف مطلقا ، وسيبويه فيما حكاه عنه السيرافيّ حين تتّصل بالضمير المنصوب ، كقوله [من الرجز] :

١٩٦ ـ ...

يا أبتا علّك أو عساكا (٥)

والصحيح الأوّل لاتّصال ضماير الرفع البارزة وتاء التأنيث الساكنة بها وذلك من آيات الفعل.

«وأنشأ وطفق» بفتح الفاء طفوقا ، وبكسرها طفقا ، ويقال : طبق بكسر الباء الموحدة ، وجعل وأخذ وعلق وهب ، والستّة «للشروع فيه» أي شروع اسمها في خبرها ، وأفعاله كثيرة ، أنهاها بعضهم إلى نيّف وعشرين فعلا.

__________________

(١) مشارق الأنوار على صحاح الآثار في تفسير غريب الحديث المختص بالصحاح للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى إليحصبي المتوفى سنة ٥٤٤ ه‍. كشف الظنون ٢ / ١٦٨٧.

(٢) اللمحة مختصر في النحو على سبعة أبواب للشيخ أبي حيان محمد ابن يوسف الأندلسي المتوفى سنة ٧٤٥ ه‍ ، شرحه ابن هشام ، المصدر السابق ص ١٥٦١.

(٣) عبد الله بن برّي النحويّ اللغويّ ، كان قيّما بالنحو واللغة ، صنّف : اللباب في اللردّ على بن الخشاب في ردّه على الحريرى في درة الغواص. مات سنة ٥٨٢ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٣٤.

(٤) مشفق أن يناله «س».

(٥) تقدّم برقم ١٤٦.

٢٦٠