الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

ليدلّ أوّل الكلام على التشبيه من أوّل وهلة ، وفتحت همزة أنّ للجارّ ، فصارا حرفا واحدا مدلولا بهما على التشبيه والتاكيد (١). والقائل بأنّها بسيطة ، يلزمه أن تكون لمطلق التشبيه ، لأنّها موضوعة له كالكاف.

فإن قلت على القول بتركيبها بم يتعلّق الجارّ؟ قلت : قال ابن جنّي : هو حرف لا يتعلّق بشيء لمفارقته الموضع الّذي يتعلّق فيه بالاستقرار ، ولا يقدّر له عامل غيره لتمام الكلام بدونه ولا هو زائد لإفادته التشبيه.

كاف التشبيه لا يتعلّق دائما عند بعضهم : قال ابن هشام ، وليس قوله بأبعد من قول أبن الحسن : إنّ كاف التشبيه لا يتعلّق دائما ، قال : ولمّا رأي الزّجاج أنّ الجارّ غير الزائد حقّه التعلّق ، قدّر الكاف هاهنا اسما بمترلة مثل ، فلزمه أن يقدّر له موضعا ، فقدّره مبتدأ ، فاضطرّ إلى أن قدّر له خبرا لم ينطق به قطّ ، ولا المعنى مفتقر إليه ، فقال : معنى كأنّ زيدا أخوك ، مثل أخوة زيد إيّاك كائن ، وقال الأكثرون : لا موضع لأنّ وما بعدها ، لأنّ الكاف وأنّ صارا بالتركيب كلمة واحدة. قال ابن هشام : وفيه نظر ، لأنّ ذاك في التركيب الوضعيّ ، لا في التركيب الطاريّ ، انتهى.

وردّه الدمامينيّ بأنّ هذا تركيب وضعيّ ، لأنّ واضع اللغة في معتقد هؤلاء هو الّذي وضعه كذلك ، وليس من الأمور الّتي طرأت في الاستعمال من غير أن يكون للوضع فيها مدخل ، انتهى.

لا تجىء كأنّ للتحقيق ولا للتقريب : ولا تجي للتحقيق خلافا للكوفيّين ، ولا حجّة لهم في قوله [من الوافر] :

١٣٩ ـ فأصبح بطن مكّة مقشعّرا

كأنّ الأرض ليس بها هشام (٢)

لأنّه محمول على التشبيه ، فإنّ الارض ليس بها هشام حقيقة ، بل هو مدفون فيها. ولا للتقريب ، نحو : كأنّك بالدنيا لم تكن ، وبالآخرة لم تزل ، خلافا لهم ولأبي الحسن الأنصاريّ (٣) ، ولا للنفي ، نحو : كأنّك دالّ عليها ، أي ما أنت دالّ عليها خلافا للفارسيّ.

__________________

(١) حذفت هذه الجملة في «س».

(٢) لم يسمّ قائله ، ويرثي به الشاعر هشام بن عبد الملك. اللغة : أراد ببطن مكة : تحت أرضها الّتي يدفن الأموات ، مقشرّ : اسم الفاعل من اقشعرّ بمعنى أخذه رعدة أو يبس.

(٣) يحيى ابن عبد الله أبو الحسن الأنصاري النحويّ ، كان من أعيان أهل العربية ومات سنة ٦٣ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٣٣٦.

٢٢١

«وليت» وقد يقال لتّ بإبدال تاء ، وإدغامها في التاء ، ولوت ، وهي للتمنّي ، وهو طلب حصول شيء مستحيل أو ممكن غير متوقّع على سبيل المحبّة ، كذا قيل ، والأولى أن يقال : إظهار محبّة شيء مستحيل من حيث إنّه مستحيل (١) أو ممكن غير متوقع ، لأنّ التمنّي ليس بطلب ، لا سيّما مع العلم باستحالته ، ثمّ تعلّقه بالأول كثير ، كقوله [من الوافر] :

١٤٠ ـ ألا ليت الشّباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب (٢)

وما ألطف قول الدمامينيّ مضمّنا لبعض صدر هذا البيت مع التورية المرشحة (٣) [من المتقارب] :

١٤١ ـ رماني زماني بما ساءني

فجاءت نحوس وغابت سعود

وأصبحت بين الوري بالمشيب

عليلا فليت الشباب يعود (٤)

وبالثاني قليل ، نحو : ليت زيدا يحسن إلى من أساء إليه ، ولكن يجب في التّمنّي إذا كان متعلّقه ممكنا كهذا أن لا يكون لك توقّع وطماعية في وقوعه ، وإلا صار ترجيّا ، ولا يكون في الواجب ، فلا يقال : ليت غدا يجيء.

جواز الاشتغال من الحروف : قال ابن جنيّ في الخاطريّات : لأنّه يا ليته حقّه ، أي انتقصه إيّاه ، يجوز أن يكون من قولهم ليت لي كذا ، وذلك أنّ المتمنّي للشيء معترف لنقصه عنه وحاجته إليه. فإن قلت كيف يجوز الاشتقاق من الحروف ، قيل : وما في ذلك من الإنكار ، وقد قالوا : أنعم له بكذا. أي قال له نعم ، وسوّفت الرّجل إذا قلت له : سوف أفعل ، وسألتك حاجة ، فلو ليت لي ، أي قلت : لي لولا ، ولا ليت لي ، أي قلت : لي لا لا. فإن قيل : فكان يجب على هذا أن يكون في قولهم لأنّه يا ليته معنى التمنّي كما أنّ في أنعمت معنى الإجابة ، وفي لو ليت معنى التعذّر ، وفي لا ليت معنى الرّدّ ، قيل : قد يكون في المشتقّ اقتصار على بعض ما في المشتقّ منه كما سمّوا الحرم النالة ، وذلك أنّه لا ينال من حلّه ، وهذه فعله من نال ، هو نقيض لا ينال ، وجاز الاشتقاق من الحروف ، لأنّه ضارعت أصول كلامهم الأوّل ، إذا كانت جامدة غير مشتقّة ، كما أنّ الأوائل كذلك ، انتهى ملخّصا.

__________________

(١) سقط هذه الجملة في «ح».

(٢) البيت لأبي العتاهية شاعر العصر العباسي المتوفى سنة ٢١٨ ه‍. ق اللغة : المشيب : سن الشيب.

(٣) التورية المرشحة هي الّتي اقترنت بما يلائم المعنى القريب.

(٤) اللغة : النحوس : جمع نحس بمعنى الجهد والضّر. ويقال أمر نحس : مظلم ، ويوم نحس : يوم لم يصادف فيه خير ، السعود : جمع سعد بمعنى اليمن ، الورى : الخلق.

٢٢٢

«ولعلّ» وليس أصلها علّ واللام لام الابتداء خلافا للمبرّد كما حكاه عنه صاحب المفتاح ، بل علّ لغة فيها كما سيأتي ، وهي لتوقّع مرجوّ أو مخوف ، نحو : لعلّ الحبيب واصل ولعلّ الرقيب حاصل. قال ابن هشام وغيره : وتختصّ بالممكن ، وقول فرعون (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) [غافر / ٣٦] ، إنّما قاله جهلا أو مخرقة وإفكا ، انتهى.

قال جماعة منهم الأخفش : وتكون للتعليل كاللام ، وحملوا عليه قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه / ٤٤] ، ومن لم يثبته يحمله على الرجاء ، ويصرفه للمخاطبين ، أي إذهبا على رجائكما. حكى الأخفش أفرغ عملك لعلّنا نتغذّي ، أي لنتغذّي ، قالوا : ولهذا جرت بها عقيل كقوله ، ورواه السيرافيّ عن ابن دريد (١) في شرح الكتاب [من الطويل] :

١٤٢ ـ وداع دعا يا من يجيب إلى النّدي

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فقلت ادع أخري وارفع الصّوت دعوة

لعلّ أبي المغوار منك قريب (٢)

وقال الكوفيّون : وتكون للاستفهام ، وتبعهم ابن مالك ، وجعل منه قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس / ٣] ، وقوله عليه السّلام لبعض الأنصار وقد خرج إليه مستعجلا : لعلّنا اعجلناك. والآية عند غيرهم محمولة على الترجّي ، والحديث على الإشفاق.

تنبيهات : الأوّل : اضطربت أقوالهم في لعلّ الواقعة في كلامه تعالى لاستحالة ترقّب غير الموثوق بحصوله عليه ، فقال قطرب وأبو على : معناها التعليل ، فمعنى افعلوا الخير لعلّكم ترحمون ، أي لترحموا ، ولا يستقيم ذلك في : (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشوري / ١٧] ، إذ لا معنى للتعليل هنا ، وقيل : هي لتحقيق الجملة الّتي بعدها ، ولا يطّرد في : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه / ٤٤] إذ لم يحصل من فرعون التذكّر والخشية.

وأمّا قوله : آمنت بالّذي آمنت به بنو إسرائيل الآية (٣) فتوبة يأس لا معنى تحتها ، ولو كان تذكّرا حقيقيّا لقبل منه ، والحقّ ما قاله سيبويه : أنّ الرجاء والإشفاق متعلّقان بالمخاطبين ، والأصل في الكلمة أن لا يخرج عن معناها بالكلّية. فلعلّ منه تعالى حمل المخاطبين على أن يرجوا أو يشفقوا ، كما أنّ الشكّ في أو كذلك ، ولا يجب أن يكون

__________________

(١) محمد بن الحسن بن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء ، له من التصانيف ، الجمهرة في اللغة ، المقصور والممدود ، أدب الكاتب و... مات سنة ٣٢١ وقيل : بموته مات علم اللغة والكلام جميعا ، المصدر السابق ١ / ٧٦.

(٢) هذان البيتان لكعب بن سعد الغنوي ، من قصيدة مستجادة يرثي فيها أخاه أبا المغوار. والبيت الثاني تقدّم برقم ١٠٥.

(٣) لعلّ قصده الآية التسعون من سورة يونس (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ.)

٢٢٣

الرجاء أو الإشفاق من المتكلّم بلعلّ ، بل قد يكون من المخاطب ، وقد يكون من غيرهما كما تشهد به موارد الاستعمال.

محل مجرور لعلّ من الإعراب عند من جرّ بها : الثاني : مجرور لعلّ في موضع رفع بالإبتداء لتنزّل لعلّ مترلة الجار الزائد ، نحو : بحسبك درهم ، بجامع ما بينهما من عدم التعلّق بعامل وقوله : في البيت قريب هو خبر ذلك المبتدأ ، ومثله لولاي لكان كذا ، على قول سيبويه : أنّ لو لا جارّة ، وقولك : ربّ رجل يقول ذلك ونحوه.

في لعلّ ستّ عشرة لغة : الثالث : في لعلّ ستّ عشرة لغة ، ذكرها في الهمع ، وهي فتح اللام الثانية وكسرها ، وعلّ بالوجهين ، ولعن بإبدال اللام نونا ، وعنّ بحذف اللام من هذه ، لأن بإبدال العين همزة واللام نونا وأن تحذف اللام من هذه ، ورعنّ بإبدال اللام راء ، ورغن ولغن بالغين المعجمة فيهما ، ورعل بالمهملة ، ورغل بالمعجمة ، ولعا ، ولون ، ولعلت ، انتهى.

عمل الأحرف المشبهه بالفعل : «وعملها» أي عمل الأحرف المذكورة «عكس عمل كان» ، وهو نصب المبتدأ ورفع الخبر ، نحو : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) [غافر / ٥٩] ، ويشترط في اسمهنّ ما تقدّم في اسم كان وأخواتها ، ونسبة العمل في الخبر إلى هذه الأحرف كمعاكستها هو مذهب البصريّين. وذهب الكوفيّون والسهيليّ إلى أنّه باق على رفعه الأصليّ ، وعملها فيه الرفع وهو المشهور.

أجاز جماعة نصب خبر الأحرف المشبهة بالفعل : وأجاز جماعة نصبه على أنّه لغة ، وممّن قال بذلك ابن سلام (١) وابن الطراوة وابن السّيّد البطليوسيّ (٢) ، وذكره المصنّف في حديقة المفردات كالحديث : إنّ قعر جهنم سبعين خريفا (٣) وقوله [من الطويل] :

__________________

(١) محمد بن سلّام الجمحي من علماء أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث من الهجرة ، نحويّ ولغوي ويعدّ أحد كبار نقدة الشعر ، مات سنة ٢٣١ ه‍. محمد بن سلام الجمحي ، طبقات الشعراء ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، ١٤١٢ ه‍ ، ص ١٤.

(٢) عبد الله بن محمد بن السّيّد أبو محمد البطليوسي كان عالما باللغات والآداب ، صنّف : شرح ديوان المتنبيّ ، المسائل المنشور في النحو ، مات سنة ٥٢١ ه‍ ، بغية الوعاة ٢ / ٥٥.

(٣) صحيح مسلم ، النيسابوري ، الطبع الاول ، دار الكتب العمليه ، بيروت ، ١٤١٨ ه‍. ق ١ / ١٥٩ برقم ٣٢٩.

٢٢٤

١٤٣ ـ إذا اسودّ جنح اللّيل فلتأت ولتكن

خطاك خفافا إنّ حراسنا أسدا (١)

وقوله [من الرجز] :

١٤٤ ـ كأنّ أذنيه إذا تشوّفا

قادمة أو قلما محرّفا (٢)

وقوله [من الرجز] :

١٤٥ ـ

* يا ليت أيام الصّبار رواجعا (٣) *

وحكى يونس : لعلّ أباك منطلقا ، ولا يرد ذلك على قضيّة كلام المصنّف لأنّه قليل ، والجمهور على إنكار ذلك ، وتأويل الشواهد : فالقعر في الحديث مصدر قعرت الشيء ، إذا بلغت قعره ، وسبعين ظرف ، أي أنّ مدّة بلوغ قعرها يكون في سبعين عاما ، وباقي المنصوبات حال ومفعول ، أي تلقاهم أسدا ، ويحكى ان قادمة ، وأقبلن رواجعا ، ويوجد منطلقا. قال ابن هشام : ولا يقدّر في هذين تكون ويكون ، كما ذهب إليه الكسائي لعدم تقدّم إن ولو الشرطيتين ، وفيه نظر.

عدّ بعضهم من أخوات إنّ عسى : تنبيه : عدّ بعضهم من أخوات أنّ عسى ، لعملها عمل أنّ في لغة ، فهي بمعنى لعلّ ، وشرط اسمها حينئذ أن يكون ضميرا ، كقوله [من الطويل] :

١٤٦ ـ فقلت عساها نار كأس وعلّها

تشكّى فآتي نحوها فأزورها (٤)

وهي حينئذ حرف وفاقا للسيرافيّ ، ونقله عن سيبويه خلافا للجمهور في إطلاق القول بفعلى تها ، ولابن السّراج في إطلاق القول بحرفيّتها. قاله في الأوضح ، ولا يردّ ذلك على قضية كلام المصنّف لشذوذه أو لذهابه إلى ما ذهب إليه المبرّد والفارسيّ من أنّها باقية على إعمالها عمل كاد ، ولكن قلب الكلام ، فجعل المخبر عنه خبرا وبالعكس.

فإن قلت قد ردّ قولهما باستلزامه في قوله [من الرجز] :

١٤٧ ـ ...

يا أبتا علّك أو عساكا (٥)

الاقتصار على فعل ومنصوبه دون مرفوعه ، لا نظير لذلك. قلت : قال ابن هشام :

لهما أن يجيبا بأنّ المنصوب هنا مرفوع في المعنى إذ مدّعاهما أنّ الإعراب قلب ، والمعنى بحاله ، انتهى.

__________________

(١) هو لعمر بن أبي ربيعة. اللغة : جنح الليل : طائفة من الليل ، الخطي : جمع خطوة : ما بين القدمين ، الخفاف : من الخفة : ضدّ الثقل.

(٢) هو لمحمد بن ذؤيب. اللغة : تشوفا : من تشوّف بمعنى اطّلع أو تطاول ونظر ، القادمة : إحدى ريشات عشر كبار ، أو إحدى أربع في مقدّم الجناح (ج) القوادم.

(٣) نسب الرجز لرؤبه وللعجاح. اللغة : الصبا : الصغر والحداثة ، الرواجع : جمع راجع.

(٤) البيت لصخر بن العود الخضرمي. اللغة : كأس : اسم امرأة.

(٥) صدر البيت : تقول بنتي قد أنى أناكا ، والرجز لرؤبة أو العجاج.

٢٢٥

لا يتقدّم أحد معمولي إنّ وأخواتها عليها : «ولا يتقدّم أحد معموليها» من الاسم والخبر «عليها مطلقا» ، أي ظرفا أو جارّا ومجرورا كان الخبر وغيره ، فلا يقال : زيدا إنّ قائم ، ولا قائم أو عندك أو في الدار إنّ زيدا ، وذلك لأنّ لها صدر الكلام فلو قدّم زالت الصدريّة ، وأمّا أنّ المفتوحة فإنّه وإن لم يكن لها صدر الكلام ، لكنّها كالموصول ، إذ هي مع معموليها في تأويل المفرد ، فلا يتقدّم عليها شيء منها.

قال الرضيّ : كلّ ما يغيّر معنى الكلام ، ويؤثّر في مضمونه ، وكان حرفا ، فمرتبته الصدر ، كحروف النفي والتنبيه والاستفهام والتشبيه والتحضيض والعرض وغيرها لينبيء السامع ذلك الكلام من أوّل الأمر على ما قصد المتكلّم. وكلّ واحد من هذه الحروف يدلّ على قسم من أقسام الكلام بخلاف أنّ المكسورة ، فإنّها لا تدلّ على قسم من أقسامه بل هي لتوكيد معنى الجملة فقط ، والتوكيد تقوية الثابت ، لا تغيير المعنى ، إلا أنّها مع ذلك وقعت موقع حرف ابتداء كاللام ، فوجب تصدّرها ، وأمّا المفتوحة فلكونها مع جزئيها في تأويل المفرد ، وجب وقوعها مواقع المفردات كالفاعل والمفعول وخبر المبتدأ والمضاف إليه ، فلا تتصدّر ، وإن كانت في مقام المبتدأ الّذي حقّه الصدر ، انتهى.

لا يتقدّم خبر إنّ وأخواتها على اسمها إلا إذا كان ظرفا : «ولا» يتقدّم «خبرها على اسمها» لضعفها في العمل ، لأنّها إنّما عملت بالحمل على الفعل لمشابهتها له فيما مرّ «إلا إذا كان الخبر ظرفا أو جارّا ومجرورا» ، فإنّه يجوز تقدمّه على اسمها حينئذ من الجواز بمعنى مقابل الامتناع فيشمل ما تقدمّه واجب وجائز ، «نحو قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) [آل عمران / ١٣]» ، (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) [المزمل / ١٢] ، فتقدّم الخبر على الاسم في الآية الأولى واجب ، لأنّه لو أخّر لزم إيلاء لام الابتداء لأنّ وهو ممتنع ، وفي الثانية جائز على ما نصّ عليه الجرجانيّ ، واعتمده غيره من جواز كون اسم أنّ نكرة محضة ، وإنّما جاز ذلك مع الظرف والمجرور ، لأنّهم يتوسّعون فيهما ما لا يتوسّعون في غيرهما ، وما ألطف قول ابن عنين (١) يشكو تأخرّه [من الطويل] :

١٤٨ ـ كأنّي من أخبار انّ ولم يجز

له أحد في النحو أن يتقدّما

عسى حرف جرّ من نداك يجرّني

إليك فأضحي في ذراك مقدّما

__________________

(١) ابن عنين (أبو المحاسن محمد) (١١٥٤ ـ ١٢٣٣) شاعر دمشقي هجّاء رحّالة من أعظم شعراء عصره ، له ديوان. المنجد في الأعلام. ص ١١.

٢٢٦

علّة توسّعهم في الظرف والمجرور : فائدة : إنّما جرت عادتهم بالتوسّع في الظرف والمجرور ، لأنّ كلّ شيء من المحدثات فلا بدّ أن يكون في زمان أو مكان إلا نادرا فصار مع كلّ شيء كقريبة ولم يكن أجنبيّا منه ، فدخل حيث لا يدخل غيره كالمحارم تدخل حيث لا تدخل الأجنبيّ ، وأجرى الجارّ مع المجرور مجراه لكثرته في الكلام مثله واحتياجه إلى الفعل أو معناه ولمناسبته له لأنّ الظرف في الحقيقة جار ومجرور لكونه بمعنى في ، قاله الرضيّ وغيره (١).

الأقوال في الظرف والمجرور هل هما نفسهما الخبر أم لا : تنبيهات : الأوّل : ظاهر كلامه أنّ الخبر هو الظرف والمجرور نفسهما ، وفي ذلك أقوال : أحدها : وهو قول ابن كيسان : إنّ الخبر في الحقيقة هو العامل المحذوف ، وإنّ تسمية الظرف والمجرور خبرا مجاز ، وعليه جمع من المحقّقين منهم ابن مالك (٢) وابن هشام. الثاني : هو قول أبي على وتلميذه أبي الفتح : إنّه الظرف والمجرور نفسهما ، وإنّ العامل صار نسيا منسيّا ، الثالث : وهو مرتضي الرضيّ والسّيّد عبد الله (٣) ، إنّه هما ومتعلقهما ، والأوّل هو التحقيق.

الثاني : استثني ابن هشام في الأوضح «عسى» بمعنى لعلّ ، فلا يجوز تقديم خبرها على اسمها مطلقا ، سواء كان ظرفا أو غيره.

الثالث : لا يجوز تقديم معمول خبر هذه الأحرف عليهنّ مطلقا ولا على اسمهنّ إلا إذا كان ظرفا أو مجرورا ، وأطلق المنع بعضهم ، ويجوز توسّطه بين الاسم والخبر مطلقا ، نحو : إنّ زيدا طعامك آكل.

قد يحذف كلّ من اسم إنّ وأخواتها وخبرها : تكميل : قد يحذف كلّ من اسمهنّ وخبرهنّ فيحذف الاسم عند الجمهور في فصيح الكلام ، ويكثر إذا كان ضميرشان ، كقوله [من الخفيف] :

١٤٩ ـ إنّ من لام في بني ابنة حسّا

 ... ن ألمه وأعصه في الخطوب (٤)

__________________

(١) في «ح» من «معناه» إلى «غيره» سقط.

(٢) قال الشارح : إنّ ابن مالك من المحقّقين الّذين يعتقدون أنّ الخبر في الحقيقة هو العامل المحذوف ، ولكنّه قال في الألفية :

وأخبروا بظرف أو بحرف جر

ناوين معنى كائن أو استقر

(شرح ابن عقيل ١ / ٢٠٩).

فيذهب ابن مالك في الألفية إلى أنّ الظرف والجارّ مع مجروره قد يقع كلّ منهما خبرا لا بنفسه ، ولكن بمتعلّقه.

(٣) لعلّه عبد الله بن إسحاق (ت ٧٣٥) نحويّ ، أقدم النحاة الّذين ذكرهم سيبويه في «الكتاب». المنجد في الاعلام. ص ٣٦٦.

(٤) هو من قصيدة للأعشي واسمه ميمون بن قيس يمدح بها آل أشعث بن قيس. اللغة : لام : فعل ماضي من اللوم بمعنى العذل ، الخطوب : جمع الخطب أي الأمر العظيم.

٢٢٧

وقوله [من الخفيف] :

١٥٠ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء (١)

وخرّج عليه قوله عليه السّلام : إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون (٢) ، أي إنّ الشأن ، وإنّما لم يجعل «من» في البيتين اسما ، لأنّها شرطيّة بدليل جزمها الفعلين فيهما ، والشرط له الصدر فلم يعمل فيه ما قبله ، ومن حذفه غير شأن ما حكاه الأخفش : إنّ يك مأخوذ أخواك ، أي إنّك وقوله [من الطويل] :

١٥١ ـ فليت دفعت الهمّ عنّي ساعة

 ... (٣)

وقوله [من الطويل] :

١٥٢ ـ فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّ عظيم المشافر (٤)

ويروى زنجيّا ، وقيل : لا يجوز حذفه في الكلام إلا إذا كان ضمير شأن ، فلا يحسن حذفه إلا في الضرورة ، وقيل : هو خاصّ بالشعر مطلقا ، وصحّحه ابن عصفور والسخاويّ في شرح المفصّل.

ويحذف الخبر إذا علم مطلقا ، خلافا لمن اشترط تنكير الاسم ، فمن حذفه والاسم معرفة قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [الحج / ٢٥] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) [فصلت ٤١] ، وقوله [من الطويل] :

١٥٣ ـ سوى أنّ حيّا من قريش تفضّلوا

على الناس أو أنّ الأكارم نهشلا (٥)

أي تفضّلوا ، ومن حذفه والاسم نكرة قوله [من المنسرح] :

١٥٤ ـ إنّ محلّا وإنّ مرتحلا

وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا (٦)

__________________

(١) قائله الأخطل. اللغة : الكنيسة معبد إليهود والنصارى ، الجاذر : جمع جوذر عجل البقره الوحشية ، والظباء : جمع ظبي وهو معروف ، وأراد بها النساء الّتي كالجآذر والظباء في سعة العين.

(٢) السيوطي ، الجامع الصغير ، الطبع الأول ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ١٤٢٣ ه‍. ق ص ١٣٣ رقم ٣٢٩.

(٣) هو من قصيدة لعدي بن زيد العبادي وعجزه «فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال» ، اللغة : الضمير المستتر في خيلت يرجع إلى المحبوبة ، وناعمي تثنية ناعم ، فاعل من نعم باله أي : طاب ، والبال : الخاطر.

(٤) هو من أبيات للفرزدق يهجو بها أيوب بن عيسى الضبيّ اللغة : الضبيّ : نسبة إلى بني ضبة الزنجيّ : نسبة إلى الزنج وهو جبل في السودان ، المشافر جمع مشفر : الشفة من البعير كالجحفلة للفرس واستعير لشفة الإنسان.

(٥) هو للأخطل التغلبي. اللغة : الحيّ القبيلة ، وكأنّه أراد بتنكيره بني هاشم. تفضّلوا : رجحوا على الناس بالفضل والمزيّة. الاكارم : جمع اكرم. نهشلا : بدل من الأكارم. ونهشل : اسم رجل ، وهي أيضا قبيلة معروفة. لسان العرب ٤ / ٤٠٣٧ (نهشل).

(٦) هو مطلع قصيدة للأعشي واسمه ميمون بن قيس. اللغة : المحلّ مصدر ميميّ بصيغة اسم المكان بمعنى الحلول أي الترول. والمرتحل مصدر ميمي بصيغة اسم المفعول بمعنى الارتحال وهو الذهاب من المترل. السفر جمع سافر بمعنى المسافر ، وإذ تعليليّة.

٢٢٨

وقولهم : إنّ مالا وإنّ ولدا أي إنّ لنا. وقد عقد سيبويه لهذا بابا ، فقال : باب إنّ مالا وإنّ ولدا.

الكلام على ليت شعري : والتزم الحذف في ليت شعري مردفا باستفهام كقوله [من الطويل] :

١٥٥ ـ ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بواد وحولي إذخر وجليل (١)

قيل : لأنّ الاستفهام يسدّ مسدّ الخبر ، وجملة الاستفهام في موضع نصب بشعري ، واستشكل الرضيّ القول بسدّ الاستفهام مسدّ الخبر بأنّ محلّ شعري الّذي هو مصدر بعد جميع ذيوله من فاعله ومفعوله ، فمحلّه بعد الاستفهام ، فكيف يكون الاستفهام في مقام الخبر ، ومقامه بعده بل هو خبر وجب حذفه بلا سادّ مسدّه لكثرة الاستعمال ، انتهى.

والشعر بمعنى الفطنة مصدر من شعرت أشعر ، كنصرت أنصر. قال سيبويه : أصله ليت شعرتي ، حذفوا الهاء في الإضافة كما في قولهم : هو أبو عذرها ، فلعلّه لم يثبت عنده مصدر إلا بالهاء كالنشدة ، وإلا فلا موجب لجعله المصدر من باب الهيئة كالجلسة والركبة ، قاله الرضيّ.

تلحق الأحرف المشبهة بالفعل ما فتكفّها عن العمل : «وتلحقها» أي الحروف المذكورة «ما الزائدة ، فتكفّها عن العمل» لزوال اختصاصها بالجمل الاسمية الّذي هو سبب عملها ، وصيرورتها حينئذ حروف ابتداء ، تدخل على الجمليتين ، «نحو : إنّما زيد قائم» ، وقوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) [الانفال / ٦] ، ولذلك سمّيت ما هذه كافّة ، وإلى هذا لمح بعضهم حيث قال وتلطّف [من الرجز المجزوء] :

١٥٦ ـ عزلوك لما قلت ما

أعطى وولّوا من بذل

أو ما علمت بأنّ ما

حرف يكفّ عن العمل

وإذا تلاها الفعل سمّيت مهيئة ، لأنّها هيّأت هذه الحروف للدخول على الفعل بعد أن لم تكن له صالحة ، وقد تعمل ليت مع لحوق ما قيل : بل هو الأرجح لعدم زوال

__________________

(١) أنشده بلال وسمعه النبي (ص) فقال له : حنت يا ابن السوداء. والحنان الّذي يحنّ إلى الشيء. المصدر السابق ١ / ٩٦٩. اللغة : الأذخر : حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب. الجليل : الثّمام : عشب من الفصيلة النجيلية.

٢٢٩

اختصاصها بالأسماء ، فلا يقال : ليتما قام زيد ، خلافا لابن أبي الربيع. (١) وذهب الفرّاء إلى وجوب الأعمال ، وروى قول النابغة [من البسط] :

١٥٧ ـ قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا أو نصفه فقد (٢)

بالوجهين ، فالرفع على أنّ ما كافّة ، وذا مبتدأ ، والحمام بيان ، ولنا الخبر ، والنصب على أنّ ما زائدة ، وذا اسم ليت ، والحمام بيان ، ولنا الخبر قال ابن هشام : ويحتمل أنّ الرفع على أنّ ما موصولة ، وأنّ الاشارة خبر لهو محذوفا ، أي ليت الّذي هو هذا الحمام لنا ، ولكنّه احتمال مرجوح ، لأنّ حذف العائد المرفوع بالابتداء في صلة غير أي مع عدم طول الصلة قليل ، انتهى.

وعدم طول الصلة في ذلك ممنوع ، بل هي طويلة بالصفة ، وقد صرّح هو بمثل ذلك في المغني ، وذهب ابن السرّاج والزّجاج والزمخشريّ ، وتبعهم ابن مالك ، إلى جواز إعمال الجميع قياسا على ليتما ، ومنعه سيبويه في غيرهما للسماع المشهور فيها دون ما عداها

وخرج بقولنا : «الزائدة» ما المصدرية والموصولة فلا تكفّان عن العمل ، نحو : أعجبني أن ما قمت ، أي قيامك ، ونحو : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) [المومنون / ٥٥] ، (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال / ٤١] ، أي أنّ الّذي ، بدليل عود الضمير من به وخمسه إليها ، إذ لا يعود الضمير إلا على الأسماء ، وكان عليه التقييد بها كما فعلنا ، وكأنّه اعتمد على المثال ، فإنّه لا يصحّ أن يكون ما فيه إلا زائدة ، فتدبّر.

بحث في سبب إفادة إنّما للحصر بين الأصوليّين والنّحويّين : تنبيه : ها هنا بحث لا بأس بالتعرّض له ، وهو أنّ جماعة من الأصوليّين منهم الفخر الرازيّ في المحصول (٣) ذكروا أنّ ما الكافة الّتي مع أن نافية ، وأنّ ذلك سبب إفادتهما للحصر في نحو : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء / ١٧١] ، قالوا : لأنّ إنّ للاثبات ، وما للنفي ، فلا يجوز أن يتوجّها معا إلى شيء واحد ، لأنّه تناقض ، ولا أن يوجّه النفي للمذكور بعدها ، لأنّه خلاف الواقع باتّفاق ، فتعيّن صرفه لغير المذكور ، وصرف الاثبات للمذكور ، فجاء الحصر.

__________________

(١) عبد الله بن أحمد أبو الحسين ابن أبي الربيع إمام أهل النحو في زمانه ، صنّف شرح الإيضاح ، شرح سيبويه و... مات سنة ٦٨٨ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ١٢٦.

(٢) قاله النابغة الذبياني ، اللغة : قد : هاهنا اسم فعل معناه يكفي ، أو هو اسم بمعنى كاف.

(٣) المحصول في أصول الفقه ، مبسوط لفخر الدين محمد بن عمر الرازي. كشف الظنون ٢ / ١٦١٥.

٢٣٠

وقد اعترض عليهم جماعة من أهل البيان كالسكاكيّ واتباعه من النّحويّين كأبي حيّان ، وابن هشام قال في المغني : إنّ ما ذكروه مبنيّ على مقدّمتى ن باطلتين بإجماع النّحويّين ، إذ ليست إنّ للاثبات ، وإنّما هي لتوكيد الكلام إثباتا كان ، مثل إنّ زيدا قائم ، أو نفيا ، مثل إنّ زيدا ليس بقائم ، ومنه (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) [يونس / ٤٤] ، وليست ما للنفي ، بل هي بمترلتها في أخواتها أي ليتما ولعلّما ولكنّما وكأنّما.

وبعضهم ينسب القول بأنّها نافية للفارسيّ في كتاب الشيرازيّات (١) ، ولم يقل ذلك الفارسيّ في الشيرازيّات ولا غيرها ، ولا قاله نحويّ غيره ، وإنّما قال الفارسيّ في الشيرازيّات : إنّ العرب عاملوا أإنّما معاملة النفي وإلا في فصل الضمير كقوله [من الطويل] :

١٥٨ ـ ... وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي (٢)

انتهى.

ويدفع هذا التهويل ما أجاب به العلامة التفتازاني في سرح المفتاح عن الأصوليّين ، فقال : المراد أنّ كلمتي إنّ وما في الأصل كذلك ، فناسب أن يعتبر فيها هذا المعنى ، انتهى.

وتوضيحه أن الأصوليّين لم يريدوا أنّ كلّ واحد من الحرفين أعني أنّ وما باق حال التركيب على معناه الأصلي ، ليتّجه عليهم ما ذكرتموه بل هو بيان مناسبة لتضمّن إنّما معنى النفي والاثبات ، فإنّ المفردين لمّا كان أحدهما حال الانفراد بمعنى الإثبات ، والأخر بمعنى النفي ، ناسب ذلك أن يضمن المركّب منهما معنى النفي والإثبات معا ، قال المحقّق الشريف : وهذه المناسبة أقوي من الّتي ذكرها على بن عيسى الربعيّ (٣) ، وعوّل عليه السكاكيّ في توجيه إفادتها الحصر.

محلّ فتح همزة أنّ وجواز الأمرين : «والمصدر إن حلّ محلّ أنّ» ومعموليها بأن وجب ذلك ، «فتحت همزتها» وجوبا للفرق بينها وبين المكسورة و «إلا» يحلّ المصدر محلّ أنّ ومعموليها بأن لا يجوز ذلك «كسرت» همزتها وجوبا ، «وإن جاز الامران» وهما الحلول وعدمه «جاز الأمران» ، أي فتح الهمزة وكسرها ، وسلم تعبيره بالمصدر عمّا

__________________

(١) الشيرازيات في النحو لأبي على الفارسي. المصدر السابق ٢ / ١٠٦٨.

(٢) صدره «أنا الذائد الحامي الذمار» ، وهو للفرزدق. اللغة : الذائد : المانع ، الذمار : ذمار الرجل ، وهو كلّ ما يلزمك حفظه وحياطته وحمايته والدفع عنه.

(٣) على بن عيسى بن الفرج بن صالح الرّبعيّ أحد أئمة النحو وحذّاقهم الجيّدي النظر ، الدقيقي الفهم والقياس. أخذ عن السيرافي ولازم الفارسي عشر سنين ومات ببغداد. بغية الوعاة ٢ / ١٨١.

٢٣١

انتقد به على سيبويه حيث عبّر بالمفرد من أنّه منقوض بنحو : ظننت زيدا إنّه قائم ، حيث يجب فيه كسر أنّ مع جواز حلول المفرد محلّها وفي محل معموليها ، كذا ذكر ابن مالك.

إذا علمت ذلك ، فيجب الفتح في ثمانية مواضع يجب فيها أن يحلّ المصدر محلّ أنّ ومعموليها :

أحدها : أن تقع فاعلا نحو قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا) [العنكبوت / ٥١] ، أي إنزالنا.

الثاني : أن تقع نائبا عن الفاعل ، نحو : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) [الجن / ١] ، أي استماع.

الثالث : أن تقع مفعولا لغير القول ، نحو : (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ) [الأنعام / ٨١] ، أي إشراككم.

الرابع : أن تقع في موضع رفع بالابتداء ، نحو : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) [فصلت / ٣٩] ، أي رؤيتك.

الخامس : أن تقع في موضع خبر اسم معنى غير قول ، ولا صادق عليه خبرها نحو :

اعتقادي أنّه فاضل ، أي فضله ، بخلاف قولي أنّه فاضل ، واعتقاد زيد إنه حق.

السادس : أن تقع مجرورة بالحرف ، نحو : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) [لقمان / ٣٠].

السابع : أن تقع مجرورة بالإضافة إلى غير ظرف ، نحو : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات / ٢٣] ، أي مثل نطقكم.

الثامن : أن تقع معطوفة على شيء ممّا ذكر ، نحو : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) [البقرة / ٤٧] ، أي نعمتى وتفضيلي ، أو مبدلة منه نحو : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال / ٧] ، أي كونها لكم.

ويجب الكسر في تسعة مواضع ، لا يجوز أن يحلّ المصدر فيها محلّ أنّ ومعموليها :

أحدها : أن تقع محكية بالقول ، نحو قوله تعالى : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم / ٣٠].

الثاني : أن تقع في ابتداء الكلام نحو : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [القدر / ١] ، (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [يونس / ٦٢].

الثالث : أن تقع في أوّل الصلة ، نحو : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ) [القصص / ٧٦].

الرابع : أن تقع في أوّل الصفة ، كمررت برجل إنّه فاضل.

الخامس : أن تقع في أوّل الجملة الحالية ، نحو : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) [الأنفال / ٥].

٢٣٢

السادس : أن تقع في أوّل الجملة المضاف إليها ما يختصّ بالجمل وإذ وإذا وحيث ، نحو : جلست إذ أو حيث إنّ زيدا جالس.

السابع : أن تقع قبل اللام المعلّقة ، نحو : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون / ١].

الثامن : أن تقع جوابا للقسم ، نحو : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [الدخان / ٣ و ٢].

التاسع : أن تقع خبرا من اسم عين نحو : زيد إنّه فاضل.

تنبيهات : الأوّل : قال الدمامينيّ في المنهل : قد يجب الفتح مع الحكاية بالقول ، نحو :

قال زيد أنّك فاضل أكرمتك ، ففتحتها لأنّها في أوّل المحكى مفتوحة لوقوعها بعد لام التعليل المحذوقة ، أي لأنّك فاضل أكرمتك.

فإن قلت : فالموجب إذن للفتح أنّما هو وقوعها بعد الجارّ لاكونها محكى ة بالقول.

قلت : الموجب للكسر في الواقعة بعد القول المقصود به الحكاية ، وقوعها في الابتداء نظرا إلى الكلام المحكى ، وقد عدّوا هذه (١) قسما برأسه ، فلنعدّ تلك (٢) أيضا [قسما برأسه] ولا فرق ، فتامّله.

فتح همزة أنّ بعد حيث والكلام على ذلك : الثاني : قال ابن هشام : قد أولع الفقهاء وغيرهم بفتح أنّ بعد حيث ، وهو لحن فاحش ، فإنّها لا تضاف إلا إلى الجملة ، وأنّ المفتوحة ومعمولاها في تأويل المفرد ، انتهى.

وقد أوجب جماعة ، منهم الرضيّ وصاحب اللباب والسّيّد ركن الدين فتحها نظرا لإصالة الإفراد في المضاف إليه ، وأجاز بعضهم الفتح والكسر نظرا إلى كلا الوجهين. وفي شرح التسهيل للدمامينيّ ، الفتح صحيح ، لأنّ حيث تضاف إلى الجملة وإلى المفرد كقوله [من الطويل] :

١٥٩ ـ ونطعنهم تحت الكلى بعد ضربهم

ببيض المواضي حيث ليّ العوائم (٣)

بجرّ ليّ ، فيجوز إذن في أنّ الواقعة بعدها الوجهان. فإن قلت : إضافة حيث إلى المفرد نادر ، فلا يحمل عليه ، قلت : يجوز الفتح ، وإن قلنا : إنّها مضافة إلى الجملة بناء على أنّ أنّ ومعموليها بتأويل مصدر وقع في موضع مبتدأ محذوف الخبر على حدّ قوله [من الرجز] :

__________________

(١) سقط هذه في «ح».

(٢) سقط تلك في «س».

(٣) لم يسم قائل البيت ، اللغة : الكلى جمع الكلية. البيض : السيوف. ليّ مصدر بمعنى الشدّ والفتل. العوائم جمع عمامة.

٢٣٣

١٦٠ ـ أما ترى حيث سهيل طالع

 ... (١)

برفع سهيل ، أي حيث سهيل موجود ، وحذف خبر المبتدأ بعد حيث غير قليل ، انتهى. وفي هذا التوجيه بحث ، إذ يلزم عليه جواز الفتح في جميع صور وجوب الكسر. فتأمّل.

ويجوز الفتح والكسر في تسعة مواضع ، يجوز فيها حلول المصدر محلّ أنّ ومعموليها وعدمه :

أحدها : أن تقع أنّ خبرا عن قول ، ومخبرا عنه بقول ، وفاعل القولين واحد ، نحو أوّل قولي انّي أحمد الله ، فالفتح على أنّ القول على حقيقته من المصدريّة أي قولي حمد الله ، والكسر على أنّه بمعنى المقول ، أي مقولي إنّي أحمد الله ، فلو انتفى القول الأوّل وجب الفتح أو الثاني ، أو اختلف القائل وجب الكسر.

الثاني : أن تقع بعد إذا الفجائية كقوله [من الطويل] :

١٦١ ـ وكنت أري زيدا كما قيل سيّدا

إذا انّه عبد القفا واللهازم (٢)

فالفتح على معنى فإذا العبوديّة أي حاصلة ، كما تقول : خرجت فإذا الأسد ، والكسر على معنى فإذا هو عبد القفا.

الثالث : أن تقع بعد فاء الجزاء ، نحو : (مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام / ٥٤] فالفتح على معنى فالغفران والرحمة أي حاصلان ، أو فالحاصل الغفران والرحمة ، والكسر على معنى فهو غفور رحيم.

الرابع : أن تقع في موضع التعليل ، نحو : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور / ٢٨] ، قرأ نافع (٣) والكسائي بالفتح على تقديم لام العلة ، أي لأنّه ، والباقون بالكسر على أنّه تعليل مستأنف مثل (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة / ١٠٣] ، ومثله : لبيك أنّ الحمد والنعمة لك.

الخامس : أن تقع بعد فعل قسم ، ولا لام بعدها كقوله [من الرجز] :

١٦٢ ـ أو تحلفي بربّك العلي

انّي أبو ذيّالك الصّبيّ (٤)

__________________

(١) في المغني وجامع الشواهد وابن عقيل «طالعا» وبعده «نجما يضيء كالشهاب لامعا» ، والرجز مجهول القائل.

(٢) البيت من الفرزدق ، يهجو بها زيد بن أرقم. اللغة : القفا : خلف الرأس ، اللهازم : جمع اللهزمة : طرف الحلقوم وهما كنايتان عن الخسّة والدناءة والذلّة.

(٣) نافع بن عبد الرحمن (ت ١٦٩ ه‍) أحد أئمة القراءات العشر ، عاش في المدينة أصله من أصبهان. المنجد في الأعلام ، ص ٥٦٩.

(٤) البيت ينسب إلى رؤبة بن العجاج.

٢٣٤

فالفتح بتقدير على ، والكسر على الجواب ، والبصريّون يوجبونه ، ولو أضمر الفعل ، أو ذكرت اللام تعيّن الكسر إجماعا ، نحو : والله إنّ زيدا لقائم ، وحلفت إنّ زيدا قائم.

السادس : أن تقع بعد واو مسبوغة بمفرد صالحة للعطف عليه ، نحو : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه / ١١٨ و ١١٩] ، قرأ نافع وأبو بكر بالكسر ، إمّا على الاستيناف ، أو بالعطف على جملة أنّ الأولى ، والباقون بالفتح بالعطف على أن لا تجوع.

السابع : أن تقع بعد حتى ، ويختصّ الفتح بالجارة والعاطفة ، نحو : عرفت أمورك حتى انّك فاضل ، والكسر بالابتدائيّة ، نحو : مرض زيد حتى أنّه لا يرجونه.

الثامن : أن تقع بعد أمّا ، نحو : أما انّك فاضل ، فالفتح على أنّها أحقّا ، وهو قليل ، والكسر على أنّها حرف استفتاح بمترلة إلا الاستفتاحية (١).

الكلام على لا جرم ومعناها : التاسع : أن تقع بعد لا جرم ، والغالب الفتح ، نحو : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) [النحل / ٢٣] ، فالفتح عند سيبويه على أنّ جرم فعل ماضي ، وأنّ وصلتها فاعل ، أي وجب أنّ الله يعلم ولا صلة ، وعند الفرّاء على أنّ لا جرم بمنزلة لا رجل ، ومعناهما لا بدّ ومن بعدهما مقدّرة ، والكسر على ما حكاه الفرّاء من أنّ بعضهم ينزّلها منزلة اليمين ، فيقول : لا جرم لآتينّك ، ولا جرم أنّك ذاهب ، ولا جرم لقد أحسنت.

الكلام على المعطوف على اسم أنّ وأخواتها : والاسم المعطوف على أسماء هذه الأحرف منصوب ، سواء كان قبل مضيّ الخبر أو بعده. كقوله [من السريع] :

١٦٣ ـ إنّ الرّبيع الجود والخريفا

يدا أبي العّباس والصّيوفا (٢)

فعطف الخريف بالنصب على الربيع قبل مضيّ الخبر ، وهو يدا أبي العباس وعطف الصيوف ، جمع صيف ، على الربيع بالنصب بعد مضيّ الخبر.

وتختصّ إنّ المكسورة وأنّ المفتوحة لفظا المكسورة حكما ولكنّ دون الثلاث الآخر برفعه ، أي رفع المعطوف على أسمائهنّ ، وذلك لأنهنّ لما يغيّرن معنى الجملة كنّ

__________________

(١) بمترلة إلا الاستفهامية «م».

(٢) هو لرؤبة بن العجاج بن رؤبة الّتيمي. اللغة : الجود : المطر الغريز ، وأراد بأبي العباس أبا العباس السفاح أوّل الخلفاء العباسيين.

٢٣٥

كالعدم ، فيعطف على أسمائهنّ بالرفع حملا على محلّها ، ويكون من عطف الجمل لا المفردات ، لأنّ القائم مثلا في إنّ زيدا قائم وعمرو لا يكون خبرا عن الاسمين.

فان قلت : دعوى أنّ أنّ المفتوحة لا تغيّر معنى الجملة ممنوعة ، بل هي خلاف الاجماع ، قلت : قد أشرنا إلى الجواب عن ذلك بتقييدها بالمكسورة حكما. قال ابن الحاجب : أنّ المفتوحة إذا كانت مكسورة حكما جاز معاملتها في العطف معاملة إنّ المكسورة لفظا ، قال وهذا موضع لم ينبّه عليه النّحويّون ، فإنّهم إذا قالوا يعطف على اسم أنّ المكسورة دون غيرها أوهموا أنّه لا يجوز العطف مع المفتوحة.

والمفتوحة تنقسم قسمين : قسم يجوز العطف على اسمها بالرفع ، وقسم لا يجوز ، فالقسم الّذي يجوز هو أن تكون في حكم المكسورة ، كقولك : علمت أنّ زيدا قائم ، لأنّه موضع الجملة المستقلّة في المعنى لاشتمال المفعولين في باب علمت على المحكوم عليه والمحكوم به بدليل وجوب الكسر ، إذا دخلت اللام ، نحو : علمت أنّ زيدا لقائم ، ولولا إنّها في حكم الجملة المستقلّة لم يجز كسر أنّ ، ألا ترى أنّك لا تقول : أعجبني أنّ زيدا لقائم ، بكسر أنّ لأنّه لمّا لم يكن هنا في معنى الجملة المستقلّة لكونه فاعلا ، والفاعل يجب أن يكون مفردا لم يجز كسر أنّ ، فثبت أنّ المفعولين في باب علمت في المعنى الجملة المستقلّة ، وإنّما انتصبا بعدها توفيرا لما تقتضييه علمت من معنى المفعوليّة.

وإذا كان المفعولان في حكم الجملة المستقلّة تكون هذه المفتوحة بعدها في حكم المكسورة ، فيجوز العطف بالرفع فيها وإن كانت مفتوحة لفظا ، لأنّها مكسورة معنى باعتبار ما ذكرناه ، وإن كانت المفتوحة على غير هذه الصفة ، لم يجز العطف على اسمها بالرفع ، مثل قولك : أعجبني أنّ زيدا قائم وعمرا ، فلا يجوز إلا النصب ، ولا يستقيم الرفع بحال عطفا على اسم أنّ لأنّها ليست مكسورة ، ولا في حكم المكسورة ، لأنّها موضع مفرد من كل وجه ، انتهى.

وعلى هذا التحقيق جرى ابن مالك وغيره ، قال في شرح الكافية : وتلحق إنّ بأنّ إذا كان موضعها موضع جملة ، نحو : علمت أنّ زيدا منطلق وعمرو ، لكن قال الرضيّ :

وفيما قال ابن الحاجب مع هذا التحقيق البالغ نظر ، وذلك لأنّا بعد تسليم أنّ المفتوحة وما في حيّزها بتقدير اسمين لا يخرجها عن كونها بتقدير المفرد ، إذ ذانك الاسمان بتقدير المفرد ، وهذا مع أنّ الحقّ أنّ أنّ وما حيّزها ليست بتقدير اسمين بل هي من أوّل الأمر بتقدير اسم مفرد ، أعني المصدر الّذي ذانك الاسمان مؤوّلان به.

٢٣٦

شروط العطف على المحلّ : قال : وإنّما دعاه إلى هذا التكلّف أنّه رأي سيبويه مستشهدا على العطف على محل المكسورة بقوله (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة / ٣] ، وكذا مستشهدا بقوله [من الوافر] :

١٦٤ ـ وإلا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (١)

على العطف على محلّ اسم المكسورة بتقدير حذف الخبر من الأوّل ، والتقدير : أنّا بغاة ، وأنتم بغاة ، فلولا أنّ المفتوحة بعد فعل القلب في حكم المكسورة لما صحّ منه الاستدلال المذكور.

وبعض النحاة لمّا رأي سيبويه يستشهد للمكسورة بالمفتوحة ، قال : إنّ المفتوحة حكمها مطلقا حكم المكسورة في جواز العطف على محلّ اسمها بالرفع ، لأنّها حرفان مؤكّدان أصلهما واحد ، فيجوز العطف بالرفع ، نحو : بلغني أنّ زيدا قائم وعمرو. والسيرافيّ ومن تابعه لم تلتفتوا إلى استدال سيبويه ، فقالوا : لا يجوز العطف على محلّ المفتوحة مطلقا ، إذ لم يبق معها الابتداء ، بل هي مع ما في حيّزها في تأويل اسم مفرد مرفوع أو منصوب أو مجرور ، فاسمها كبعض حروف الكلمة ، انتهى.

وليس رفع المعطوف على أسماء هذه الثلاثة الأحرف المذكورة مطلقا ، بل بشرط مضيّ الخبر ، كقوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبه / ٣] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

١٦٥ ـ فمن يك لم ينجب أبوه وأمّه

فإنّ لنا الأمّ النّجيبة والأب (٢)

وقول الآخر [من الطويل] :

١٦٦ ـ وما قصّرت بي في التّسامي خؤولة

ولكنّ عمّي الطّيّب الأصل والخال (٣)

وإنّما لم يصحّ قبل مضيّ الخبر ، نحو : إنّ زيدا وعمرو قائمان ، لئلا يتوارد عاملان مستقلّان ، هما الابتداء وإنّ على معمول واحد ، هو الخبر ، فيعملان رفعا واحدا فيه وذلك لا يجوز ، لأنّ عوامل النحو عندهم كالمؤثّر الحقيقيّ ، والأثر الواحد لا يصحّ عن مؤثّرين مستقلّين ، كما برهن عليه في محلّه.

وخالف الكسائيّ والفرّاء فلم يشترطا هذا الشرط تمسّكا بنحو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) [المائدة / ٦٩] ، وخرّج على أنّه مبتدأ حذف خبره ، والكلام على التقديم والتأخير ، أو دلّ بخبره على خبر إنّ ، ولا يلزمهما حديث

__________________

(١) هو من أبيات لبشير بن أبي حازم الأسدي. اللغة : البغاة جمع الباغي : الظالم ، الشقاق : العداوة.

(٢) البيت بلا نسبة اللغة : أنجب : ولد له ولد نجيب.

(٣) لم يسمّ قائله. اللغة : الخوولة : جمع خال ، أو مصدر لا فعل له. لسان العرب ١ / ١٩٩ (خول).

٢٣٧

التوارد ، لأنّ إنّ وأخواتها لا تعمل في الخبر شيئا عند الكوفيّين كما مرّ ، لكن اشترط الفرّاء خفاء الإعراب ، نحو : إنّك أو إنّ الفتى وزيد ذاهبان ، ولم يخصّص ذلك بالثلاثة ، بل عمّمه في السّتة تمسّكا بقوله [من الرجز] :

١٦٧ ـ يا ليتني وأنت يا لميس

في بلد ليس بها أنيس (١)

وخرّج على أنّ الاصل : وأنت معي ، والجملة حالية.

تنبيهات : الأوّل : محلّ الخلاف في رفع الاسم قبل مضيّ الخبر أنّما هو حيث يتعيّن كون الخبر للاسمين ، نحو : إنّك وزيد ذاهبان ، وأمّا نحو : إنّ زيدا وعمرو في الدار فجائز باتّفاق ، نبّه عليه ابن هشام في شرح «بانت سعاد» (٢) قال : وهذا موضع يكثر فيه الوهم.

الثاني : جواز رفع تإلى العاطف فيما مرّ ونحوه متّفق عليه ، واختلف في تخريجه ، فقيل : هو معطوف على محلّ اسم إنّ ، كما ذكره المصنّف ، وهو قول نقله ابن هشام عن بعض البصريّين وأبو حيّان في الإرتشاف عن الكوفيّين والجرمي (٣) والزّجاج ، وجرى عليه ابن حاجب وابن مالك وشرّاح كلامهما ، وقيل : هو مبتدأ محذوف الخبر ، وقيل : معطوف على ضمير الخبر ، وهذان الوجهان لا خلاف في تخريجه عليهما.

وأمّا الأوّل فادّعى ابن مالك أنّه لا خلاف فيه أيضا ، ونوزع في ذلك ، قال أبو حيّان : اتّفقوا على جواز الرفع بعد مضيّ الخبر ، واختلفوا على ما ذا يرفع ، وذهب سيبويه والجرميّ وأجازه أصحابنا أنّه على المبتدأ ، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه ويتعيّن ذلك فيه ، وذهب أبو الحسن والمبرّد والفارسيّ إلى أنّه معطوف على الموضع ، فقيل : موضع اسم إنّ ، وقيل : موضعها مع اسمها.

ونقل النحاس عن الفرّاء والطّوال أنّه إنّما يرتفع بالعطف على الضمير المستتر في خبر الأوّل ، ومن قال بشيء من هذه الأقوال لم يمنع القول بالابتداء ، قال : فدعوى ابن مالك الإجماع على جواز رفع المعطوف على اسم أنّ ولكنّ باطلة لما ذكرنا من مذهب سيبويه وأصحابنا ، انتهى.

والحقّ الّذي عليه المحقّقون المنع من رفع المعطوف على محلّ الاسم مطلقا ، سواء كان مضي الخبر أم لم يمض ، خفي الإعراب ، أم لم يخف ، وذلك لأنّ للعطف على المحلّ عندهم ثلاثة شروط :

__________________

(١) هو للعجّاج أو لرؤبة.

(٢) قصيدة «بانت سعاد» أو «البردة» لكعب بن زهير شاعر العصر الاسلامي (ت ٢٤ ه‍) مدح بها النبي (ص) في مسجد المدينة.

(٣) صالح بن إسحاق أبو عمر الجرمّي البصري ، كان فقيها عالما بالنحو واللغة ، له من التصانيف : التنبيه ، مختصر في النحو ، غريب سيبويه ، مات سنة ٢٦٥ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٨.

٢٣٨

أحدها : إمكان ظهور ذلك المحلّ في الفصيح ، ولذلك لما جاز في نحو : ليس زيد بقائم ، وما جاءني من امرأة أن تسقط الباء فتنصب ، ومن فترفع ، جاز أن يعطف (١) على الأوّل منصوبا وعلى الثاني مرفوعا ، بخلاف مررت بزيد وعمرو ، ولمّا لم يجز مررت زيدا ، بإسقاط الباء ، لم يجز أن ينصب عمرو بالعطف على محلّ زيد المجرور خلافا لابن جنيّ ، وجاز في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة / ٦] نصب المعطوف على محلّ المجرور لجواز مسحت الراس في الفصيح.

الثاني : أن يكون الموضع يحقّ الاصالة ، فلا يجوز هذا ضارب زيدا وأخيه ، لأنّ الوصف المستوفي لشروط العمل ، الأصل إعماله ، لا إضافته لالتحافه بالفعل خلافا للبغداديّين.

الثالث : وجود المحرز أي الطالب للمحلّ ، فلذلك لم يجز عطف المرفوع على المحلّ في هذا الباب ، لأنّ موضع الاسم بعد أنّ لا محرز له ، لأنّ الطالب لرفعه هو الابتداء الّذي هو التجرّد قد زال بدخول أنّ ، فامتنع العطف عليه بالرفع بعد مضي الخبر وقبله ، نحو : إنّ زيدا قائم وعمرو ، وإنّ زيدا وعمرو قائمان. قال ابن هشام : وأجاز بعض البصريّين الأولى ، لأنّهم لم يشترطوا المحرز ، ومنعوا الثانية لمانع آخر هو توارد العاملين ، وأجازهما الكوفيّون ، لأنّهم لم يشترطوا المحرز ، وأن لا تعمل في الخبر عندهم شيئا ، انتهى.

الثالث : [من تنبيهات] حكم التوابع ما عدا البدل حكم النسق عند الجرميّ والزّجاج ، فيجوز الاتّباع في مذهبهما في الثلاثة بعد مضيّ الخبر لا قبله ، نحو : إنّ زيدا قائم العاقل أو بطة أو نفسه ، ومطلقا عند الكسائيّ والفرّاء ، لكن بشرط خفاء الإعراب عند الفرّاء وحكى سيبويه : إنّهم أجمعون ذاهبون ، وحملوا عليه قوله تعالى : (إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سبأ / ٤٨] ، قال الزّجاج : علّام الغيوب صفة لربي.

قال ابن عصفور والمحقّقون من البصريّين : لا يجيزون في غير المنوّن من التوابع إلا النصب فقط ، إلا أن يسمع شيء فيحفظ ولا يقاس عليه ، وقدّر سيبويه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) مبتدأ أو بدلا من فاعل يقذف. وقال ابن مالك في شرح الكافيّة ونسب سيبويه قائل : إنّهم أجمعون ذاهبون إلى الغلط مع أنّه من العرب الموثوق بعربيّتهم ، وليس ذلك من سيبويه بمرضيّ ، بل الأولى أن يخرج على أنّ قائل ذلك أراد أنّهم هم أجمعون ذاهبون ، على أن يكون هم مبتدأ مؤكّدا بأجمعون مخبرا عنه بذاهبون ، ثمّ حذف المبتدأ وبقي توكيده كما يحذف الموصوف وتبقى صفته ، انتهى.

__________________

(١) سقط جاز أن يعطف في «س».

٢٣٩

ما ولا المشبّهتان بليس

ص : الثالث : ما ولا المشبّهتان بليس ، وتعملان عملها ، بشرط بقاء النّفي وتأخّر الخبر ، ويشترط في ما ، عدم زيادة ان معها ، وفي لا ، تنكير معموليها. فإن لحقتها التاء اختصّت بالأحيان ، وكثر حذف اسمها ، نحو : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ.)

ش : النوع الثالث من أنواع النواسخ ما ولا النافيتان المشبّهتان بليس في معنى النفي والجمود والدخول على الجملة الاسميّة ، ولذلك تعملان عملها عند الحجازيّين ، فترفعان المبتدأ وتنصبان الخبر ، وعلى لغتهم جاء التتريل قال تعالى : (ما هذا بَشَراً) [يوسف / ٣١]. وقال الشاعر [من الطويل] :

١٦٨ ـ تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزر ممّا قضى الله واقيا (١)

فائدة : وجدت بخطّ الصلاح الصفدي (٢) ما صورته : سالت الشيخ أثير الدين أبا حيّان ـ أدام الله فوائده ـ كم ورد في القران العظيم إعمال ما اعمال ليس؟ فقال ثلاثة مواطن : أحدها : (ما هذا بَشَراً) [يوسف / ٣١] ، والثاني : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) [المجادلة / ٢] ، والثالث : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة / ٤٧]. قال : وزعم بعضهم أنّ حاجزين صفة لأحد وليس بشيء ، إذ الصفة مستغن عنه ، والخبر محطّ الفائدة ، انتهى ، وفيه نظر ، وبنو تميم يعملونها.

قال ابن الحاجب في شرح المفصّل والنّحويّون يزعمون (٣) أنّ لغة بني تميم في ذلك على القياس ، ويقولون إنّ الحرف إذا لم يكن له اختصاص بالاسم أو بالفعل لم يكن له عمل في أحدهما ، وما يدخل (٤) على القسمين فالقياس أن لا يعمل في أحدهما. قلت لا خلاف في إعمال لا الّتي لنفي الجنس ، وإذا صحّ إعمال لا باتّقاق ، فلا بعد في إعمال ما ، فإن زعم زاعم أنّ لا الناصبة غير لا الداخلة على الفعل ، قيل له : فما لمانع أن يكون ما الرافعة غير ما الداخلة على الفعل ، انتهى ، وفيه بحث ظاهر.

قال ابن هشام : وقريء على لغة تميم : ما هذا بشر و (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) بالرفع ، وقرئ أيضا : ما هن بأمهاتهم بالجرّ بباء زائدة ، وتحتمل الحجازيّة والتميميّة خلافا لأبي على والزمخشريّ زعما أنّ الباء تختصّ بلغة النصب ، انتهى.

__________________

(١) هذا البيت من الشواهد الّتي لم يذكروا لها قائلا معينا. اللغة : تعزّ امر من التعزّي وأصله من العزاء وهو التصبر والتسلي على المصائب ، الوزر الملجأ.

(٢) الصفدي (صلاح الدين خليل) (نحو ١٢٩٦ ـ ١٣٦٢) أديب مورخّ عمل في ديوان الانشاء في حلب ودمشق ، له مولّفات كثيرة أشهرها : «الوافي بالوفيات» وهو معجم للاعلام و «أعيان العصر». المنجد في الأعلام ص ٣٤٦.

(٣) في «ح» سقط يزعمون.

(٤) ما لا يدخل «س».

٢٤٠