الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

١١٤ ـ ...

وما لنا إلا اتّباع أحمدا (١)

أو معنى ، نحو : إنّما في الدار زيد ، إذ لو أخّر لأوهم الانحصار في الخبر كما مرّ في عكسه.

أو يعود ضمير متّصل بالمبتدأ على بعض متعلّق الخبر ، نحو : على التمرة مثلها زبد ، أو على مضاف إليه الخبر ، كقوله [من الطويل] :

١١٥ ـ أهابك إجلالا ما بك قدرة

على ولكن ملء عين حبيبها (٢)

لا يخبر بالزمان عن الذات : تتمّة : لا يخبر بالزمان عن الذات ، فلا يقال : زيد اليوم ، لعدم الفائدة ، فإن حصلت ، جاز ، كأن يكون المبتدأ عامّا ، والزمان خاصّا ، نحو : نحن في شهر كذا ويوم طيّب.

قد يتعدّد الخبر لفظا ومعنى : وقد يتعدّد الخبر لفظا ومعنى لا لتعدّد المخبر عنه ، وذلك إذا صحّ الاقتصار على كلّ واحد من الخبرين أو الأخبار ، نحو : زيد فقيه شاعر كاتب ، ولك استعماله بالعطف اتّفاقا ولفظا فقط لقيام التعدّد فيه مقام خبر واحد ، نحو : الرمان حلو حامض ، ولا يجوز فيه العطف ، لأنّ المجموع بمترلة الواحد ، إذ المعنى : الرمان مزّ ، وأجازه أبو على نظرا إلى اللفظ.

وقد يتعدّد لتعدّد صاحبه أمّا حقيقة ، نحو : بنوك فقيه ونحويّ ومنجّم ، أو حكما بأن يكون المبتدأ مفردا ذا أجزاء ينقسم الأخبار عليها ، نحو : قوله تعالى (... أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ) [الحديد / ٢٠] ، وهذا يجب فيه العطف.

تنبيهات : الأوّل : التمثيل لكون المبتدإ عامّا والزمان خاصّا بنحن في شهر كذا ، ذكره ابن مالك في شرح التسهيل ، وتبعه شرّاح كلامه ، وتعقّب ذلك العلّامة ناظر الجيش بأنّ العموم في نحن لا يعقل. قال المالكيّ (٣) في حاشية الأوضح ، ووجّهه بعضهم

__________________

(١) هذا البيت لابن مالك ، وصدره

«وخبر المحصور قدّم أبدا» ،

ابن مالك ، الألفية ، قم ، دفتر نشر نويد اسلام. الطبعة الخامسة ، ١٤١٨ ه‍. ص ١٤.

(٢) نسب البيت لنصيب بن رياح الاكبر وللمجنون. اللغة : أهابك : من الهيبة ، وهي المخاف ، اجلالا : إعظاما لقدرك.

(٣) هو مجيي الدين عبد القادر ابن أبي القاسم السعدى المالكيّ المكي المتوفى سنة ثمانين وثمانمائة ، له حاشية على أوضح المسالك إلى الفية بن مالك ، كشف الظنون ١ / ١٥٥.

٢٠١

بأنّه وإن كان ضميرا منفصلا للمتكلّم المعظّم نفسه أو المشارك غيره ، فهو عامّ لصلاحيته لكلّ متكلّم ، لا يختصّ بمتكلّم دون آخر ، انتهى.

ووجّهه آخر بشموله للمتكلّم وجميع من سواه في ذلك الزمان ، والزمان خاصّ ، لأنّه عينه ، انتهى ، وهو أولى من التوجيه الأوّل.

الثاني : قال الأخفش : قولهم : هذا حلو حامض ، إنّما أرادوا : هذا حلو فيه حمضة ، فينبغي أن يكون الثاني صفة للأول ، وليس قولهم : إنّهما جميعا خبر واحد ، بشيء. والجمهور على أنّهما خبران في معنى خبر واحد ، ونقل عن أبي على الفارسيّ أنّ نحو حلو حامض فيه ضمير واحد ، تحمّله الثاني ، لأنّ الأوّل تترّل من الثاني مترلة الجزء ، وصار الخبر إنّما هو بتمامها.

وقال بعضهم : الضمير يعود من معنى الكلام ، كأنّك قلت : هذا مزّ ، لأنّه لا يجوز خلوّ الجزئين من الضمير ، ولا انفراد أحدهما به ، لأنّه ليس أولى من الآخر ، ولا يكون فيهما واحد ، لأنّ عاملين لا يعملان في معمول واحد ، ولا أن يكون فيهما ضميران ، لأنّه يصير التقدير : كلّه حلو كلّه حامض ، وليس هذا الغرض منه.

وقيل : كلّ منهما يتحمّل ضميرا ، واختاره أبو حيّان وشيخي العلامة محمد بن على الشاميّ ، قال ولهذا ارتفعا على الخبريّة ، ولا يلزم من فرض صدقه الجمع بين الضدّين على الوجه المحال ، لأنّا لا نحكم على المبتدإ بكلّ منهما وهو على صرافته ، إذ لا يجوز الحكم إلا بعد تمام الكلام وبعد سماع الخبرين ، فالعقل يحكم حكما ضروريّا بامتناع اجتماع الضدّين بما هما ضدّان على الموضوع الواحد الشخصيّ ، فلا تعتبر نسبة واحد منهما إلى المبتدإ ، إلا حيث يعتبر تأثير كلّ منهما في الآخر ، وتأثّره عنه ، وانحطاطه عن صرفي النوعين ، ثمّ يحكم على المبتدأ بكيفيّة متوسطة بين الكيفيّتين.

فإذا قيل : الرمان حلو حامض ، فكأنّه قيل : الرمان فيه شوب من الحلاوة وشوب من الحموضة ، ولا تضادّ بينهما ، كما لا تضادّ بين البياض الضعيف والسواد الضعيف ، بل ربّما كان أحدهما عين الآخر لوجوب الحدود المشتركة بين الأنواع ، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام ، انتهى كلام شيخنا.

وتظهر ثمرة الخلاف في تحمّلهما ، أو تحمّل أحدهما في نحو : هذا البستان حلو حامض رمانه ، فإن قلنا : لا يتحمّل الأوّل ضميرا ، تعيّن رفع الرمان بالثاني ، وإن قلنا : إنّه يتحمّل ، فيجوز أن يكون من باب التنازع في السيي المرفوع.

٢٠٢

وذكر أبو الفتح ابن جنيّ أنّه راجع شيخه أبا على نيّفا وعشرين سنة ، في عود الضمير في هذا الفصل حتى تبيّن له ، وذكر في البديع أنّه لا يجوز الفصل بين هذين الخبرين بالمبتدأ ، ولا تقديمهما عليه عند الاكثرين ، وأجازه بعضهم ، انتهى.

نواسخ المبتدإ والخبر

ص : فصل : تدخل على المبتدإ والخبر أفعال وحروف ، فتجعل المبتدأ اسما لها والخبر خبرا لها ، وتسمّي النواسخ ، وهي خمسة أنواع :

الأوّل : الأفعال النّاقصة : والمشهور منها : كان وصار وأصبح وأضحي وأمسي وظلّ وبات وليس وما زال وما برح وما انفكّ وما فتي ومادام ، وعملها رفع الاسم ونصب الخبر ، ويجوز في الكلّ توسّط الخبر ، وفيما سوى الخمسة الأوآخر تقدّمه عليها ، وفيها عدا فتئ وليس وزال أن تكون تامّة ، وما تصرّف منها يعمل عملها.

مسألتان : يختصّ كان بجواز حذف نون مضارعها المجزوم بالسّكون ، نحو : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا.) بشرط عدم اتّصاله بضمير نصب ولا ساكن ، ومن ثمّ لم يجز ، في نحو : لم يكنه ، (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ.*) ولك في نحو : النّاس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، أربعة أوجع : نصب الأوّل ورفع الثاني ، ورفعهما ، ونصبهما ، وعكس الأوّل ، فالأوّل أقوي والأخير أضعف والمتوسّطان متوسّطان.

ش : هذا «فصل» في ذكر ما ينسخ المبتدأ والخبر ، «تدخل على المبتدإ والخبر أفعال وحروف» ، وتعمل فيهما بدليل أنّك متى حذفتها ، انعقد الكلام مبتدأ وخبرا ، «فتجعل المبتدأ اسما لها ، والخبر خبرا لها» ، فيسمّي الأوّل اسمها ، والثاني خبرها. وقد يسمّى مرفوع كان فاعلا تشبيها له بالفاعل ، ومنصوبها مفعولا تشبيها له بالمفعول ، وهو مجاز ، قال ابن هشام : وهو اصطلاح غير معروف.

«وتسمّى» هذه الأفعال والحروف «النواسخ» لإزالتها حكم المبتدإ والخبر الثابت لهما قبل دخولها آخذا من النسخ ، ولغة هو الإزالة ، «وهي» من حيث هي نوعان ، لأنّها إمّا أفعال أو حروف كما ذكره ، ومن حيث عملها واختلاف أحكام بعضها مع بعض «خمسة أنواع» ، ولم يذكر فيها أفعال القلوب مع اعترافه بأنّ أصل مفعوليها المبتدأ والخبر ، كما عليه الجمهور ، وقد ذكرها في حديقة الأفعال ، وسيأتي الكلام هنالك ، وكان الأولى أن يذكرها في جملة النواسخ ، فتكون الأنواع ستّة.

٢٠٣

الأفعال الناقصة

النوع «الأوّل : الأفعال الناقصة» ، وسمّيت بذلك ، لأنّها لا تتمّ بمرفوعها كلاما ، وقيل : لأنّها لا تدلّ على الحدث وليس بصحيح ، لما سيأتي ، وقد تسمّى بالنواسخ من باب إطلاق اسم الأعمّ على الأخصّ.

وعرّفها ابن الحاجب ، وتبعه المصنّف في التهذيب بما وضع لتقدير الفاعل على صفة ، أي لجعله وتثبيته عليها. قال الرضيّ وغيره : كان ينبغي أن يقيّد الصفة ، فيقول على صفة هي غير صفة مصدره (١) ، وإلا انتقض بجميع الأفعال التامّة ، فإن ضرب مثلا من قولنا : ضرب زيد ، يقرّر الفاعل على صفة ، لكن تلك الصفة هي الضرب المستفاد من الفعل العامل فيه ، وأمّا الفعل الناقص فإنّما (٢) يقرّر الفاعل على صفة غير صفة مصدره ، فإن كان في قولك : كان زيد قائما ، لا يقرّر زيدا على صفة الكون ، بل على صفة القيام المستفاد من الخبر المتّصف بصفة الكون ، أي الحصول والوجود وكذا سائرها.

قال بعضهم : والتحقيق أنّه لا حاجة إلى ما ذكر من التقييد ، لأنّ المتبادر من قولك : هذا اللفظ موضوع لذاك المعنى هو الموضوع له لا غير ، والأفعال التّامّة موضوعة لصفة ، وتقرير الفاعل عليها معا ، والأفعال الناقصة موضوعة لتقرير الفاعل على صفة ، فتكون الصفة خارجة عن مدلولها ، انتهى ، وفيه نظر ، فتأمّل.

ولم يذكر سيبويه من هذه الأفعال سوى صار ومادام وليس ، ثمّ قال : وما كان نحوهنّ من الفعل ممّا لا يستغنى عن الخبر ، والظاهر أنّها غير محصورة ، وبه جزم المصنّف في التهذيب.

وقال ابن مالك : كلّ فعل لا يستغني مرفوعه عن مخبر عنه صالح للتعريف والتنكير ، أو جملة تقوم مقامه فهو من باب كان ويميّزها عن غيرها وقوع اللام الفارقة بعدها ، نحو : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) [البقرة / ١٤٣] ، (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) [الأعراف / ١٠٢].

قال الرضيّ : وقد يجوز تضمين كثير من الأفعال التامّة معنى الناقصة كما تقول : تتمّ التسعة بهذا عشرة ، قال الله تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [مريم / ١٧] ، أي صار مثل بشر ونحو ذلك.

وظاهر عبارة المصنّف أنّها غير مشهورة ، حيث قال : «المشهور منها كان وصار وأصبح وأمسي وأضحي وظلّ وبات وليس» ، فكان لثبوت خبرها لاسمها وفيها

__________________

(١) هي صفة غير مصدره «ح».

(٢) سقط فأنّما في «ح».

٢٠٤

مضي مع الانقطاع عند الأكثر كما قال أبو حيّان ، أو مع السكوت عن الانقطاع وعدمه عند آخرين ، وجزم به ابن مالك ، نحو : كان زيد قائما ، وقد تكون للاستمرار والدّوام ، ومنه الواردة في صفاته تعالى ، وصار لانتقال اسمها إلى خبرها ، وأصبح وأمسي وأضحي لثبوت خبرها لاسمها صباحا ومساء وضحيّ وطلّ وبات لثبوت خبرهما لا سمهما في جميع النهار والليل.

قال ابن الخباز : ورأيت كثيرا يتوهّمون دلالة بات على النوم ، ويبطله قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) [الفرقان / ٤٦] وقد تكون كان وأصبح وأمسي وأضحي وظلّ وبات بمعنى صار كقوله تعالى (فَكانَتْ هَباءً) [الواقعة / ٦] ، (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران / ١٠٣] ، (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) [النحل / ٥٨] ، وقول الشاعر [من البسيط] :

١١٦ ـ أمست خلاء وأمسي أهلها احتملوا

أخنى عليها الّذي أخنى على اللّبد (١)

وقوله [من الخفيف] :

١١٧ ـ ثمّ أضحوا كأنّهم ورق ج ...

فّ فألوت به الصّبا والدّبور (٢)

وقوله [من الوافر] :

١١٨ ـ ...

أبيت كأنّني أكوى بجمر (٣)

وليس لنفي خبرها عن اسمها حالا عند الجمهور ، وقال سيبويه وابن السراج مطلقا ، قال الأندلسيّ وليس بين القولين تناقض ، لأنّ خبر ليس إن لم يقيّد بزمان يحمل على الحال كما يحمل الإيجاب عليه في نحو : زيد قائم ، وإذا قيّد بزمان من الأزمنة فهو على ما قيّد به ، واستحسنه الرضيّ. قال بعض المحقّقين وفيه نظر : لأنّ المراد بكونها للحال أو كونها للمطلق أنّها كذلك بحسب الوضع فإذا كانت عند الإطلاق للحال فهي للحال ألبتّة ، انتهى ، فتأمّل.

وتعمل هذه الأفعال الثمانية العمل الآتي مطلقا ، سواء كانت موجبة أو منفيّة ، صلة لما الظرفيّة ، أو غير صلة ، وألحق بها المصنّف في التهذيب آض وعاد وغدا وراح ، وعدّها من المشهور.

«وما زال» وهو لثبوت خبرها لاسمها على الاستمرار مذ قبله ، ويشترط فيه أن يكون ماضي يزال ، لا ماضي يزيل ، فإنّه فعل متعدّ إلى واحد ، ومعناه ماز ، يقال : زال

__________________

(١) هو للنابغة الذبياني. اللغة : الخلاء : الفراغ ، أخنى عليها. أفسدها ونقصها ، لبد : آخر نسور لقمان بن عاد.

(٢) هو لعدي بن زيد. اللغة : ألوت به. نثرته ، الصبا والدبور : ريحان متقابلتان.

(٣) صدره «أجني كلّما ذكرت كليب» ، وهو نسب إلى عمرو بن قيس المخزوني وإلى الهدي. اللغة : أكوى : أحرق بحديدة محماة ، الجمر جمع الجمرة : القطعة الملتهبة من النار.

٢٠٥

ضأنه (١) من معزه (٢) ، أي ميّزه ، ومصدره الزيل ، ولا ماضي يزول ، فإنّه قاصر ، ومعناه الانتقال ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا) [فاطر / ٤١] ، ومصدره الزوال. «وما برح وما انفك وما فتئ» مثلث التاء ، ويقال : أفتا ، ذكرها الصغائيّ (٣) ، وهي تميميّة ، وهذه الأربعة تعمل بشرط تقدّم نفي أو نهي أو دعاء ، مثال النفي كما نطق به قوله تعالى (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود / ١١٨] ، (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ) [طه / ٩١] ، ومنه (تَاللهِ تَفْتَؤُا) [يوسف / ٨٥] ، أي لا تفتؤ ، ومثال النّهي قوله [من الخفيف] :

١١٩ ـ صاح شمّر ولا تزل ذاكر المو

 ... ت فنسيانه ضلال مبين (٤)

ومثال الدعاء قوله [من الطويل] :

١٢٠ ـ ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلي

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر (٥)

وقيّده في الإرتشاف بلا خاصّة ، قال أبو حيّان في شرح التسهيل : ولا خلاف بين النّحويّين في أنّ معاني هذه الأفعال الأربعة متّفقة. «ومادام» وهي لتوقيت أمر بمدّة ثبوت خبرها لاسمها ، وتعمل بشرط تقدّم ما المصدريّة الظرفيّة ، كما نطق به ، ك : أعط ما دمت مصيبا درهما (٦) أي مدّة دوامك مصيبا ، فلوم تقدّمها ما لم يكن من هذا الباب نحو : دمت مصيبا ، وكذا لو كانت مصدريّة غير ظرفيّة ، نحو : عجبت ممّا دمت محسنا ، لأنّ المعنى من دوام إحسانك لا من مدّة دوام أحسانك.

تنبيه : قال بعضهم : اتّفق النحاة على أنّ كان وأخواتها أفعال إلا ليس ، فإنّ الفارسيّ ومن تبعه ذهب إلى حرفيّتها ، والصحيح فعليتها لاتّصال ضماير الرفع البارزة وتاء التأنيث الساكنة بها ، انتهى. قلت : ودعوى الاتّفاق ممنوعة ، فقد ذهب الزّجاج ومن تبعه إلى أنّها حروف لكونها دالّة على معنى في غيرها ، حيث جاءت لتقرير الخبر للمبتدإ على صفة.

«وعملها» كلّها «رفع الاسم» ، وهو المبتدأ (٧) الّذي تدخل عليه ، أي تجدّد عليه رفعا غير الأوّل لكونها عوامل لفظيّة ، وهو مذهب البصريّين ، وذهب الكوفيّون إلى أنّه باق

__________________

(١) الضأن : ذو الصوف من الغنم.

(٢) المعز : ذو الشعر من الغنم خلاف الضأن

(٣) الحسن بن محمد أبو الفضائل الصغائيّ ، له من التصانيف : مجمع البحرين في اللغة ، التكملة على الصحاح و... توفّي سنة ٦٠٥ ه‍ ، بغية الوعاة ١ / ٥١٩.

(٤) البيت من الشواهد الّتي لا يعرف قائلها.

(٥) البيت لذي الرمة غيلان بن عقبة يقوله في صاحبته مية. اللغة : البلي : من بلي الثوب يبلي أي : خلق ورثّ ، منهلا : منسكبا منصبا ، الجرعاء : رملة مستويه لا تنبت شيئا ، القطر : المطر.

(٦) هذا عجز بيت من ابن مالك في ألفيّته وصدره «ومثل كان دام مسبوقا بما» ، ألفية ابن مالك ص ١٥.

(٧) سقط المبتدأ في «س».

٢٠٦

على رفعه ، لأنّه لم يتعيّن عمّا كان عليه ، والصحيح الأوّل بدليل اتّصال الاسم بها إذا كان ضميرا ، نحو : كنت قائما ، والضمير بالاستقراء لا يتّصل إلا بعامله ، ويشترط في المبتدأ الّذي تدخل عليه أن لا يخبر عنه بجملة طلبيّة ولا إنشائية ، وأن لا يلزم التصدير ولا الحذف ولا عدم التصرّف ولا الابتدائية ، سواء كان لنفسه أم لمصحوب لفظيّ أم معنويّ.

«ونصب الخبر» أي خبر المبتدأ خلافا للكوفيّين في أنّه انتصب على الحال ، وأكثر النحاة على أنّه لا يجوز رفع الخبر بعدها على إضمار مبتدأ محذوف ، فلا يقال : كنت قائم ، أي أنا ، وقد ورد في الشعر ما ظاهره الجواز ، فإن كان تفضيلا جاز الوجهان ، نحو : كان الزيدان قائما وقاعدا أو قائم وقاعد (١). ورفع الاسمين بعدها ، أنكره الفرّاء ، وقال الجمهور فيها ضمير شأن ، والكسائيّ وابن الطراوة ملغاة ، وذكره في الإرتشاف.

تنبيهان : الأوّل : إذا انتقض خبر ليس بإلا لم يخرج عن هذا العمل في لغة أهل الحجاز ، وبنو تميم يرفعون الخبر حملا لها على «ما» في الإهمال عند انتقاض النفي ، كما حمل أهل الحجاز ما على ليس في الإعمال عند استيفاء شروطها.

حكاية أبي عمرو مع عيسى بن عمرو : حكى ذلك عنهم أبو عمرو بن العلا (٢) ، فبلغ ذلك عيسى بن عمرو الثّقفيّ (٣) ، فجاء ، فقال : يا أبا عمرو ما شيء بلغني عنك أنّك تجيزه؟ قال : وما هو؟ قال : بلغني أنّك تجيز ليس الطيب إلا المسك ، بالرفع ، فقال له أبو عمر : نمت وأدلج الناس ، ليس في الأرض تميميّ إلا وهو يرفع ، ولا حجازيّ إلا وهو ينصب ، ثمّ قال لليزيديّ (٤) : تعال أنت يا يحيي ، وقال لخلف الأحمر (٥) : تعال أنت يا خلف ، امضيا إلى أبي مهديّ (٦) فلقّناه الرفع ، فإنّه يأبي ، وامضيا إلى المنتجع (٧) من تيهان التميميّ فلقّناه النصب ، فإنّه يأبي.

__________________

(١) سقط قائم وقاعد في «ح».

(٢) أبو عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة المشهورين ، كان إمام أهل البصرة في القراءات والنحو واللغة ، مات سنة ١٥٤ ه‍. المصدر السابق ٢ / ٢٣١.

(٣) عيسى بن عمر الثقفي ، إمام في النحو والعربية والقراءة ، صنف : الإكمال ، الجامع مات سنة ١٤٩ ه‍. المصدر السابق ص ٢٣٨.

(٤) يحيى بن المبارك أبو محمد إليزيدي النحوي كان أحد القرّاء الفصحاء العالمين بلغة العرب والنحو ، صنّف : مختصرا في النحو ، المقصور والممدود و... مات سنة ٢٠٣ ه‍ ، المصدر السابق ص ٣٤٠.

(٥) خلف الاحمر البصري ، كان راوية ثقة ، علامّة ، صنف : جبال العرب وما قيل فيها من الشعر و... مات سنة ١٨٠ ه‍. المصدر السابق ١ / ٥٥٤.

(٦) هو محمد بن سعيد بن ضمضم شاعر إعرابي فصيح ، كان علماء زمانه يأخذون عنه لغة الحجاز. مغني اللبيب ص ٣٨٨.

(٧) المنتجع بن نبهان إعرابي فصيح ، أخذ عنه علماء زمانه اللغة التميميّة. المصدر. السابق ص ٣٨٨.

٢٠٧

قال أبو محمد إليزيديّ : فمضينا إلى أبي مهديّ ، فوجدنا قائما يصلّي ، فلمّا قضي صلاته ، أقبل علينا ، فقال : ما خطبكما؟ فقلت : جئناك لنسألك عن شيء من كلام العرب ، قال : هاتياه ، فقلنا : كيف تقول : ليس الطيب إلا المسك ، فقال : أتأمرني بالكذب على كبر السّنّ ، فأين الزعفران ، وأين الجاديّ ، وأين بنّة الإبل الصادرة (١)؟ فقال له خلف الأحمر : ليس الشراب إلا العسل. قال : فما تصنع سودان هجر (٢) ما لهم غير هذا الثمر ، فلمّا رأيت ذلك ، قلت : كيف تقول : ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله تعالى؟ فقال : هذا كلام لا دخل فيه ، ليس ملاك الأمر إلا طاعة الله تعالى ، والعمل بها ، ونصب ، فلقّنّاه الرفع ، فأبي ، وكتبنا ما سمعناه منه.

ثمّ جئنا إلى المنتجع ، فقلنا له : كيف تقول : ليس الطيب إلا المسك ، فقال : ليس الطيب إلا المسك ، فرفع ، وجهدنا به أن ينصب ، فلم ينصب ، فرجعنا إلى عمرو ، وعنده عيسى بن عمرو ، ولم يبرح بعد ، فأخبرنا بما سمعنا ، فأخرج عيسى خاتمه من يده ، فدفعه إلى أبي عمرو ، فقال : بهذا سدت الناس يا أبا عمرو.

حالات خبر الأفعال المذكورة مع اسمها إذا كانا معرفتين أو نكرتين : الثاني : للخبر مع الاسم حالات ، فإن كانا معرفتين ، فالاسم هو المعلوم للمخاطب مطلقا ، فإن علمهما ، وجهل انتساب أحدهما إلى الآخر ، فالاسم هو الأعرف على المختار ، ما لم يكن الآخر اسم اشارة ، اتّصل بها هاء التنبيه ، فيتعيّن للاسميّة ، فإن لم يكن أحدهما أعرف ، فالتخيير ، هذا هو المشهور. وقيل : المتكلّم بالخيار في جعل أي المعرفتين شاء الاسم والآخر الخبر ، وهي طريقة المتقدّمين. وذهب إلى ذلك من المتأخّرين ابن مضاء (٣) وابن طاهر (٤) والاستاذ أبو على وابن خروف وابن عصفور. قيل : وهو ظاهر كلام سيبويه ، وإن كانا نكرتين ولكلّ منهما مسوّغ ، فالتخيير أيضا ، وإن كان المسوّغ لأحدهما فقط ، فهو الاسم وإن كانا مختلفين ، فالمعرفة هو الاسم ، والنكرة هو الخبر ، ولا يعكس إلا في الضرورة ، وجوّزه ابن مالك اختيارا بشرط الفائدة ، وكون النكرة غير متمحضه للوصفية ، ومن وروده قوله [من الوافر] :

__________________

(١) البنّة : الرائحة المنتنة. ولعلّ قصده من هذه الجمل : أين الكلام الصحيح؟ وأين الكلام غير الصحيح؟

(٢) السودان جمع أسود ، جيل من الناس سود البشرة. وهجر اسم موضع فيه تمر.

(٣) أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء اللخميّ ، كان له تقدّم في علم العربية ، صنفّ : المشرق في النحو ، الردّ على النّحويّين و... مات ٥٩٢ ه‍. المصدر السابق ١ / ٣٢٣

(٤) عبد الله بن حسين بن طاهر فقيه نحوي ، له تصانيف منها ، المفتاح الإعراب في النحو مات ١٢٧٢ ه‍. الأعلام للزركلي ٥ / ٢١٠.

٢٠٨

١٢١ ـ قفي قبل التّفرق يا ضباعا

ولا يك موقف منك الوداعا (١)

وقوله [من الوافر] :

١٢٢ ـ كأنّ سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء (٢)

جواز توسّط الخبر بينها وبين الاسم : «ويجوز في الكلّ» ، أي في كلّ أفعال الناقصة ، والمشهور منها وغيره ، وإدخال أل على «كلّ» وكذا «بعض» منعه بعضهم ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى ، «توسّط الخبر» بينها وبين الاسم خلافا لابن درستويه في ليس ، ولابن معط في دام ، وذلك حيث لا مانع ولا موجب للتوسّط ، فالأوّل : كأن يكون الخبر واجب التقديم عليها لصدريّتة ، نحو : أين كان زيد ، أو واجب التأخير ، كما إذا دخلته أداة الحصر ، نحو : ما كان زيد إلا في الدار ، أو خيف لبس نحو : كان صاحبي عدوي.

والثاني كما إذا دخلت الاسم أداة حصر ، وكان مع الفعل ما يقتضي التصدير وعدم الفصل منه ، نحو : هل كان قائما إلا زيد ، اذ لا يفصل بين الفعل وأداة الاستفهام ، أو كان الخبر ضمير وصل ، نحو : كانه زيد. فجواز التوسّط بمعنى سلب ضرورة الطرفين من التوسّط. وعدمه محلّه ما عدا ذلك ، كما في نحو : كان زيد قائما ، تقول : كان قائما زيد (٣) ، قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم / ٤٧] ، وقراءة حمزة (٤) وحفص : (٥)(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) [البقرة / ١٧٧] بنصب البرّ. وقال الشاعر [من البسيط] :

١٢٣ ـ مادام حافظ سرّي من وثقت به

فهو الّذي لست عنه راغبا أبدا (٦)

هذا إن حمل الجواز في كلامه على معناه المشهور من سلب ضرورة الطرفين ، فإن حمل على ما يقابل الامتناع كان أعمّ ممّا توسّطه واجب وجائز.

تنبيهان : الأوّل : ذكر ابن مالك أنّه يمتنع التوسّط في نحو : كان غلام هند مبغضها ، لعود الضمير (٧) ويجب في نحو : كان في الدار ساكنها ، لاتّصاف الاسم بضمير الخبر ، وفي

__________________

(١) هو مطلع قصيدة للقطامي عمير بن شيميم التغلبي. اللغة : ضباعا : مرخم ضباعة.

(٢) هو من قصيدة لحسان بن ثابت. اللغة : السببئية : الخمر ، بيت راس : قرية بالشام.

(٣) سقطت هذه الجملة في «ح».

(٤) حمزة بن حبيب (أبو عمارة) (ت ١٥٦ ه‍ / ٧٧٣ م) : أحد أئمة القراءات العشر. لقب بالزيات. توفّي في العراق. المنجد في الأعلام ص ٢٢٥.

(٥) حفص بن عمر بن عبد العزيز ، إمام القراءة في عصره ، له كتاب «ما اتفقت ألفاظه ومعانيه من القرآن» وهو أول من جمع القراءات ، توفّي سنة ٢٤٦ ه‍ الأعلام للزركلي ، ٢ / ٢٩١.

(٦) لم يسمّ قائله.

(٧) لعود الضمير من الخبر إلى ملابس الاسم «ح».

٢٠٩

نحو : كان في الدار رجل لكون الخبر ظرفا مسوّغا للابتداء ، ونوزع في الأوّل بأنّ عود الضمير هنا على الاسم ، ورتبته التقديم ، فلا يمتنع ، وفي الأخيرى ن بأنّهما لا يقتضيان وجوب التوسط بل عدم التأخّر ، ولا يمنعان تقديم الخبر ، نحو : في الدار كان ساكنها ، وفي الدار كان رجل.

الثاني : قضية إطلاقه جواز توسّط الخبر ، ولو كان فعلا ، نحو : كان يقول زيد ، على جعل زيد اسم كان ، وهو ما صحّحه ابن عصفور وابن مالك ، ومنعه بعضهم قياسا على المبتدإ المخبر عنه بفعل ، فإنّه لا يتقدّم خبره كزيد قال ، والأوّل هو الصحيح. كما في المغني قال ، اذ لا تلتبس الجملة الاسمية بالفعلية ، انتهى.

جواز تقدّم الخبر عليها : ويجوز في ما سوى الخمسة الأواخر وهي الّتي في أوّلها ما تقدّمه ، أي الخبر عليها ، ولو كان جملة على الأصحّ ، ذلك حيث لا موجب له ، كأن يكون من أدوات الصدر ، نحو : أين كان زيد ولا مانع منه كما إذا دخلته أداة الحصر ، نحو : قائما ، أو خيف اللبس ، نحو : كان صاحبي عدوّي ، فجواز التقدّم بمعنى سلب ضرورة الطرفين محلّه ما عدا ذلك ، نحو : قائما كان زيد ، وإن حمل على الجواز بمعنى مقابل الامتناع كان أعمّ ممّا تقديمه واجب وجائز كما قلناه في جواز التوسّط ، وجاز تقدمّه بدليل قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ / ٤٠] ، (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف / ١٧٧] ، فإيّاكم وأنفسكم معمولان لخبر كان ، وقد تقدّما عليها.

قد يتقدّم المعمول حيث لا يتقدّم العامل : وتقديم المعمول يؤذن بجواز تقديم العامل ، قاله ابن مالك في شرح التسهيل ، وسبقه إلى ذلك الفارسيّ وابن جنيّ وغيرهما من البصريّين ، وهو غير لازم. فقد يتقدّم المعمول حيث لا يتقدّم العامل بدليل تجويزهم زيدا لم أضرب ، وعمرا لن أضرب ، مع امتناع تقدّم أضرب على لم ولكن ، قال بعضهم : وأحسن ما يستشهد به على ذلك بيت العروض [من الرمل] :

١٢٤ ـ إعلموا أنّي لكم حافظ

شاهدا ما كنت أو غائبا (١)

وإنّها امتنع في الخمسة الأواخر لاقترانها بما وهي مانعة ، لأنّها إمّا نافية ، وهي من أدوات الصدر أو مصدريّة ، ومعمول المصدر لا يتقدّم عليه ، ومنع ذلك في دام متّفق عليه ، وأمّا الأربعة الآخر وغيرها ممّا نفي بما من هذه الأفعال ، وإن لم يكن النفي شرطا في عمله مختلف فيه.

__________________

(١) هو لابن عبد ربه الأندلسي.

٢١٠

فالمنع مذهب البصريّين والفرّاء ، وأجازه بقيّة الكوفيّين ، لأنّ ما عندهم لا يلزم تصديرها. وخصّ ابن كيسان المنع بغير ما النفي شرط في عمله لأنّ نفيه إيجاب ، فإن كان النفيّ بغير ما جاز التقديم مطلقا خلافا للفرّاء في اطلاقه المنع مع كل ناف ، ويردّه قوله [من الطويل] :

١٢٥ ـ ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد (١)

وأمّا توسّطه بين النّافي والمنفيّ فجائز مطلقا ، نحو : ما قائما كان زيد ، وما قائما زال زيد ، قاله غير واحد ، وحكى الرضيّ الاتّفاق على منعه فيما النفي فيه شرط في العمل ، وليس كذلك.

ولا يجوز توسّطه بين ما ودام ، كما جزم به صاحب الإيضاح والبدر بن مالك والرضيّ ، بل ظاهر كلام الألفية أنّه مجمع عليه. قال المراديّ : وفيه نظر : لأنّ المنع معلل إمّا بعدم تصرّفها ، وهو لا ينهض مانعا بدليل اختلافهم في ليس مع اتفاقهم على عدم تصرّفها ، أو كون ما موصولا حرفيّا لا يفصل بينه وبين صلته ، وفيه خلاف فقد أجازه كثير إذا لم يكن عاملا.

واختلف في تقديم خبر ليس ، فأجازه قدماء البصريّين ، ومنعه الكوفيّون والمبرّد وابن السرّاج والجرجانيّ وأكثر المتأخّرين ، قال ابن مالك في شرح الكافيّة : والمنع أحبّ إلى لشبه ليس بما في النفي وعدم التصرّف ، ولأنّ عسى لا يتقدّم خبرها إجماعا لعدم تصرّفها مع الاتّفاق على فعلى تها ، فليس أولى بذلك لمساواتها لها في عدم التصرّف مع الاختلاف في فعليتها ، انتهى.

وفرّق ابنه (٢) بين عسى وليس بأنّ عسى متضمّنة معنى ماله صدر الكلام ، وهو لعلّ بخلاف ليس. قال بعض الأئمة : ويمنع هذا الفرق بأن ليس أيضا متضمّنة معنى ما له صدر الكلام وهو ما النافية ، انتهى. وقد يجاب بمنع تضمّن ليس معنى ما ، لأنّ ليس عنده لنفي الحال كما صرّح به ، وما لما هو أعمّ فلم تتضمّن معناها والنفي وإن لزم صدر الكلام في ما لم يلزمه فيما عداها.

تنبيه : قال المراديّ ينبغي أن يكون الخلاف في غير ليس المستثنى بها فيمتنع التقديم فيها قولا واحدا ، وسبقه في ذلك شيخه أبو حيّان فقال في باب الاستثناء من الإرتشاف :

__________________

(١) البيت للمعلوط القريعي. اللغة : على السن : أي على العمر.

(٢) سقط ابنه في «ح» ، وهو بدر الدين بن مالك ، له من التصانيف : شرح ألفيه ، ومات سنة ٦٨ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٢٢٥.

٢١١

من أجاز من النّحويّين تقديم خبر ليس عليها ينبغي أن لا يجيز ذلك هنا ، لأنّها تجرى مجرى إلا ، فكما لا يجوز : قام القوم زيدا إلا ، لا يجوز قام القوم زيدا ليس.

جواز كون الأفعال الناقصة تامّة : ويجوز في ما عدا فتئ وليس (١) وزال أن تكون تامّة ، أي مستغنية عن الخبر كما أنّ معنى كونها ناقصة عدم الاستغناء عنه ، هذا هو الصحيح الّذي عليه المحقّقون ، وصحّحه نجم الأئمة وفاضل الأمة (٢).

وذهب الأكثرون إلى أنّ معنى تمامها دلالتها على الحدث والزمان زعما منهم أنّ معنى نقصانها عدم دلالتها على الحدث كما مرّ. قال نجم الأئمة : وليس بشيء ، لأنّ كان في «كان زيد قائما» يدلّ على الكون الّذي هو الحصول المطلق ، وخبره يدلّ على الكون المخصوص ، وهو كون القيام أي حصوله فجيء أوّلا بلفظ دالّ على حصول ما ، ثمّ عيّن بالخبر ذلك الحاصل ، فكأنّك قلت : حصل شيء ، ثمّ قلت : حصل القيام ، فالفائدة في إيراد مطلق الحصول أوّلا ، ثمّ تخصيصه كالفائدة في ضمير الشأن قبل تعيين الشأن مع فائدة أخري هاهنا ، وهي دلالته على تعيين زمان ذلك الحصول المقيّد ولو قلنا : قام زيد ، لم تحصل هاتان الفائدتان معا فكان يدلّ على حصول حدث مطلق تقييده في خبره ، وخبره يدلّ على حدث معيّن واقع في زمان مطلق تقييده في كان. لكنّ دلالة كان على الحدث المطلق أي الكون وضعيّة ، ودلالة الخبر على الزمان المطلق عقليّة.

أمّا سائر الأفعال الناقصة نحو : صار الدالّ على الانتقال ، وأصبح الدّال على الكون في الصبح أو الانتقال ، ومثله أخواته ، ومادام الدّالّ على معنى الكون الدائم ، ومازال الدّالّ على الاستمرار ، وكذا أخواته ، وليس الدّالّ على الانتفاء ، فدلالتها على حدث معيّن لا يدلّ عليه الخبر في غاية الظهور ، فكيف يكون جميعها ناقصة بالمعنى الّذي قالوه ، انتهى.

واستدلّ ابن مالك على بطلان قولهم أيضا بعشرة أوجه ذكرها في شرح التسهيل ، إلا أنّه استثني ليس ، فوافق الأكثرين على عدد دلالتها على الحدث. وإذا استعملت هذه الأفعال تامّة ، كانت بمعنى فعل لازم ، فكان بمعنى حصل ، نحو : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) [البقرة / ٢٨٠] ، أي انتقل ، وصار بمعنى رجع ، نحو : (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشوري / ٥٣] ، أي ترجع ، وأصبح وأمسي بمعنى دخل في الصباح والمساء ، نحو : (فَسُبْحانَ اللهِ

__________________

(١) سقط ليس في «س».

(٢) لم اقع على ترجمة له.

٢١٢

حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [الروم / ١٧] ، أي حين تدخلون في المساء وحين تدخلون في الصباح ، وأضحي بمعنى دخل في الضحي ، كقوله [من الطويل] :

١٢٦ ـ ومن فعلاتي أنّني حسن القرى

إذا الليلة الشّهباء أضحي جليدها (١)

أي دخل في الضحي ، وظلّ بمعنى دام واستمرّ ، نحو : ظلّ اليوم أي دام ظلّه ، وبات بمعنى عرّس ، كقوله [من المتقارب] :

١٢٧ ـ وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد (٢)

أي وعرّس. وبرح بمعنى ذهب ، نحو : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ) [الكهف / ٦٠] ، أي لا أذهب ، وانفكّ بمعنى انفصل ، نحو : فككت الخاتم ، فانفكّ ، أي انفصل. ودام بمعنى بقي ، نحو : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود / ١٠٧] ، أي بقيت ، وقد تكون لمعان أخر ، وعملها حينئذ عمل ما رادفته ، إن لازما فلازما أو متعدّيا بحرف فيه أو بنفسه ، فكذلك هي.

أمّا فتيء وليس وزال وما تصرّف من متصرّفها فلا تستعمل إلا نواقص. وفي التسهيل فتي تستعمل تامّة بمعنى سكن وطفأ ، وحكى في شرحه عن الفرّاء : فتأته عن الأمر كسرته ، وفتأت النار : أطفأتها. قال في القاموس : وهو صحيح ، وغلط أبو حيّان وغيره في تغليطه ، انتهى.

وحكى أبو على في الحلبيّات (٣) وقوع زال تامّة ، نحو : ما زال زيد عن مكانه ، أي لم ينتقل ، وذهب الكوفيّون إلى أنّ ليس تكون عاطفة لا اسم لها ولا خبر ، نحو : إنّما يجزي الفتى ليس الجمل.

واعلم أنّ كلّ هذه الأفعال تتصرّف إلا ليس باتّفاق ، ودام عند الفرّاء وأكثر المتأخّرين ، وما عداهما على قسمين : ما يتصرّف تصرّفا ناقصا ، وهو زال وأخواتها فلا يستعمل منها أمر ولا مصدر ، وما يتصرّف تصرفا تامّا ، وهو البواقي ، فيستعمل منها مضارع وأمر واسم فاعل ومصدر. وما تصرّف منها تصرّفا تأمّا أو ناقصا يعمل عملها ، فيثبت لغير الماضي ما يثبت للماضي من العمل ، فالمضارع ، نحو : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم / ٢٠] ، والأمر ، نحو : (كُونُوا حِجارَةً) [الإسراء / ٥٠] واسم الفاعل كقوله [من الطويل] :

__________________

(١) هو لعبد الواسع بن أسامة. اللغة : القري : إكرام الضيف. الليلة الشهباء : الليلة الباردة والمجدبة.

(٢) نسب إلى امرئ القيس. اللغة : العائر : القذي في العين. الأرمد : المصاب بالرمد ، وهو داء التهابي يصيب العين.

(٣) الحلبيّات في النحو لأبن على الفارس النحويّ.

٢١٣

١٢٨ ـ وما كلّ من يبدي البشاشة كائنا

أخاك إذا لم تلفه لك منجدا (١)

وقوله [من الطويل] :

١٢٩ ـ قضى الله يا أسماء أن لست زائلا

أحبّك حتى يغمض العين مغمض (٢)

والمصدر كقوله [من الطويل] :

١٣٠ ـ ببذل وحلم ساد في قومه الفتى

وكونك إيّاه عليك يسير (٣)

وكلّها لا يستعمل منها اسم مفعول ، وأمّا قول سيبويه : وهو مكون لله. فيقال : إنّ ابن جنيّ سأل عنه شيخه أبا على الفارسيّ؟ فقال : ما كلّ داء يعالجه الطبيب.

معنى التصرّف في الأسماء : تنبيه. كلّ من التصرّف وعدمه يكون في الأفعال وفي الأسماء ، والتصرّف في الأفعال اختلاف أبنية الفعل باختلاف المعاني كضرب ، يضرب اضرب ، وعدمه أن يلزم صيغة واحدة منها كليس ودام في هذا الباب ، وعسى في أفعال المقاربة ، وهب وتعلم في باب ظنّ ، وخلا وعدا وحاشا في باب الاستثناء ، وصيغ التعجّب الثلاث ، ومنها نعم وبئس وحبّذا ، وسيأتي في أبوابها ، ومنها قلّ النافية ، وتبارك ، وسقط في يده ، وهدّك من رجل ، وينبغي في الأشهر ، وهلّم ، على القول بأنّه أمر ، وعم صباحا وأرحب.

والتصرّف في الأسماء أن تستمل بوجوه الإعراب فتكون مبتدأ وفاعلا ومفعولا ومضافا ومضافا إليه ونحوه ، وعدمه أن يقتصر به على بعض ذلك كاقتصارهم في أيمن على الرفع بالابتداء ، وسبحان الله على النصب بالمصدريّة ، وبعض الظروف على النصب بالظرفية أو الجرّ بمن كما يأتي في باب الإشارة ، إن شاء الله تعالى.

جواز حذف نون مضارع كان المجزوم بالسكون : هاتان «مسألتان» : الأولى : «تختصّ كان» دون أخواتها «بجواز حذف نون مضارعها المجزوم بالسكون» تخفيفا لكثرة الاستعمال وشبه النون بحرف العلّة نحو قوله تعالى : (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم / ٢٠] ، أصله أكون ، حذفت الضمّة للجازم والواو لالتقاء الساكنين ، ثمّ النون للتخفيف ، والحذفان الأوّلان واجبان ، والثالث جائز ، بخلاف نحو : (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) [القصص / ٣٧] ، ونحو : وتكون لكما الكبرياء ،

__________________

(١) لم يسمّ قائل البيت. اللغة : يبدي : يظهر ، البشاشة : طلاقة الوجه ، تلفه : تجده ، منجدا : مساعدا.

(٢) البيت للحسين بن مطير الأسدي. قالها في صاحبته أسماء ، اللغة : قضي أي حكم وقدّر ، والمراد من مغمض : الموت.

(٣) هذا البيت من الشواهد الّتي لم ينسبوها إلى قائل معيّن.

٢١٤

لانتفاء الجزم ، ونحو : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) [يوسف / ٩] ، لأنّ جزمه بحذف النّون ، فلم تحذف ، لأنّها محرّكة في الأولين بحركة الأعراب ، وفي الثالث بحركة المناسبة فتعاصت عن الحذف بخلاف ما إذا كانت ساكنة ، فإنّها شبيهة بأحرف المدّ واللين في سكونها وامتداد الصوت بها ، فتحذف كما يحذفن بجامع أنّها تكون إعرابا مثلهنّ ، وتحذف للجازم كما يحذفن.

واختصاص كان بذلك «بشرط عدم اتّصاله» أي اتّصال نون مضارعها المجزوم «بضمير نصب ولا» بحرف «ساكن ومن ثمّ» بفتح المثلثة وتشديد الميم إشارة إلى المكان الاعتباريّ ، أي ومن أجل اعتبار الشرط المذكور «لم يجز» حذف نون مضارع كان المجزوم بالسكون في نحو قوله عليه الصلاة والسّلام لعمر لما طلب أن يقتل ابن الصياد حين أخبر بأنّه الدّجال : إن يكنه فلن تسلّط عليه وإلا يكنه فلا خير لك في قتله (١) ، لاتّصاله بالضمير المنصوب. والضمائر تردّ الأشياء إلى أصولها ، فلا يحذف معهما بعض الأصول.

ولا في نحو قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) [النساء / ١٣٧] ، لاتّصاله بالساكن ، وهو لام التعريف ، فالنون مكسورة لأجله فهي متعاصية لقوتها بالحركة ، وخالف يونس في هذا فأجاز الحذف تمسّكا بقوله [من الطويل] :

١٣١ ـ إذا لم تك الحاجات من همّة الفتى

فليس بمغن عنك عقد الرتائم (٢)

وقوله [من الطويل] :

١٣٢ ـ فإن لم تك المرآةء أبدت وسامة

فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم (٣)

ووافقه ابن مالك ، وحمله الجماعة على الضرورة ، كقوله [من الطويل] :

١٣٣ ـ فلست بآتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (٤)

تنبيهان : الأوّل : زاد ابن هشام في الجامع الصغير (٥) والقطر (٦) اشتراط كون المضارع المذكور مستعملا في الوصل دون الوقف ، وقال في شرح القطر : نصّ عليه ابن خروف ، وهو حسن ، لأنّ الفعل الموقوف عليه إذا دخله الحذف حتى بقي على حرف واحد أو حرفين ، وجب الوقف عليه بها السكت ، كقولك : عه ، ولم يعه ، فلم يك بمترلة لم يع ،

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ٤٩٢ برقم ١٢٣١.

(٢) لم يذكر قائله. اللغة : الرتائم : جمع رتيمة بمعنى الرّتمة وهو خيط يشدّ في الاصبع أو الخاتم للعلامة أو التذكّر.

(٣) هو للخنجر بن صخر الأسدي ، اللغة : الوسامة : أثر الحسن والجمال ، الضيغم : الاسد الواسع الشّدق (ج) ضياغم.

(٤) هو للنجاشي الحارثي. اللغة : آتيه : اسم فاعل من الإتيان ، والضمير فيه وفي استطيعه للطعام.

(٥) الجامع الصغير في النحو لجمال الدين عبد الله بن يوسف ابن هشام النحويّ.

(٦) قطر الندى وبل الصدي مقدمة في النحو لابن هشام.

٢١٥

فالوقف عليه بإعادة الحرف الّذي كان فيه أولى من اجتلاب حرف لم يكن فيه ، ولا يقال : يلزم مثله في لم يع ، لأنّ إعادة الياء تؤدّي إلى إلغاء الجازم بخلاف لم يكن ، فإنّ الجازم إنّما اقتضي حذف الضمة لا حذف النّون كما بينّا ، انتهى.

وكان المصنّف لم يذكر هذا الشرط لعدم اعتباره عنده ، قال ابن هشام في الأوضح (١) ، قال ابن مالك : تجب هاء السكت في الفعل إذا بقي على حرفين : أحدهما زائد ، نحو : لم يعه ، وهذا مردود بإجماع المسلمين على وجوب الوقف على نحو : (وَلَمْ أَكُ) [مريم / ٢٠] ، (وَمَنْ تَقِ) [غافر / ٩] ، بترك الهاء انتهى. وقد رأيت موافقته لابن مالك في شرح القطر ، فهو مشترك الإلزام.

الثاني : لا يختصّ هذا الحكم بمضارع كان الناقصة ، بل يكون في مضارع التامّة أيضا ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء / ٤٠] بالرفع لكنّه قليل.

الأوجه الأربعة في نحو : الناس مجزيّون بأعمالهم : «و» المسالة الثانية : «لك في» كلّ موضع ذكر فيه بعد إن الشرطيّة وكان المحذوفة اسم مفرد يذكر بعده فاء الجزاء متلوّة باسم مفرد مع صحّة تقدير فيه أو معه ونحوهما ممّا يصلح خبرا قبل فاء الجزاء «نحو» قولهم ، وفي بعض الكتب مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وقولهم : «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ» وقولهم : المرء مقتول بما قتل به ، إن سيفا فسيف ، وإن خنجرا فخنجر ، «أربعة أوجه» من الإعراب.

أحدها : «نصب الأوّل» على الخبريّة لكان المحذوفة مع اسمها «ورفع الثاني» على الخبريّة لمبتدإ محذوف بعد فاء الجزاء ، أي ان كان عملهم خيرا ، فجزاؤهم خير ، وإن كان عملهم شرّا ، فجزاؤهم شرّ ، وإن كان ما قتل به سيفا ، فما يقتل به سيف ، وإن كان ما قتل به خنجرا ، فما يقتل به خنجر.

«و» الثاني : «رفعهما» معا ، فالأوّل على أنّه اسم لكان المحذوفة ، والثاني على تقدير مبتدإ محذوف ، أي إن كان في عملهم خير فجزاؤهم خير ، وإن كان معه أو في يده أو عنده سيف ، فما يقتل به سيف.

«و» الثالث : «نصبهما» معا : الأوّل على الخبريّة لكان الحذوفة مع اسمها ، والثاني بفعل محذوف أو على الخبريّة (٢) لكان محذوفة أيضا ، أي إن كان عملهم خيرا فيجزون خيرا ، أو فيكون جزاؤهم خيرا ، وإن كان ما قتل به سيفا فيكون ما يقتل به سيفا.

__________________

(١) أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام.

(٢) هذه الجملة سقطت في «ح».

٢١٦

«و» الرابع : «عكس» وجه «الأوّل» ، أي رفع الأوّل على أنّه اسم لكان محذوفة مع خبرها ونصب الثاني بفعل لائق ، تقديره فيجزون ، أو خبرا لكان محذوفة ، أي إن كان في عملهم خير فيجزون خيرا ، أو فيكون الجزاء أو جزاؤهم خيرا ، إن كان معه سيف فيكون ما يقتل به سيفا.

«و» الوجه «الأوّل أقوي» الوجوه الأربعة ، لأنّ فيه إضمار كان واسمها بعد إن واضمار المبتدإ بعد فاء الجزاء ، وكلاهما كثير مطّرد ، «و» الوجه «الأخير أضعف» الوجوه ، لأنّ فيه حذف كان وخبرها بعد إن ، وحذف الناصب أو كان مع اسمها بعد الفاء ، وكلّه قليل غير مطّرد ، ولذلك لم يذكره سيبويه ، وذكر الثلاثة. «و» الوجهان «المتوسّطان» بين الأقوي والأضعف أعني الأوّل والأخير «متوسّطان» بين القوّة والضعف لاشتمال كلّ منهما على أحد الكثيرين وأحد القليلين ، وظاهر كلامه أنّ هذين الوجهين متكافئان ، وهو كذلك عند الشلوبين ، وقال ابن عصفور : ورفعهما أولى.

وقوع افعل في الكلام لا بمعنى تفضيلية بعد المشاركة : تنبيهات : الأوّل : تعبيره بأقوي وأضعف يقتضي قوة الثلاثة ، وضعفها لاقتضاء أفعل التفضيل المشاركة والزيادة ، فيلزم التناقض ، وهو كثير في عباراتهم ، فينبغي تشريك أفعل في ذلك بما لا مشاركة فيه ، فيكون الأقوي والأضعف بمعنى القويّ والضعيف ، كما قيل في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم / ٢٧] ونحوه.

وقال بعضهم : إنّ أفعل قد يقصد به تجاوز صاحبه وتباعده عن الغير في الفعل لا بمعنى تفضيله بعد المشاركة في أصل الفعل ، فيفيد عدم وجود أصل الفعل في الغير ، فيحصل كمال التفضيل ، وهو المعنى الأوضح في أفعل وصفاته تعالى ، وبهذا المعنى ورد قوله تعالى حكاية عن يوسف الصدّيق (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) [يوسف / ٣٣] ، وقول علي (ع) : لأن أصوم يوما من شعبان أحبّ إلى أن أفطر من رمضان (١) ، انتهى.

الثاني : إذا لم يصحّ تقدير فيه أو معه ونحوهما في المسألة ، تعيّن نصب الأوّل خبرا لكان ، نحو : أسير كما تسيران ، إن راكبا فراكب ، وإن راجلا فراجل. أي إن كنت راكبا فأنا راكب ، وإن كنت راجلا ، فأنا راجل ، وربّما جرّ مقرونا بإلا أو بأن وحدها ، إن عاد اسم كان إلى مصدر متعدّ مجرور بحرف ، نحو : المرء مقتول بما قتل ، إن سيف فسيف ، أي إن كان قتله بسيف ، فقتله أيضا بسيف. وحكى عن يونس : مررت

__________________

(١) الشيخ الحر العاملي ، وسائل الشيعة ، ج ١٠ ، موسسة آل البيت ، رقم ١٢٧٣.

٢١٧

برجل صالح إن لا صالح فطالح ، أي لا يكون المرور بصالح ، فالمرور بطالح ، ومررت برجل صالح إن زيد وإن عمرو ، وذلك لقوّة الدلالة على الجارّ بتقدّم ذكره.

الثالث : علم من ذلك أنّ كان يجوز حذفها مع اسمها بعد إن الشرطية بكثرة ، ويجوز أيضا بعد لو الشرطيّة بكثرة ، ويجوز أيضا بعد لو الشرطية ، وذلك فيها بكثرة أيضا كقوله (ع) : التمس ولو خاتما من حديد (١) ، أي التمس شيئا ولو كان ما تلمسه خاتما من حديد ، وقول الشاعر [من البسيط] :

١٣٤ ـ لا يأمن الدهر ذو بغي ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السّهل والجبل (٢)

أي ولو كان الباغي ملكا. وقد يحذف مع اسمها بعد غيرهما كقوله [من الرجز] :

١٣٥ ـ ...

من لد شولا فإلى إتلائها (٣)

تكميل : والتزم حذف كان معوّضا عنها ما بعد أن كثيرا كقوله [من البسط] :

١٣٦ ـ أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر

فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع (٤)

أي لأن كنت ذا نفر فخرت ، ثمّ حذف متعلّق الجارّ لدلالة ما بعده عليه ، ثمّ حذف الجارّ ، وكان للاختصار فانفصل الضمير فصار أن أنت ، ثمّ زيدت ما عوضا عن كان المحذوفة ، فصار أن ما أنت ، ثمّ ادغمت النون في الميم لما بينهما من التقارب في المخرج ، فصار أمّا أنت ذا نفر.

وقد تحذف مع معموليها بعد إن الشرطيّة كقولهم : إفعل هذا إمّا لا ، أي إن كنت لا تفعل غيره ، فما عوّض عن كان واسمها ، وادغمت نون إن فيها لتقارب مخرجهما ولا نافية للخبر المحذوف ، وهي عوض منه ، وقد تزاد بلفظ الماضي متوسّطة بين الشيئين متلازمين ليسا جارا ومجرورا ، واطّرد بين ما وفعل التعجّب ، نحو : ما كان أحسن زيدا ، وشذّ قولها [من الرجز] :

١٣٧ ـ أنت تكون سيّد نبيل

إذا تهبّ شمأل بليل (٥)

وقوله [من الوافر] :

__________________

(١) صحيح البخاري ، ٤ / ٢٥ ، رقم ٥٥ ، ويروى : اذهب فالتمس ...

(٢) هو للعين المنقري. اللغة : البغي : الظلم. جنوده ضاق ... : يريد أنّه كثير الجند والأعوان.

(٣) هذا كلام تقوله العرب ، ويجرى بينها مجرى المثل ، وهو يوافق بيتا من مشطور الرجز ، وهو من شواهد سيبويه (١ / ١٣٤) ولم يتعرض أحد من شراحه إلى نسبته لقائله بشيء. اللغة : شولا : قيل : هو مصدر شالت الناقة بذنبها اي رفعته للضرب ، وقيل هو اسم جمع لشائلة ، على غير قياس ، والشائلة : الناقة الّتي خفّ لبنها وارتفع ضرعها ، اتلائها : مصدر أتلت الناقة إذا تبعها ولدها.

(٤) البيت للعباس بن مرداس. اللغة : الضبع : أصله الحيوان المعروف ، ثمّ استعملوه في السنة الشديدة المجدبة.

(٥) البيت لأمّ عقيل بن أبي طالب ، وهي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن هاشم بن عبد مناف. اللغة : شمأل : ريح تهبّ من ناحية القطب ، بليل : رطبة ندية.

٢١٨

١٣٨ ـ سراة بني أبي بكر تسامى

على كان المسوّمة العراب (١)

الأحرف المشبهة بالفعل

ص : الثاني : الأحرف المشبّهة بالفعل ، وهي : إنّ وأنّ وكأنّ وليت ولكنّ ولعلّ ، وعملها عكس عمل كان ، ولا يتقدّم أحد معموليها عليها مطلقا ، ولا خبرها على اسمها ، إلا إذا كان ظرفا أو جارّا ومجرورا ، نحو : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً). وتلحقها ما [الزائدة] فتكفّها عن العمل ، نحو : إنّما زيد قائم ، والمصدر إن حلّ محلّ إنّ ، فتحت همزتها ، وإلا كسرت ، وإن جاز الأمران ، جاز الأمران. نحو : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا) و (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ، وأوّل قولي إنّي أحمد الله ، والمعطوف على أسماء هذه الحروف منصوب ، ويختصّ إنّ وأنّ ولكنّ بجواز رفعه بشرط مضيّ الخبر.

ش : النّوع «الثاني» من أنواع النواسخ «الأحرف المشبّهة بالفعل» ، ووجه شبهها به إمّا لفظا ، فمن حيث كونها على ثلاثة أحرف فصاعدا ، وليست على حرفين كهل وبل ، ولا حرف واحد كالواو ، وإلى هذا أشار ابن الخشّاب بقوله : ليست مهلهلة النسج ولا سخيفة التإليف. ولبنائها على الفتح مثله ، وإمّا معنى ، فلأنّ معانيها معاني الأفعال مثل : أكّدت وشبّهت واستدركت وتمنّيت وترجّيت ، وتسمّي أيضا بالنواسخ إطلاقا لاسم الأعمّ على الأخصّ.

«وهي» ستّة ، وعدّها سيبويه خمسة باسقاط «أنّ» المفتوحة ، لأنّها فرع المكسورة ، وتبعه ابن مالك في التسهيل ، وأورد أنّ قضيّة هذا أن لا تعدّ كأنّ ، فإنّ أصل كأنّ زيدا الأسد ، إنّ زيدا كالأسد ، فقدّمت الكاف فصار كأنّ ، وأجاب بأنّ أصل كأنّ منسوخ لاستغناء الكاف عن متعلّق إنّ بكسر الهمزة وفتح النون مشدّدة ، وأنّ بفتح الهمزة والنون مشدّدة ، وبنو تميم تقول : عنّ وتسمّى عنعنة تميم (٢) ، وهما لتأكيد الحكم ونفي الشكّ عنه والإنكار له ، ومن ثمّ لا يؤتي بهما إلا عند تردّد السامع في الحكم أو إنكاره ، لا إذا كان خإلى الذهن عن الحكم والتردّد فيه ، ويفترقان من حيث إنّ إنّ المكسورة لا تغيّر مدخولها إذا كان جملة ، وأنّ المفتوحة تغيّرها في تأويل المفرد ، ولهذا تقع الجملة المقرونة بها في موضع الفاعل والمفعول والمجرور ، فتؤوّل بمفرد.

__________________

(١) أنشد الفرّاء هذا البيت ولم ينسبه إلى قائل ، ولم يعرف العلماء له قائلا. اللغة : السراة : جمع سري وهو العزيز والشريف. تسامى : أصله تتسامى ، بتاءين ، فحذف إحدهما تخفيفا ، المسومة : الخيل الّتي جعلت لها علامة ثمّ تركت في المرعى ، العراب : خيل عراب : خلاف البراذين. وإبل عراب : خلاف البخاتي.

(٢) عنعنة تميم : إبدالهم العين من الهمزة ، يقولون «عن» موضع «أن».

٢١٩

«ولكنّ» بتشديد النون ، وهي بسيطة خلافا للكوفيّين ، ومعناها الاستدراك ، وفسّر بأنّ تنسب لما بعدها حكما مخالفا لحكم ما قبلها ، ولذلك لا بدّ أن يتقدّمها كلام مناقض لما بعدها ، نحو : ما هذا ساكنا لكنّه متحرك ، أو ضدّ نحو : ما هذا أبيض لكنّه أسود ، أو خلاف له على الأصحّ نحو : ما زيد قائما لكنّه شارب. ويمتنع أن يكون موافقا له باتّفاق ، قاله أبو حيّان في النكت الحسان.

معنى الاستدراك : وقيل : تكون للتوكيد تارة وللاستدراك [تارة] أخري. قاله ابن العلج (١) وجماعة ، وفسّروا الاستدراك برفع ما توهّم ثبوته أو نفيه من الكلام السابق ، تقول : زيد شجاع ، فيوهم إثبات الشجاعة لزيد ، إثبات الكرم له ، لأنّ الشجاعة والكرم لا يكادان يفترقان ، فإذا أردت رفع هذا التوهّم تأتي بلكنّ فتقول : لكنّه بخيل ، وقس على ذلك النفي والتوكيد ، نحو : لو جاءني أكرمته لكنّه لم يجي ، أكّدت ما أفادته لو من الامتناع ، وقيل هي للتوكيد دائما ، وقد تعطي مع ذلك معنى الاستدراك.

«وكأنّ» بتشديد النّون ، وهي حرف مركّب عند أكثرهم ، حتى ادّعى ابن هشام الخضراويّ وابن الخباز الإجماع عليه ، وليس كذلك ، بل ذهب بعضهم إلى أنّها بسيطة ، وادّعى صاحب رصف المباني (٢) أنّه قول أكثرهم ، وأطلق الجمهور أنّها للتشبيه وهو معناها المتّفق عليه.

وزعم جماعة منهم ابن السّيّد أنّها لا تكون لذلك إلا إذا كان خبرها اسما جامدا ، نحو : كأنّ زيدا قائم أو في الدار أو عندك أو يقوم ، فإنّها في ذلك كلّه للظنّ ، لأنّ الخبر هو الاسم ، والشيء لا يشبه بنفسه.

قال الرضيّ : والأولى أن يقال هي في ذلك للتشبيه أيضا ، والمعنى كأنّ زيدا شخص قائم ، حتى يتغاير الاسم والخبر حقيقة ، فيصحّ التشبيه ، إلا أنّه لمّا قام الوصف مقام الموصوف ، وجعل الاسم بسبب التشبيه كأنّه الخبر بعينه ، صار الضمير من الخبر يعود إلى الاسم لا إلى الموصوف المقدّر ، فلذلك تقول : كأنّي أمشي ، وكأنّك تمشي ، والأصل كأنّي رجل أمشي ، وكأنّك رجل تمشي ، انتهى.

ثمّ القائل بأنّها مركّبة ، يقول بأنّها للتشبيه المؤكّد لتركيبها من الكاف المفيدة للتشبيه وأنّ المفيدة للتأكيد ، فكأنّ زيدا أسد ، أصله أنّ زيدا كأسد ، قدّمت الكاف على أنّ

__________________

(١) لم أقع على ترجمه له.

(٢) رصف المباني في حروف المعاني في النحو لأحمد بن عبد النور المالقيّ المتوفى سنة ٧٠٢ ه‍ كشف الظنون ٢ / ٩٠٨.

٢٢٠