الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

قال الرضيّ : وفيما قالوا نظر ، لأنّ كون الشيء مسندا ومسندا إليه شيء آخر في حالة واحدة لا يضرّ كما في قولنا : أعجبني ضرب زيد عمرا ، فأعجب مسند إلى ضرب ، وضرب مسند إلى زيد ، وأجيب بالفرق ، فإنّ كلا من المفعولين مسند ومسند إليه بإسناد تامّ بخلاف المثال ، فإنّ المصدر وإن كان مسندا إليه بإسناد تامّ ، إلا أنّه لم يكن مسندا بإسناد تامّ ، وردّ بأنّ كون الإسناد تامّا لا يعقل تاثيره في المنع ، ويؤيّده عدم قيام المفعول الثاني مقام الفاعل في نحو : زيد معلوم أبوه قائما مع عدم الإسناد التامّ ، فلو كان تمام الإسناد مانعا لأقيم لارتفاع المانع ، وإنّما المؤثر في امتناع كون الشيء مسندا ومسندا إليه هو قيام أحد الشيئين بالآخر ، وذلك فيما يكون بالنسبة إلى شيء واحد.

هذا ، والمنع مطلقا هو مذهب المتقدّمين ، وأمّا المتأخّرون فأجازوه في الأمن من اللّبس ، وذلك كما إذا كان الثاني في باب علمت ، والثالث في باب أعلمت نكرة ، والآخر فيهما معرفة ، نحو : علم زيدا قائم ، وأعلم زيدا عمرا قائم ، لأنّ التنكير يرشد إلى أنّه الخبر في الأصل ، وأمّا إذا حصل الالتباس فلا.

قال الرضيّ : والّذي أري أنّ النيابة عن الفاعل في الثاني ، والثالث يجوز قياسا ، معرفة كان النائب أو نكرة ، واللّبس مرتفع مع إلزام كلّ من المفعولين مركزه ، وذلك بأن يكون ما كان خبرا في الأصل بعدها ما كان مبتدأ ، فتقول في علمت زيدا أباك ، علم زيدا أبوك ، وفي أعلمتك زيدا أباك ، أعلمك زيدا أبوك.

وليس معنى المفعول مقام الفاعل أن يلي الفعل ، بل معناه أن يرتفع بالفعل ارتفاع الفاعل ، فالمرفوع في المثال الأوّل ثاني المفعولين ، وفي المثال الآخر ثالث المفاعيل ، ولا لبس مع لزوم المركز ، كما قالوا في ضرب موسى عيسى. قال : هذا من حيث القياس ، ولا شكّ أنّ السماع لم يات إلا بقيام مفعولي علمت لكون مرتبته بعد الفاعل بلا فصل ، والجار أحقّ بصفته ، وكذا لم يسمع إلا قيام أول مفاعيل أعلمت ، كقوله [من الكامل] :

١٠٢ ـ نبّئت عمرا غير شاكر نعمتي

والكفر مخبثة لنفس المنعم (١)

لا يقع نائب الفاعل مفعولا له ولا معه : «ولا» يقع نائب الفاعل «مفعولا له» ، سواء كان باللام أو بدونها ، كما يقتضيه الإطلاق ، فلا يقال : ضرب تاديب ، ولا ضرب للتأديب ، وهو مذهب الجمهور ، وأجاز بعضهم وقوعه إذا كان بالام ، معلّلا بأنّ

__________________

(١) هو من معلقة عنترة بن شداد العبسي. اللغة : التنبئة والتنبئ مثل الانباء ، وهذه من سبعة أفعال تتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل وهي : أعلمت وأرايت وأنبات ونبّأت وأخبرت وخبّرت وحدثت ، وإنّما تعدت الخمسة الّتي هي غير أعلمت وأ رأيت إلى ثلاثة مفاعيل لتضمنها معنى أعلمت. المخبثة : المفسدة.

١٨١

المنصوب إنّما امتنع ، لأنّه لو أقيم مقام الفاعل ، صار مرفوعا ، فيفوت الإشعار بالعلية ، بخلاف ما إذا كان باللام ، فإنّ المفيد بالعلية هو اللام ، وهي موجودة فيه.

وردّ بأنّه يلزم منه جواز قيامة ، لو قامت قرينة تشعر بالعلية وليس كذلك ، بل المنع مطلقا حاصل ، وبأنّ النصب في الظرف مشعر بالظرفيّة مع جواز قيامه ، نحو : سير يوم الجمعة.

والجواب عن الأوّل بأنّ وجود القرينة محمول على فقدانها طردا للباب ، وعن الثاني بالفرق ، فإنّ ذات الظرف تقتضي الظرفيّة ، والنصب يدلّ على قصدها بخلاف المفعول له ، فإنّ ذاته لا تقتضي العلية ، وإنّما تعلم عليته بالنصب فافترقا.

وعلّل الرضيّ المنع مطلقا بأنّ النائب مناب الفاعل ينبغي أن يكون مثله في كونه من ضروريّات الفعل من حيث المعنى ، وليس المفعول له كذلك ، إذ ربّ فعل يفعل بلا غرض لكونه عبثا ، ولهذا كان كلّ مجرور ليس من ضروريات الفعل لا يقام مقام الفاعل ، كالمجرور بلام التعليل ، نحو : جئتك للسّمن ، فلا يقال جئ للسمن ، انتهى.

«ولا» مفعولا «معه» ، لأنّ الواو فيه تدلّ على المصاحبة ، فلو حذفت فاتت ، ويخرج عن كونه مفعولا معه ، ووجودها مانع من النيابة للزوم الانفصال ، إذ أصلها العطف ، فهي دليل الانفصال ، ونائب الفاعل كالفاعل في الاتّصال ، ولأنّه ليس من ضروريّات الفعل ، ولهذا امتنع نيابة التمييز والمستثنى أيضا ، وأجاز الكسائيّ نيابة التمييز لكونه في الاصل فاعلا ، فقال في طاب زيد نفسا : طيبت نفس ، وأمّا الحال فإنّها وإن كانت من ضروريّات الفعل ، لكنّ قلّة مجيئها في الكلام منعتها من النيابة عن الفاعل الّذي لا بدّ لكلّ فعل منه.

تعيين المفعول به له وإن لم يكن فالجميع سواء : «ويتعيّن المفعول به له» أي لوقوعه موقع الفاعل إذا وجد في الكلام بلا واسطة مع غيره من سائر المفاعيل الّتي تقع موقع الفاعل ، وهي المفعول المطلق الّذي ليس للتاكيد ، وظرف الزمان والمكان والمجرور بحروف ، تقول : ضرب زيد يوم الجمعة أمام الأمير ضربا شديدا في داره ، فيتعيّن زيد تعيّن وجوب عند البصريّين ، وذلك لأنّ غيره إنّما ينوب بعد أن يقدر مفعولا به مجازا ، فإذا وجد المفعول به حقيقة لم يقدّم عليه غيره ، لأنّ تقديم غيره عليه من تقديم الفرع على الأصل من غير موجب.

قال ابن هشام : ولأنّ المفعول به قد يكون فاعلا في المعنى كقولك : أعطيت عمرا دينارا ، ألا ترى أنّه أخذ ، وأوضح من هذا : ضارب زيد عمرا ، لأنّ الفعل صادر من زيد

١٨٢

وعمرو ، حتى أنّ بعضهم جوّز في هذا المفعول أن يرفع وصفه ، نحو : ضارب زيد عمرا الجاهل ، برفع الجاهل ، لأنّه نعت لمرفوع في المعنى ، انتهى.

وخالف الكوفيّون والأخفش من البصريّين ، فقالوا : إنّما هو تعيين أولوّية ، لكن الكوفيّون أجازوا وقوع غيره مطلقا كقراءة أبي جعفر (١) : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية / ١٤] ، والأخفش يشترط تقدّم النائب على المفعول تمسّكا بقراءة شاذّة : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) [الفرقان / ٣٢] بالنصب ، وبقوله [من الرجز] :

١٠٣ ـ مادام معينا بذكر قلبه

 ... (٢)

وبأبيات أخر ، والكلّ متأوّل عند المانعين. قال بعض المحقّقين : وحمل التعيين على الأولويّة أشدّ مناسبة بقوله فيما يأتي.

«فإن لم يكن فالجميع سواء» ، أي فإن لم يوجد المفعول به بلا واسطة في الكلام ، فالجميع أي جميع ما سواه من المفاعيل سواء ، أي مستوية في الوقوع موقع الفاعل ، لا يفضل بعضها بعضا ، فإذا حذفت زيدا من قولك : ضربت زيدا يوم الجمعة ضربا شديدا في داره ، وأردت إقامة غيره أقمت ما شيءت ، نصّ عليه غير واحد ، منهم الجزوليّ وابن الحاجب.

ورجّح بعضهم المجرور ، لأنّه مفعول به ، وإن كان بواسطة ، ورجّح بعضهم المصدر والظرفين ، لأنّها مفاعيل بلا واسطة ، ورجّح بعضهم المصدر لذلك ، ولأنّ دلالة الفعل عليه أقوي ، ورجّح أبو حيّان ظرف المكان لأنّه أقرب إلى المفعول به ، لأنّ دلالة الفعل عليه بالالتزام خلاف المصدر والزمان. قال الرضي : والأولى أن يقال : كلّ ما كان أدخل في عناية المتكلّم واهتمامه بذكره وتخصيص الفعل به فهو أولى بالنيابة ، وذلك إذن مفوّض إلى اختياره ، انتهى.

تنبيهات : الأوّل : يشترط في المصدر والظرف الاختصاص والتصرّف ، فلا يجوز ضرب ضرب ، ولا صيم زمن ، ولا اعتكف مكان ، لعدم اختصاصها ، فإن قلت : ضرب ضرب شديد ، وصيم زمن طويل ، واعتكف مكان حسن ، جاز لحصول الاختصاص بالوصف ، ولا يجوز سبحان الله ، على أن يكون نائبا عن فاعل فعله المقدّر أي يسبّح سبحان الله ، ولا حبس عندك أو معك لعدم التصرّف.

__________________

(١) أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ ، كان إمام الناس في القرأءة إلى أن توفّي سنة ١٣٣ ه‍ بالمدينة. ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، ج ٦ ، بيروت دار صادر ، ١٩٧٧ م ، ص ٢٧٤.

(٢) ما وجدت البيت.

١٨٣

ومنع البصريّون إقامة وصف المصدر والظرف مقام موصوفها ، فلا يقال في ضرب ضرب شديد : ضرب شديد ، ولا في صيم زمن طويل ، صيم طويل ، وأجازه الكوفيّون ، ويشترط في المجرور أن لا يلزم الجار وجها واحدا في الاستعمال ، كمذ ومنذ وربّ والكاف وما خصّ بقسم أو استثناء.

الثاني : المجرور إن جرّ بحروف زائد فلا خلاف في كونه هو النائب وحده ، وهو محلّ رفع بالنيابة كأحد ، فيما ضرب من أحد ، وإن جرّ بغيره ففيه أقوال : أحدها : وعليه الجمهور ، أنّ النائب هو المجرور وحده ، كما لو كان الجار زائدا ، الثاني : أنّه حرف الجرّ وحده ، وهو مذهب الفرّاء ، قال ابن هشام : ولقد أبعد في ذلك ، لأنّ الحروف لاحظّ لها في الإعراب لا لفظا ولا محلّا. الثالث : أنّه الجارّ والمجرور معا ، وهو قول ابن مالك. قال أبو حيّان : ولم يقل بذلك أحد غيره. وقال ابن هشام : إنّه غير ظاهر ، أي لأنّ نائب الفاعل مسند إليه ، ولا إسناد إلى مجموع الجار والمجرور. الرابع : أنّ النائب ضمير مبهم مستتر في الفعل ، وجعل مبهما ليحتمل ما يدلّ عليه الفعل من مصدر أو ظرف مكان أو زمان ، إذ لا دليل على تعيين أحدها. الخامس : أنّ النائب ضمير عائد على المصدر المفهوم من الفعل ، وهو قول ابن درستويه.

الثالث : إذا بني فعل لازم للمفعول ، ففي النائب أقوال : أحدها : ضمير المصدر ، نحو : جلس ، أي الجلوس ، وعليه الزجاجيّ وابن السّيّد (١). وجعل أبو حيّان فيه اختصاصا ، أي الجلوس المعهود. ثانيها : ضمير مجهول ، وعليه الكسائيّ وهشام ، لأنّه لمّا حذف الفاعل أسند الفعل إلى أحد ما يعمل فيه المصدر أو الوقت أو المكان ، فلم يعلم أيّ ها المقصود ، فأضمر ضمير مجهول. الثالث : أنّه فارغ ، لا ضمير فيه ، وعليه الفرّاء ، قاله في الهمع.

__________________

(١) أحمد بن أبان بن السّيّد اللغويّ الأندلسيّ ، كان عالما وإماما في اللغة والعربية ، صنّف : العالم في اللغة مائة مجلد ، شرح كتاب الأخفش ، مات سنة ٣٨٢ ه‍. المصدر السابق ١ / ٢٩١.

١٨٤

المبتدأ والخبر

ص : الثالث والرابع : المبتدأ والخبر.

فالمبتدأ : هو المجرّد عن العوامل اللفظيّة ، مسندا إليه أو الصفة الواقعة بعد نفي أو استفهام رافعة لظاهر أو ما في حكمه ، فإن طابقت مفردا فوجهان ، نحو : زيد قائم ، وأقائم وما قائم الزيدان ، أو زيد ، وقد يذكر المبتدأ بدون الخبر ، نحو : كلّ رجل وضيعته ، وضربي زيدا قائما ، وأكثر شربي السويق ملتوتا ، ولو لا علي (ع) لهلك عمر ، ولعمرك لأقومنّ ، ولا يكون نكرة إلا مع الفائدة.

ش : «الثالث والرابع» ممّا يرد مرفوعا لا غير ، «المبتدأ والخبر» ، وسمّي الأوّل مبتدأ ، تنبيها على أنّ حقّه التقديم ، والثاني خبرا تنبيها على أنّه مناط الفائدة حتى كأنّه الخبر الّذي هو كلام احتمل الصدق والكذب ، أو أنّه نفس الأخبار والأعلام.

«فالمبتدأ هو» الاسم حقيقة أو حكما ، وهذا كالجنس شامل للمحدود وغيره من الأسماء «المجرّد عن العوامل» جمع عامل ، وقد عرفت له معنيين ، والمقام صالح لكلّ منهما. «اللفظيّة» المنسوبة إلى اللفظ نسبة الفرد إلى كليّة أو المفعول إلى المصدر ، والمراد بها غير الزائدة إذ وجود الزائدة كالعدم ، وخرج به بقيّة المرفوعات.

فإن قيل : التجريد عن العوامل يقتضي سبق وجودها ، ولم يوجد في المبتدأ عامل قطّ ، قيل : قد ينزّل الإمكان مترلة الوجود ، كقولك للحفّار : ضيّق فم الركيّة (١) ، وقولهم : سبحان من صغّر جسم البعوضة ، وكبّر جسم الفيل ، وهو هنا من هذا القبيل.

لا يقال : التجريد سلب الوجود من حيث المعنى ، واللام في العوامل للاستغراق ، فيكون المعنى : المبتدأ هو الاسم الّذي لم يوجد فيه كلّ عامل لفظيّ ، وسلب الكلّ يوجب سلب العموم ، لا عموم السلب ، فيصدق عند عدم بعض العوامل ووجود البعض ، لأنّ التجريد عن شمول الوجود ، كما يكون بشمول العدم يكون بالافتراق أيضا ، لأنّا نقول : اللام في العوامل ليست للاستغراق ، بل للماهيّة وسلب ماهية العوامل يستلزم سلب كلّ فرد من أفرادها ، سلمنا أنّها للاستغراق ، فالتجريد وإن كان سلبا من حيث المعنى ، لكنّه ليس سلبا بسيطا ، بل على وجه العدول ، إذ النسبة إيجابيّة ، وإثبات التجريد عن جميع العوامل بأن لا يوجد فيه عامل على سبيل عموم السلب لا سلب العموم فيكون المعنى : هو الاسم الّذي لم يوجد فيه عامل لفظيّ ، سلّمنا أنّه بسيط فيفيد سلب العموم ، وسلب العموم يحتمل شمول العدم والافتراق ، إلا أنّ الأوّل متعيّن هنا

__________________

(١) الركيّة : البئر لم تطو.

١٨٥

بالقرينة ، وهو الاصطلاح على أنّ المبتدأ هو الاسم الّذي لم يوجد فيه عامل لفظيّ ، قاله الفاضل الهنديّ.

«مسندا إليه» حال من الضمير المستكن في قوله «المجرّد» ، وخرج به الأسماء المعدودة وأسماء العدد والأفعال وأسماء الحروف التهجّي والأصوات.

«أو الصفة» عطف على قوله الاسم ، وأو لمنع الخلود دون الجمع ، وليست للشكّ والتشكيك ، ولا تنافي التعريف ، والمراد بالصّفة المشتقّ الّذي له عمل كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل ، أو الجاري مجرى المشتقّ كالمنسوب حال كونها واقعة بعد نفي بحرف أو اسم كما سيأتي أو استفهام (١) كذلك.

«رافعة» حال ثانية من الصفة ، أي حال كونها رافعة «لظاهر» ، نحو : أقائم الزيدان «أو ما في حكمه» وهو الضمير المنفصل ، فإنّه في حكم الظاهر من حيث الاستقلال ، نحو : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) [مريم / ٤٦]. هذا مذهب البصريّين ، ومنع الكوفيّون رفع الصفة للضمير المنفصل فأوجبوا في نحو : أقائم أنت ، كون الاسمين مبتدأ وخبرا ، على التقديم والتأخير ، وتبعهم الزمخشريّ والسهيليّ (٢) ، ونقل ابن الحاجب الإجماع على ذلك في أمإليه (٣) ، وهو وهم منه ، كما قال ابن هشام.

فظهر بطلان قول كثير من شرّاح كافية من أنّ المراد بالظاهر في قوله «رافعة لظاهر» اللغويّ ، ليتناول الضمير المنفصل ، فعمدوا إلى إخراج الظاهر عن الظاهر ، وحكموا بأنّه أراد ما لم يرده ، وكيف وهو يصرّح بالإجماع على أنّ الصفة لا ترفع ضميرا منفصلا.

وحجّة الكوفيّين أنّ الضمير المرتفع بالفعل لا يجاوره منفصلا عنه ، لا يقال : قام أنت ، فكذا الوصف ، وأجيب بالفرق ، وذلك أنّه إنّما انفصل مع الوصف لئلّا يجهل معناه ، لأنّه يكون معه مستتر بخلافه مع الفعل ، فإنّه يكون بارزا كقمت ، ولأنّ طلب الوصف لمعموله دون طلب الفعل ، فلذلك احتمل معه الوصف ، ولأنّ المرفوع بالوصف سدّ في اللفظ مسدّ واجب الفصل ، وهو الخبر بخلاف فاعل الفعل ، قال ابن هشام ، وممّا يقطع به على بطلان مذهبهم قوله تعالى : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي) [مريم / ٤٦] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

__________________

(١) بعد نفي أو الصفة بحرف أو اسم كما سيأتي او استفهام بعد نفي «ط».

(٢) عبد الرحمن بن عبد الله أبو القاسم السهيلي ، كان عالما بالعربية واللغة والقراءات ، صنّف : الروض الأنف في شرح السيرة ، التعريف والإعلام بما في القرآن من الأسماء والأعلام ، توفّي سنة ٥٨١ ه‍ ، المصدر السابق ٢ / ٨١.

(٣) أمإلى ابن الحاجب مجلّد فيه تفسير بعض الآيات وفوائد شتي من النحو على مواضع من المفصل ومواضع من الكافية في غاية التحقيق. كشف الظنون ١ / ١٦٢.

١٨٦

١٠٤ ـ خليليّ ما واف بعهدي أنتما

إذا لم تكونا لي على من أقاطع (١)

فإنّ القول بأنّ الضمير في الأية مبتدأ كما زعم الزمخشريّ مؤدّ إلى فصل العامل عن معموله بالأجنبيّ ، والقول بذلك في البيت مؤدّ إلى الاخبار عن الاثنين بالواحد.

وأجاب الإمام الحديثيّ (٢) عن الآية يمتنع تعلّق الجار براغب المذكور ليلزم المحذور ، بل يجعل متعلّقا بمقدّر بعد أنت مدلول عليه بالمتقدّم أراغب أنت ترغب عن آلهتي ، وعن البيت باحتمال أن يكون أنتما مبتدأ ، خبره الجملة الشرطيّة بعده مع الجواب المحذوف المدلول عليه بقوله : ما واف بعهدي ، والتقدير ما أنتما خليليّ إذا لم تكونا لي على من أقاطعه ، فما أحد واف بعهدي ، أي إنّ عدم قيامكما معي على من أقاطعه سبب لأن لا يكون أحد يفي بعهدي ، لأنّ من سواكما ليس عندي في مرتبتكما من خلوص المودّة وصدق الإخاء ، فإذا لم تساعداني ولم تكونا لي على من أقاطعه ، لم يف أحد بعهدي لاتّسائه بكما وادّعائه أنّه أحقّ بعدم الوفاء.

تنبيهات : الأوّل : قيل هذا الحدّ منقوض بالمجرور بلعلّ ولو لا وربّ في نحو : لعلّ زيد قائم ، ولولاك لكان كذا ، وربّ رجل صالح لقيته ، فإنّ المجرور في هذه المواضع مرفوع محلّا ، على أنّه مبتدأ كما قاله ابن هشام في المغني وغيره ، مع أنّه ليس مجرّدا عن العوامل اللفظيّة غير الزائدة ، وأجيب بأنّها في حكم الزائدة لشبهها بها في كونها لا تتعلّق بشيء.

الثاني : قيل هذا الحدّ منقوض أيضا بقولهم : لا نولك أن تفعل كذا (٣) ، فإنّ النول هنا مبتدأ ، وأن تفعل فاعل به مغن عن الخبر ، مع أنّه غير صفة ، انتهى. وقد يجاب بمنع أن تفعل فاعلا به ، وإنّما هو خبر للنّول كما قال أبو حيّان.

الثالث : وقوع الصّفة بعد نفي أو استفهام شرط لازم عند جمهور البصريّين ، وعن سيبويه جواز الابتداء بها من غير شرط مع قبح ، واختاره ابن مالك.

وذهب الأخفش والكوفيّون إلى جوازه دون قبح ، «فإن طابقت» الصفة الواقعة بعد نفي أو استفهام اسما مرفوعا بها مفردا واقعا بعدها ، ففيه «وجهان» : كون الصفة مبتدأ وما بعدها مرفوعا سدّ مسدّ الخبر ، وكونها خبرا وما بعدها مبتدأ ، وقدّم الخبر للاستفهام الّذي حقّه الصّدر وبخلاف ما إذا لم تطابق مفردا وعدم مطابقتها للمفرد ،

__________________

(١) لم يسمّ قائله. اللغة : أقاطع : فعل مضارع من المقاطعة ، وهي الهجر.

(٢) الإمام ركن الدين الحديثي الحسن محمد العلويّ ، من شراح الكافية ، المتوفى سنة ٧١٥ ه‍ بالموصل.

المصدر السابق ٢ / ١٣٧٦.

(٣) لا نولك أن تفعل كذا : لا ينبغي لك.

١٨٧

إمّا بان لا تطابق المذكور بعدها أصلا ، أو تطابقه ، ولكن لا مفردا ، فالأوّل مثل : «أقائم الزيدان وأقائمان زيد».

ففي الصورة الأولى يتعيّن أن تكون الصفة مبتدأ ، وما بعدها مرفوعا بها ، إذ لو كانت خبرا لما بعدها لوجبت المطابقة في التثنية والجمع ، فإنّ المطابقة واجبة في هذا النوع بين المبتدأ والخبر ، وفي الصورة الثانية ممتنعة لأنّها تركيب فاسد.

والثاني كقولك : أقائمان الزيدان؟ وأقائمون الزيدون؟ فتتعيّن الصفة أن تكون خبرا مقدّما ، إذ لو كانت رافعة للظاهر هنا لما ثنّيت ولا جمعت على اللغة الفصحي ، ويجوز ذلك على غيرها.

ولمّا فرغ من حدّ المبتدأ ، أراد أن يمثّل له ليزداد وضوحا ، فقال : نحو زيد قائم مثال للاسم المجرّد عن العوامل اللفظيّة مسندا إليه ، ومثله (أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة / ١٨٤] ، فإنّ المؤوّل كالصريح و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر / ٣] ، وبحسبك درهم ، وقوله [من الطويل] :

١٠٥ ـ ...

لعلّ أبي المغوار منك قريب (١)

وما قائم الزيدان مثال للصفة الواقعة بعد حرف نفي ، ومثله : إن قائم الزيدان ، وغير مضروب العمروان ، أو أقائم الزيدان؟ مثال للصفة بعد حرف استفهام ، ومثله هل قائم الزيدان؟ ومتى قائم الزيدان؟ وأين قاعد الزيدان؟ وكيف مقيم العمروان؟ وكم ماكث البكران؟ وأيّان قادم الخالدان؟ إذ النفي والاستفهام بالاسم مثلهما بالحرف ، فلا وجه لتخصيص الحرف كما صنع غير واحد.

أو أقائم زيد؟ مثال للصفة المطابقة للمفرد ، فقائم يجوز أن يكون مبتدأ ، وما بعده فاعلا سدّ مسدّ الخبر ، وزيد يجوز أن يكون مبتدأ مؤخّرا ، وما قبله خبرا مقدّما ، كما تقدّم ، فإن رجّح الأوّل بأنّ الأصل في المقدّم الابتداء عورض بأنّ الأصل في الصفة الخبريّة ، فلمّا تعارض الأصلان تساقطا.

وبما تقّرر علم أنّ المبتدأ نوعان : مبتدأ له الخبر : وهو الاسم المسند إليه ، ومبتدأ لا خبر له ، وهو الصّفة ، واستغنت عن الخبر ، لأنّها في معنى الفعل ، والفعل لا يخبر عنه ، لكن لها مرفوع يغني عن الخبر.

__________________

(١) البيت لكعب بن سعد الغنوي ، من قصيدة مستجادة يرثي فبها أخاه أبا المغوار وصدر البيت «فقلت أدع أخري وارفع الصوت جهرة» اللغة : جهرة : علنا.

١٨٨

حذف الخبر وجوبا : وقد يجئ النوع الأوّل من المبتدأ ، محذوف الخبر وجوبا ، وذلك في أربع مسائل : إحداها : بعد واو صريحة في المعيّة ، «نحو : كلّ رجل وضيعته» ، بفتح الضاد المعجمة ، أي حرفته ، وسمّيت بذلك لأنّها تضيع بالترك ، أو لأنّ صاحبها يضيع بتركها ، فكلّ مبتدأ ، ورجل مضاف إليه ، وضيعته معطوف على المبتدأ ، والخبر محذوف وجوبا ، أي مقرونان ، وإنّما حذف لدلالة الواو وما بعدها على المصحوبيّة ، ووجب الحذف لقيام الواو مقام مع ، ولو جئ بمع مكان الواو كان كلاما تامّا.

هذا مذهب جمهور البصريّين ، وذهب الكوفيّون والأخفش إلى أنّه مبتدأ لا يحتاج إلى خبر لتمامه وصحّة معناه أي مع ضيعته ، واختاره ابن خروف ، والتقييد بالصريحة في المعيّة احتراز عن المحتملة لها وللعطف ، نحو : زيد وعمرو ، فلك أن تأتي بالخبر وتقول : مقرونان ، وأن تحذفه اعتمادا على فهم السامع من الاقتصار عليهما معنى المصاحبة والاقتران ، ومن ذكره قوله [من الطويل] :

١٠٦ ـ ...

وكلّ امرئ والموت يلتقيان (١)

تنبيه : ذكر بعضهم في نحو المثال المذكور إشكالا ، وهو أنّ الضمير في ضيعته لا يجوز أن يعود إلى كلّ ، ولا إلى رجل. أمّا الأوّل فلأنّ التقدير عليه كلّ وضيعة كلّ ، وهذا ليس المرجع ، لأنّه مطلق ، وذاك مقيّد بالنسبة الإضافيّة. وأمّا الثاني فلأنّ التقدير كلّ رجل وضيعة رجل ، وهذا لا يصحّ أيضا ، لأنّ الّذي ذكر ، شامل لجميع الأفراد بقرينة أداة العموم ، ورجل وحده لا يفيد ذلك.

والجواب أنّ الضمير يرجع إلى كلّ رجل ، وكما أنّه نائب عن أفراد متكثرة ، فضميره نائب عن ضمائر كثيرة يعود بكلّ اعتبار إلى رجل ، فكأنّه قيل : زيد وضيعته ، وعمرو وضيعته ، وهكذا لأنّ الضمير عين مرجعه ، فإذا كان مرجعه عاما ، كان هو عامّا كذلك ، ولذلك حكم بعضهم أنّ الضمير إذا عاد إلى نكرة ، أو فسّر نكرة ، كانت نكرة.

والثانية : قبل الحال الممتنع كونها خبرا عن المبتدأ المذكور قبلها بأن يكون المبتدأ مصدرا عاملا في اسم مفسّر لضمير ذي حال لا يصحّ كونها خبرا عن المبتدأ المذكور ، نحو : «ضربي زيدا قائما» ، أو مضافا إلى المذكور ، نحو : «أكثر شربي السوى ق ملتوتا» ، أو إلى مؤوّل به ، نحو : أخطب ما يكون الأمير قائما ، فقائما في الصورة الأولى والثالثة ، وملتوتا في الثانية أحوال لا تصحّ أخبارا عن المبتداءات المذكورة ، لأنّها لا توصف بالقيام ونحوه ، والأولى محتملة لأن تكون من الفاعل ومن المفعول كما قال الزمخشريّ ، و

__________________

(١) البيت للفرزدق وأوّله : تمنّوا إلى الموت الّذي يشعب الفتى. اللغة : يشعب : يفرّق.

١٨٩

زعم أبو حيّان أنّه لا يجوز كونها من المفعول إلا بدليل ، لأنّ التقييدات بالأحوال والصفات وعود الضمائر لا تكون إلا لأقرب مذكور ، والثانية متعيّنة لأن تكون من المفعول ، والثالثة من الفاعل ، وكلّ من ضربي وشربي وما يكون المؤوّل بالكون مصادر عاملة في مفسّر ذي الحال ، وهو الضمير المستتر فيها يقدّر من الخبر المحذوف وجوبا.

واختلف فيه ، فمذهب سيبويه وجمهور البصريّين إلى أنّه ظرف زمان مضاف إلى فعله ، والتقدير ضربي زيدا إذ كان قائما في المضيّ. وإذا كان في الاستقبال ، والخبر في الحقيقة متعلّق هذا الظرف من وصف أو فعل ، وكان المقدّرة تامّة لا ناقصة ، والحال من الضمير المستتر فيها ، وهي العامل في الحال ، ومفسّر هذا الضمير هو معمول المصدر كزيد والسوى ق والأمير في الأمثلة ، وإنّما لم تقدّر كان ناقصة ، والمنصوب خبرا لها لأمرين : أحدهما التزامهم تنكيره فلا يقال ضربي زيدا القائم ، والثاني وقوع الجملة الاسميّة مقرونة بالواو موقعه كالحديث : أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد (١).

قال ابن هشام : وهو أقوي دلالة على أنّه حال ، لأنّ الخبر لا يقترن بالواو ، والدّالّ على تعيين الخبر الّذي هو حاصل أو نحوه الأخبار عن الضرب بكونه مقيّدا بالقيام مثلا ، إذ لا يمكن تقييده إلا بعد حصوله (٢) ، واللفظ السادّ مسدّ الخبر هو الحال ، فقد وجد شرط وجوب الحذف.

وذهب الأخفش وتبعه عضد الدولة (٣) إلى أنّه مصدر مضاف إلى ذي الحال ، والتقدير ضربي زيدا ضربه إذا كان قائما ، وشربي السوى ق شربه ، وأخطب كون الأمير كونه ، فضربه خبر ضربي ، وهو مضاف إلى ذي الحال ، وهو الهاء وكذا شربه ، وكونه خبران لأكثر وأخطب ، واختاره ابن مالك في التسهيل. قال ابن هشام : إنّه أولى لأنّه قدّر اثنين ، وقدّروا خمسة ، ولأنّ التقدير في اللفظ أولى ، انتهى.

قيل : ولأنّ حذف إذا مع الجملة المضاف إليها لم يثبت في غير هذا الموضع وللمعدول عن ظاهر معنى كان الناقصة إلى التامّة ، إلا أنّه يرد عليه حذف المصدر مع بقاء معموله ، وهو ممتنع عند الأكثر إلا أن يقال : القرينة الدّالّة على حذفه قويّة ، فلا بأس بالحذف ، كما قال سيبويه : إنّ تقدير ما لك وزيدا ، ما لك وملابستك زيدا ، ولا يجوز تقدير الخبر بعد الحال كما نقله ابن السّيّد عن الكوفيّين ، لأنّه تقدير ليس في اللفظ ما

__________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٣٥٠.

(٢) بعد حصوله ممكنا «ح».

(٣) عضد الدولة «فنّا خسرو) (ت ٣٧٢ ه‍ / ٩٨٣ م) أعظم ملوك بني بويه رعي العلماء والأدباء مدحه المبتني. المنجد في الأعلام ص ٣٧٥.

١٩٠

يدلّ عليه ، فكما يجوز أن تقدّره ثابت مثلا يجوز أن تقدّره منفيّ ، ولأنّه حينئذ يكون من الحذف الجائزة لا الواجب ، لأنّ قائما إذ ذاك يكون حالا من زيد ، والعامل فيه المصدر ، فيعمل في الحال فلا يسدّ مسدّه ، لأنّها من صلته.

وقيل : الخبر نفس الحال ، كما قيل به في الظرف ، وقيل : الحال أغنت عنه ، كما أغني مرفوع الوصف عن الخبر ، والصحيح ما قدّمناه من أنّ الخبر محذوف وجوبا لسدّ الحال مسدّه. قال ابن عصفور : وإنّما صحّ للحال أن تسدّ مسدّ الخبر ، لأنّها بمترلة الظرف في المعنى ، ألا ترى أنّه لا فرق بين ضربي زيدا قائما ، وضربي زيدا وقت قيامة ، فكلّ منهما سدّ مسدّ الخبر ، وكلّ منهما على معنى في ، والظرف يسدّ مسدّ الخبر فكذا الحال ، انتهى.

تنبيهان : الأوّل : تقييد المبتدإ بكونه مصدرا أو مضافا إليه أو مؤوّلا به يؤخذ منه أنّ المبتدأ نفسه لا يكون مؤوّلا بالمصدر ، ولا يجوز أن تضرب زيدا قائما خلافا لبعض الكوفيّين ، وتقييد المصدر بالعمل في اسم مفسّر لضمير ذي الحال احتراز من أن يكون المصدر عاملا في صاحب الحال نفسه ، فإنّ الحال لا تسدّ مسدّ الخبر حينئذ ، نحو : ضربي زيدا قائما شديدا ، فإنّ قائما حال من زيد ، والعامل فيها هو العامل في زيد ، وهو ضربي ، فلا تغني عن الخبر ، لأنّها حينئذ من صلته ، وتقييد الحال بكونها غير صالحة للخبريّة احتراز من نحو : ضربي زيدا شديدا ، فالرفع واجب لصلاحيّتها للخبريّة ، وشذّ قولهم لرجل حكموه عليهم ، وأجازوا حكمه ، حكمك مسمّطا بتشديد الميم وطاء مهملة ، أي حكمك لك مثبتا.

الثّاني : يجوز عند الأخفش والمبرّد والفارسيّ رفع الحال في الصورة الثالثة ، وهي أفعل المضاف إلى ما المصدريّة ، نحو : أخطب ما يكون الأمير قائما ، ومنعه سيبويه ، قال الرضيّ : والأولى جوازه ، لأنّك جعلت ذلك الكون أخطب مجازا ، فجاز جعله قائما أيضا بخلاف المصدر الصريح ، كما في ضربي زيدا مجازا ، فجاز جعله قائما أيضا بخلاف المصدر الصريح ، كما في ضربي زيدا قائما ، إذ لا مجاز في أوّل الكلام ، ولا شكّ أنّ المجاز يؤنس بالمجاز ، انتهى.

والثالثة : بعد لو لا الامتناعيّة إن كان كونا مطلقا ، نحو : «لولا على لهلك عمر» ، أي لولا على موجود ونحوه ، فجاز حذفه للعلم به من لو لا الدالّة على امتناع الشيء لوجود غيره ، ووجب لسدّ الجواب مسدّه ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستوفيا في حديقة المفردات ، إن شاء الله تعالى.

١٩١

الرابعة : بعد مبتدأ صريح في القسم ، نحو : «لعمرك» أو ليمين الله «لأقومنّ» ، أي لعمرك أو ليمين الله قسمي ، فحذف الخبر للعلم به ، إذ تعيّن ذلك للقسم دالّ على تعيين المحذوف ، ووجب الحذف لسدّ جوابه مسدّه ، ووجه تعيّنها للقسم أنّ اللام لا تستعمل معها إلا فيه ، ولا يجوز كونهما خبرين ، والمحذوف المبتدأ كما [قال أبو حيّان] في الإرتشاف ، وهي لا تكون في الخبر. قال أبو حيّان : وليست جواب قسم محذوف. قيل : لأنّ القسم لا يدخل على القسم ، وفيه نظر ، فقد ورد : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ) [التوبة / ١٠٧] ، انتهى.

وجوّز ابن عصفور أن يكون المحذوف في ذلك هو المبتدأ ، والتقدير لقسمي عمرك ، والأوّل أولى ، لأنّ الحذف بالاعجاز أولى منه بالأوائل والاحتراز بالصريح من غير الصريح في القسم ، وهو ما يصلح له ولغيره ، نحو : عهد الله لأفعلنّ ، أي على ، فيجوز حذف على وإثباته ، لأنّه لا يشعر بالقسم ، حتى يذكر المقسم عليه ، بخلاف نحو : لعمرك وأيمن الله وأمانة الله ممّا هو صريح في القسم.

والعمر بضمّ العين وفتحها ، ويلزمه الفتح مع اللام ، لأنّ القسم موضع التخفيف لكثرة استعماله ، وهو مصدر محذوف الزوائد ، أصله تعميرك ، ومعناه البقاء والحياة ، فمعنى لعمرك لأقومنّ : وحياتك لأقومنّ ، ويلزم الإضافة إلى الظاهر والمضمر مع اللام ودونها. وللنحاة فيه كلام منتشرة لا نطوّل بذكره ، ويجوز إدخال الباء عليه كقوله [من الوافر] :

١٠٧ ـ رقيّ بعمركم لا تهجرينا

ومنّينا المني ثمّ امطلينا (١)

حذف خبر المبتدإ جوازا : واعلم أنّ المصنّف لو أخّر ذكر هذه المسائل بعد الخبر لكان أولى كما فعله جميع المصنّفين ، إذ قد تعرّض لذلك هنا ، فلنتمّم الفائدة بذكر حذف الخبر جوازا وحذف المبتدأ جوازا ووجوبا.

أمّا حذف الخبر جوازا فعند قيام القرينة ، نحو : قولك بعد الاستفهام عن المخبر عنه : زيد ، لمن قال : من عندك ، أي عندي زيد ، والعطف عليه ، نحو : زيد قائم وعمرو ، قال تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) [الرعد / ٣٥] أي دائم ، وفي غير ذلك ، نحو : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ... وَالْمُحْصَناتُ) [المائدة / ٥] أي حلّ لكم.

__________________

(١) هو لعبيد الله بن قيس الرقيات. اللغة : رقّي : ترخيم رقية ، وهي امرأة كان يتغزل بها الشاعر ، لا تهجرينا : لا تتركينا.

١٩٢

قال ابن مالك : وبعد إذا الفجائية ، نحو : خرجت فإذا السبع ، أي حاضر ، وهو قليل ، وتبعه ابن هشام في الأوضح ، وهو بناء على أنّ إذا حرف ، أمّا القائل بأنّها للمكان فلا يقدّر محذوفا ، بل يجعلها هي الخبر كما سيأتي تحقيقه في حديقه المفردات ، إن شاء الله تعالى.

وأمّا حذف المبتدأ فعند قيام القرينة أيضا ، نحو قولك : زيد ، لمن قال : من هذا ، أي هذا زيد ، وهو كثير بعد الاستفهام ، قال الله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ* نارُ اللهِ) [الهمزة ٦ و ٥] ، أي هي نار الله ، (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة ١١ و ١٠] ، (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ* فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) [الواقعة / ٢٧ و ٢٨] ، (أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الحج / ٧٢] ، وبعد فاء الجواب (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت / ٤٦] ، أي فعمله لنفسه وإساءته عليها ، (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة / ٢٢٠] ، أي فهم (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) [البقرة / ٢٦٥] ، (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ) [فصلت / ٤٩] ، وبعد القول نحو : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الفرقان / ٥] ، (قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات / ٥٢] ، (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ) [الكهف / ٢٢] ، وفي غير ذلك نحو قوله تعالى : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) [الأحقاف / ٣٥] ، أي هذا بلاغ بدليل (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) [إبراهيم / ٥٢] ، (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور / ١] ، أي هذه سورة. وقد اجتمع حذف كلّ من المبتدأ والخبر جوازا في قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات / ٢٥] ، أي سلام عليكم أنتم قوم منكرون ، فحذف خبر الأوّل ومبتدأ الثاني.

وقد يحتمل المحذوف الأمرين ، ويكثر بعد الفاء نحو : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [النساء / ٩٢] ، (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة / ١٨٥] ، (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة / ١٩٦] ، (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة / ٢٨٠] ، أي فالواجب ، كذا وفعليه أو فعليكم كذا ، ويأتي في غيره ، نحو : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف / ٨٣] ، أي أمري أو أمثل ومثله : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) [محمد / ٢١] ، أي أمرنا أو أمثل وإذا دار الأمريين كون المحذوف مبتدا وكونه خبرا كما ذكر.

فقال الواسطيّ (١) : الأولى كونه مبتدأ ، لأنّ الخبر محطّ الفائدة ، وقال العبديّ (٢) : الأولى كونه الخبر ، لأنّ الحذف بالأعجاز والأواخر اليق منه بالصدور والأوائل ، حكاه ابن أياز.

__________________

(١) القاسم بن القاسم أبو محمد الوسطي ، عالم بالعربية ، من كتبه «شرح اللمع لابن جني» و «فعلت وأفعلت» و «شرح المقامات الحريرية» ، مات سنة ٦٢٦ ه‍. الأعلام للزركلي ، ٦ / ١٤.

(٢) أحمد بن بكر بن أحمد بن بقية العبديّ أحد أئمة النحاة المشهورين ، كان نحويّا لغويّا ، له شرح الإيضاح و... مات سنة ٤٠٦ ه‍ .. بغية الوعاة ١ / ٢٩٨.

١٩٣

حذف المبتدإ وجوبا : وأمّا حذف المبتدأ وجوبا فحيث كان مخبرا عنه بنعت مقطوع إلى الرفع لمجرّد مدح ، نحو : الحمد لله الحميد ، أي هو الحميد ، أو لمجرّد ذمّ ، نحو : أعوذ بالله من إبليس عدوّ المؤمنين ، أو ترحّم ، نحو : أللهمّ ارحم عبدك المسكين.

وإن كان النعت لغير ذلك كالتخصيص (١) ، نحو : مررت بزيد الخياط ، جاز الإظهار والحذف ، أو أخبر عنه بمصدر جئ به بدلا من اللفظ بفعله نحو : سمع وطاعة ، قال [من الطويل] :

١٠٨ ـ وقالت حنان ما أتي بك ههنا

 ... (٢)

أي أمري سمع وطاعة وامري حنان.

أو بمخصوص نعم وبئس مؤخّرا عنهما ، نحو : نعم أو بئس الرجل زيد ، إذا قدّر خبرا ، فإن تقدّم ، نحو : زيد نعم الرجل ، فهو مبتدأ لا غير.

أو بصريح القسم ، نحو : في ذمتى لأفعلنّ ، أي في ذمتى ميثاق ، أو عهد عكس قولهم : لعمرك لأفعلنّ.

واعلم أنّ الأصل في المبتدإ المسند إليه أن يكون معرفة : لأنّ الغرض من الإخبارات إفادة المخاطب ما ليس عنده وتتريله مترلتك في علم ذلك الخبر ، والأخبار عن النكرة لا فائدة فيه ، «فلا يكون المبتدأ نكرة إلا مع» حصول «الفائدة» ، فإذا حصلت الفائدة فأخبر عن أيّ نكرة شيءت ، وجد شيء من الشرائط ، أو لم يوجد ، فيجوز أن تقول : كوكب انقضّ الساعة ، ولا يقال : رجل قائم.

هذا ما عوّل عليه المتقدّمون في ضابطة الابتداء بالنكرة ، ورأي المتأخّرون أنّه ليس كلّ أحد يهتدي إلى مواطن الفائدة فتتبعوها ، وأنهاها بعضهم إلى نيّف وأربعين موضعا ، أوردها السيوطيّ (٣) في الأشباه والنظائر.

وقال بعضهم : إنّ الضابط في ذلك قرب النكرة من المعرفة لا غير ، وفسّر قربها من المعرفة بأحد شيئين : إمّا باختصاصها كالنكرة الموصوفة ، أو بكونها في غاية العموم كقولنا : تمرة خير من الجرادة ، فعلى هذا الضابط لا حاجة لنا بتعداد الأماكن ، بل نعتبر كلّ ما يرد ، فإن كان جاريا على الضابط أجزناه وإلا فمنعناه.

__________________

(١) لغير ذلك كالتخصيص سقط في «س».

(٢) تمامه «أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف» ، وهو لمنذر بن درهم الكلبي.

(٣) الجلال السيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر ، ولد وتوفّي بالقاهرة ، له نحو ٦٠٠ كتاب في التفسير والحديث والفقه واللغة والتاريخ ، منها «المزهر» في فلسفة اللغة ، و «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنّحويّين» و «الأشباه والنظائر في النحو» توفي سنة ٩١١ ه‍. الأعلام للرزكلي ، ٤ / ٧١.

١٩٤

الخبر

ص : والخبر : هو المجرّد المسند به ، وهو مشتقّ وجامد ، فالمشتقّ غير الرافع لظاهر يتحمّل لضميره فيطابقه دائما بخلاف غيره ، نحو : الكلمة لفظ ، وهند قائم أبوها.

قاعدة : المجهول ثبوته للشيء عند السامع في اعتقاد المتكلم يجعل خبرا ، ويؤخّر ، وذلك الشيء المعلوم يجعل مبتدأ ، ويقدّم ، ولا يعدل عن ذلك في الغالب. فيقال لمن عرف زيدا باسمه وشخصه ولم يعرف أنّه اخوه : زيد أخوك ، ولمن عرف أنّ له أخا ولم يعرف اسمه : أخوك زيد فالمبتدأ هو المقدّم في الصورتين.

ش : «والخبر هو» الاسم حقيقة أو حكما ، «المجرّد» عن العوامل اللفظيّة ، والمراد بها غير الزائدة ليشمل نحو : ما زيد بقائم عند التميميّين ، وإن عمرو بذاهب ، عندهم وعند الحجازيّين. ودخل فيه قسما المبتدإ ، والأسماء المعدودة المسند ، فخرج القسم الأوّل من المبتدأ والأسماء المعدودة به إلى المبتدأ ، ويجوز أن تكون (١) الباء بمعنى إلى ، والضمير عائد إلى المبتدأ ، وعلى التقديرى ن يخرج القسم الثاني من المبتدأ ، فلا حاجة إلى إخراجه بزيادة المغاير للصفة ، كما فعل ابن الحاجب في كافيته ، إذ هي بهذا المعنى هنالك تاكيد.

تنبيهان : الأوّل : شمل قولنا الاسم حقيقة أو حكما ، نحو : زيد قائم ، وبعض الفعل الماضي ضرب (٢) ، وأمّا الخبر الجملة فإن قلنا : إنّها مؤوّلة بالمفرد ، كما قاله ابن الحاجب دخلت ، وهو المناسب بقول المصنّف فيما مرّ ، ولا يتأتّي الكلام إلا في اسمين أو فعل واسم ، وإن قلنا : إنّها على صرافتها خبر من غير تأويل لم تدخل وهو مذهب المحقّقين من النحاة.

الثاني : اختلفوا في عامل المبتدإ والخبر ، فذهب البصريّون إلى أنّ العامل في المبتدإ هو الابتداء ، وفسّروه بتجرى د الاسم عن العوامل للإسناد إليه ، أو لإسناده ، وفسّره الجزوليّ بجعل الاسم في صدر الكلام تحقيقا أو تقديرا للإسناد إليه أو لإسناده ، ثمّ قال المتأخّرون كالزمخشريّ والجزوليّ وابن الحاجب : هذا الابتداء هو العامل في الخبر أيضا لطلبه لهما على السواء ، وهو قضية كلام المصنّف حيث حدّ المبتدأ والخبر كليهما بالمجرّد ، ونقل الأندلسيّ عن سيبويه أنّ العامل في الخبر هو المبتدأ ، ويحكى عن أبي على

__________________

(١) سقط أن تكون في «ح».

(٢) سقط ضرب في «س».

١٩٥

وتلميذه أبي الفتح ، وهو مذهب جمهور المتأخّرين وقال الكسائيّ والفرّاء : يترافعان ، وقيل : غير ذلك (١).

انقسام الخبر إلى الجامد والمشتقّ : «وهو» أي الخبر قسمان : قسم «مشتقّ» ، وهو الأصل ، ولذلك قدّمه ، والمراد به هنا الدّالّ على ذات مبهمة ، وهو المسمّي صفة ، كضارب ومضروب وحسن وأحسن ، وفي حكمه المنسوب لا مطلق المشتقّ ، فإنّ اسم الزمان والمكان والآلة حكمها حكم الجامد المحض ، وهذا إصطلاح غير ما تقدّم ، «و» قسم «جامد» ، وهو ما عدا المشتقّ بالمعنى المذكور.

«فالمشتقّ» إمّا رافع لظاهر أو لا ، و «غير الرافع لظاهر» لفظا كما سيأتي أو محلا ، نحو : الكافر مغضوب عليه. «يتحمّل ضميره» أي ضمير المبتدأ ، وذلك لأنّ المشتقّ بالمعنى المذكور في معنى الفعل ، فلا بدّ له من فاعل ظاهر أو مضمر.

«فيطابقه» أي يطابق المبتدأ «دائما» إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا ، تقول : زيد قائم ، والزيدان قائمان ، والزيدون قائمون ، وهند قائمة ، والهندان قائمتان ، والهندات قائمات ، فالخبر في ذلك كلّه متحمّل للضمير مستتر وجوبا عائد على المبتدأ ، وهو مطابق للمبتدأ كما ترى ، والألف في قائمان والواو في قائمون حرفان دالّان على التثنية والجمع كما في الرجلان والزيدان ، وهذا الضمير يجب استتاره ، إلا إذا جرى الخبر على غير من هو له في المعنى ، فيبرز عند البصريّين وجوبا ، سواء خيف اللبس أم أمن.

فالأوّل نحو : غلام زيد ضاربه هو ، إذا كانت الهاء للغلام ، إذ لو لم يبرز الضمير لتوهّم السامع أنّ الغلام هو الضارب. والثاني نحو : غلام هند ضاربته هي.

وذهب الكوفيّون إلى عدم وجوب الإبراز إلا مع اللبس تمسّكا بقوله [من البسيط] :

١٠٩ ـ قومي ذرى المجد بانوها وقد علمت

بكنه ذلك عدنان وقحطان (٢)

واختاره ابن مالك ، فقال في منظومته الكبرى [من الرجز] :

١١٠ ـ في المذهب الكوفيّ شرط ذاك أن

لا يؤمن اللبس ورأيهم حسن

__________________

(١) أعدل هذه المذاهب مذهب سيبويه ، وهو يعتقد أنّ المبتدأ يرتفع بالابتداء والخبر يرتفع بالمبتدأ (كتاب سيبويه ١ / ٣٢٤) ؛ وابن مالك أيضا يختاره ويقول في الألفية :

ورفعوا مبتدأ بالابتدا

كذاك رفع الخبر بالمبتدأ

(شرح ابن عقيل ١ / ٢٠١).

(٢) هذا الشاهد غير منسوب إلى قائل معين. اللغة : «ذرا» جمع ذروة وهي من كل شيء أعلاه. «بانوها» يمكن أن يكون فعلا ماضيا بمعنى زادوا عليها ، ويحتمل أن يكون جمع «بان» جمعا سالما ، وحذف النون للإضافة.

١٩٦

وصرّح في غيرها من كتبه بوفاقهم ، وردّ تمسّكهم بالبيت باحتمال أن يكون (١) ذرى المجد منصوبا بوصف محذوف يفسّره الوصف المذكور ، والتقدير بانوا ذرى المجد بانوها.

«بخلاف غيره» أي المشتقّ غير الرافع لظاهر ، وهو الجامد ، «نحو : الكلمة لفظ» ، وهذا أسد ، مشيرا إلى السّبع المفترس ، والمشتقّ الرافع لظاهر ، نحو : هند قائم أبوها ، فلا يتحمّلان ضمير المبتدإ ، ولا يطابقانه ، أمّا الجامد فلأنّ تحمّل الضمير فرع على أن يكون المتحمّل صالحا لرفع ظاهر على الفاعلية ، وذلك مقصور على الفعل ، أو ما في معناه ، ولا حظّ للجامد (٢) في ذلك ، وأمّا المشتقّ الرافع لظاهر فلأنّه لا يرفع فاعلين ، وأمّا عدم مطابقتهما للمبتدإ فلعدم تحمّلهما للضمير.

تنبيهان : الأوّل : قضية إطلاقه وتمثيله بالكلمة لفظ أنّ الجامد لا يتحمّل الضمير ، ولو أوّل بالمشتقّ ، وهو خلاف ما صرّحوا به من أنّ المؤوّل بالمشتقّ بمترلته في تحمّل الضمير ورفعه الظاهر ، بل في كلام أبي حيّان ما يشير إلى أنّه لا خلاف في ذلك ، وإنّما لم يطابق في نحو : الكلمة لفظ مع تحمّله للضمير ، لأنّ المصدر من حيث هو مصدر لا يثنّي ، ولا يجمع ، ولا يؤنّث ، فأجروه على أصله ، لأنّ المصدر لم يتحمّل الضمير كما اقتضاه كلامه ، وتوهّمه بعض فضلاء العجم ، كيف وهو مؤوّل هنا بالملفوظ من غير خلف.

نعم المصدر لا يتحمّل ضميرا إذا لم يؤوّل بالصفة ، وذلك إذا أخبر به عن عين ، وجعل العين نفس المعنى مجازا على قول سيبويه في نحو : زيد عدل ، وهذا لا يتصوّر في نحو : الكلمة لفظ ، وأمّا على قول الكوفيّين من أنّ المصدر بالصفة دائما ، فزيد عدل مؤوّل بعادل ، فهو متحمّل للضمير إجماعا بدليل رفعه للظاهر ، نحو : زيد عدل أبوه.

وأمّا على قول البصريّين من أنّه على حذف مضاف أي ذو عدل ، فالخبر هو ذو ، وهو المتحمّل للضمير ، لأنّه المؤوّل بالمشتقّ لا المصدر ، وهو يطابق المبتدأ دائما ، فإذا قلت : هند عدل ، والزيدان عدل ، كان التقدير ذات عدل ، وذوا عدل ، وقس على ذلك.

واعلم أنّ نحو هذا التفضيل يجرى في الجامد المؤوّل بالمشتقّ غير المصدر ، وإن لم يأت فيه الخلاف المذكور ، قال ابن مالك في شرح الكافية : إذا أشرت إلى رجل وقلت : هذا أسد ، كان لك فيه ثلاثة أوجه : أحدها : تتريله مترلة الأسد مبالغة دون التفات إلى تشبيه ، كقول الشاعر [من الطويل] :

__________________

(١) سقط يكون في «س».

(٢) ولا الظاهر في الجامد «ح».

١٩٧

١١١ ـ لسان الفتى سبع عليه شذاته

فإن لم يزع من غربه فهو أكله (١)

والثاني : أن يقصد التشبيه فيقدّر مثلا مضافا إليه ، ففي هذين الوجهين لا ضمير في أسد ، والوجه الثالث : أن تؤوّل لفظ أسد بصفة وافية بمعنى الأسديّة ، وتجريه مجرى ما أوّلته فتحمّله ضميرا ، وترفع به ظاهرا ، إن جرى على غير ما هو به كقولك : هذا أسد ابناه ، وهذا ايضا في النعت والحال ، فمن النعت قول العرب : مررت بقاع عرفج كلّه ، وكلّه توكيد للضمير المرتفع بعرفج ، لأنّ عرفجا ضمّن معنى خشن ، ومثله مررت بقوم عرب أجمعون ، فضمّن عربا معنى فصحاء ، ورفع به ضميرا ، وأجمعون توكيد ، انتهى.

الثاني : ذهب الكوفيّون إلى أنّ الجامد يتحمّل الضمير مطلقا ، أوّل بمشتقّ أو لم يؤوّل ، وعزي هذا القول إلى الكسائيّ من الكوفيّين وحده ، وإلى الرّماني من البصريّين ، لكن نقله البدر بن مالك (٢) في شرح الخلاصة عن الكوفيّين كافّة ، وسبقه إلى هذا النقل صاحب البسيط.

قاعدة في تقديم المبتدإ وتأخير الخبر إذا كانا معرفيتن : هذه «قاعدة» في تقديم المبتدإ وتأخير الخبر ، إذا كانا معرفتين ، وهي إذا كان الاسمان المعرّفان بحيث يستفيد السامع النسبة بينهما ، وكلّ منهما يصلح أن يكون محكوما عليه ، «فالمجهول ثبوته» منهما «للشيء» الآخر «عند السامع» ، وهو كالطالب «في اعتقاد المتكلّم» أن يحكم به عليه «يجعل خبرا» له ، «ويؤخّر» عنه ، لأنّه محكوم به «وذلك الشيء الآخر المعلوم» عند السامع الّذي جهل ثبوت الآخر له «يجعل مبتدأ ، ويقدّم» ، لأنّه محكوم عليه.

والحاصل : أيّهما تحقّق المتكلّم أو توهّم أنّ السامع كالطالب للحكم عليه يجعل مبتدأ ، والآخر خبرا ، «ولا يعدل عن ذلك في» الاستعمال «الغالب ، فيقال» على القاعدة «لمن عرف زيدا باسمه وشخصه ، ولم يعرف أنّه أخوه» وأريد أن يعرف أنّه أخوه : «زيد أخوك» ، سواء عرف أنّ له أخا ، ولم يعرف أنّ زيدا أخوه ، أو لم يعرف أنّ له اخا اصلا ، «و» يقال «لمن عرف أنّ له أخا» في الجملة ، «ولم يعرف اسمه» على التعيين ، وأريد أن يعرف أنّ اسمه زيد : «أخوك زيد ، فالمبتدأ هو المقدّم في الصورتين» ، وهو زيد في الصورة الأولى ، وأخوك في الصورة الثانية. وقد يعدل عن ذلك في غير

__________________

(١) أنشده ثعلب ولم يسّم قائله ، اللغة : السبع : من البهائم العادية ما كان ذا مخلب ، الشذاة : بقية القوة والشدّة. لم يزع : من وزعه ـ بمعنى كفّه ومنعه.

(٢) بدر الدين أبو عبد الله محمد المتوفى سنة ٦٨٦ ه‍ ، كان إماما في النحو والمعاني والبيان ، من تصانيفه شرح ألفية والده و... بغية الوعاة ١ / ٢٢٥.

١٩٨

الغالب ، فيجعل المطلوب بالحكم عليه خبرا ، والآخر مبتدأ ، كقول ابي تمام (١) في صفة القلم [من الطويل] :

١١٢ ـ لعاب الأفاعي القاتلات لعابه

وأري الجنى اشتارته أيد عواسل (٢)

وكان على مقتضى القاعدة أن يقال : لعابه لعاب الأفاعي ، إذ المقصود تشبيه مداد قلم الممدوح بالسّم في حقّ الأعداء ، وبالعسل في حقّ الأولياء.

وهذا ممّا أجاب عنه البيانيّون بأنّه من التشبيه المعكوس ، فيكون المقدّم مبتدأ ، فلا نقص به على القاعدة.

قال ابن هشام : وهو ضعيف ، لأنّه نادر الوقوع ، مخالف للأصول ، أللهمّ إلا أن اقتضي المقام المبالغة. وإلى ندوره أشار المصنّف بأنّ العدول إليه من غير الغالب لمخالفته القاعدة.

وأمّا النّحويّون فيجعلونه من باب تقديم الخبر على المبتدإ جوازا لحصول القرينة المميّزة بين المبتدإ والخبر ، فنحو ذلك عندهم جايز كثير الاستعمال ، ومثله قول الآخر [من الطويل] :

١١٣ ـ بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد (٣)

فبنونا خبر مقدّم ، وبنو أبنائنا مبتدأ مؤخّر ، لأنّ المراد الحكم على بني أبنائهم بأنهم مثل بينهم لا عكسه. وكان الأولى بالمصنّف أن يقتضي أثر النّحويّين ، لأنّ كتابه في النحو لا في البيان.

تنبيه : ما ذكره من القاعدة هي طريقة أهل البيان ، وهو المشهور عند النّحويّين عند انتفاء القرينة ، وقيل : يجوز تقدير كلّ منهما مبتدأ وخبرا مطلقا ، لحصول الفائده للسامع ، قدّم الخبر ، أو أخّر ، وقيل : إن كان أحدهما مشتقّا والآخر اسما نحو : الفاضل زيد ، تعيّن المشتقّ للخبريّة وإن تقّدم ، والاسم للابتدائية وإن تأخّر ، لأنّ معنى المبتدإ المنسوب إليه ، ومعنى الخبر المنسوب ، والذات هي المنسوب إليه ، والصفة هي المنسوب ، وهو قول الفخر الرازيّ.

وأجيب بأنّ المعنى الشخص الّذي له الصّفة صاحب هذا الاسم فتصير الصّفة دالّة على الذات ومسندا إليها ، والاسم دالّ على الصفة ومسندا ، وقيل : إن كان أحدهما

__________________

(١) حبيب ابن أوس المعروف بأبي تمّام ولد سنة ١٨٠ ه‍ وتوفّي سنة ٢٢٨ من شعراء العصر العباسي الأول.

(٢) اللغة : اللعاب : ما يسيل من الفم ، الأري : العسل ، اشتارته : استخرجته عواسل : جمع عاسلة ، أي : مستخرجة العسل.

(٣) نسب هذا البيت إلى الفرزدق وإلى عمر بن الخطاب ، وقال قوم لا يعلم قائلة ، مع شهرته في كتب النحاة وأهل المعاني.

١٩٩

أعرف ، فهو المبتدأ ، نحو : هذا زيد ، وإن استويا في الرتبة وجب الحكم بابتدائية المقدّم ، نحو : الله ربّنا.

تكميل : ويجب الحكم بابتدائية المقدّم في صورتين أخريين. إحداهما كون الاسمين نكرتين صالحتين للابتداء بهما ، نحو : أفضل منك أفضل منّي ، إذ لو جوّز تقديم الخبر هنا لالتبس بالمبتدإ ، فيفسد المعنى ، إذ كثير هو أفضل منك ، لا من مخاطبك وبالعكس.

الثانية : كونهما مختلفين تعريفا وتنكيرا ، والأوّل هو المعرفة ، كزيد قائم ، وأمّا إن كان هو النكرة ، فإن لم يكن له ما يسوّغ الابتدائية ، فهو خبر اتّفاقا ، نحو : خزّ ثوبك ، وذهب خاتمك ، وإن كان له مسوّغ فكذلك عند الجمهور ، وأمّا سيبويه فيجعله المبتدأ ، نحو : كم مالك ، وخير منك زيد ، وحسبنا الله تعالى ، قاله ابن هشام في المغني. وظاهر كلام ابن مالك أنّ ذلك عند سيبويه مخصوص بما إذا كان اسم استفهام ، أو اسم تفضيل.

ويجب تقديم المبتدإ ، إذا خيف التباسه بالفاعل ، نحو : زيد قام ، إذ لو قيل : قام زيد لالتبس المبتدأ بالفاعل ، لأنّ اعتباره أقرب فامتنع ، وجوّزه الأخفش والمبرّد.

أو كان الخبر محصورا فيه بإلا لفظا ، نحو : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [آل عمران / ١٤٤] ، ومعنى ، نحو : (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) [هود / ١٢] ، إذ لو أخّر لالتبس المحصور بالمحصور فيه.

أو كان المبتدأ له صدر الكلام إمّا بنفسه كالاستفهام والشرط والتعجّب نحو : من أبوك ، ومن يقم أقم ، وما أحسن زيدا ، إذ لو أخّر لخرج ما له صدر الكلام عن صدريّته ، أو بغيره ، نحو : ولعبد مؤمن [خير من مشرك] ، فإن لام الابتداء لها الصدر.

أو كان ضمير شأن ، نحو : هو زيد منطلق ، قيل : لأنّه لو أخّر لالتبس بالتوكيد ، وفيه نظر. وقد يؤخّر المبتدأ ويقدّم الخبر جوازا توسّعا في الكلام ، إذ ربّما احتيج (١) في وزن أو قافية أو سجع إلى تقديم بعض أجزاء الكلام على بعض.

ووجوبا بأن يكون للخبر صدر الكلام ، إمّا بنفسه ، نحو : من زيد ، أو بغيره ، نحو :

صبيحة أيّ يوم السفر.

أو يوقع تأخيره في لبس ظاهر ، نحو : عندي درهم ، ولي وطر ، إذ لو أخّر لالتبس بكونه صفة للمبتدإ ، لأنّه نكرة ، وطلبها للوصف أشدّ من طلبها للخبر ، فالتزم تقديمه دفعا للالتباس.

أو يكون المبتدأ محصورا فيه بإلا لفظا ، نحو [من الرجز] :

__________________

(١) إذ ربّما احتجّ «ط».

٢٠٠