الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

وهو مختار أبي حيّان ، وتبعه جماعة من المحقّقين ، واختار ابن مالك أنّها مبنيّة كما مرّ ، والزمخشريّ أنّها معربة ، ومنها المنادى المفرد ، نحو : يا زيد.

ذهب قوم إلى أنه واسطة بين المعرب والمبنيّ ، حكاه ابن يعيش في المفصّل ، والصحيح أنّه مبنيّ ، ومنها المضاف إلى ياء المتكلّم ، وقد مرّ الكلام عليه.

الرابع : إذا عارض الشبه للحرف معارض يقتضي الإعراب ، اعتبر فيقدح في تأثير الشبه ، وذلك كإضافة أيّ الشّرطيّة والموصولة والاستفهاميّة ، وتثنية ذين وتين واللذين والّتين ، وسيأتي الكلام على كلّ منهما في محلّه ، إن شاء الله تعالى.

الخامس : المعرب يسمّى متمكّنا وأمكن ، إن لم يمنع من الصرف ، وإلا فغير أمكن.

«والمعربات» من الأسماء بقرينة السياق «أنواع» ، منها ما يرد مرفوعا لا غير ، ومنها ما يرد منصوبا لا غير ، ومنها ما يرد مجرورا لا غير ، ومنها ما يرد منصوبا وغير منصوب.

النوع «الأوّل ما يرد مرفوعا لا غير» بضمّ الرّاء بناء لقطعها عمّا أضيف إليه لفظا ونيّة معنى ، كقبل وبعد ، أي لا غيره ، ومنع ابن هشام في شرح الشذور قطعها بعد لا ، قال : لا يجوز حذف ما أضيفت إليه غير ، إلا بعد ليس ، وأمّا ما يقطع في عبارة العلماء من قولهم : لا غير ، فلم يتكلّم به العرب ، فأمّا أنّهم قاسوا لا على ليس ، أو قالوا ذلك سهوا عن شرط المسألة ، فقال في المغني : قولهم «لا غير» لحن ، انتهى.

وقد استعمل في مواضع من كتابه المذكور ، فيكون قوله هنا شاهدا عليه بارتكاب اللحن ، والصحيح جوازه من غير توقّف ، وقد ذكره جماعة من أئمة العربيّة ، منهم ابن السراج في الأصول ، والسيرافيّ في شرح الكتاب وابن مالك في شرح الكافيّة وأبو حيّان وابن الحاجب في الكافيّة والزمخشري في المفصّل ، وتبعهما شارحو كلامهما ، ومنهم محقّقون. قال الرضيّ : ولا يحذف منها المضاف إليه إلا مع لا التبرئة ، وليس نحو افعل هذا لا غير وجاءني زيد ليس غير ، لكثرة استعمال غير بعد لا وليس ، انتهى.

وقال الأندلسيّ (١) ، وهو علم الدين القاسم بن أحمد اللورقي في شرح المفصّل ، أمّا لا غير. فأبو العباس (٢) كان يقول : إنّه مبنيّ على الضمّ مثل قبل وبعد ، وأما ليس غير فكذلك ، إلا أنّ غيرا في موضع نصب على خبر ليس ، واسم ليس مضمر ، لا يظهر لأنّها هنا للاستثناء ، انتهى.

__________________

(١) علم الدين قاسم بن أحمد اللّورقي الأندلسي ، من مؤلفاته : شرح مقدمة الجزولي وشرح المفصل ، توفّي بدمشق سنة ٦٦١. المصدر السابق ص ١٥٤.

(٢) لعلّه أبو العباس ثعلب أو أبو العباس المبرّد ، وقد تقدّم ذكرهما.

١٦١

وقال محمد بن يعقوب في القاموس : قولهم : لا غير لحن غير جيّد ، لأنّ لا غير كذا مسموع في قول الشاعر [من الطويل] :

٨٢ ـ جوابا به تنجو اعتمد فو ربّنا

لعن عمل أسلفت لا غير تسأل (١)

وقد احتجّ به ابن مالك في باب القسم من شرح التسهيل ، وكأنّ قولهم لحن مأخوذ من قول السيرافيّ : الحذف إنّما يستعمل إذا كانت إلا وغير بعد ليس ، ولو كان مكان ليس غيرها من ألفاظ الجحد ، لم يجز الحذف ، ولا يتجاوز بذلك مورد السماع ، انتهى كلامه. وقد سمع. انتهى ، ولا هذه للتبرئة كما صرّح به الرضيّ. والظاهر من كلام المفتاح والتلخيص أنّها عاطفة.

الفاعل

ص : الأوّل : الفاعل : وهو ما أسند إليه العامل فيه قائما به ، وهو ظاهر ومضمر ، فالظاهر ظاهر ، والمضمر : بارز أو مستتر ، والاستتار يجب في الفعل في ستّة مواضع : فعل الأمر للواحد المذكّر ، والمضارع المبدوّ بتاء الخطاب ، للواحد أو بالهمزة أو بالنون ، والفعل الاستثنائي وفعل التعجّب ، وألحق بذلك : زيد قام أو يقوم ، وما يظهر في بعض هذه المواضع ، كأقوم أنا ، فتأكيد للفاعل كقمت أنا.

تبصرة : وتلازم الفعل علامة التأنيث إن كان فاعله ظاهرا حقيقيّ التأنيث كقامت هند. أو ضميرا متصلا مطلقا كهند قامت ، والشمس طلعت ، ولك الخيار مع الظاهر اللفظيّ كطلعت أو طلع الشمس ، ويترجّح ذكرها مع الفصل بغير إلا نحو : دخلت أو دخل الدّار هند ، وتركها مع الفصل بها نحو : ما قام إلا أمراة ، وكذا في باب نعم وبئس ، نحو : نعم المراة هند.

مسألة : والأصل في الفاعل تقدّمه على المفعول ، ويجب ذلك إذا خيف اللّبس ، أو كان الفاعل ضميرا متّصلا ، والمفعول متأخّرا عن الفعل ، ويمتنع إذا اتّصل به ضمير المفعول ، أو اتّصل ضمير المفعول بالفعل وهو غير متّصل ، وما وقع منهما بعد إلا أو بعد معناها وجب تأخيره.

ش : «وهو» أي «ما يرد مرفوعا لا غير أربعة ، الأوّل : الفاعل» ، وبدأ به لكونه الأصل في استحقاق الرفع عند الأكثر ، وقيل : الأصل هو المبتدأ. قال ابن يعيش : ذهب سيبويه وابن السّراج إلى أنّ المبتدأ هو الأصل في استحقاق الرفع ، وغيره من المرفوعات

__________________

(١) لم يسم قائله.

١٦٢

محمول عليه ، وذلك لأنّ المبتدأ يكون معرّي عن العوامل اللفظيّة ، وتعرّي الاسم في التقدير قبل أن يقترن به غيره ، قال : والّذي عليه حذّاق أصحابنا أنّ الفاعل هو الأصل ، لأنّه يظهر برفعه فائدة دخول الإعراب للكلام من حيث كان تكلّف زيادة الإعراب أنّما احتمل للفرق بين المعاني الّتي لولاها وقع لبس.

فالرفع إنّما للفرق بين الفاعل والمفعول اللذين يجوز أن يكون كلّ واحد منهما فاعلا ومفعولا ، ورفع المبتدأ والخبر لم يكن لأمر يخشى التباسه ، بل لضرب من الاستحسان وتشبيه بالفاعل من حيث كان كلّ واحد منهما مخبرا عنه ، وافتقار المبتدأ إلى الخبر الّذي بعده كافتقار الفاعل إلى الفعل الّذي قبله ، ولذلك رفع المبتدأ والخبر ، انتهى.

وقيل : كلّ منهما أصل ، وهو مرتضى الرضيّ ، قال ابن هشام في شرح اللمحة : وبالجملة فإنّ هذا الخلاف طويل الذيل عديم النيل. قال الدمامينيّ في شرح التسهيل : بل تظهر جدوى الخلاف في أولوية المقدّر عند الاحتمال ، كما إذا وجدنا محلّا دار الأمر فيه بين أن يكون المحذوف فعلا ، والباقي فاعلا ، وأن يكون المحذوف خبرا ، والباقي مبتدأ ، كما إذا قيل : من قام ، فقيل في جوابه زيد ، فإنّه يحتمل كون زيد فاعلا ، والتقدير قام زيد (١) ، ويحتمل كونه مبتدأ ، والتقدير زيد قام ، فإن قلنا : الفاعل أصل ترجّح الأوّل ، وإن قلنا : المبتدأ أصل ترجّح الثاني ، انتهى. وإن قلنا : كلاهما أصل ، استوي التقديران لفقد المرجّح ، فقد ظهر جدوى الخلاف كما رأيت.

«وهو» أي الفاعل لغة من أوجد الفعل ، واصطلاحا ما أي اسم أو مؤوّل به «أسند إليه» أي نسب إليه ، والمراد بالإسناد هنا النسبة ، سواء تعلّق بها إدراك الوقوع أو إدراك عدم الوقوع أو الطّلب أو الإنشاء. فالحاصل في «ما قام زيد» سلب الوقوع ، لا سلب الإسناد ، وفي أن قام زيد ، فرض الوقوع لا فرض الإسناد ، فلا حاجة في شمول التعريف لفاعل النفي والشرط إلى ما اشتهر من تكلّف أنّ المراد بالإسناد أعمّ من الإسناد ايجابا أو سلبا ، محقّقا أو مفروضا ، كذا قال بعضهم.

«العامل فيه» المجرور متعلّق بالعامل ، أي في ذلك الاسم أو المؤوّل به ، سواء كان العامل فعلا ، أو ما يشبهه في العمل من المصدر واسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل ، فخرج المبتدأ ، نحو : زيد قام ، وزيد قائم ، فإنّ زيدا فيهما مسند إليه ، لكنّ المسند غير عامل فيه ، نعم على قول بعض إنّ المبتدأ يرتفع بالخبر ، وهو عامل فيه ، فيبقي داخلا ، وهو قول ضعيف.

__________________

(١) سقطت هذه الجملة في «س».

١٦٣

«قائما به» حال من العامل ، أي حال كونه قائما بالاسم ، أو المؤوّل به ، لا يقال : يخرج عن هذا التعريف الفاعل في نحو : قرب زيد ، ومات عمرو ، فإنّ القرب والموت لا يقومان بزيد وعمرو ، فكان عليه أن يقول : على جهة القيام به كما قال غيره ، ليدخل نحو ذلك ، ممّا أسند إليه العامل على طريق القيام لأنّا نقول : معنى القيام الاختصاص الناعت كما تقدّم بيانه ، وصحّة جعل الصوت والقرب نعتا لزيد واضحة ، ولو لا القيام لكان الدّال على القيام كاذبا. قال بعضهم : بقي أنّ إسناد القائم وأمثاله إلى فاعلها ليس قائما به بل متّحد ، إلا أن يقال : والمراد قيام المبدأ كما في الفعل ، انتهى.

وخرج بهذا القيد نائب الفاعل بناء على أنّه لا يسمّى فاعلا اصطلاحا ، نحو : ضرب عمرو ، فإنّه وإن صدق عليه أنّه اسم أسند إليه العامل فيه ، لكن ليس العامل فيه قائما به ، بل واقعا عليه ، وأورد عليه أنّ ضرب عمرو يدلّ على قيام الفعل المبنيّ للمفعول ، وهو المضروبيّة بالمسند إليه ، أعني عمرا ، وكذا مضروب أبوه ، فكيف يخرج نائب الفاعل بهذا القيد ، ثمّ أجاب هذا المعترض بأنّ هذا الكلام مبنيّ على أنّ الداخل في مفهوم المشتقّ المصدر المبنيّ للفاعل دون المبنيّ للمفعول ، انتهى.

ولبعض المحقّقين هاهنا تحقيق نفيس لا بأس بإيراده لما له من العلاقة ، قال : الفاعل إذا صدر منه الفعل المتعديّ لا بدّ هناك من حصول أثر حسيّ أو معنويّ ناشيء من الفاعل بلا واسطة واقع على المفعول بتأثير من الفاعل أو غيره قائم من حيث الصدور بالفاعل ، ومن حيث الوقوع بالمفعول ، فإذا نظرت إلى قيام ذلك الأثر بذات الفاعل ، ولاحظت كون الذات بحيث قام به الفعل كان ذلك الكون ما يعبّر عنه بالمصدر المبنيّ للفاعل ، وإذا نظرت إلى وقوعه على المفعول ولا حظت كون الذات بحيث وقع عليه الفعل كان ذلك الكون ما يعبّر عنه بالمصدر المبنيّ للمفعول ، وإذا نظرت إلى عين ذلك الأثر كان ذلك الحاصل بالمصدر ، وصيغة المصدر مشتركة بين هذه الثلاثة ، وقد يستعمل مجازا في الفاعل والمفعول.

ومعنى قولهم : إنّ المصدر المبنيّ للفاعل جزء من الفعل المعلوم ، والمبنيّ للمفعول جزء من الفعل المجهول ، اعتبار الكونين في مفهوميهما ، فمعنى ضرب زيد ، كونه بحيث قام به الضرب ، ومعنى ضرب عمرو ، كونه بحيث وقع عليه الضرب ، لا كونه بحيث قام به الكون الأوّل في المعلوم ، وكونه بحيث قام به الكون الثاني في المجهول ، كما لا يخفى على من له تأمّل صادق وانصاف بأهل العلم لائق ، فلا يتّجه أنّ المصدر المبنيّ للمفعول إذا كان جزء من المجهول كان على طريقه القيام ، لأنّه مبنيّ على زعم اعتبار قيام الكونين في مفهومي المعلوم والمجهول ، وقد تبيّن أنّ الملحوظ فيهما الأثر من حيث القيام في الأوّل ،

١٦٤

ومن حيث الوقوع في الثاني ، فأنّي يتحقّق طريقة القيام فيه ، وأمّا الفعل اللازم فلا يتحقّق فيه إلا المصدر المبنيّ للفاعل ، والحاصل بالمصدر الّذي هو الأثر ، لأنّه لم يتعدّ إلى المفعول ، ويستعمل مجازا في الفاعل ، انتهى.

العامل في الفاعل : تنبيهان : الأوّل : اختلف في العامل في الفاعل الرّفع ، فقيل : هو المسند حقيقة إن خلا من «من والباء» الزائدتين ، وحكما إن جرّ بأحدهما ، نحو : ما قام من رجل ، (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء / ٧٩] ، أو بإضافة المسند ، نحو : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) [البقرة / ٢٥١] ، وهو مذهب الجمهور ، وعليه المصنّف ، وقيل : رافعه الإسناد ، وهو مذهب خلف وابن جنيّ ، وذهب بعض الكوفيّين إلى أنّه إحداث الفعل ، وأجابوا عن «تحرّكت الشجر» و «أهلكهم الدهر» و «مرض زيد» ، بأنّه لما صدر من الشجر ما هو كحركة المتحرّك بالإرادة ، وجعل الدهر قائما مقام المهلك وتعاطي زيد أسباب المرض ، جعل كلّ واحد كأنّه فاعل.

نصب الفاعل ورفع المفعول : الثاني : قد ينصب الفاعل شذوذا ، إذا فهم المعنى ، كقولهم : خرق الثوب المسمار ، برفع الثوب ونصب المسمار ، وجعله ابن الطّراوة (١) قياسا مطّردا ، وقراءة بعضهم (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة / ٣٧] بنصب آدم ، ورفع كلمات ، فيمكن حمله على الأصل ، لأنّ من تلقّي شيئا فقد تلقّاه الآخر.

انقسام الفاعل إلى ظاهر ومضمر : و «هو» أي الفاعل قسمان : قسم «ظاهر» وقسم «مضمر» ، وسيأتي حدّه أنّه ما وضع لمتكلّم أو مخاطب أو غائب. والظاهر ما عداه ، «فالظاهر ظاهر» أي لا يحتاج إلى بيانه لظهوره ، كجاء زيد ، وأقائم الزيدان. «والمضمر» قسمان : «بارز» ، وهو ما له صورة في اللفظ ، كقمت ، «ومستتر» ، وهو ما ليس له صورة في اللفظ ، بل ينوى ، «والاستتار» أي استتار الضمير «يجب في الفعل في ستّة مواضع».

أحدها : «فعل الأمر للواحد المذكّر» ، كقم ، بخلاف فعل الأمر للمثنى أو المجموع أو الواحدة ، فإنّه يبرز في الجميع ، نحو : قوما وقوموا وقمن وقومي. وذهب الأخفش والمازنيّ إلى أنّ الياء في قومي حرف تأنيث ، والفاعل مستتر كقم. قيل : ويلزمهما الجمع

__________________

(١) سليمان بن محمد ابن الطراوة ، كان نحويّا ماهرا ، أديبا ماهرا ، ألّف : الترشيح في النحو ومات سنة ٥٢٨ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٦٠٢.

١٦٥

بين علامتى التأنيث في نحو : تقومين. قال ابن هشام في شرح اللمحة : وليس بشيء ، لأنّ التاء للخطاب مثلها في أنت تقوم ، والياء وحدها للتأنيث.

«و» الثاني والثالث والرابع : الفعل «المضارع المبدوّ بتاء الخطاب للواحد» كتقوم بخلاف المبدوّ بتاء الغائبة ، نحو : هند تقوم ، فإنّ الاستتار جائز فيه لا واجب ، وبخلاف المبدوّ بتاء خطاب الواحدة والتثنية والجمع ، فإنّه يبرز في الجميع ، نحو : تقومين وتقومان وتقومون وتقمن ، «أو» المبدوّ «بالهمزة» للمتكلّم وحده ، مذكّرا كان أو مؤنّثا ، كأقوم ، وأضرب ، «أو» المبدوّ «بالنون» للمتكلّم ، ومن معه ، مذكّرا كان أو مؤنّثا كنقوم ونضرب.

«و» الخامس : «الفعل الاستثنائيّ» كخلا وعدا وليس ولا يكون ، نحو ما خلا زيدا وما عدا عمرا ، وليس بكرا ، ولا يكون زيدا ، ففي خلا وعدا وليس ولا يكون ضمير مستتر وجوبا [على خلاف الأصل] عائد على البعض المفهوم من كليّة السابق أو على اسم الفاعل المفهوم من الفعل السابق ، أو على المصدر المفهوم من الفعل أيضا على الخلاف الآتي بيانه في باب الاستثناء ، إن شاء الله تعالى.

«و» السادس «فعل التّعجّب» ك ما أحسن الزيدين ، ففي أحسن ضمير مستتر وجوبا [على خلاف الأصل] مرفوع على الفاعلية.

وأهمل [المصنّف] موضعين آخرين في غير الفعل ، يجب فيهما الاستتار ، أحدهما : اسم الفعل غير الماضي ك أوّه ، ونزال. والثّاني : المصدر النائب عن فعله ، نحو : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد / ٤] ، ففيهما أيضا ضمير مستتر وجوبا مرفوع على الفاعلية.

فالمواضع مطلقا ثمانية ، وعدّ ابن هشام في الأوضح ممّا يجب فيه الاستتار أفعل التفضيل ، وهو غير ظاهر ، لأنّه قد يرفع الظاهر في مسألة الكحل (١) عند جميع العرب ، ويرفع الضمير البارز على لغة ، نحو : مررت برجل أفضل منه أنت ، إذا لم يعرب أنت مبتدأ ، ولقد أحسن المصنّف في عدم ذكره له ، «وألحق بذلك» أي بالمذكور من المواضع الّتي يجب فيها الاستتار ، نحو : «زيد قام أو زيد يقوم» ، ففي كلّ منهما ضمير

__________________

(١) مسألة الكحل هي المسألة المتعلّقة برفع اسم التفضيل للاسم الظاهر ، ومن المعروف أنّ اسم التفضيل يرفع الضمير المستتر ، ولا يرفع الاسم الظاهر غالبا إلا إذا سبقه نفي ، وكان مرفوعه أجنبيّا مفضلا على نفسه باعتبارين ، نحو «ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل كحسنه في عين زيد» فـ «أحسن» اسم تفضيل فاعله «الكحل» ، والّذي سوّغ رفعه الفاعل سبقه بنفي ، ومرفوعه أجنبيّ عنه ومفضلّ على حاله باعتبارين : أحدهما كونه في عين زيد والآخر كونه في عين غيره. وقد سمّيت هذه المسألة بمسألة الكحل ، لأن النحاة قد مثلوّا لها بمثال يتضمّن الحديث عن الكحل نفسه. إميل بديع يعقوب ، موسولة النحو والصرف والإعراب ، الطبعة الثالثة ، منشورات استقلال ١٣٨٣ ش ، ص ٦٢٤.

١٦٦

مستتر وجوبا مرفوع على الفاعلية ، والملحق لذلك جماعة منهم ابن هشام في الأوضح خلافا لابن يعيش وابن مالك (١).

وذلك أنّهما قسّما المستتر إلى مستتر وجوبا ومستتر جوازا ، فالأوّل : ما لا يخلفه ظاهر ولا ضمير منفصل وهو المستتر في المواضع المذكورة أوّلا. والثاني : ما يخلفه ذلك ، وهو المرفوع بفعل الغائب ، نحو : زيد قام أو يقوم ، أو الغائبة ، نحو : هند قامت أو تقوم ، أو الصفات المحضة ، نحو : زيد قائم أو مضروب أو حسن ، أو اسم الفعل الماضي ، نحو : زيد هيهات.

قالا : فالضمير في هذه الأمثلة وما شابهها مستتر جوازا بدليل أنّه يخلفه الظاهر أو الضمير المنفصل ، فيقال : قام أبوه ، وما قام إلا هو. وتعقبهما ابن هشام بأنّ استتار الضمير في نحو : زيد قام ، واجب لا جائز ، إذ لا يصحّ أن يقال : زيد قام هو مثلا على أن يكون هو فاعلا لقام ، وكون الظاهر أو الضمير المنفصل قد يقع في موقع هذا الضمير المستتر لا يوجب إثبات جواز الاستتار له ، وذلك لأنّ تركيب زيد قام أبوه ، أو ما قام إلا هو غير تركيب زيد قام ، وليس الكلام فيه. أمّا زيد قام فضميره واجب الاستتار دائما ، ولا يظهر في حين من الأحيان ، ولو قلت : زيد قام هو ، فهو توكيد للضمير المستتر ، لا فاعل.

وكذا قال الرضيّ بوجوب الاستتار في ذلك ، وفي جميع الصفات ، وما نفاه من أن يكون هو في نحو : قام هو فاعلا ، فيه بحث. قال في التصريح : والمنقول عن سيبويه أنّه أجاز في هو من نحو : قوله تعالى : (أَنْ يُمِلَّ هُوَ) [البقرة / ٢٨٢] ، أن يكون فاعلا ، وأن يكون توكيدا ، ونقل المراديّ عنه أيضا في شرح التسهيل أنه أجاز في هو من نحو : مررت برجل مكرمك هو ، أن يكون فاعلا ، وأن يكون توكيدا ، وكذلك إذا جرى الوصف على غير من هو له وأبرز الضمير يكون فاعلا باتّفاق البصريّين والكوفيّين.

قال : والنظر الجيّد أن يقال : ما ذهب إليه ابن مالك وابن يعيش وغيرهما مشكل ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يريدوا بجواز الاستتار أنّه يجوز إبراز الضمير متّصلا أو منفصلا والأوّل متعذر ، والثاني مخالف لما أصّلوه من القواعد ، وهو أنّه إذا أمكن الاتّصال لا يعدل عنه إلى الانفصال إلا فيما يستثني ، وليس هذا منه ، انتهى.

__________________

(١) يبدو أنّ الحقّ مع النّحويّين الّذين يقولون بأنّ الفاعل في هاتين الصيغتين ضمير مستتر جوازا ، لأنّنا إذا قارنّاهما بالصيغ الّتي الفاعل فيها ضمير مستتر وجوبا رأينا بأنّ الاسم الظاهر لا يقع بعدها أبدا ، ولكن بعد هذه الصيغ يمكن أن يأتي اسم ظاهر كفاعلهما.

١٦٧

وقال المحقّق اللقانيّ في حاشيته على الأوضح : قول ابن مالك ومن وافقه : ما يخلفه ذلك ليس معناه أنّ ذلك يخلفه في تأدية معناه ، بل في رفع عامله إيّاه ، فمعنى وجوب الاستتار وجوازه عندهم وجوب كون المرفوع بالعامل ضميرا مستترا ، وجوازه لا وجوب كون الاستتار في الضمير المستتر واجبا وجائزا ، إذ ليس لنا ضمير متّصف بالاستتار يجوز ظهوره ، انتهى.

ولمّا كان هاهنا مظنّة سؤال ، وهو أن يقال : أنّ نحو قم أنت ، وأقوم أنا ، قد ظهر فيه الضمير ، وقد ذكرت أنّه من المواضع الّتي يجب فيها استتاره ، أشار إلى الجواب عن ذلك بقوله : «وما يظهر من الضمائر في بعض هذه المواضع ، كأقوم أنا ، فتأكيد» للضمير المستتر ، لا فاعل ، بدليل أنّك لا تقول : لا أفعل إلا أنا ، ولا تفعل إلا أنت ، وهو «كقمت أنا» ، في كون أنا تاكيدا للفاعل الّذي هو ضمير بارز متصل فلا نقص به. وسيأتي تتّمة ذكر المضمرات في المبنيّات ، إن شاء الله تعالى ، فلينتظر.

ملازمة الفعل تاء التأنيث في باب الفاعل : هذه «تبصرة» في لحوق علامة التأنيث لعامل الفاعل وجوبا وجوازا ، أو رجحان الأول والثاني ، و «تلازم الفعل» المسند إلى الفاعل : أي تلحقه وجوبا من لازم الشيء ، إذا لم يفارقه ، جامدا كان أو متصرّفا تأمّا ، أو ناقصا «علامة التانيث» وهي التاء في آخره إن كان ماضيا ، وفي أوّله إن كان مضارعا. «إن كان فاعله» أي فاعل الفعل المسند الفاعل ، «ظاهرا حقيقيّ التأنيث» ، وهو ما له فرج كما مرّ ، إذا لم يفصل بينهما في غير باب نعم وبئس كما سيأتي بيانه ، إيذانا من أوّل الأمر بتأنيث الفاعل ، مفردا كان ، «كقامت هند» ، وتقوم هند ، أو مثنى كقامت الهندان ، وتقوم الهندان ، أو مجموعا بالألف والتاء ، كقامت الهندات ، وتقوم الهندات ، وأجاز الكوفيّون : قام الهندات (١) ، واختاره أبو علي ، واستدلّوا بالآية : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) [الممتحنة / ١٠] ، وبقوله [من الطويل] :

٨٣ ـ عشيّة قام النائحات وشقّقت

جيوب بأيدي مأتم وخدود (٢)

__________________

(١) هذا مذهب ابن مالك أيضا حيث يقول في الألفيّة :

والتاء مع جمع سوى السالم من

مذكّر كالتاء مع إحدى اللبن

يعني إذا اسند الفعل إلى جمع غير جمع سلامة لمذكّر جاز إتبات التاء وحذفها ، مثل : قامت الرجال ، وقام الرجال ، وقام الهندات ، وقامت الهندات ، (شرح ابن عقيل ١ / ٤٨١). ويبدو أنّه أحسن من المذاهب الأخرى.

(٢) هو لأبي عطاء السندب. اللغة : العشية : الوقت من زوال الشمس إلى المغرب ، أو من صلاة المغرب إلى العتمة والنائحات : الباكيات على الميّت بجزع وعويل. الجيوب : جميع جيب ، وجيب القميص ونحوه : ما يدخل منه الراس عند لبسه. الخدود : جمع خد وهو جانب الوجه.

١٦٨

والجواب عن الآية أنّ حذف التاء فيها للفضل بالمفعول ، وعن البيت بأنّه على تقدير موصوف ، أي النسوة النائحات ، فروعي حال محذوف ، وحكى سيبويه عن بعض العرب : قال فلانة ، استغناء بالمؤنّث الظاهر عن علامته ، فقيل : هو شاذّ ، لا يقاس عليه ، وقيل يقاس على قلّة. وأجازه الأخفش والرّمانيّ (١) ، وأنكره المبرّد. قال الرضيّ : ولا وجه لإنكار ما حكى سيبويه مع أمانته وثقته. قال الشاعر [من الوافر] :

٨٤ ـ إذا قالت حذام فصدّقوها

فإنّ القول ما قالت حذام (٢)

وأمّا قول الآخر [من الطويل] :

٨٥ ـ تمنّي ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر (٣)

فضرروة ، إن قدّر الفعل ماضيا ، فإن قدّر مضارعا وأصله تتمنّي ، فحذفت إحدى التائين ، كما قال تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل / ١٤] ، فلا ضرورة. قال ابن هشام في شرح الشذور : في هذا المحذوف ثلاثة أقوال ، أصحّها أنّه الثانية.

تنبيه : قال بعضهم علم من تعبيرهم بالهندان والهندات من أمثلة القاعدة المذكورة عدم الاعتداد بأل فاصلا ، وعدّ الفصل بها كلا فصل لتتريلها من مصحوبها مترلة الجزء ، وهذا ممّا يلغز به ، فيقال : أيّ صورة يجب فيها تانيث الفعل مع كون فاعله المؤنّث مفصولا عنه ، وإن شيءت نظم ذلك فقل [من السريع] :

٨٦ ـ أين غدا التأنيث للفعل

لديهم حتما مع الفصل

انتهى.

أو كان فاعل الفعل ضميرا متّصلا لغائبة مطلقا ، أي سواء كان حقيقيّ التأنيث أو لفظيّة ، كهند قامت ، وتقوم ، «والشمس طلعت» ، وتطلع ، وإنّما وجب هنا مطلقا لئلا يتوّهم أنّ ثمّ فاعلا مذكّرا منتظرا ، إذ يجوز أن يقال : هند قام أبوها ، والشمس طلع قرنها ، وقد يجوز تركها في الشعر ، إن كان التأنيث مجازيا كقوله [من المتقارب] :

٨٧ ـ فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها (٤)

__________________

(١) علي بن عيسى أبو الحسن الرمانيّ ، كان إماما في العربية ، قال أبو حيّان : لم ير مثله قطّ علما بالنحو ، شرح اصول ابن السّراج ، شرح سيبويه و... مات سنة ٣٨٤ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ١٨٠.

(٢) هذا البيت قيل إنه لديسم بن طارق أحد شعراء الجاهلية ، وقد جرى مجرى المثل ، وصار يضرب لكلّ من يعتدّ بكلامه ، ويتمسك بمقاله ، ولا يلتفت إلى ما يقول غيره ، وفي هذا جاء به الشارح ، وهو يريد أن سيبويه هو الرجل الّذي يعتد بقوله ويعتبر نقله لأنه الّذي شافه العرب ، وعنهم أخذ ، ومن ألسنتهم استمدّ. ابن عقيل ١ / ١٠٥.

(٣) هو للبيد بن ربيعة. اللغة : ربيعة أو مضر : هما ابنا نزار بن معد بن عدنان ، وهما أبو العرب العدنانيين.

(٤) البيت لعامر بن جوين الطائي : اللغة : المزنة : السحابة المثقلة بالماء ، الودق : المطر ، أبقل : أنبت البقل ، وهو النبات.

١٦٩

وأجازه ابن كيسان في النثر أيضا ، فيقال : الشمس طلع ، كما يقال : طلع الشمس ، لأنّ التأنيث مجازيّ ، ولا فرق بين المضمر والظاهر ، واستدلّ على ذلك لأنّ الشاعر كان يمكنه أن يقول : أبقلت إبقالها بالنقل ، فلمّا عدل عن ذلك مع تمكّنه منه علم أنّه مختار ، لا مضطر (١) ، وأجيب بأنّه إنّما يثبت ما ذكره بعد ثبوت أنّ هذا الشاعر ممّن يخفّف الهمزة بالنّقل وغيره ، فإنّ من العرب من لا يجيز في الهمزة إلا التحقيق ، وقد يعارض بالمثل ، فيقال : إنّما تثبت دعوى الضرورة بعد ثبوت كونه ممّن لا يخفّف الهمزة بالنقل ، ويؤيّد ما قاله ابن كيسان إنّ الأعلم حكى في شرح أبيات كتاب سيبويه أنّه روى أبقلت أبقالها بتخفيف الهمزة ، قال : ولا ضرورة فيه على هذا ، إذ هو دليل على أنّ قائله يجيز النقل ، قال : وعلى رواية تخفيف الهمزة إنّما هو لتأويل الأرض بالمكان فلا ضرورة.

وفي هذا التأويل نظر ، لأنّ الهاء في ابقالها تأباه ، قاله في التصريح ، واحترز بالمتّصل عن المنفصل ، نحو : هند ما قام إلا هي ، أو يقوم إلا هي ، والشمس ما طلع إلا هي ، أو يطلع إلا هي.

فالتذكير واجب لعدم التوهّم الّذي يحصل هناك ، لأنّ الفعل لا يكون له فاعلان ، والتقييد بالغائبة احتراز عن الحاضرة ، نحو : قمت ، وأقوم ، فإنّه لا يمكن تأنيثه ، وإن كان ضميرا متّصلا لمؤنث ، وأمّا نحو : طلحة علما للرّجل فلا يجوز في ضميره المتّصل إلحاق التاء ، فلا يقال : طلحة قامت ، وأجازه بعض الكوفيّين ، نظرا إلى اللّفظ ، وهو بعيد ، إذ يلزم منه اشتباه المذكّر بالمؤنّث ، فيحصل اللّبس مع انتفاء القرينة ، وهو محذور.

«ولك الخيار» في إلحاق علامة التأنيث للفعل وتركها «مع ظاهر» المؤنّث «اللفظي» في السعة ، «كطلعت» الشمس ، وتطلع الشمس ، «أو طلع الشمس» ، ويطلع الشمس ، ما لم يكن علما للمذكّر الحقيقيّ ، نحو : طلحة ، فليس فيه خيار ، بل يجب التذكير ، خلافا لبعض الكوفيّين ، وإنّما جاز هنا الوجهان ، لأنّه مؤنّث لفظا ، غير مؤنّث معنى ، فجاز الأمران باعتبار الوجهين ، ومثله جمع تكسير لمذكّر ، نحو : قالت الزّيود ، وقال الزّيود ، أو المؤنّث كقامت الهنود ، وقام الهنود ، واسم الجمع المذكّر كقامت قومك ، وقام قومك ، أو لمؤنث ، كقامت النّساء ، وقام النّساء ، واسم الجنس كأورقت الشجر ، وأورق الشجر ، فالتأنيث في ذلك كلّه على التأويل بالجماعة ، والتذكير على التأويل بالجمع.

وأمّا جمع تصحيح المذكّر فكمفرده ، لأنّ سلامة نظم مفرده تدلّ على التذكير ، وكذا جمع تصحيح المؤنّث ، كما مرّ قيل ، وقضية هذا التعليل جواز الوجهين في نحو : جاء

__________________

(١) هذا خطأ ظاهر ، لأنّه في «الشمس طلع» الفاعل ضمير «هو» مذكّر ومرجعه «الشمس» مؤنّث.

١٧٠

البنون والبنات لتغير نظم المفرد فيهما ، وبه صرّح ابن مالك في التسهيل ، بل نقل الرضيّ والشاطبيّ (١) الإجماع على ذلك.

«و» لك الخيار أيضا مع المؤنّث الحقيقيّ المنفصل ، فإن شيءت ذكرت العلامة ، وإن شيءت تركتها ، لكن «يترجّح ذكرها مع الفصل بغير إلا» الاستثنائية الإيجابية ، «نحو : دخلت الدار هند ،» لأنّ المسند إليه (٢) في الحقيقة هو المؤنّث ، سواء كان ثمّ فصل أو لم يكن.

وإنّما اغتفروا تركها مع الفصل لطول الكلام ، ولأنّ الفعل بعد عن الفاعل المؤنّث ، وضعفت العناية به ، وصار الفعل كالعوض من تاء التأنيث ، فأجازوا الترك ، وإليه أشار ممثلا بقوله ، أو دخل الدار هند. قال الشاعر [من البسيط] :

٨٨ ـ إنّ امرء غرّه منكنّ واحدة

بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور (٣)

وقال المبرّد : لا يجوز مع الفصل بغير إلا غير التأنيث ، وما ذكره المصنّف هو الصحيح المشهور ، والتقييد بالحقيقيّ هو المفهوم من تمثيله ، ولو كان المؤنّث غير حقيقيّ ، وفصّل ، ترجّح تركها ، إظهارا لفضل الحقيقيّ على غيره ، سواء كان بإلا أو غيرها ، كذا قالوا.

قال الدمامينيّ : والّذي يظهر لي عكس ذلك ، وهو أن يكون الإتيان بالعلامة في الصورة المذكورة أرجح بدليل كثرته في الكتاب العزير وفشوه فيه جدّا ، فوقع فيه من ذلك ما يزيد على مأتي موضع ، والوارد فيه بترك العلامة خمسون موضعا ، أو نحوها وأكثرية أحد الاستعمإلين دليل أرجحيته ، فينبغي المصير إلى القول : بأنّ الإتيان بالعلامة في ذلك أحسن وأفصح ، وتركها حسن فصيح ، «و» يرجّح تركها «مع الفصل بها» أي بإلّا ، «نحو : ما قام إلا امرأة» ، مع جواز ما قامت إلا امراة ، على المرجوحية. والبصريّون إلّا الأخفش أوجبوا التّرك ، قالوا : لأنّ الفاعل في الحقيقة مذكّر محذوف ، والتقدير ما قام أحد إلا امرأة ، وأمّا المذكور بعد إلا فهو بدل منه.

وخصّص بعضهم جواز التأنيث بالشعر ، كقوله [من الرجز] :

٨٩ ـ ما برئت من ريبة وذمّ

في حربنا إلّا بنات العمّ (٤)

__________________

(١) الشاطبي هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى ، تلقّي العربيّة عن أئمة المغاربة ، صنف : شرحا على الألفية ، ومن آرائه الصائبة الاستشهاد بالحديث ، توفي بالأندلس سنة ٧٩٠ ه‍. نشأة النحاة ص ١٥٧.

(٢) لأنّ المسند «م وط».

(٣) لم يسمّ قائله.

(٤) هو مجهول الشاعر. اللغة : الربية : الشك.

١٧١

والصحيح جوازه في النثر أيضا نظرا إلى ظاهر اللفظ ، ومنه قراءة بعضهم إن كانت إلا صحيحة واحدة [يس / ٢٩] ، بالرفع فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم [الأحقاف / ٢٥] ، بضمّ التاء من ترى ، ورفع مساكنهم.

«ويرجّح» الترك أيضا «في باب نعم وبئس ، نحو : نعم أو بئس المرأة هند» ، مع (١) جواز نعمت ، أو بئست المرأة هند. فالتذكير على إرادة الجنس ، إذ ليس المراد امرأة واحدة ، بل المراد الجنس ، فمدحوه ، أو ذمّوه عموما ، ثمّ خصّوا من أرادوا مدحه أو ذمّه ، مبالغة بذكره مرّتين ، والتأنيث على مقتضي الظاهر.

تنبيه : حكم الوصف حكم الفعل المذكور ، فتلازمه العلامة إن كان الفاعل مؤنّثا حقيقيّا ، نحو : زيد قائمة أمّه ، ويجوز الوجهان في اللفظيّ ، نحو : اليوم طالعة أو طالع الشمس.

تتمّة : اللغة المشهورة أن لا يلحق عامل الفاعل إذا كان مثنّى أو مجموعا علامة تدلّ على تثنيته أو جمعه ، كما دلّت التاء على تأنيثه ، لأنّهما يعلمان من لفظه دائما بخلاف تانيثه ، فإنّه قد لا يعلم من لفظه بأن يكون مقدّرا لتأنيث ، مع أنّ في الإلحاق هنا زيادة ثقل بخلاف ثمّ ، ومن العرب من ألحق ظاهرا أو ضميرا منفصلا ألف التثنية وواو الجمع ونون الإناث ، فيقول : قاما أخواك ، وقاموا إخوتك ، وقمن الهندات ، وما قاما إلا هما ، وما قاموا إلا هم ، وما قمن إلا هنّ ، ومنه قوله عليه الصلوة والسّلام : أو مخرجي هم (٢).

قال أبو حيّان في الإرتشاف ، وذكر بعضهم أنّها من لغة أزد شنوءة (٣) وأباهم سيبويه فقال : وأعلم أنّ من العرب من يقول : ضربوني قومك وضرباني أخواك. ويسمّيها بعضهم لغة «أكلوني البراغيث» ، وابن مالك يقول : لغة يتعاقبون فيكم ملائكة ، قال : والمختار أنّها علامات تدلّ على التثنية والجمع. وذهب بعض النحاة إلى أنّها ضمائر ، واختلفوا ، فقال قوم ما بعدها منها ، وقال قوم مبتدأ ، والجملة السابقة خبر (٤) ، وهذه اللغة عند جمهور النّحويّين ضعيفة ، وكثرة ورود ذلك تدلّ على أنها غير ضعيفة ، انتهى. ثمّ الصحيح أنّها لا تمتنع مع المفردين أو المفردات المتعاطفة خلافا للخضراويّ (٥).

__________________

(١) في «س» من الأية حتى هنا محذوف.

(٢) صحيح البخاري ، ١ / ٦٠ رقم ٣.

(٣) هم حيّ باليمن ، ينسب إليهم شنائي. خزانة الأدب ٦ / ٤٦٠.

(٤) يبدو أنّ أحسن إعراب لمثل هذه الجملة هو أن نقول : الضمير البارز هو الفاعل ، والاسم الظاهر بدل من الضمير.

(٥) محمد بن يحيي بن هشام الخضراويّ ، صنّف : فصل المقال في أبنية الأفعال ، الافصاح بفوائد الايضاح ، ومات سنة ٦٤٦ ه‍. بغية الوعاة ١ / ٢٦٧.

١٧٢

الأصل تقدّم الفاعل على المفعول : مسألة تتعلّق بالفاعل : «والأصل (١)» أي الراجح «في الفاعل» الّذي ينبغي أن يكون عليه إن لم يمنع مانع «تقدّمه على المفعول» بان يلي العامل ، لأنّه كالجزء منه ، ولذا يسكن له آخر الفعل إذا كان ضميرا لكراهتهم توإلى أربع حركات ، وإنّما يكرهون ذلك في كلمة واحدة ، فدلّ ذلك على أنّها كالكلمة الواحدة بخلاف المفعول ، والأصل فيه تأخره عن الفاعل لأنّه فضله.

وقد يجوز خلاف الأصل ، فيتقدّم المفعول ، ويتأخّر الفاعل ، كما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) [القمر / ٤١] ، وقول الشاعر [من البسيط] :

٩٠ ـ جاء الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر (٢)

«ويجب ذلك» الأصل «إذا خيف اللبس» في الفاعل لعدم ظهور الإعراب ، وعدم قرينة تمييز الفاعل من المفعول ، سواء كانا مقصورين أم اسمي إشارة أم موصولين أم مضافين إلى الياء نحو : ضرب موسى عيسى ، أو هذا ذاك ، أو من في الدّار من على الباب ، أو غلامي أبي. فيتعيّن في مثل هذه أن يكون الأوّل فاعلا ، والثاني مفعولا ، خلافا لابن الحاجّ (٣) في نقده على المقرّب (٤) لابن عصفور محتجّا بأنّ العرب يجيز تصغير عمرو وعمر على عمير مع وجود اللبس ، وبأنّ الإجمال من مقاصد العقلاء وبأنّه يجوز أن يقال : زيد وعمرو ضرب أحدهما الآخره ، وبأنّ تأخير البيان لوقت الحاجة جائز عقلا باتّفاق ، وشرعا على الأصحّ ، وبأنّ الزجاج نقل في معانيه (٥) أنّه لا خلاف بين النّحويّين في أنّه يجوز في نحو : فما زالت تلك دعواهم ، كون تلك اسمها ، ودعواهم الخبر ، وبالعكس ، هذا كلامه.

قال المراديّ : ولا يلزم من إجازة الزجاج الوجهين في الآية جواز مثل ذلك في ضرب موسى عيسى ، لأنّ التباس الفاعل بالمفعول ليس كالتباس اسم «زال» بخبرها ، انتهى.

ولو كان ثمّ ما يؤمن معه اللبس من قرينة لفظيّة كالإعراب الظاهر في تابع أحدهما أو كليهما ، نحو : ضرب موسى عيسى الظريف ، أو اتّصال علامة الفاعل بالفعل ، نحو :

__________________

(١) هذه الجملة سقطت في «س».

(٢) هو لجرير بن عطية ، من كلمة يمدح بها عمر بن عبد العزيز بن مروان.

(٣) أحمد بن محمد أحمد أبو العباس الاشبيلي يعرف بابن الحاج ، قرأ على الشلوبين وأمثاله. وله على كتاب سيبريه املاء ، ومصنف في علوم القوافي ونقود على الصحاح و... ، مات سنة ٦٤٧ ه‍. المصدر السابق ١ / ٣٥٩.

(٤) المقرّب في النحو : لابن عصفور على بن مؤمن الحضرمي المتوفى سنة ٦٦٣ شرح على هذا الكتاب. كشف الظنون ٢ / ١٨٠٥.

(٥) أشار إلى كتاب «معاني القرآن» لجماعة منهم أبو إسحاق إبراهيم السري المعروف بالزجاج النحويّ المتوفى سنة ٣١١ ه‍. المصدر السابق ٢ / ١٧٣٠.

١٧٣

ضربت موسى سعدى ، أو اتّصال ضمير الثاني بالأوّل ، نحو : ضرب فتاه موسى ، أو معنويّة ، نحو : أرضعت الصغرى الكبرى ، لا يجب ذلك الأصل ، بل يجوز تقدّم المفعول.

تنبيه : معنى وجوب تقديم الفاعل في الصورة المذكورة أنّه لا يجوز أن يتقدّم المفعول على مجرّد الفاعل ، لكنّه يجوز تقديم المفعول على الفعل والفاعل معا ، فيجوز : موسى ضرب عيسى ، على أن يكون عيسى فاعلا ، لأنّه لا يلتبس المفعول حينئذ بالفاعل ، لعدم جواز تقديم الفاعل على الفعل (١) ، صرّح به الفاضل الهنديّ. قال بعضهم : ويمكن أن يقال تنتفي هاهنا القرينة ، لأنّ تقدّم موسى قرينة على أنّ الفاعل هو عيسى.

«أو كان الفاعل ضميرا متّصلا ، و» كان «المفعول متأخّرا عن الفعل» معا ، فيجب ذلك الأصل أيضا ، سواء كان الضمير بارزا كضربت زيدا ، أو مستترا كضرب غلامه ، وسواء كان اسما ظاهرا كما مرّ أو مضمرا منفصلا ، ك ما ضربت إلا إيّاك ، أو متّصلا كضربتك ، وقيّده بكونه متأخّرا ، لئلا ينتقض بنحو زيدا ضربت ، وإنّما وجب الأصل هنا لتعذّر التأخير من حيث إنّ الفاعل متّصل ، وتأخيره مع كونه كذلك لا يمكن.

وجوب تأخير الفاعل وتقديم المفعول : «ويمتنع» الأصل المذكور ، أي يجب تأخير الفاعل وتقديم المفعول عليه «إذا اتّصل به» أي بالفاعل «ضمير المفعول» ، نحو قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة / ١٢٤] ، وقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) [غافر / ٥٢] ، إذ لو قدّم الفاعل وأخّر المفعول في ذلك للزم عود الضمير على متأخّر لفظا ورتبة ، وذلك لا يجوز إلا في الضرورة ومواضع مخصوصة ، وسيأتي ذكرها في بحث الضمائر إن شاء الله تعالى.

وأجازه الأخفش وابن جنيّ من البصريّين وأبو عبد الله الطوال (٢) من الكوفيّين في غير ضرورة بقلّة ، وتبعهم ابن مالك نظرا إلى أنّ استلزام الفعل للمفعول يقوم مقام تقديمه ، والشواهد على وروده كثيرة جدّا ، منها قوله [من الطويل] :

٩١ ـ ولو أنّ مجدا أخلد الدّهر واحدا

من النّاس أبقى مجده الدّهر مطعما (٣)

وقوله [من الطويل] :

__________________

(١) في هذه الجملة أيضا إبهام في تعيين الفاعل والمفعول لأنّه يمكن أن نعتبر عيسى مفعولا به والفاعل ضمير مستتر يعود إلى موسى ، مثل على نصر محمدا ، إذن لإيزال الإشكال باقيا ، فالأفضل أن نقول : لا يجوز تقديم المفعول على الفاعل والفعل إذا كان إعرابهما تقديريا.

(٢) محمد بن أحمد بن عبد الله الطوال النحوي ، أحد اصحاب الكسائي ، مات سنة ٢٤٣. بغية الوعاة ١ / ٥٠.

(٣) البيت لحسان بن ثابت يرثي مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي أحد أجواد مكة.

١٧٤

٩٢ ـ كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد

ورقّي نداه ذا الندّي في ذرا المجد (١)

وقوله [من الطويل] :

٩٣ ـ ألا ليت شعري هل يلومنّ قومه

زهيرا على ما جرّ من كلّ جانب (٢)

وقوله [من السريع] :

٩٤ ـ لمّا عصي أصحابه مصعبا

أدّي إليه الكيل صاعا بصاع (٣)

وقوله [من البسيط] :

٩٥ ـ جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار (٤)

وقوله [من البسيط] :

٩٦ ـ لمّا رأى طالبوه مصعبا ذعروا

وكاد لو ساعد المقدور ينتصر (٥)

وقوله [من الرجز] :

٩٧ ـ تغني حلاها هند عن حلى

 ... (٦)

قال الدمامينيّ : ورام بعضهم تأويل هذه الشواهد الدّالة عليه وهو بعيد ، إذا تأمّلت. قال ابن هشام في الأوضح : والصحيح جوازه في الشعر فقط ، وهو الإنصاف ، لأنّ ذلك إنّما ورد في الشعر ، فلا يقاس عليه.

«أو اتّصل المفعول» ، أي ويجب تأخير الفاعل إذا كان المفعول ضميرا متّصلا ، «وهو» أي والحال أنّ الفاعل «غير» ضمير «متّصل» وغيره ، أمّا ضمير منفصل ، نحو : ما ضربك إلا أنا ، أو ظاهر ، نحو : ضربك زيد ، فلو قدّم الفاعل والحال هذه ، لانفصل الضمير مع تأتّي اتّصاله ، وقد تقدّم أنّه لا يعدل عن الاتّصال مع إمكانه.

وإنّما قيّده بقوله : «وهو غير متّصل» ، لأنّه لو كان متّصلا لوجب التقديم ، نحو : أكرمتك ، كما مرّ ، «وما وقع منهما» أي من الفاعل والمفعول ، بعد إلا أو بعد معناها ، وهو إنّما ، فإنّها بمعنى إلا في إفادة الحصر على ما هو المشهور عند النحاة والأصوليّين ، والمراد أنّها بمعنى ما وإلا ، لا بمعنى إلا فقط.

ففي العبارة تسامح ، وهل هي بمعنى ما وإلا ، وحتى كأنّهما لفظان مترادفان ، أو متضمّنة معنى ذلك ، الصحيح الثاني.

__________________

(١) لم يسم قائله. اللغة : سؤدد : هو السيادة ، الذري : جمع ذروة ، وهي أعلى الشيء.

(٢) البيت لأبي جندب. اللغة : جرّ : جنى ، أي جرّ على نفسه جرائر من كلّ جانب.

(٣) هو للسفاح بن لكبير. اللغة : الكليل : ما يكال به من حديد أو خشب أو نحوهما ، الصاع : مكيال تكال به الحبوب ونحوها.

(٤) نسب هذا البيت لسليط بن سعد.

(٥) البيت لأحد أصحاب مصعب بن الزبير يرثيه. اللغة : طالبوه : الّذين قصدوا قتاله ، ذعروا : أخذهم الخوف.

(٦) ما وجدت البيت ولا قائله.

١٧٥

وإنّما لم يقل : أو إنّما ، لأنّ الواقع في إنّما ضرب عمرا زيد ، وإنّما ضرب زيد عمرا بعد إنّما هو الفعل لا الفاعل والمفعول ، وهما إنّما (١) وقعا بعد معنى إلا ، لأنّ إنّما تضمّن معنى ما وإلا ، ومعنى النّفي ملحوظ في صدر الكلام ، ومعنى إلا قبل آخر جزء من الكلام ، فالفاعل والمفعول واقعان بعد معنى إلا ، لا بعد إنّما وجب تأخّره ، فيجب تأخّر الفاعل في نحو : ما ضرب عمرا إلا زيد ، وإنّما ضرب عمرا زيد ، اذ المقصود حصر مضروبيّة عمرو في زيد ، أي ليس لعمرو ضارب إلا زيد مع جواز أن يكون زيد ضاربا لغير عمرو ، فلو قدّم والحال هذه ، وقيل ما ضرب زيد إلا عمرا ، وإنّما ضرب زيد عمرا ، كان معناه انحصار ضاربيّة زيد في عمرو ، أي ليس لزيد مضروب إلا عمرو ، مع جواز كونه مضروبا لغير زيد.

وهذا عكس الأول ، فينقلب المعنى ، ويجب تأخّر المفعول في نحو : ما ضرب زيد إلا عمرا ، وإنّما ضرب زيد عمرا ، كما وجب تأخّر الفاعل فيما تقدّم لئلا ينقلب الحصر المطلوب إذا قدّم.

وخالف الكسائي في المحصور بإلا ، وأجاز تقديمه مطلقا ، واستدلّ عليه فاعلا ، بقوله [من البسيط] :

٩٨ ـ ما عاب إلا لئيم فعل ذي كرم

ولا جفا قطّ إلا جبّأ بطلا (٢)

ومفعولا ، بقوله [من الطويل] :

٩٩ ـ تزوّدت من ليلى بتكليم ساعة

فما زاد إلا ضعف ما بي كلامها (٣)

ووافقه ابن الانباريّ (٤) والفرّاء وجماعة على جوازه في هذه المسألة دون الأولى فارقين بأنّ الفاعل إذا تأخّر ، وكان المفعول المقصور عليه متقدّما ، كان تأخيره في اللفظ فقط ، لأنّه من المعلوم أنّه متقدّم في النية ، فحصل للمقصور عليه تأخير من وجه ، وهو النيّة بخلاف ما إذا كان الفاعل المقصور عليه متقدّما ، فإنّه عند تقدّمه وقع كلّ من الفاعل والمفعول في مرتبته فلم يحصل حينئذ ما يقتضيه الحال من تقديم غير المقصور عليه لفظا ورتبة ، وإنّما جاز ذلك في إلا دون إنّما ، لأنّ المقصور عليه بإلا معلوم ، تقدّم ، أو تأخّر ، فإنّ اقتران الاسم بإلا دليل على القصر عليه بخلاف إنّما ، فإنّه لا دليل معها على القصر إلا تأخير المقصور عليه.

__________________

(١) من «إنّما لم يقل» حتى هنا غير موجود في «س».

(٢) لم يسمّ قائله. اللغة : الجبّأ : الجبان.

(٣) نسب هذا البيت لمجنون بني عامر قيس بن الملوح.

(٤) عبد الرحمن بن محمد أبو البركات الأنباري النحويّ ، له المؤلفات المشهورة ، منها : الأنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين ، ميزان العربية ، حلية العربية و... مات سنة ٥٧٧ ه‍. المصدر السابق ٢ / ٨٧.

١٧٦

وذهب الزجاجيّ إلى عدم وجوب تأخيره مع أنّما أيضا قال : بل قد يكون المتأخّر غيره أيضا ، ويفهم بالقرينة ، حكاه الشيخ بهاء الدين السبكيّ (١) وغيره ، فنقل بعضهم الإجماع على وجوب التأخير معها غير مرضيّ.

حذف فعل الفاعل : قد يحذف الفعل لقيام قرينة تدلّ عليه جوازا ، إذا أجيب به نفي كقولك : بلي زيد ، لمن قال : ما قام أحد ، أو استفهام محقّق كقولك : زيد لمن قال : من قام ، أو مقدّر كقوله [من الطويل] :

١٠٠ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (٢)

على رواية ليبك بالبناء للمفعول ، كأنّه قيل : من يبكيه؟ فقال : ضارع ، أي يبكيه ضارع ، وإنّما قدّر الفعل دون الخبر ، لأنّ تقدير الخبر يوجب حذف الجملة ، وتقدير الفعل يوجب حذف جزئها ، والتقليل في الحذف أولى.

قال بعض المحقّقين ، وفيه بحث : فإنّ في حذف الخبر حفظ المناسبة بين السؤال والجواب ، وفي حذف الفعل تقليل الحذف ، والثاني لا يعارض الأوّل ، فضلا عن أن يترجّح عليه ، ألا ترى أنّهم يرجّحون رعاية المناسبة على رعاية السلامة عن الحذف في باب الإضمار على شرطية التفسير ، انتهى ، وفيه نظر.

ويحذف وجوبا إذا حذف ، ثمّ فسّر لرفع الإبهام الناشئ عن الحذف نحو قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة / ٦] ، فأحد فاعل فعل محذوف وجوبا ، يفسّره المذكور ، فلو ذكر معه كان ضائعا بخلاف المفسّر الّذي فيه إبهام بدون حذفه ، فإنّه يجوز الجمع بينه وبين مفسّره ، كقولك : جاءني رجل أي زيد. وقد يحذف الفعل والفاعل معا جوازا للقرينة في نحو : نعم ، لمن قال : أقام زيد.

__________________

(١) أحمد بن على السبكي العلّامة بهاء الدين ، كانت له اليد الطوطى في اللسان العربي والمعاني والبيان ، صنف : عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح ، شرح مطول على مختصر ابن الحاجب و... مات سنة ٧٧٣ ه‍. المصدر السابق ١ / ٣٤٢.

(٢) هو للحارث بن نهيك. اللغة : الضارع : الخاضع والمستكين. المختبط : السائل بلا وسيلة ، أو قرابة ، تطيح : تهلك ، الطوئح : المصائب والمهالك.

١٧٧

نائب الفاعل

ص : الثاني : نائب الفاعل ، وهو المفعول القائم مقامه ، وصيغة فعله فعل أو يفعل ، ولا يقع ثاني باب علمت ، ولا ثالث باب أعلمت ، ولا مفعول له ولا معه ويتعيّن المفعول به له ، فإن لم يكن فالجميع سواء.

ش : «الثاني» ممّا يرد مرفوعا لا غير «نائب الفاعل» ، ويترجم عنه الجمهور بمفعول ما لم يسمّ فاعله ، وهذه العبارة لابن مالك. قال أبو حيّان : ولم أرها لغيره. قال ابن هشام : وهي أولى من عبارة الجمهور لما في عبارتهم من الطول والخفاء ، وصدقها على نحو : دينارا من قولك : أعطى زيد دينارا ، فهو مفعول لأعطى ، وأعطى لم يسمّ فاعله ، ولأنّ نائب الفاعل قد يكون مفعولا وغيره ، انتهى.

قال بعضهم : ولأنّها تصدق بالفعل الّذي لا فاعل له أصلا ، وهو المكفوف عن الفعل بما الزائدة ، نحو : قلّما وطالما ، وأجيب بأنّ عبارتهم صارت علما بالغلبة في عرفهم على ما يقوم مقام الفاعل من مفعول أو غيره ، بحيث لو أطلق فهم منه ذلك ، فلا يخرج عنه شيء ، ولا يدخل فيه غيره ، وقد يجاب بأنّ المراد بالصدق ، الصدق عليه في بادي النظر ، وذلك كاف في الأولويّة ، وإنّما جعل نائب الفاعل تلو الفاعل لشدّة اتّصاله به ، حتى ذهب أكثر البصريّين والجرجانيّ والزمخشريّ والتفتازانيّ إلى أنّه فاعل ، وهو أي نائب الفاعل المفعول صريحا ، أو ما في حكمه المحذوف فاعله لغرض ما قال أبو حيّان.

وذكر المتأخّرون البواعث على حذف الفاعل ، وقد (١) نظمت ذلك في أرجوزتي في قولي [من الرجز] :

١٠١ ـ وحذفه للخوف والإبهام

والوزن والتّحقير والإعظام

والعلم والجهل والاختصار

والسّجع والوقار والإيثار

«القائم مقامه» بضمّ الميم ، اسم مكان من أقام ، أي مقام الفاعل في إسناد العامل (٢) إليه ، ووجوب تأخيره عنه ، واستحقاقه للاتصال به ، وامتناع حذفه ، وتأنيث عامله لتأنيثه ، كذا قيل ، وفيه أنّه إن أريد قيامه مقامه في أصل الإسناد إليه ، فهذا المعنى ثابت له قبل صيرورته نائب فاعل ، وإن أريد قيامه مقامه في الإسناد إليه على جهة قيامه به أو وقوعه عليه فظاهر أنّه لا مجال لهذا المعنى أصلا مع خفاء المراد ، إذ لم تعلم جميع هذه الأحكام ، والمراد بالفاعل ، الفاعل النحويّ ، فلا إشكال بنحو : أنبت الربيع البقل.

__________________

(١) في «س» من هو اي نائب الفاعل حتى هنا سقط.

(٢) في إسناد الفاعل «ط».

١٧٨

«وصيغة فعله» المسند إليه «فعل» بضمّ أوّله وكسر ما قبل آخره ، إن كان ماضيا ، أو «يفعل» بضمّ أوّله وفتح ما قبل آخره ، إن كان مضارعا ، والمراد بهما التمثيل ، أي فعل أو يفعل ونحوهما ، ليعمّ نحو : افتعل واستفعل ويفتعل ويستفعل وغيرهما من الأفعال المجهولة المزيد فيها.

واقتصر على الثلاثيّ لكونه أصلا ، وما قيل من أنّ المراد بهما الماضي المجهول أو المضارع المجهول فهو تاويل لعلم الوزن بصفته المشتهرة ، كما في «لكل فرعون موسى» ، أي لكلّ ظالم عادل ، ففيه أنّ الصفة المشتهرة بها فعل أو يفعل ، فهو الماضي المجهول أو المضارع المجهول من الثلاثي المجرّد ، لا الماضي المجهول والمضارع المجهول مطلقا كذا قيل.

حكم بناء الماضي للمفعول إذا اعتلّت عينه وهو ثلاثيّ : تنبيهات : الأوّل : إذا اعتلّت عين الماضي ، وهو ثلاثي كقام وباع ، ففيه لغات ثلاث ، الأولى الكسر مخلصا ، كقيل وبيع ، وهي اللغة العليا ، الثانية : الكسر مشمّا ضمّا تنبيها على أنّ الضمّ هو الأصل ، ومعنى الإشمام هنا الإشارة إلى الضّمّ مع التلفظ بالكسر ، وهي اللغة الوسطي. الثالثة : الضمّ مخلصا نحو : قول وبوع ، وهي أضعفها وتجرى اللغات الثلاث في نحو : اختار وانقاد ، ممّا أعلّ عينه.

وأوجب الجمهور ضمّ فاء الثلاثي المضعّف ، نحو : شدّ ومدّ قال ابن هشام : والحقّ قول بعض الكوفيّين أنّ الكسر جائز ، وهي لغة بني ضبّة وبعض تميم ، وقرأ علقمه (١)(رُدَّتْ إِلَيْنا) [يوسف / ٦٥] ، (وَلَوْ رَدُّوهُ) [النساء / ٨٣] ، بالكسر ، وجوّز ابن مالك الإشمام أيضا ، وقال المهاباذيّ (٢) : من أشمّ في قيل وبيع أشمّ هنا ، انتهى.

قال في التصريح : وعلى الكسر يلغز ، ويقال : ما وجه رفع الماء في قولهم : إنّ الماء بكسر الهمزة ورفع الماء؟ وجوابه أنّ أصله «أنّ الماء في الحوض» إذا صبّه ، فحذف الفاعل ، وأنيب عنه المفعول ، وكسرت الهمزة على حدّ : (رُدَّتْ إِلَيْنا) بكسر الراء ، انتهى.

الثاني : لا يخلو العامل في هذا الباب من أن يكون فعلا أو اسم مفعول أو مصدرا ، فالفعل نحو : ضرب أو يضرب عمرو ، واسم مفعول نحو : زيد مضروب غلاماه ، والمصدر نحو : عجبت من أكل الطعام ، بتنوين أكل ورفع الطعام ، ويكون في موضع

__________________

(١) علقمة بن قيس ، تابعي ، كان فقيه العراق ، ولد في حياة النبي (ص) ، وروى الحديث عن الصحابة ، ورواه عنه كثيرون ، مات سنة ٦٢ ه‍. الأعلام للزركلي ، ٥ / ٤٨.

(٢) أحمد بن عبد الله المهاباذي الضرير من تلاميذ عبد القاهر الجرجاني ، له شرح كتاب اللمع ، بغية الوعاة ١ / ٣.

١٧٩

رفع ، كما يجوز أن تقدرّه في موضع نصب على أنّ الفاعل حذف ، ولم ينب عنه شيء كما في : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) [البلد / ١٤] ، قاله ابن هشام في شرح اللمحة.

واختلف في نحو : عجبت من ضرب عمرو ، برفع عمرو ، وهل يجوز أن يكون نائبا كما يجوز بالإجماع أن يكون فاعلا ، أجازه الجمهور ومنعه الأخفش للالتباس ، واختاره الشلوبين ، وأجازه ابن خروف ، حيث لا لبس ، نحو : عجبت من جنون بالعلم زيد ، ومن أكل الطعام ، أي من أن جنّ زيد بالعلم ، ومن أن أكل الطعام.

وفي الإيضاح (١) أجاز جماعة أن يذكر مرفوع بعد المصدر ، وتقدير المصدر بأن والفعل الّذي لم يسمّ فاعله ، ويكون ما بعده مرفوعا بالنيابة ، ومن الناس من منعه ، وهو الأصحّ ، لأنّ ما يرفع الفاعل من الفعل ، أو الصفة لا يكون على صيغة ما يرفع المفعول ، والمصادر لا تختلف صيغها ، فلا يصلح فيها ذلك ، انتهى.

الثالث : ظاهر كلامه حيث قال : وصيغة فعله «فعل أو يفعل» ولم يعبّر بالتغيير أو التحويل كما فعله كثيرون أنّ صيغته أصل برأسه ، وهو مذهب الكوفيّين وابن الطراوة (٢) ، ونقله [الرضي] في شرح الكافية عن سيبويه والمازنيّ ، وذهب جمهور البصريّين إلى أنّه فرع عن فعل الفاعل ، ونقل عن سيبويه ، قال أبو حيّان : وهذا خلاف لا يجدي كبير فائدة.

الرابع : فعله لايبنى إلا من متصرّف ، وأمّا الجامد فلا يبنى منه اتّفاقا ، وفي كان وكاد وأخواتها خلاف ، والجمهور على جواز البناء منها وعليه ، فالأصحّ أن لا يقام خبرها بل إن قلنا : إنّها إن تعمل في الظرف أقيم وإلا تعيّن ضمير المصدر.

لا يقع نائب الفاعل ثاني باب علمت ولا ثالث باب أعلمت : «ولا يقع» نائب الفاعل «ثاني» مفعولي «باب علمت» ، فلا يقال : علم قائم زيدا ، «ولا ثالث» مفاعيل «باب أعلمت» ، فلا يقال : أعلم قائم زيدا عمرا ، وعلّلوا ذلك بأن كلّا من هذين المفعولين مسند إلى المفعول الأوّل في باب علمت وإلى الثاني في باب أعلمت ، فلو قام مقام الفاعل ، والفاعل مسند إليه ، صار في حالة واحدة مسندا إليه ، فامتنع.

__________________

(١) الإيضاح في النحو لأبي القاسم الزجاجي المتوفى سنة ٣٣٧ ، أو لأبي على الفارسي النحوي المتوفى ٣٧٧ ه‍.

(٢) سليمان بن محمد أبو الحسن ابن الطراوة ، كان نحويّا ماهرا ، أديبا بارعا ، يقرض الشعر ، له آراء في النحو تفرّد بها ، وخالف فيها جمهور النحاة ، وكان مبرزا في علوم اللسان نحوا وأدبا ، ألف : الترشيح في النحو ، المقدمات على كتاب سيبويه ، مات سنة ٥٢٨ ه‍ ، بغية الوعاة ١ / ٦٠٢.

١٨٠