الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

السيد علي خان المدني الشيرازي

الحدائق النديّة في شرح الفوائد الصمديّة

المؤلف:

السيد علي خان المدني الشيرازي


المحقق: الدكتور السيد أبو الفضل سجادي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: روح الأمين
الطبعة: ٠
ISBN: 978-964-518-296-8
الصفحات: ٩٤٧

٤٨ ـ ...

ومن عضة ما ينبتنّ شكيرها (١)

وقوله [من الطويل] :

٤٩ ـ قليلا به ما يحمدنّك وارث

 ... (٢)

الخامسة أن يكون أقلّ ، وذلك بعد لم ، وبعد أداة جزاء غير أمّا كقوله [من الرجز] :

٥٠ ـ يحسبه الجاهل ما لم يعلما

شيخا على كرسيه معممّا (٣)

وكقوله [من الكامل] :

٥١ ـ من نثقفن منهم فليس بآئب

 ... (٤)

أحكام أقسام الفعل

حكم الفعل الماضي : هذه «تبصرة» تتعلّق بأحكام أقسام الفعل ، إذ قد تحقّقت مدلول كلّ من الأفعال ، فاعلم أنّ لكلّ أحكاما (٥) تخصّه ، فالفعل الماضي مبنيّ ، وهو على وفق الأصل ، إذ الأصل في الأفعال البناء لاستغنائها عن الإعراب باختلاف صيغها لاختلاف المعاني المعتورة عليها ، وبناؤه على الفتح ، ثلاثيّا كان أو رباعيّا أو خماسيّا أو سداسيّا ، ولا يزيد على ذلك ، وبني على الحركة لمشابهة المضارع في الجملة لوقوعه صفة ، نحو : مررت برجل ضرب ، وصلة ، نحو : مررت بالّذي قام ، وشرطا وجزاء ، نحو : إن ضربتني ضربتك ، وحالا نحو : جاءني رجل وقد ضرب.

وخصّ بالفتحة طلبا للخفّة ، «إلا إذا كان آخره ألفا» ، سواء كانت منقلبة عن واو ، نحو : غزا ، أو ياء ، نحو : رمي ، فأنّ أصلهما «غزو» و «رمى» ، قلبت الواو والياء ألفين ، لتحرّكهما وانفتاح ما قبلهما ، فيكون مبنيّا على السكون للاعلال المذكور.

ما خالف فيه المصنّف النحاة من أنّ المعتلّ الاخر مبنيّ على السكون : هذا مفهوم كلامه ، وهو خلاف ما صرّح به النحاة من أنّ المعتلّ الآخر مبنيّ على الفتح تقديرا ، والسكون عارض ، ولهذا إذا قدّر سكون الآخر ، رجعت الواو والياء ، فقيل : غزوت ورميت.

__________________

(١) تمام البيت «إذا مات منهم ميّت سرق ابنه» ، اللغة : العضة. كلّ شجر عظام ، الشكير : ما ينبت في أطراف أصل الشجر وأغصانه.

(٢) تمامه «إذا نال ممّا كنت تجمع مغنما» ، وهو لحاتم الطائي. اللغة : ما : زائدة. المغنم : الغنيمة.

(٣) البيت للعجاج أو لأبي الصمعاء وهو شاعر مخضرم.

(٤) تمامه «أبدا وقتل بني قتيبة شافي» ، وهو لبنت مرة بن عاهان أبي الحصين الحارثي. اللغة : نثقفن : ندركه ونظفر به ، آئب. راجع.

(٥) أنّ لكلّ أفعال تخصه «ح».

١٠١

نعم ، وقع في شرح الزنجانيّ للعلّامة التفتازانيّ ما يوافق كلام المصنّف ، ولعلّ المصنّف منه أخذ ، فإنّه قال : يبنى الفعل الماضي على الفتح ، إلا إذا اعتلّ آخره ، نحو : غزا ورمي ، لكن تعقّبه المحقّق اللقانيّ (١) في حاشيته عليه ، فقال في كون الفعل المعتلّ (٢) آخره ألف (٣) مستثنى من قوله على الفتح نظر ، لأنّ وجود الألف فرع عن فتح ما انقلبت عنه. فإن قلت : هو مستثنى باعتبار الألف فإنّها الآن آخر : قلت : قد استوفي البناء مقتضاه في الحرف الأصليّ ، فلا يكون السكون في الألف بناء ، انتهى. وهو في محلّه.

«أو اتّصل به ضمير رفع متحرّك» ، فيكون مبنيّا على السّكون أيضا ، نحو : ضربت ، بتثليث التاء كراهة توالي أربع حركات ، فيما هو كالكلمة الواحدة لشدّة اتّصال الفاعل بفعله ، وخرج بقيد الرفع ضمير النصب ، نحو : ضربك فإنّه مفعول ، وليس كالفاعل في شدّة الاتّصال ، وبالتحرّك الساكن غير الواو ، فهو في هاتين الحالتين مبنيّ على الفتح ، كما إذا تجرّد ، وقد شمل ذلك كلّه عموم المستثنى منه.

«أو» اتّصل به «واو» الجماعة فيكون مبنيّا على الضّمّ لمجانسة الواو ، نحو : ضربوا ، وأمّا نحو : دعوا واشتروا ، فالأصل دعووا ، بواوين ، أولاهما مضمومة ، واشتريوا بياء مضمومة ، فقبلت الواو والياء ألفين ، لتحرّكهما وانفتاح ما قبلهما ، ثمّ حذفت الألف لالتقاء الساكنين هي والواو ، كذا قال غير واحد ، وظاهر أنّه لا يتعيّن ذلك ، بل يجوز أن يقال : استثقلت الضمّة على الواو والياء ، فحذفت [الضمّة] ، ثمّ حذفت الواو والياء لالتقاء الساكنين هي وواو الجماعة.

وذهب بعضهم إلى أنّ الماضي مبنيّ على الفتح مطلقا ، وأمّا نحو : ضربت وضربوا ، فالسكون والضّم عارضان ، أوجبهما ما مرّ.

قال بعضهم ـ وهو التحقيق ، ولا ينافي ذلك قولهم : الأصل في المبنيّ أن يسكّن ، لأنّ ذلك في المبنيّ من حيث هو ، وهذا في الماضي فقط ، قال بعض المحقّقين : ويعارض القول بأنّ نحو : ضربوا مبنيّ على الضّمّ تصريحهم عند الكلام على ألقاب البناء أنّ الضّمّ لا يدخل الفعل وكذا الكسر ، فلتأمّل.

حكم الفعل المضارع : «و» الفعل «المضارع إذا اتّصل به نون إناث» ، سواء كان ضميرا أم حرفا ، ولم يقيّدها بالمباشرة ، لأنّها لا تكون إلا كذلك ، «كيضربن» من نحو : الهندات

__________________

(١) اللقانيّ إبراهيم بن إبراهيم من علماء الحديث. ولد في لقانة بمصر. له «جوهر التوحيد» و «بهجة المحافل» مات سنة ١٠٤١ ه‍ ق. الأعلام. للزركلي ، ١ / ٢١.

(٢) من الفعل الماضي حتي هنا سقط في «س».

(٣) سقط الألف في «م وح وس».

١٠٢

يضربن ، ويضربن النساء ، «بني على السكون» ردّا إلى الأصل من بناء الفعل لفوات شبهه بالاسم المقتضي لإعرابه باتّصاله بالنّون الّتي لا تتّصل إلا بالفعل ، وبني على السكون ، لأنّه الأصل في البناء.

ولك تعليل الحكمين معا بالحمل على الماضي المتّصل بضمير رفع متحرّك وتعليلها فيما إذا كانت النون ضميرا ، بأنّ الضمير يردّ الأشياء إلى أصولها ، وفيها إذا كانت حرفا بالحمل عليه طردا للباب.

وقال بعضهم : هو معرب لضعف علّة البناء ، مقدرا الإعراب لإلزامهم محلّه السكون ، ولم تعوّض النّون من الاعراب خوفا من اجتماع النونين ، وعزاه أبو حيّان فى شرح التسهيل (١) إلى السهيلى (٢) وابن طلحة وطائفة من النحويين رادّا به على ابن مالك فى دعواه الاتّفاق على بنائه.

«أو» اتّصلت به «نون تأكيد» ، خفيفه كانت أو ثقلية ، «مباشرة» أى : متّصلة به من غير حاجز لفظا أو تقديرا ، فينبى «على الفتح كيضربنّ» من نحو : زيد ليضربنّ أو (لَنَسْفَعاً) [العلق / ١٥].

هذا مذهب الجمهور ، وعلّة البناء تركيبه وصيرورته معها كالكلمة الواحدة ، فلو دخل الإعراب قبلها لزم دخوله فى وسط الكلمه ، ولا إعراب فى الوسط ، ولو دخل لزم عليها دخوله على الحرف ، ولا حظّ للحرف فى الإعراب.

قيل : هو معرب مطلقا ، وإنّ ما اتّصل به نون التأكيد منه باق على إعرابه ، كما أنّ الاسم مع التنوين معرب ، لكن لمّا اشتغل حرف الإعراب بالحركة المجتلبة قبل إعراب الكلمة لأجل الفرق ، صار الإعراب مقدّرا ، كما فى غلامى ، على ما ذهب إليه بعضهم.

وتقييده بقوله : «مباشرة» احتراز عن المفصول بينهما وبين الفعل بألف الاثنين ، أو واو الجماعة ، أو ياء المخاطبة ، فإنّ الفعل باق على إعرابه معها ، نحو : قوله تعالى (وَلا تَتَّبِعانِ) [يونس / ٨٩] ، فإنّ الألف حاجز لفظا ، ونحو (لَتُبْلَوُنَ) [آل عمران / ١٨٦] ، (وَلا يَصُدُّنَّكَ) [القصص / ٧٨] ، فإن الواو فى الأوّل حاجز لفظا ، وفى الثانى تقديرا ، أو نحو : (فَإِمَّا تَرَيِنَ) [مريم / ٢٦] ، فإنّ الياء حاجز لفظا.

وذهب قوم إلى البناء مطلقا ، لأنّه اتّصل به ما يختصّ بالفعل ، وأمّا قوله :

__________________

(١) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد فى النحو لابن مالك ، ومن شراحه العلّامة أثير الدين أبو حيان. كشف الظنون ، ١ / ٤٠٥.

(٢) عبد الرحمن بن عبد الله أبو القاسم السهيلي الأندلسي ، كان عالما بالعربية واللغة والقراءات ، صنّف : شرح الجمل ، التعريف والإعلام بما فى القرآن من الأسماء والأعلام و... مات سنة ٥٨١ ه‍. ق بغية الوعاة ٢ / ٨١.

١٠٣

٥٢ ـ ...

أقائلنّ أحضروا الشّهودا (١)

فضرورة كما تقدّم.

وأما ما حكى عن الإمام أبى الفتح بن جنىّ من قوله : دلّ هذا على أنّ نون التأكيد لا يختصّ بالفعل ، فغريب. وردّ ابن مالك هذا المذهب ، ودليله بأنّه كان يلزم بناء المجزوم والمقرون بحرف التنفيس والمسند إلى ياء المخاطبة ، لأنّها تختصّ بالفعل ، بل هى أليق من جهة أنّها ناسبت لفظا ومعنى ، والنّون ناسبت لفظا لا معنى ، لأنّ معناها يصلح للاسم ، وهو التأكيد ، قاله المرادىّ فى شرح التسهيل. «وإلّا» يتّصل به نون إناث ، ولا نون تأكيد مباشرة «فمرفوع ، إن تجرّد عن ناصب وجازم» ، أى عن كلّ ناصب وجازم.

النكرة فى الإثبات قد تكون للعموم : والنكرة فى الإثبات قد تكون للعموم ، وأمّا قول أبي طالب يخاطب النبىّ (ص) [من السريع] :

٥٣ ـ محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من أمر تبالا (٢)

فعلى تقدير الجازم ، وهو لام الطلب ، أى لتفد ، والتبال : الوبال ، أبدلت الواو تاء ، كما قالوا فى وراث ووجاه : تراث وتجاه ، وأمّا قول امرئ القيس [من السريع] :

٥٤ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٣)

فليس قوله : أشرب مجزوما ، وإنّما هو مرفوع ، ولكن حذفت الضّمّة للضرورة ، أو على تتريل ربع بالضمّ من قوله : أشرب غير مترلة عضد بالضّمّ ، فإنّهم قد يجرون المنفصل مجرى المتّصل ، فكما يقال فى عضد بالضمّ : عضد بالسكون ، كذلك قيل في ربع بالضم : ربع بالإسكان ، قاله ابن هشام فى شرح الشذور (٤).

وفيه أمران : أحدهما حذف لام الطلب فى الأوّل ، والثانى حركة الإعراب في الثانى ، وكلاهما ممّا اختلف في جوازه ، أمّا حذف لام الطلب فالّذى حقّقه في المغنى ، وصحّحه غيره أنّه مختصّ بالشعر وقيل : باطّراده في نحو : قل له : ليفعل ، وعليه الكسائيّ ، وقيل بجوازه بعد القول مطلقا ، وعليه ابن مالك ، وقيل بالمنع مطلقا ، وعليه المبرّد.

__________________

(١) تقدم برقم ٤٣.

(٢) هو لأبي طالب عمّ محمد (ص). اللغة : تفد : حذفت منه اللام للضرورة وهو مضارع فديته أى صيرت فداءه.

(٣) اللغة : المستحقب : أصله الّذي يجمع حاجاته في الحقيبة ، والمراد غير مكتسب ، الواغل : الداخل على طعام القوم وشرابهم من غير دعوة.

(٤) الأنصاري جمال الدين ابن هشام ، شرح شذور الذهب ، قم ، دار الهجرة ، الطبعة الثالثة ، ١٤١٤ ه‍ ، ص ٢١٣.

١٠٤

وقال فى البيت : إنّه لا يعرف قائله مع احتماله لأن يكون دعاء بلفظ الخبر مثل : يغفر لك الله ويرحمك ، وحذفت الياء تخفيفا ، واجتزئ عنها بالكسرة.

حذف حركة الإعراب : وأمّا حذف حركة الإعراب ، فقيل بجوازه مطلقا ، وعليه ابن مالك ، وقال : إنّ أبا عمرو حكاه عن لغة تميم ، وخرّج عليه آيات من القرآن ، منها قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَ) [البقرة / ٢٨٨] ، فيمن قرأ بسكون التّاء ، وقول الشاعر [من السريع] :

٥٥ ـ ...

وقد بدا هنك من المئزر (١)

وقوله [من السريع] :

٥٦ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

 ... (٢)

وقيل بالمنع مطلقا ، وعليه المبرّد. وقال : الرواية فى البيتين ، وقد بدا ذاك ، فاليوم اسقي ، وقيل بالجواز في الشعر ، والمنع في الاختيار ، وعليه الجمهور.

وقال أبو حيان : وإذا ثبت نقل أبى عمرو كان حجّة على المذهبين ، قاله فى الهمع (٣) : وسيأتي بيان الخلاف فى رافع المضارع فى الحديقة الرابعة إن شاء الله تعالى ، فلينتظر.

«وإلا» يتجرّد عن ناصب وجازم «فمنصوب» بحرف واحد من أربعة ، سيأتى ذكرها في حديقة الأفعال ، أو مجزوم بحروف سيأتى عدّها ثمّة.

حكم فعل الأمر : «وفعل الأمر يبنى» على وفق الأصل كما مرّ ، وبناؤه «على ما يجزم به مضارعه» المبدوّ بتاء الخطاب ، فيبنى على السّكون إذا كان صحيحا ، لم يتّصل بآخره ألف الاثنين ، ولا واو الجماعة ، ولا ياء الواحدة المخاطبة ، نحو : اضرب وانطلق واستخرج ، فإنّ مضارعه يجزم بالسكون إلا إذا كان مضعّفا نحو : ردّ ، فيجوز تحريكه بالحركات الثلاث ، وبها روى قول جرير [من الكامل] :

٥٧ ـ ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيّام (٤)

__________________

(١) صدره «رحت وفى رجيلك ما فيها» ، وهو للأقشير الأسدى. اللغة : المئزر : الإزار.

(٢) تقدّم برقم ٥٤.

(٣) همع الموامع في شرح جمع الجوامع في النحو للسيوطي المتوفى ٩١١ ه‍. ق كشف الظنون ١ / ٥٩٨.

(٤) اللغة : ذمّ فعل أمر من الذم ، ويجوز فى ميمه تحريكها بأحدي الحركات الثلاث : الكسر ، لأنّه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، فهو مبني على السكون وحرّك بالكسر للتخلّص من التقاء الساكنين ، والفتح للتخفيف ، لأنّ الفتحة أخفّ الحركات ، وهذه لغة بني أسد ، والضم ، لاتّباع حركة الذال ، وهذا الوجه

١٠٥

وعلى حذف النّون ، إذا اتّصلت به إحدى المذكورات ، سواء كان صحيحا أو معتلّا ، نحو : إضربا واغزوا واخشيا وارميا واضربوا (١) واغزوا واخشوا وارموا واضربي واغزي واخشي وارمي ، فإنّ مضارعه يجزم (٢) بحذفها وعلى حذف حرف العلة إذا كان معتلّا ، ولم يتّصل به نون الإناث ولا نون التوكيد المباشرة نحو : اغز واخش وارم ، فإنّ مضارعه ى يجزم بحذفه ، فإن اتّصلت به نون الإناث بني على السكون ، نحو : اغزون واخشين وارمين يا هندات ، أو نون التوكيد بنى على فتح ، نحو : اغزونّ واخشينّ وارمينّ يا زيد ، كالصحيح فى الموضعين.

هذا هو الأصحّ عند جمهور البصريين ، وذهب الكوفيون والأخفش من البصريين إلى أنّه مقتطع من المضارع ، فهو معرب مجزوم بلام الأمر إلا أنّها حذفت حذفا مستمرّا في نحو : قم واقعد ، والأصل لتقم ولتقعد فحذفت اللّام للتخفيف ، وتبعها حرف المضارعة.

واختاره ابن هشام في المغني ، قال وبقولهم أقول : لأنّ الأمر معنى حقّه أن يؤدّى بالحرف ، ولأنّه أخو النهى ، ولم يدلّ عليه إلا بالحرف ، ولأنّ الفعل إنّما وضع لتقييد الحدث بالزمان المحصّل ، وكونه أمرا أو خبرا خارج عن مقصوده ، ولأنّهم قد نطقوا بذلك الأصل ، كقوله [من الخفيف] :

٥٨ ـ لتقم أنت يا ابن خير قريش

كى لتقضى حوائج المسلمينا (٣)

وكقراءة جماعة فبذلك فلتفرحوا [يونس / ٥٨] ، وفى الحديث : لتأخذوا مصافكم (٤) ، ولأنّك تقول : اغز ، واخش ، وارم ، واضربا واضربوا واضربي ، كما تقول في الجزم ، ولأنّ البناء لم يعهد كونه بالحذف ، ولأنّ المحقّقين على أنّ أفعال الإنشاء مجرّده عن الزمان ، كبعت وأقسمت وقبلت ، وأجابوا عن كونها مع ذلك أفعالا بأنّ تجرّدها عارض لها عند نقلها عن الخبر ، ولا يمكنهم ادعاء ذلك في نحو : قم ، لأنّه ليس له حالة غير هذه وحينئذ فتشكل فعليته ، فإذا ادّعي أنّ أصله «لتقم» كان الدّال على الإنشاء اللام لا الفعل ، انتهى بنصّه.

وقال الدمامينىّ فى شرحه : لا إشكال ، فإنّ أفعال الإنشاء إنّما قلنا بتجرّدها عن الزمان من حيث هى إنشاء ، والأمر لا دلالة له على الزّمان بحسب الوضع من حيث

__________________

أضعف الوجود الثلاثة. اللوى : موضع بعينه. ابن عقيل ، شرح ابن عقيل ، ج ١ ، الطبعة السابعة ، قم ، ١٤١١ ه‍ ص ١٣٢.

(١) سقط «اضربوا» في «ح».

(٢) يحذف بحذفها «ط».

(٣) لم يسمّ قائله.

(٤) ما وجدت الحديث.

١٠٦

إنشائيته ، وليست هذه الحيثية هى جهة كونه فعلا ، بل فعليته باعتبار دلالته على الحدث المطلوب من المخاطب وعلى زمان ذلك الحدث ، وهو المستقبل فقد ثبت كونه فعلا لدلالته بحسب الوضع على الحدث وزمانه ، وإن كان لا دلالة له على الزّمان من حيث كونه إنشاء.

قال : وكذا إذا قلنا بأنّ الأنشاء لا بدّ له من زمان حال ، كما ذهب إليه بعضهم في سائر الإنشاءات لم يشكل الأمر لأنّا نقول : له زمنان : زمن إيقاعه من المتكلّم ، وهذا زمنه من حيث هو إنشاء ، وهو الحال وزمن حدثه المسند إلى المخاطب ، وهذا زمنه من حيث هو فعل ، وحينئذ فالأنشاء نوعان : إنشاء حدثه مسند إلى غير المخاطب كـ «بعت» وهذا حال فقط ، ليست الحال من دلالته بل من ضرورة وقوعه ، وإنشاء حدثه مسند إلى المخاطب ، وهو الأمر المدلول عليه بالصيغة ، وهذا واقع فى حال من حيث هو إنشاء وأمّا من حيث إسناد حدثه إلى المخاطب المأمور فهو مستقبل ، ولا شكّ أنّه فعل بهذا الاعتبار ، انتهى.

وفيه بحث يظهر من مراجعة كلام شيخنا الذى أسلفناه عند ذكر الأمر في تقسيم الفعل ، فليرجع إليه.

فصل في حدّ الإعراب والبناء وأنواعها ومعنى الإعراب لغة واصطلاحا

ص : فائدة : الإعراب أثر يجلبه العامل في آخر الكلمة لفظا أو تقديرا ، وأنواعه : رفع ونصب وخفض وجزم ، فالأوّلان يوجدان في الاسم والفعل ، والثالث : يختصّ بالاسم ، والرابع : بالفعل.

والبناء : كيفية فى آخر الكلمه : لا يجلبها عامل ، وأنواعه : ضمّ وكسر وفتح وسكون ، فالأوّلان يوجدان في الاسم والحرف ، نحو : حيث وأمس ومنذ ولام الجرّ والأخيران : يوجدان في الكلم الثلاث : نحو أين وقام وسوف وكم وقم وهل.

ش : هذا فصل في حدّ الإعراب والبناء وأنواعهما. الإعراب لغة يطلق على معان كثيرة. قال ابن فلاح (١) في المغني وفي نقله من اللغة إلى اصطلاح النّحويّين خمسة أوجه ، أحدها : أنّه منقول من الإعراب الذى هو البيان ، ومنه قوله (ص) : الثّيّب يعرب عنها لسانها (٢) ، أى يبيّن ، والمعنى على هذا أنّ الإعراب يبيّن معنى الكلمة ، كما يبيّن الانسان

__________________

(١) منصور بن فلّاح الشيخ تقي الدين المشهور بابن فلاح النحويّ ، له مؤلّفات في العربية منها : الكافي ، مات سنة ٦٨٠ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٣٠٢.

(٢) قزويني ، سنن ابن ماجه ، الطبعة الأولى ، دار الفكر ، بيروت ، ١٤٤١ ه‍ ق ، ص ٤٣٩ رقم ١٨٧١.

١٠٧

عمّا في نفسه ، الثانى : أنّه مشتقّ من قولهم : عربت معدة البعير ، إذا فسدت ، وأعربتها ، أي أصلحتها ، والهمزة للسلب ، كما تقول : أشكيت الرّجل (١) ، إذا أزلت (٢) شكايته ، والمعنى على هذا أنّ الإعراب أزال عن الكلام التباس معانيه ، الثالث : أنّه مشتقّ من ذلك ، والهمزة للتعدية لا للسبب ، والمعنى على هذا أن الكلام كان فاسدا لالتباس المعاني ، فلمّا أعرب فسد بالتغيير الذى لحقه ، وظاهر التغيير فساد ، وإن كان صلاحا في المعنى ، الرابع : أنّه منقول من التحبّب ، ومنه امرأة عروب ، إذا كانت متحبّبة إلى زوجها ، والمعنى على هذا أنّ المتكلّم بالإعراب يتحبّب إلى السامع ، الخامس : أنّه منقول من أعرب الرجل ، إذا تكلّم بالعربية ، لأنّ المتكلّم بغير الإعرب غير المتكلّم بالعربية ، لأنّ اللغة الفاسدة ليست من العربية ، والمعنى على هذا أنّ المتكلّم بالاعراب موافق للّغة العربية ، انتهى.

معنى العامل :

ويجوز كونه من الوجه الثالث بعلاقة التضاد ، واصطلاحا على القول بأنّه لفظىّ أثر من حركة أو حرف أو سكون أو حذف. «يجلبه» بضمّ اللام وكسرها ، أي يحدثه العامل ، وهو ما أثّر فى آخر الكلمة أثرا ، له تعلّق بالمعنى التركيبي بخلاف ما لا يجلبه عامل كحركة النقل والإتّباع والحكاية والتقاء الساكنين ، فليس إعرابا في آخر الكلمة من اسم متمكّن وفعل مضارع مجرّد عن نوني الإناث والتوكيد ، إذ لا يعرب من الكلمات سواهما ، والتقييد بالآخر بيان لمحلّ الإعراب لا للاحتراز به عن شيء ، إذ العامل لا يجلب أثرا في غير الآخر خلافا للكوفيين.

والمراد به ما كان حقيقة كدال زيد ، أو منزّلا منزلته كدال يد ، وكذا الأفعال الخمسة ، فإنّ علامات الإعراب فيها النون وحذفها ، وليست آخر الكلمة ، ولا متّصلة بالآخر ، بل بالضمير الذّى هو فاعل ، لكنّ الفاعل بمترلة (٣) الجزء من الفعل ، وكذا اثنا عشر واثنتا عشرة ، فإنّ الإعراب فيهما في جزء أوّل الكلمة ، وأمّا الجزء الثاني ، فقال ابن هشام : الذي يظهر لي في الجواب أنّه حالّ محلّ النون ، وهي بمترلة التنوين ، وهو لا يخرج ما قبله عن أن يكون آخرا ، كما أنّ النّون في نحو مسلمان ومسلمون.

__________________

(١) سقط الرجل في «س».

(٢) زالت شكايته «س».

(٣) في «ط» هذه الكلمه مطموسة.

١٠٨

كذلك ولا يخفى أنّ إدخال ذلك كلّه أنّما هو بالعناية ، وإلا فالحدّ غير شامل له ، فالأحسن أن يقال في الآخر ، وما ينزّل مترلته ، أو في الآخر حقيقة أو مجازا ، وإنّما كان الإعراب في الآخر ، لأنّه صفة المعرب ، وهي لا تكون إلا بعد تمام الموصوف.

تقسيم الإعراب إلى لفظىّ وتقديرىّ : «لفظا» أى ملفوظا به ، ويعبّر عنه بالظاهر كزيد يقوم ، وأنّ زيدا لن يقوم ، ومررت بزيد ولم يقم. «أو تقديرا» أي مقدّرا وجوده لمانع ، كالفتى يخشى ، وأنّ الفتى لن يخشى ، ومررت بالفتى ولم يقم الفتى ، وهما حالان من الأثر ، وتقسيمه إليهما هو المعروف.

وقسّمه بعضهم إلى ظاهر ومقدّر ومنويّ ، وخصّ المقدّر بما ألفه منقلبة عن ياء مقدّرة ، نحو ملهى ، والمنويّ بما ألفه غير منقلبة عن شيء ، نحو : حبلى وأرطى (١) ، وبغير الألف كغلامي. قاله في الهمع ، ثمّ القول بأنّ الإعراب لفظيّ هو اختيار ابن خروف (٢) والشلوبين (٣) والأستاذ أبي على وابن الحاجب ، وذهب إليه ابن مالك ، وقال : إنّه مذهب المحقّقين.

وعلى القول بأنّه معنوىّ هو تغيير آخر الكلمة ، أو ما نزّل مترلته لاختلاف العوامل الدّاخلة عليها لفظا أو تقديرا ، قيل : ويدلّ عليه أنّه يقال : حركات الإعراب ، فلو كانت الحركات وما يجرى مجراها إعرابا ، لم يضف إلى الإعراب ، لأنّ الشئ لا يضاف إلى نفسه.

قال ابن مالك : وهذا قول صادر عمّن لا تأمّل له ، لأنّ إضافة أحد الاسمين إلى الآخر مع توافقهما معنى أو تقاربها واقعة في كلامهم بإجماع ، وأكثر ذلك فيما يقدّر أوّلهما بعضا أو نوعا ، والثاني كلّا أو جنسا ، وكلا التقديرين في حركات الإعراب صالح ، فلم يلزم من استعماله خلاف ما ذكرنا. هذا والقول به مذهب كثير من المتأخّرين ، بل جعله ابن ابان (٤) قول أكثر أهل العربية ، وتقسيمه إلى اللفظي والتقديري هو المعروف أيضا ، كما مرّ في اللفظي.

__________________

(١) الأرطي : من نبات الرمل يستعمل في الدّباغ. واحدته : أرطاة.

(٢) علي بن محمد بن على أبو الحسن ابن الخروف الأندلسي النحوي كان إماما في العربية ، صنّف : شرح سيبويه ، شرح الجمل و... مات سنة ٦٠٩ ه‍ ق. المصدر السابق ٢ / ٣٠٢.

(٣) عمر بن محمد بن عمر الاستاذ أبو على الإشبيلى الإزدى المعروف بالشّلوبين ، كان إمام عصره في العربية بلا مدافع ، صنّف تعليقا على كتاب سيبويه ، وله كتاب في النحو سماه التوطئة. مات سنة ٦٤٥ ه‍ ق. المصدر السابق ٢ / ٢٢٤.

(٤) أحمد بن أبّان ، عالم أندلسى كبير ، هو مصنف كتاب العالم في اللغة نحو مائة جلد ، مات سنة ٣٨٢ ه‍ ق. الأعلام للزرلكي ، ١ / ٨١.

١٠٩

وقسمّه بعضهم إلى لفظي وتقديري ومحلي ، وفسّر المحلي بموضع الاسم المبني ، بمعنى أنّه لو كان فيه كلمة معربة لظهر فيها الإعراب.

تنبيهات : الأوّل : ما فسّرنا به العامل ، هو معناه الأعمّ ، وهو الذى ينبغى إرادته هنا ، لينطبق على عامل الاسم والفعل ، وله معنى أخصّ ، وهو ما به يتقوّم المعنى المقتضي للإعراب ، وهذا إنّما ينطبق على عامل الاسم ، فلا تصحّ إرادته في هذا الباب ، إذ المقصود تعريف الإعراب مطلقا ، سواء كان في الاسم أو في الفعل ، وبهذا يندفع ما توهّمه بعضهم من استلزام الدور في تعريف الإعراب.

الثانى : الأصل في العامل أن يكون من الفعل ، ثمّ من الحرف ، ثمّ من الاسم ، والأصل مخالفته مع المعمول في النوع ، فإن كانا من نوع واحد فلمشابهته ما لا يكون من نوع المعمول ، كاسم الفاعل العامل ، ولا يؤثّر العامل أثرين في محلّ واحد ، ولا يجتمع عاملان على معمول واحد إلا في التقدير ، نحو : ليس زيد بجبان ، خلافا للفرّاء في نحو : قام وقعد زيد ، ولا يمتنع أن يكون للعامل معمولات ، قاله في الإرتشاف (١).

الصحيح في الإعراب أنّه زائدة على ماهية الكلمة : فائدة : الصحيح في الإعراب أنّه زائدة على ماهية الكلمة ، كما جزم به أبو حيان ، خلافا لابن مالك في أنّه جزء منها وبعضها ، وذكر الزجاجىّ في أسرار النحّو ، أنّ الكلام سابق على الإعراب في المرتبة ، وهل تلفّظت العرب به زمانا غير معرب ، ثمّ رأت اشتباه المعانى ، فاعربت أو نطقت به معربا في أوّل تبلبل (٢) ألسنتها به ، ولا يقدح ذلك في سبق رتبة الكلام كتقدّم الجسم الأسود على السّواد ، وإن لم يزائله خلافا للنحاة.

وفي اللّباب (٣) لأبي البقاء أنّ المحقّقين على الثاني ، لأنّ واضع اللغة حكيم يعلم أنّ الكلام عند التركيب لا بدّ أن يعرض فيه لبس ، فحكمته تقتضي أن يضع الإعراب مقارنا للكلام ، قاله في الهمع ، وهو عند البصريّين أصل في الأسماء فرع في الأفعال ، كما مرّ ، وعند الكوفيّين أصل فيهما ، وعند بعض المتأخّرين أنّ الفعل أحقّ بالإعراب من الاسم.

قال أبو حيّان : وهو من الخلاف الّذي لا يكون فيه كبير منفعة.

__________________

(١) إرتشاف الضرب في لسان العرب ، في النحو ، مجلّدان ، لأثير الدين أبي حيان. كشف الظنون ١ / ٦١.

(٢) التبلبل : اختلاط.

(٣) اللباب في علل البناء والإعراب في النحو لأبي البقاء عبد الله بن حسين العكبري النحويّ المتوفّى سنة ٦١٦ ه‍ ق. المصدر السابق ٢ / ١٥٤٢.

١١٠

أنواع الإعراب

والاعراب جنس ، تحته أنواع ، «وأنواعه» عند النحاة أربعة بالاستقراء : «رفع» بحركة ، أو حرف ، «ونصب» بذلك ، أو بحذف «وخفض» بحركة ، أو حرف ، ويقال : جرّ «وجزم» بسكون أو حذف ، وإنّما كانت أربعة ، لأنّه أمّا سكون ، وهو واحد ، أو حركة وهي ثلاثة.

وعن المازنيّ أنّ الجزم ليس بإعراب ، وأنّما هو عدم الإعراب. قال في الهمع ، وهو مذهب الكوفيّين ، وفيه نظر.

التعبير بالأنواع أولي من التعبير بالألقاب : تنبيهات : الأوّل : التعبير بالأنواع كما فعل ، أولى من تعبير بعضهم بالألقاب ، لأنّ حقّ الألقاب مساواة كلّ منهما البقية ، والملقّب أن يطلق كلّ منهما على البقيّة ، كأن يقال : الرفع النصب ، وعلى الملقّب ، كأن يقال الإعراب الرفع ، وكلّ منهما ممتنع لاستلزام الأوّل حمل الشي على مباينه.

والثّاني : حمل الأخصّ على الأعمّ ، فثبت أنّ هذه الأمور أنواع داخلة تحت الإعراب ، وهو جنس لها لأنّها ألقاب له ، وهو ملقّب بها. قاله القاضي (١) في شرح الشذور وغيره ، وإنّما قال أولي لإمكان أن يقال : إنّ من عبّر بالألقاب ، فمراده ألقاب الأنواع ، فيصحّ التعبير بها أيضا.

تحقيق ربط الخبر بالمبتدإ إذا كان معطوفا عليه : الثاني : خبر قوله «أنواعه» مجموع قوله «رفع ونصب وجر وجزم» لا مجرّد الرفع ، والبواقي معطوفة عليه ، وإلا لزم أن يكون كلّ من الأربعة أنواعه ، وتحقيق ذلك أنّ العطف في الشائع يتأخّر عن ربط الشئ بالمعطوف عليه ، وربط المعطوف عليه (٢) بشيء. وربّما يتقدّم فيفيد ربط المجموع ، أو الربط بالمجموع ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لكن جعل هذا داخلا في المعطوف مشكل ، لأنّ المعطوف تابع مقصود بالنسبة ، ولا نسبة هنا ، ولا تبعية في الإعراب ، لأنّ المعنى المقتضي للإعراب قائم بالمجموع لا بكلّ واحد.

فالمجموع يستحقّ إعرابا واحدا ، إلا أنّه لمّا تعدّد ذلك المستحقّ مع صلاحية كلّ واحد للإعراب ، أجري إعراب الكلّ على الكلّ دفعا للتحكّم ، ونظير ذلك قولهم : جاءني

__________________

(١) زين الدين القاضي زكريا ابن محمد الأنصاري المصريّ المتوفّى سنة ٩٢٦ ه‍ ق. وهو ممّن شرح «شذور الذهب» في علم النحو لابن هشام. المصدر السابق ٢ / ١٠٢٩.

(٢) ربط المعطوف عليه سقطت في «ح».

١١١

القوم ثلاثة ثلاثة. فإنّ الحال هو المجموع المفصّل بهذا التفضيل ، فالمستحقّ للمجموع إعراب واحد إلا أنّه أجري على الاسمين دفعا للتحكّم ، فليس هنا عطف بل صورته ، وما قيل من أنّ العطف مقدّم على الربط مسامحة.

كذا قال عصام الدين في شرح الكافية ، وقدّم الرفع كما فعله كثيرون ، إذ هو الأشرف ، لأنّه إعراب العمدة ، ولا يخلو منه كلام ، ثمّ النصب لاشتراك الاسم والفعل فيه ، ولأنّ عامله قد يكون فعلا ، والعمل له بالإصالة ، فيكون معموله أصلا بالنسبة إلى المجرور ، ثمّ الجّر لاختصاصه بالأشرف.

وسيبويه قدّم النصب ، لأنّه أوسع مجالا ، فإنّ أنواعه أكثر ، قال أبو حيّان : ولو قدّم الجرّ ، لأنّه مختصّ بالاسم الّذي الإعراب فيه أصل لاتّجه أيضا.

«فالأوّلان» من أنواع الإعراب ، وهما الرفع والنصب ، «يوجدان في» كلّ واحد من «الاسم والفعل» نحو : زيد يقوم ، وأنّ زيدا لن يقوم. أمّا وجودهما في الاسم فبالإصالة ، لأنّ الرفع علم الفاعليّة ، والنصب علم المفعوليّة ، والفاعل والمفعول لا يكونان إلا اسمين ، وأمّا وجودهما في الفعل فبطريق الحمل والتفريع على الاسم ، وذلك لقوّة عامليهما بالاستقلال.

«والثالث» من الأنواع ، وهو الخفض ، «يختصّ بالاسم» ، لأنّ عامله لا يستقلّ لافتقاره لما يتعلّق به ، فلا يمكن حمل غيره عليه لضعفه.

«والرابع» وهو الجزم يختصّ «بالفعل» ، لكونه كالعوض من الجرّ فيه ، لما فاته من المشاركة ، فجعل لكلّ واحد من صنفي المعرب ثلاثة أوجه من الإعراب.

وقيل : إنّما اختصّ به لأنّه لو دخل الاسم لأدّى وجوده إلى عدمه ، وما أدّى وجوده إلى عدمه (١) كان باطلا ، وذلك أنّ المنوّن من الأسماء إن جزم التقي فيه ساكنان :

الحرف المجزوم والتنوين ، فيحرّك الساكن الأوّل ، فيؤدّي وجود الجزم إلى عدمه ، وغير المنوّن محمول عليه.

تعليل الوضعيات والسؤال عن مبادي اللغات ممنوع : قال أبو حيّان : والصواب في ذلك ما حرّره بعض أصحابنا ، إنّ التعرّض لامتناع الجرّ من الفعل ، والجزم من الاسم ، ولحوق التاء السّاكنة للماضي ، وأشباه ذلك من تعليل الوضعيّات والسؤال عن مبادي اللّغات ، وذلك ممنوع ، لأنّه يؤدي إلى تسلسل السؤالات ، إذ ما من شيء إلا ويقال فيه ، لم كان كذلك ، وإنّما يسأل عمّا كان يجب قياسا ، فامتنع ، والّذي كان يجب

__________________

(١) وما أدّي وجوده إلى عدمه سقطت في «ح».

١١٢

قياسا هنا جرّ الفعل المضارع ، إذا أضيف إليه أسماء الزمان ، نحو : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) [المائدة / ١١٩] ، وجزم الأسماء الّتي لا تنصرف لشبهها بالفعل.

وعلّة الامتناع الأوّل أنّ الإضافة في المعنى المصدر المفهوم من الفعل لا للفعل ، وعلّة الامتناع الثاني ما يلزم من الإجحاف لو حذفت الحركة بعد حذف التنوين ، إذ ليس في كلامهم حذف شيئين من جهة واحدة ، ولا إعلالان من جهة واحدة ، انتهى.

البناء ومعناه لغة واصطلاحا : «والبناء» لغة وضع شيء على صفة يراد بها الثبوت ، واصطلاحا على القول لأنّه لفظيّ ، «كيفيّة» وهي في الأصل الهيئة الّتي يكون عليها الشئ حال وجوده ، والمراد بها هنا هيئة من شبه الإعراب لا يجلبها عامل ، ولا تختلف باختلاف العوامل ، وليست حكاية أو اتباعا أو نقلا أو تخلّصا من سكونين ، فقولنا : من شبه الإعراب بيان للهيئة ، أي من الأمر المشابه للاعراب في كونه حركة ضمّ أو فتح أو كسر أو سكون ، وفي كونها «في آخر الكلمة» لا في أوّلها ، ولا في حشوها وعلى الثاني لزوم آخر الكلمة حالة واحدة لغير عامل ولا اعتلال.

وحدّ المصنّف هذا قابل لحمله على القولين ، لكنّ الأولى حمله على الأوّل كما فعلنا ليطابق حدّه للإعراب ، إذ هو لفظيّ كما عرفت ، ولا يخفى أنّه مختلّ على أيّها حملناه لاحتياجه إلى زيادة فيه ، ليتمّ بها ، وإلا فهو ناقص ، وأمّا إذا حملناه على الأوّل ، فلاحتياجه إلى ما زدناه فيه من بيان الكيفيّة ، وإلا انتقض بكلّ كيفيّة.

«لا يجلبها عامل» في الكلمة ، سواء كانت في أوّل الكلمة أو في حشوها ، وإلى تقييدها بكونها ليست حكاية ، نحو : من زيدا ، في جواب من قال : رأيت زيدا. فإنّ الصحيح أنّها ليست حركة إعراب خلافا للكوفيّين ، أو اتّباعا لما بعده كقراءة بعضهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الحمد / ١] ، بكسر الدّال ، أو نقلا كقراءة ورش (١) : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ) [البقرة / ١٠٧] ، أو تخلّصا من سكونين ، نحو : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) [الأنعام / ٣٩] كما ذكرنا ، وإلا انتقض بذلك كلّه أيضا.

وأمّا إذا حملناه على الثاني فلاحتياجه إلى تفييد الكيفيّة بكونها في الآخر ، وإلا انتقض بما علمت ، وإلى تقييدها بكونها لغير إعلال ، وإلا انتقض بمثل لزوم «رمى» الفتح للاعلال بقلب يائه ألفا.

__________________

(١) عثمان بن سعيد بن عديّ المصري ، من كبار القراء ، غلب عليه لقب «ورش» وفاته بمصر سنة ١٩٧ ه‍ ق. الأعلام للزركلي ، ٤ / ٣٦٦.

١١٣

فإن قلت : كيف خفي على المصنّف اختلال هذا الحدّ؟ قلت : الظاهر أنّه قصد تعريفه تعريف اللفظ ، وهو قد أجيز فيه أن يكون أعمّ من المعرّف كما قرّر في محلّه.

تنبيهان : الأوّل : قال في الهمع : محلّ البناء آخر الكلمة ، ولا يكون فيما نزّل مترلته فيما أعلم ، انتهى. قال بعض المحقّقين : وفيه نظر ، كيف وقد صرّحوا بأنّ نحو : يا حار ، ويا منص ، مرخّما على لغة من لا ينتظر مبنيّ على هذه الضّمّة الّتي على العين دون اللام الّتي هي الآخر ، وكذا نحو : لا رجلين ولا مسلمين ، ويا زيدان ويا زيدون وإحدى عشرة وبعلبك وبين بين ويوم يوم وبيت بيت وقوما وقوموا وقومي وأمثالها ، فالبناء في هذه كلّها واقع فيما نزّل مترلة الآخر ، فتدبّر ، انتهى.

الحركات والسكون من صفات الأجسام : الثاني : ليس المراد بقولهم : الإعراب والبناء محلّها الآخر أن يكونا على الحرف الأخير من الكلمة ، لأنّ الحرف على ما قرّر في محلّه صفة والحركات والسكون من صفات الأجسام ، فلا تحلّ الصفات ، بل المراد أنّه لمّا كان يأتي عقيب الحرف الأخير بلا فصل بعض حروف المدّ سمّي الحرف متحرّكا ، كأنّك حرّكت الحرف إلى مخرج حرف المدّ ، وبضدّ ذلك سكون الحرف ، فالحركة إذن بعد الحرف ، لكنّها من فرط اتّصالها به يتوهّم أنّها معه بلا فصل ، فإذا اشبعت الحركة ، وهي بعض حروف المدّ صارت حرف مدّ تاما فاعلمه ، انتهى ملخّصا من اللآلى الدّرّية لشيخ شيوخنا الحرفوشي ، وفيه كلام طويل ، أضربنا عن ذكره طلبا للإيجاز.

والبناء أيضا جنس تحته أنواع ، «وأنواعه» أربعة بالاستقراء : «ضمّ وكسر وفتح وسكون» ، ويقال فيه وقف ، وهو الأصل لخفّته واستصحابا للأصل ، وهو عدم الحركة ، فلا يبنى عليها إلا بسبب كالتقاء الساكنين في نحو : أمس ، وكون الكلمة على حرف واحد كتاء قمت وكونها عرضة للابتداء بها كلام الابتداء ، وكونها لها أصلا في التمكين ، كأوّل وكشبهها بالمعرب كضرب ، قاله في التصريح.

تنبيهات : الأوّل : لم يفّرق المصنّف في التعبير في جانبي الإعراب والبناء ، فعبّر في الموضعين بالأنواع ، وابن الحاجب فرقّ بينهما ، فعبّر في جانب الإعراب بالأنواع ، وفي جانب البناء بالألقاب.

ووجّهه بعض شرّاح كلامه بأنّه أنّما لم يقل : لحركات البناء والوقف أنواع لفقد ما يكون جنسا شاملا لها بالنّظر إلى الأصل ، إذ الأصل أن يكون جنس البناء منحصرا في نوع واحد ، وهو السكون بالفعل ، فإنّهم قالوا : الأصل في البناء السكون ، فلمّا كان من

١١٤

حقّ البناء أن لا يشمل هذه الأشياء نظرا إلى الأصل لم يطلق عليها اسم الأنواع رعاية لجانب الأصل ، انتهى.

الثاني : إنّما سمّي (١) الأوّل ضمّا ، لأنّه ينشأ من ضمّ الشفتين أوّلا ، ثمّ رفعهما ثانيا ، والثاني كسرا ، لأنّه ينشأ من انجرار اللّحي الأسفل إلى أسفل انجرارا قويّا ، والثّالث فتحا ، لأنّه يتوّلد من مجرّد فتح الفم ، قاله في التصريح.

الثالث : اختلفوا في حركات الإعراب ، هل هي سابقة على حركات البناء ، أو بالعكس ، أو هما متطابقان من غير ترتيب ، والأوّل هو الأقوي قاله في التبيين (٢) ، وهو خلاف لا ثمرة له.

الخلاف في ألقاب المعربات والمبنيات ، هل يطلق كلّ منهما على الآخر : الرّابع : اختلفوا في ألقاب المعربات والمبنيّات ، هل يطلق كلّ منها على الآخر ، فيقال مثلا للمعرب مضموم ، وللمبنيّ مرفوع ، أم لا ، على ثلاثة مذاهب ، فمنهم من قال : لا يجوز إطلاق واحد منهما على الآخر ، لأنّ المراد الفرق ، وذلك يعدمه ، ومنهم من قال : يجوز مجازا ، والمجاز لا بدّ له من قرينة ، تلك القرينة تبيّنه ، ومنهم من قال : يجوز إطلاق اسم البناء على الإعراب ولا ينعكس ، قاله الشيخ بهاء الدين النحاس (٣) في تعليقه على المقرّب (٤).

وفي شرح الكافيّة للرضي ، إذا أطلق الضمّ والفتح والكسر في عبارات البصريّة ، فهي لا تقع إلا على حركات غير إعرابيّة بنائية ، كانت كضمّة حيث أو لا كضمّة قاف قفل ، ومع القرينة يطلق على حركات الإعراب أيضا ، والكوفيّون يطلقون ألقاب أحد النوعين على الآخر مطلقا ، انتهى.

«فالأوّلان» من أنواع البناء ، وهما الضّمّ والكسر «يوجدان في» كلّ واحد من «الاسم والحرف» لخفّتها بدلالتهما على شئ واحد ، وإنّما لم يوجدا في الفعل لكونها ثقلين لاحتياجهما إلى إحدي العضلتين ، أو كليهما ، والفعل ثقيل كما عرفت فلم يجمعوا بين ثقلين ، أمّا وجود الضمّ في الاسم فهو «نحو : حيث» ، وبنيت عند غير فقعس (٥)

__________________

(١) سقط سمّي في «س».

(٢) في كشف الظنون كتابان باسم التبيين ، الأوّل : تبيين النصوص في العروض ـ لحجة الدين عيسي النحوي المتوفي سنة ٦٥٠ ه‍. الثاني : التبيين في المعاني والبيان ليوسف بن الحسين الكرماسيّ المتوفى سنة ٧٠٦ ه‍. كشف الظنون ١ / ٣٤٣.

(٣) محمد بن إبراهيم بن محمد بهاء الدين ابن النحاس النحوي شيخ الديار المصريّة في علم اللسان ، لم يصنّف شيئا إلا ما أملاه شرحا للكتاب المقرّب ، مات سنة ٦٩٨ ه‍. بغية الوعاة ١ / ١٣.

(٤) المقرّب في النحو لأبي العباس محمد بن زيد المعروف بالنحوّي المتوفي سنة ٢٨٥ ه‍. كشف الظنون ٢ / ١٨٠٥.

(٥) فقعس حيّ من أسد.

١١٥

لافتقارها إلى جملة افتقارا لازما ، وكان البناء على حركة فرقا بين ما أصله البناء ، وبين ما طرأ عليه للإشعار بأنّ لها أصلا في الإعراب ، وكانت الحركة ضمّة لشبهها بالغايات ، ووجه الشبه أنّها كانت مستحقّة للإضافة إلى المفرد كسائر أخواتها ، فمنعت من ذلك كما منعت قبل وبعد الإضافة.

حيث والكلام على بنائها ومعناها : وذهب الزّجاج إلى أنّ حيث موصولة ، وليست مضافة ، فهي بمترلة الّذي ، كذا قيل ، وفيه نظر ، وقد تفتح للخفّة ، وتكسر على أصل التقاء الساكنين ، ويقال : حوث وحاث بتثليث الثاء فيها.

أيضا ففيها عشر لغات ، وقراءة بعضهم : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [الأعراف / ١٨٢] ، بالكسر تحتمل لغة فقعس ، ولغة البناء على الكسر ، وهي ظرف مكان اتّفاقا قال الأخفش : وترد للزّمان ، ووافقه ابن هشام في المغني ، والغائب كونها في محل نصب بالظرفيّة ، أو خفض بمن ، وقد تخفض بغيرها كقوله [من الطويل] :

٥٩ ـ .......................

لدي حيث ألقت رحلها أمّ قشعم (١)

وجوّز قوم وقوعها مفعولا به في قوله تعإلى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام / ١٢٤] ، قالوا : ولا تكون ظرفا ، لأنّه تعإلى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان ، ولأنّ المعنى أنّه يعلم نفس المكان المستحقّ لوضع الرسالة فيه لا شيئا في المكان ، وعلى هذا فالناصب لها يعلم محذوفا مدلولا عليه بأعلم ، لا به ، لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به ، إلا إن أوّلته بعالم في رأي بعضهم. وقال أبو حيّان : الظاهر إقرارها على الظرفيّة المجازيّة وتضمين أعلم معنى ما يتعدّي إلى الظرف ، فالتقدير : الله أنفذ علما حيث يجعل ، أي نافذ العلم في هذا الموضوع.

قال ابن هشام : ولم تقع اسما لأنّ ، خلافا لابن مالك ، ولا دليل في قوله [من الخفيف] :

٦٠ ـ إنّ حيث استقرّ من أنت راعي

 ... ه حمى فيه عزّة وأمان (٢)

لجواز تقدير حيث خبرا ، وحمي اسما ، فإن قيل : يؤدّي إلى جعل المكان حالا في المكان ، قلنا : هو نظير قولك : إنّ في مكّة دار زيد ، ونظيره في الزّمان : إنّ في يوم الجمعة ساعة الأجابة ، انتهى.

__________________

(١) صدره «فشّد فلم يفزع بيوتا كثيرة» ، وهو من معلقة زهير. اللغة : شدّ : حمل ، أم قشعم : المنية. وفاعل شد يعود إلى حصين بن ضمضم أحد مورثي حرب داحسن والغبراء.

(٢) لم يذكر قائله. اللغة : الحمى : الشئ المحميّ.

١١٦

قال أبو حيّان : والصحيح أنّها لا تتصرّف ، لكنّها جرّت بمن كثيرا ، وبفي شاذّا ، وبعلى والباء وإلى ولدي ، ولم تجئ فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ ، انتهى. وسيأتي الكلام على لزوم إضافتها إلى الجملة في بحث الإضافة ، إن شاء الله تعإلى.

أمس ومنذ : وأمّا وجود الكسر في الاسم فنحو : أمس عند أهل الحجاز مطلقا إن أريد به معيّن ، ولم يضف ، ولم يعرّف بأل ولم يكسر (١) ولم يصغّر ، وبني لتضمّنه معنى لام التعريف ، وكان البناء على حركة إشعارا بأنّ له أصلا في الإعراب ، وكانت كسرة لأنّها الأصل في التخلّص من التقاء الساكنين ، وأكثر بني تميم يوافقهم إلا في حالة الرفع ، فيعربه إعراب ما لا ينصرف للعلميّة والعدل عن الأمس ، ومنهم من أعربه كذلك مطلقا ، فإنّ فقد شرط من الشروط المتقدّمة فلا خلاف في إعرابه وصرفه ، وإن استعملت المجرّد المراد به معيّن ظرفا كان مبنيّا على الكسر بالإجماع لتضمّنه معنى الحرف.

وقد نظم العلامة شرف المدرّسين الشيخ عبد الرحمن بن عيسي المرشدي (٢) شروط بناء أمس فقال [من الرجز] :

٦١ ـ جرّد عن أل أمسا إذا شئت بناء

ولا تضف ولا تقل أمسينا

مصغّرا وأفردن وعيّن

ظرفا فجامع لهذه بيّن

بالاتّفاق عند كلّ العرب

وإن فقدت واحدا فأعرب

بلا خلاف في سوى الأخير

ومع خلاف بينهم شهير

في فقدك الأخير منها وحده

كأمس خير من غد فعدّه

فساكنوا الحجاز قالوا بالبناء

أيضا كما لو كان ظرفا بيّنا

أمّا التميميّون قالوا يعرب

ممنوع صرف ذا لبعض مذهب

وبعضهم أعربه منصرفا

فاشكر لنظم بالشروط قد وفى

قلت : قد علمت أنّ أكثر التميميّين يوافق الحجازيّين إلا في حالة الرفع ، وغير الأكثر يمنعه مطلقا ، هذا هو المشهور عنهم ، فالأولى أن يقال بدل البيت الأخير :

وجلّهم يخصّ ذا الإعرابا

بحال رفع فافهم الصوابا

__________________

(١) سقط لم يكسّر في «ح».

(٢) عبد الرحمن بن عيسى ، أبو الوجاهة العمري المرشدي ، أحد الشعراء العلماء في الحجاز ، من كتبه «الترصيف في فن التصريف» أرجوزة في علم الصرف «الوافي في شرح الكافي» و... مات سنة ١٠٣٧ ه‍. الأعلام للزركلي ، ٤ / ٩٥.

١١٧

وأمّا وجود الضّمّ في الحرف فنحو : منذ ، تصلح للتمثيل لوجود الضّمّ في الاسم ، فإنّها في لغة من جرّ بها حرف ، وفي لغة من رفع بها اسم. وبنيت الاسميّة لقطعها عن إضافة مرادة في المعنى ، لأنّ معنى قولك : منذ يوم الجمعة ، أوّل المدّة يوم الجمعة فقد تضمّنت المضاف إليه (١) كتضمّن قبل وبعد عند الحذف ، وكان البناء على حركة لما مرّ ، وكانت ضمّة لشبهها بالغايات.

تنبيه : قال ابن الدّهّان (٢) في الغرّة لم يبن من الحروف على الضمّ إلا منذ. قال بعض المحقّقين : وهو منقوض بنحو ربّ بالضمّ في لغة والكاف في ذلكم وذلكما وذلكنّ والتاء في أنتما وأنتم وأنتنّ والهاء في إيّاه وإيّاهما وإيّاهنّ ، وأمّا وجود الكسر فيه فنحو لام الجرّ الداخلة على ظاهر غير مستغاث نحو : لزيد. قال الرضيّ : ونقل فتحها مع جميع المظهرات.

«والأخيران» وهما الفتح والسكون «يوجدان في الكلم الثلاث» : الاسم والفعل والحرف : أمّا السكون فلخفّته ، وأمّا الفتح فلكونه أقرب الحركات إلى السكون لحصوله بأدني فتح الضم بخلاف الضّمّ والكسر ، فإنّ الأوّل إنّما يحصل بإعمال العضلتين معا الواصلتين إلى طرفي الشفة ، والثاني إنّما يحصل بالعضلة الواحدة الجاذبة إلى أسفل.

الخلاف في الكلم هل هو جمع أم لا : الكلم ليس جمعا للكلمة خلافا للجرجانيّ (٣) وجماعة ، لأنّه يجوز تذكير ضميره ، والغالب على الجمع التأنيث ، ولا اسم جمع خلافا لبعضهم ، لأنّ له واحدا من لفظه ، والغالب على اسم الجمع خلاف ذلك ، بل هو اسم جنس لدلالته على الماهيّة من حيث هي ، وهل هو إفراديّ أو جمعيّ خلاف ، ذهب إلى الأوّل جماعة تمسّكا بقوله تعإلى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر / ١٠] ، والمختار عند المحقّقين الثاني ، فهو لا يقع إلا على ما فوق كلمتين ، وعند الأكثرين لا يطلق إلا على ما فوق العشرة (٤) فوجود الفتح في الاسم نحو : «أين» استفهاميّة كانت أو شرطيّة ، وبنيت لتضمّنها حرف الاستفهام أو الشرط ، وكان البناء على حركة لما مرّ ، وكانت فتحة

__________________

(١) من كلمه إضافه حتى هنا سقطت في «س».

(٢) سعيد بن المبارك ناصح الدين بن الدهان النحويّ ، كان من أعيان النحاة المشهورين بالفصل ومعرفة العربية ، صنّف : شرح الإيضاح في أربعين مجّلدا ، شرح اللمع لابن جني ، الدروس في النحو و... مات سنة ٥٦٩ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ٥٨٧.

(٣) أبو بكر عبد القاهر الجرجاني نحويّ بيانيّ مفسّر شاعر ، صنّف : المغني ، العوامل المأئة في النحو ، دلائل الإعجاز ، أسرار البلاغة و... مات سنة ٤٧١ ه‍. عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ، بيروت ، المكتبة العصرية ، ١٤٢٤ ه‍ ، ص ٤٤.

(٤) سقطت كلمة العشرة في «س».

١١٨

لاستثقال الضّمّ والكسر بعد الياء ، ووجوده في الفعل ، نحو : «قام و» ضرب ، وكان بناؤه على الفتح لما مرّ ، ووجوده في الحرف ، نحو : «سوف» ، وبنيت على الحركة ، وكانت فتحة لما قلنا في أين ، وهي مرادفة للسين كما مرّ.

سوف : وقال البصريّون : هي أوسع زمانا منها ، لأنّ كثرة الحروف تدلّ على كثرة المعنى ، ويقال فيها : «سف» بحذف الوسط ، و «سو» بحذف الأخير ، و «سي» بحذفه وقلب الوسط ياء ، مبالغة في التخفيف ، حكاه صاحب المحكم (١) ، وتنفرد عن السين بدخول اللام عليها نحو : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) [الضّحي / ٥]. قال أبو حيّان : وإنّما امتنع دخول اللام على السين كراهة توإلي الحركات في «لسيدحرج» ، ثمّ طرد الباقي.

قال ابن بابشاذ (٢) : والغالب على «سوف» استعمالها في الوعيد والتهديد ، وعلى السين استعمالها في الوعد ، وقد تستعمل سوف في الوعد ، والسين في الوعيد ، انتهى.

ووجود السّكون فى الاسم ، نحو : «كم» ، سواء كانت استفهاميّة بمعنى أيّ عدد ، أو خبريّة بمعنى عدد كثير ، وبنيت في الموضعين لشبهها بالحرف وضعا لتضمّن الاستفهاميّة همزة الاستفهام ، والخبريّة ، حرف تكثير ، إمّا محقّقا وضعه ، نحو : ربّ ، ومن الجنسيّة ، وإمّا مقدّرا ، وسنستوفي الكلام عليها في حديقة المفردات ، إن شاء الله تعإلى.

ووجوده في الفعل نحو : «قم» على الأصحّ عند جمهور البصريّين كما مرّ ، ووجوده في الحرف نحو : هل ، وقد تكون حركات البناء مقدّرة كتقدير الضّمّ في باء سيبويه ، والفتح في نحو : لا فتى إلا عليّ.

فائدة : إذا جاء شيء ممّا الأصل فيه البناء مبنيّا فلا يسأل عن سبب بنائه لمجيئه على أصله ، ثمّ إن جاء مبنيّا على السكون ، فلا يسأل أيضا عن سبب بنائه عليه لذلك ، أو على حركة يسأل عنه سؤالات : لم عدل إلى الحركة؟ ولم كانت الحركة كذا؟ وإن جاء شئ ممّا الأصل فيه الإعراب مبنيّا على السكون سئل عنه سؤال واحد لم بني؟ أو حركة سئل عنه ثلاثة أسئلة ، لم بني؟ ولم عدل إلى الحركة؟ ولم كانت الحركة كذا؟ ذكرنا ذلك كلّه فيما مرّ من الأمثلة.

__________________

(١) صاحب المحكم هو أبو الحسن علي بن اسماعيل المعروف بابن سيدة اللغوي المتوّفى سنة ٤٥٨ ه‍. وهذا الكتاب كبير مشتمل على أنواع اللغة. كشف الظنون ٢ / ١٦١٦.

(٢) طاهر بن أحمد بن بابشاذ ـ ومعناه الفرح والسرور ـ أبو الحسن النحوي المصريّ أحد الائمة في هذا الشأن ، من تصانيفه : شرح جمل الزجاجي ، المحتسب في النحو و... مات سنة ٤٦٩ ه‍. بغية الوعاة ٢ / ١٧.

١١٩

فصل في علامات الرّفع

ص : توضيح : علائم الرفع أربع ، الضّمة ، والألف ، والواو ، والنون. فالضّمّة : في الاسم المفرد والجمع المكسّر والجمع المؤنّث السالم والمضارع. والألف : في المثنّي ، وهو ما دلّ على اثنين ، وأغني عن متعاطفين ، وملحقاته ، وهي كلا وكلتا مضافين إلى مضمر ، واثنان وفرعاه ، والواو في الجمع المذكّر السالم وملحقاته ، وهي أولو وعشرون وبابه ، والأسماء السّتّة ، وهي : أبوه وأخوه وحموها وفوه وهنوه وذومال ، مفردة مكبّرة ، مضافة إلى غير الياء والنّون في المضارع المتّصل به ضمير رفع ، لمثنّى أو جمع أو مخاطبة ؛ نحو يفعلان وتفعلان ويفعلون وتفعلون وتفعلين.

ش : هذا فصل في علامات الرفع : «علائم الرفع» وهو ما يحدثه عامله سواء كان لفظيّا أو معنويّا ، وهذا هو النّوع الأوّل من أنواع الإعراب ، وهي «أربع» بالاستقراء ، لا زائد عليها ، فإن قلت : ما وجه جمع المصنّف العلامة جمع كثرة ، والعلامات كلّها أربع. وجمع الكثرة أقلّه باتّفاق النّحاة أحد عشر؟ قلت قد يعتذر عنه بأنّه من وضع جمع الكثرة موضع جمع القلّة ، كقوله تعإلى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة / ٢٢٨] ، أو إنّه أراد التنبيه على مسألة غريبة ، ذكرها السعد التفتازانيّ في التلويح (١) ، والمشهور خلافها ، وهي أنّ جمعي الكثرة والقلّة متّفقان باعتبار المبدأ مفترقان باعتبار المنتهى ، فمبدأ كلّ منهما الثلاثة ، ومنتهي جمع القلّة العشرة ، ولا نهاية لجمع الكثرة ، قال : وهذا أوفق بالاستعمالات ، وإن صرّح بخلافه كثير من الثقات ، فيصحّ على هذا تعبير المصنّف من غير تجوّز ، وبه ينحلّ استشكال اتّفاق الفقهاء على من أقرّ بدراهم ، يقبل منه تفسيرها بثلاثة ، ولا حاجة إلى دعوي المجاز واستشكالها بعدم قبول التفسير من الناطق بحقائق الألفاظ في الأقارير بالمجاز.

والعلائم «الأربع» : إحداها «الضمّة» ، وهي الأصل ، لأنّ الإعراب بالحركات أصل الإعراب بالحروف ، ومن ثمّ لا يقوم مقامها غيرها ، إلا عند تعذّرها ، ولذلك قدّمها.

«و» الثانية : «الألف» ، وهي فرع نائب عن الضّمّة عند تعذّرها لكونها أخت الواو المتولّدة عنها عند إشباعها ، إذ هما من حروف المدّ واللين ، فكان الأنسب أن يقدّم

__________________

(١) التلويح علي التنقيح في أصول الفقه من مصنّفات التفتازانيّ.

١٢٠