الصوت اللغوي في القرآن

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

الصوت اللغوي في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٥

الفصل الخامس

الصوت اللغوي في فواصل الآيات

القرآنية

١ ـ مصطلح الفاصلة في القرآن

٢ ـ معرفة فواصل القرآن صوتياً

٣ ـ ظواهر الملحظ الصوتي في فواصل الآيات

٤ ـ الإيقاع الصوتي في موسيقي الفواصل

١٤١

١٤٢

مصطلح الفاصلة في القرآن :

الفاصلة في القرآن الكريم : آخر كلمة في الآية ، كالقافية في الشعر ، وقرينة السجع في النثر ، خلافاً لأبي عمرو الداني (ت : ٤٤٤ هـ ) الذي اعتبرها كلمة آخر الجملة (١). إذ قد تشتمل الآية الواحدة على عدة جمل ، وليست كلمة آخر الجملة فاصلة لها ، بل الفاصلة آخر كلمة في الآية ، ليعرف بعدها بدء الآية الجديدة بتمام الآية السابقة لها.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني ( ت : ٤٠٣ هـ ) : « الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع ، يقع بها إفهام المعاني » (٢).

وتقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها ، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام ، وتسمّى فواصل ، لأنه ينفصل عندها الكلامان ، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها.

وقد تكون هذه التسمية اقتباساً من قوله تعالى : ( كتاب فصلت ءياته ) (٣). ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعاً ، لأن الله لما سلب عن القرآن اسم الشعر وجب سلب القافية عنه أيضاً لأنها منه ، وخاصة في الاصطلاح (٤).

__________________

(١) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : ١|٥٣.

(٢) المصدر نفسه : ١|٥٤.

(٣) هود : ١.

(٤) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : ٣|٢٩٢.

١٤٣

وما ورد في القرآن متناسق حروف الروي والايقاع ، موحد خاتمة الفاصلة بالصوت ، ويقف فيه بالآية على الحرف الذي وقف عنده في الآية التي قبلها ، فلا يسمى سجعاً عند علماء الصناعة « ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز ، ولو جاز أن يقال : هو سجع معجز ، لجاز أن يقولوا : شعر معجز ، وكيف والسجع مما كان تألفه الكهان من العرب ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر ، لأن الكهانة تنافي النبوّات بخلاف الشعر » (١).

إذن لم يسموها أسجاعاً ، ولم يصطلحوا عليها قوافي ، إذ استبعدوا تسميتها بالقوافي تكريماً للقرآن بأن يقاس على منظوم كلام البشر ، وستأتي معالجة هذا الرأي فيما بعد ، وأما تجنب تسميتها سجعاً « فلأن أصله من سجع الطير ، فشرّف القرآن أن يستعار لشيء فيه لفظ هو أصل في صوت الطّار ، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في اسم السجع الواقع في كلام آحاد الناس » (٢).

والمدرك الأول يساعد عليه مقتضى تفسير اللغة ، وأصول إرجاع المصطلحات إلى قواعدها الأولى ، قال ابن دريد ( ت : ٣٢١ هـ ) : « سجعت الحمامة معناه : رددت صوتها » (٣).

والمدرك الثاني يساعد عليه الاعتبار العام ، وتبادر الذهن في الفهم ، فقد شاع السجع بين العرب في الجاهلية ، واقتسمه كل من الخطباء والكهان والمتنبئين ، وتوازن استعماله متفرقاً بين أصناف من الناس.

يبدو مما سلف أن مما تواضع عليه جهابذة الفن ، وأئمة علوم القرآن ، يضاف إليهما علماء اللغة ، هو : أن نهاية بيت الشعر تسمى قافية ، ونهاية جملة النثر تسمى سجعاً في الأسجاع ، ونهاية الآية تسمى فاصلة.

وهذا التفريق الدقيق قائم على أساس يجب أن نتّخذه أصلاً ، وبرنامج

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ٣|٢٩٣.

(٢) الزركشي ، البرهان : ١|٥٤.

(٣) السيوطي ، الاتقان : ٣|٢٩٣.

١٤٤

ينبغي القول به دون سواه ، وهو أن الكلام العربي ـ مطلقاً ـ على ثلاثة أنواع :

قرآن ، نثر ، شعر ، فليس القرآن نثراً وإن استعمل جميع أساليب النثر عند العرب ، وليس القرآن شعراً وإن اشتمل على جميع بحور الشعر العربي حتى ما تداركه الأخفش على الخليل فسمي متداركاً ، وهو الخبب ، بل هو قرآن وكفى ( إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون ) (١).

قال الجاحظ ( ت : ٢٥٥ هـ ) : « وقد سمى الله كتابه المنزل قرآناً ، وهذا الاسم لم يكن حتى كان » (٢).

وإذا تم هذا فهو كلام الله تعالى وحده ، وأنى يقاس كلام البشر بكلام الله ، هو إذن مميز حتى في التسمية عن كلام العرب تشريفاً له ، واعتداداً به ، وإن وافق صور الكلام العربي ، وجرى على سننه في جملة من الأبعاد ، كما يقال عند البعض ، أو كما يتوهم ، بأن ختام فواصله المتوافقة هي من السجع ، فالتحقيق يقتضي الفصل بين الأمرين ، لأن مجيء كثير من الآيات على صورة السجع لا توجب كونه هو ، أو أنها منه « لأنه قد يكون الكلام على مقال السجع وإن لم يكن سجعاً ، لأن السجع من الكلام ، يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع ، وليس كذلك مما هو في معنى السجع من القرآن ، لأن اللفظ وقع فيه تابعاً للمعنى ، وفرق بين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ ، وبين ان ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تودي المعنى المقصود فيه ، ومتى ارتبط المعنى بالسّجع كان إفادة السّجع كإفادة غيره ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع مستجلباً لتحسن الكلام دون تصحيح المعنى » (٣).

وقد رأينا عند تعقب هذه الظاهرة : أن التعبير المسجوع في القرآن لا تفرضه طبيعة النسق القرآني فحسب كما يخيل للكثيرين عند النظر في مثل قوله تعالى : ( الهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر ) (٤). بدليل أنه

__________________

(١) الواقعة : ٧٧ ـ ٧٨.

(٢) الجاحظ ، الحيوان : ١|٣٤٨.

(٣) الزركشي ، البرهان : ١|٥٦.

(٤) التكاثر : ١ ـ ٢.

١٤٥

ينتقل منه فوراً إلى نسق آخر في فاصلة تقف عند النون دون التفات إلى الصيغة الأولى الساربة في طريقها البياني ( كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ) (١). فإذا جاز للقرآن الانتقال بها ، جاز له الانتقال فيما قبلها كما هو ظاهر ، بل أن هذا اللفظ « المقابر » يفرض نفسه فرضاً بيانياً قاطعاً ، دون حاجة إلى النظر في الفاصلة معه ، أو مع محسنات الفاصلة ، وذلك أن هذا الإنسان المتناسي الطاغي المتكاثر بأمواله ولذاته ، وشهواته ، ومدخراته ، ونسائه ، وأولاده ، ودوره ، وقصوره ، وخدمه ، وحشمه ، وإداراته ، وشؤونه ، وسلطانه ، وعنوانه ، وهذا كله تكاثر قد يصحبه التفاخر ، والتنايز ، والتنافر ، أقول : إن هذا مما يناسبه لفظ « المقابر » بلاغياً ولغوياً ، فالمقابر جمع مقبرة ، والمقبرة الواحدة مرعبة هائلة ، فإذا ضممنا مقبرة مترامية الأطراف الى مقبرة مثلها ، ومقبرة أخرى ، إزددنا إيحاشاً ورعباً وفزعاً ، فإذا أصبحت مقابر عديدة ؛ تضاعف الرعب والرهب ، إذن هذا التكاثر الشهواني في كل شيء ، يوافقه ـ بدقة متناهية ـ الجمع المليوني للقبور ، لتصبح مقابر لا قبوراً ، ولو قيل في غير القرآن بمساواة القبور للمقابر في الدلالة لما سدّ هذا الشاغر الدلالي شيء آخر من الألفاظ ، فهو لها فحسب (٢).

إذن ليست هذه الصيغة البلاغية في استعمال المقابر مجرد ملائمة صوتية للتكاثر ، وقد يحسّ أهل هذه الصنعة ونحن معهم فيها ؛ نسق الإيقاع ، وانسجام النغم ، ولكن ليس هذا كل شيء (٣).

ولا يعني هذا التغافل عن مهمة الانسجام الصوتي ، والوقع الموسيقي في ترتيب الفواصل القرآنية ، فهي مرادة في حد ذاتها إيقاعياً ، ولكن يضاف إليها غيرها من الأغراض الفنية ، والتأكيدات البيانية ، مما هو مرغوب فيه عند علماء البلاغة ، فقوله تعالى : ( فأما اليتم فلا تقهر * وأما السآئل فلا تنهر ) (٤). فقد تقدم المفعول به في الآيتين ، وهو اليتيم في الأولى ،

__________________

(١) التكاثر : ٣ ـ ٤.

(٢) ظ : المؤلف ، تطور البحث الدلالي : ٧٠ بتصرف.

(٣) ظ : بنت الشاطي ، التفسير البياني : ١|٢٠٧ بتصرف.

(٤) الضحى : ٩ ـ ١٠.

١٤٦

والسائل في الثانية ، وحقه التأخير في صناعة الاعراب ، وقد جاء ذلك مراعاة لنسق الفاصلة من جهة ، وإلى الاختصاص من جهة أخرى ، للعناية في الأمر.

ولعل ابن الأثير ( ت : ٦٣٧ هـ ) كان مصيباً جداً حينما أرجع ذلك إلى الاختصاص ونظم الكلام ، ولم يقل بأحدهما (١). بينما عاد بها إبراهيم أنيس إلى مراعاة موسيقى الفاصلة القرآنية إذ لا يصح للمفعول أن يسبق ركني الاسناد في الجملة المثبتة كما يزعم أصحاب البلاغة (٢).

وقد رده الدكتور أحمد مطلوب في هذا الملحظ ، لأن الهدف ليس القهر والنهر في المقام الأول ، وأنما الرجحة باليتيم والسائل ، ولذلك تقدم المفعولان على فعليهما ، ولو كان القصد غير ذلك لتأخرا وجاءا على نسق الكلام المحفوظة رتبته (٣).

ومهما يكن من أمر ، فأن السجع عند العرب مهمة لفظية تأتي لتناسق أواخر الكلمات في الفقرات وتلاؤمها ، فيكون الإتيان به أنى اتفق لسد الفراغ اللفظي ، وأما مهمة الفاصلة القرآنية فليس كذلك ، بل هي مهمة لفظية معنوية بوقت واحد ، إنها مهمة فنية خالصة ، فلا تفريط في الألفاظ على سبيل المعاني ، ولا اشتطاط بالمعاني من أجل الألفاظ ، بينما يكون السجع في البيان التقليدي مهمة تنحصر بالألفاظ غالباً ، لذلك ارتفع مستوى الفاصلة في القرآن بلاغياً ودلالياً عن مستوى السجع فنياً ، وإن وافقه صوتياً.

وهنا نشير إلى أن ابن سنان الخفاجي ( ت : ٤٦٦ هـ ) قد رد جزءاً من هذه المفاضلة بين السجع والفاصلة ، وخلص إلى سبب التسمية في معرض نقاشه لعلي بن عيسى الرماني ؛ « وأما قول الرماني إن السجع عيب ، والفواصل على الإطلاق بلاغة فغلط ، فإنه إن أراد بالسجع ما تتبع المعنى ، وكأنه غير مقصود فذلك بلاغة ، والفواصل مثله ، وإن كان يريد بالسجع ما

__________________

(١) ظ : ابن الأثير ، المثل السائر : ٢|٣٩.

(٢) ظ : إبراهيم أنيس ، من أسرار العربية: ٣١٢.

(٣) ظ : أحمد مطلوب ، بحوث لغوية : ٥٨.

١٤٧

تقع المعاني تابعة له ، وهو مقصود متكلف ، فذلك عيب ، والفواصل مثله ... وأظن أن الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعاً رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم ، وهذا غرض في التسمية قريب » (١).

ويلحظ من النص ، أنه يعيب ما ينافي البلاغة سواء أكان سجعاً أم سواه ، ويشير إلى ناحيتين :

الأولى : أن الفواصل هي كل ما في أواخر الآيات تماثلت حروفه أو لم تتماثل خلافاً للسجع المتماثل الحروف.

الثانية : أن اختصاص أواخر الآيات بتسمية الفواصل إنما وقع لرغبتهم أن لا يوصف كلام الله تعالى بالكلام المروي عن الكهنة لا مطلق السجع.

معرفة فواصل القرآن صوتياً :

من أجل تمييز الفاصلة ، ومعرفتها صوتياً ، علينا تتبع فواصل الآيات بالدقة والظبط ، في تنقلها في القرآن عبر مسيرتها الإيقاعية.

قال إبراهيم بن عمر الجعبري ( ت : ٧٣٢ هـ ) :

« لمعرفة الفواصل طريقان : توقيفي وقياسي. أما التوقيفي : فما ثبت أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف عليه دائماً ، تحققنا أنه فاصلة ، وما وصله دائماً ، تحققنا أنه ليس بفاصلة ...

وأما القياسي فهو ما ألحق من المتحمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب ، ولا محذور في ذلك ، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان ، والوقف على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز ، فاحتاج القياس إلى طريق تعرّفه ، فنقول : فاصلة الآية كقرينة السجعة في النثر ، وقافية البيت في

__________________

(١) ابن سنان ، سر الفصاحة : ١٦٦.

١٤٨

الشعر ، وما يذكر من عيوب القافية من اختلاف الحد والإشباع والتوجيه فليس بعيب في الفاصلة ، وجاز الانتقال في الفاصلة ، والقرينة ، وقافية الأرجوزة بخلاف قافية القصيدة » (١).

ومن هنا كان التنقل في فواصل القرآن ، إذ لا يلتزم فيها الوقوف عند حرف معين في مواضع من السور ، ويلتزمه في مواضع أخر، ويجمع بين الالتزام وعدمه في بعض السور ، لأن الانتقال من الوقوف على حرف إلى الوقوف على حرف آخر ، أو صيغة تعبيرية أخرى في فواصل القرآن ، أمر مطرد وشائع ، ونماذجه هائلة ، كما أن الالتزم شائع أيضاً ، والجمع بينهما وارد كذلك ، ومن هنا تبرز ثلاثة ملامح على سبيل المثال :

الأول : جمع القرآن بين « تحشرون » و « العقاب » وهما مختلفان في حرف الفاصلة والزنة في قوله تعالى :

( وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقبله وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأعلموا أن الله شديد العقاب ) (٢).

وفي السورة نفسها جمع بين « تعلمون » و«عظيم » (٣). وهذا مطرد في القرآن بآلاف الأمثلة.

الثاني : الوقف عند حرف معين لا يتغير في الفاصلة كما في سور عدّة ، ونماذج متعددة ، فمن أمثلته عادة جملة من السور القصار ، كالقدر ، والعصر ، والفيل ، واليل ، والكوثر ، والاخلاص ، والناس ، وجملة من السور الوسطى كالأعلى والقمر ، وفيها جميعاً مراعاة للمنهج الصوتي ، والبعد الإيقاعي ، ويتجلى النغم الصوتي المتميز بأبهى صوره ، وأروع مظاهره في سورة القمر ، إذ تختتم فيها الفاصلة بصوت الراء مردداً بين طرف اللسان وأول اللهاة مما يلي الأسنان.

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ٣|٢٩١.

(٢) الأنفال : ٢٤ ـ ٢٥.

(٣) ظ : الأنفال : ٢٧ ـ ٢٨.

١٤٩

الثالث : الوقوف عند حرف معين للفاصلة في بعض السور ، والانتقال منه للوقوف عند حرف آخر للفاصلة في بعضها الآخر ، وأمثلته متوافرة في جملة من سور القرآن ، كالنبأ ، والمرسلات ، والنازعات ، والتكوير ، والانفطار ، والمطففين ، وانظر إلى قوله تعالى في سورة « عبس » وهي تواكب صوت الهاء في فواصل عدة آيات ، ثم تنتقل إلى الراء الملحقة بالتاء القصيرة بعدها في أيات أخر :

( يوم يفرالمرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل أمرى منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة ) (١).

وقد لا يراد الملحظ الصوتي مجرداً عند الابعاد الأخرى في فواصل الآيات ، فقد يجتمع في الفاصلة الغرض الفني بجنب الغرض الديني ، فتودي الفاصلة غرضين في عمل مزدوج ، فمن أبرز الصور الاجتماعية الهادفة في سورة البلد : آيات العقبة ، وتفصيلات يوم القيامة ، في تجاوز مظاهرالغل والقيد ، ومراحل الفقر والجوع ليتم تجاوز العقبة الحقيقية في القيامة ، ولا يتم ذلك إلا بتجاوز عقبات الظلم الاجتماعي ، وتخطي مخلفات العهد الجاهلي ، واقتحام القيم التي عطلت الحياة الإنسانية عن مسيرتها في التحرر والانطلاق ، وهي قيم قاتلة ، وأعراف بالية نشأت عن الطغيان المتسلط ، والتفاوت الطبقي المقيت ، فالرق ضارب بأطنابه ، والاستئثار شكل مجاعة بشرية جماعية ، والقطيعة في الأرحام أنهكت الأيتام ، والغنى اللامشروع فجرّ سيلاً من الأوضار الاجتماعية تشكل رعيلاً سادراً من الأرامل والأيامى والمساكين ، ممن ألصقهم الفقر بالتراب ، أو لصقوا هم به من الفقر والضر والفاقة ، فأحال ألوانهم كلونه ، فهم يلتحفون التراب ويفترشونه ، ولا يجدون غيره ، حتى عادوا جزءاً منه ، وعاد هو جزءاً من كيانهم ، فمن التراب وعلى التراب وإلى التراب.

هذا المناخ المزري عقبات متراكمة ، من فوقها عقبات متراكمة ، وإزالة هذه العقبات تدريجياً هو الطريق إلى قفز تلك العقبة الكبرى

__________________

(١) عبس : ٣٤ ـ ٤٢.

١٥٠

وتجاوزها ، في حياة قوله تعالى : ( فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو اطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة ) (١).

ما هذا الإيقاع المجلجل؟ وما هذه النبرات الصوتية الرتيبة؟ وما هذا النسق المتوازن؟ العقبة ، رقبة ، مسغبة ، مقربة ، متربة ، أصداء صوتية متلاحقة ، في زنة متقاربة ، زادها السكت رنة وتأثيراً ولطف تناغم ، وسط شدة هائلة مرعبة ، وخيفة من حدث نازل متوقع ، فالاقتحام في مصاعبه ومكابدته ، والعقبة في حراجتها والتوائها ومخاطرها ، يتعانقان في موضع واحد ، يوحي بالرهبة والفزع.

« والاقتحام هو أنسب الألفاظ للعقبة لما بينهما من تلاؤم في الشدة والمجاهدة واحتمال الصعب ، والمناسبة بين اقتحام العقبة وبين خلق الإنسان في كبد ، أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، والجمع بينهما في هذا السياق ، يقدم لنا مثلاً رائعاً من النظم القرآني المعجز : فالإنسان المخلوق في كبد ، أهل لأن يقتحم أشد المصاعب ، ويجتاز أقسى المفاوز ، على هدى ما تهيأ له من وسائل الإدراك والتمييز ، وما فطر عليه من قدرة على الاحتمال والمكابدة » (٢).

قال الطبرسي ( ت : ٥٤٨ هـ ) وهو يتحدث عن هذا السياق : « أنه مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال الخير والبر ، فجعل ذلك كتكليف صعود العقبة الشاقة الكؤود ، فكأنه قال : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام » (٣).

وإرادة التأنيب والتعنيف مع الحض والترجيح والتحبيب ، في صيغة النفي وتقريره ، والاستفهام وتهويله ، حافز وأي حافز على معالجة هذه المخاوف الاجتماعية السائدة ، ودرء هذه المشاكل العالقة في المجتمعات المتخلفة : السغب ، اليتم ، المسكنة ، إنها آفات متطاولة تنخر في بنية

__________________

(١) البلد : ١١ ـ ١٦.

(٢) بنت الشاطي ، التفسير البياني : ١|١٩٠.

(٣) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥|٤٩٥.

١٥١

الجسم الإنساني فتهدمه ، واقتحامها بحزم يتركها وراء الإنسان مسافات مترامية ، وذلك ما يهيء السبيل إلى تجاوز العقبة المترقبة الوقوع ، في كل معانيها البيانية : حقيقية كانت أو مجازية.

إن ورود هذه الآيات في نسق صوتي متجانس ، وصيغة إصلاحية هادفة ، يضفي على الفاصلة القرآنية ، جمالها المعهود ، وحسها الإيقاعي الهادر ، دون تطلع إلى تعبير مماثل أو مغاير ، فهي تمتلك النفس ، وتأخذ بالإحساس في نظام رتيب ؛ فالحرية أولاً ، والعطاء المغني ثانياً ، بدءاً بالأرحام ، وعطفاً على الآخرين ، وفيها أخذ بملحظ القرابة والرحم ، وحث على تقديم ذوي القربى من المعوزين على الأباعد في فك القيود ، وعتق الرقاب ، والاطعام بإحسان.

ظواهر الملحظ الصوتي في فواصل الآيات :

الملحظ الصوتي في فواصل الآيات القرآنية قائم على عدة ضواهر ، نرصد منها أربع ظواهر :

الأولى : وتتمثل بزيادة حرف ما في الفاصلة وعناية للبعد الصوتي ، وعناية بنسق البيان في سر اعتداله ، ليؤثر في النفس تأثيره الحسّاس ، فتشرئب الأعناق ، وتتطلع الأفئدة حين يتواصل النغم بالنغم ، ويتلاحم الإيقاع بالإيقاع ، وأبرز مظاهر هذه الظاهرة ألف الاطلاق إن صح التعبير بالنسبة للقرآن ، فقد ألحقت الألف في جملة من الآيات بأواخر بعض كلماتها ، وكان حقها الفتح مطلقاً ، دون مدّ الفتحة حتى تكون ألفاً ، وانظر معي في سورة واحدة ، إلى كل من قوله تعالى ، وكأن ذلك معني بحد ذاته ومقصود إليه لا ريب :

وقال تعالى : ( وتظنون بالله الظنونا ) (١).

وقال تعالى : ( فأضلّونا السبيلا ) (٢).

وقال تعالى : ( وأطعنا الرسولا ) (٣).

__________________

(١) الأحزاب : ١٠.

(٢) الأحزاب : ٦٧.

(٣) الأحزاب : ٦٦.

١٥٢

يبدو أن إلحاق هذه الألف في « الظنون » « السبيل » « الرسول » يشكل تلقائياً ظاهرة صوتية تدعو إلى التأمل ، وإلا فما يضير الفتح لولا الملحظ الصوتي « لأن فواصل هذه السورة منقلبة عن تنوين في الوقف ، فزيد على النون ألف لتساوي المقاطع ، وتناسب نهايات الفواصل » (١).

وما يقال هنا يقال فيما ورد بسورة القارعة في زيادة هاء السكت وإلحاقها في «هي » لتوافق الفاصلة الأولى الثانية في قوله تعالى : ( وما ادراك ما هيه * نار حامية ) (٢).

وهيا إلى سورة الحاقة وانظر إلى هاء « السكت » في إضافتها وإنارتها في جملة من آياتها ، فتقف خاشعاً مبهوراً ، تمتلك هزة من الأعماق وأنت مأخوذ بهذا الوضع الموسيقي الحزين ، المنبعث من أقصى الصدر وأواخر الحلق ، فتتقطع الأنفاس ، وتتهجد العواطف ، واجمة ، متفكرة ، متطلعة ، فتصافح المناخ النفسي المتفائل حيناً ، والمتشائم حيناً آخر ، وأنت فيما بينهما بحالة متأرجحة بين اليأس والرجاء ، والأمل والفزع ، والخشية والتوقع ، فسبحان الله العظيم حيث يقول :

( يومئذ تعرضون لا تخفا منكم خافية * فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم أقرءوا كتابيه * أني ظننت أنى ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية * كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية * وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * ياليتها كانت القاضية * مآ أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه ) (٣).

فأنت تلاحظ الفواصل : كتابيه ، حسابيه ، كتابيه ، حسابيه ، ماليه ، سلطانيه ، قد أزيدت فيها هاء السكت رعاية لفواصل الآيات المختومة بالتاء القصيرة والتي اقتضى السياق نطقها هاء للتوافق.

وما زلنا عند الهاء ، فتطلع إليها ، وهي ضمير ملصق بالفواصل ،غير زائد بل أصلي الورود ، وقد حقق بذلك وقعه في النفس ، وجرسه في

__________________

(١) الزركشي ، البرهان : ١|٦١.

(٢) القارعة : ١٠ ـ ١١.

(٣) الحاقة : ١٨ ـ ٢٩.

١٥٣

الأذن ، وقوته في امتلاك المشاعر ، قال تعالى :

( يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التى تؤيه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) (١).

فلا زيادة في هذه الهاء ، وهي ضمير في الفواصل كلها ، وقد حققت صوتياً مناخ الانتباة ، ورصد مواضع الاصغاء من النفس الإنسانية.

الثانية : وتتمثل بحذف حرف ما رعاية للبعد الصوتي ، وعناية بالنسق القرآني كما في قوله تعالى :

( والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر ) (٢).

فقد حذف الياء من يسري موافقة للفاصلة فيما يبدو ومثله قوله تعالى : ( فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) (٣).

فالياء من « اكرمن » و «أهانن » قد حذفت رعاية لهذا الملحظ ، ولما في النون من الغنة عند الوقوف عليها فيما يبدو ، ويظهر أن هذا الأمر مطرد في جملة من آيات القرآن الكريم في فواصل ما في قوله تعالى : ( لكم دينكم ولى دين ) (٤).

الثالثة : وتتمثل في تأخير ما حقه التقديم ، وتقديم ما حقه التأخير ، زيادة في العناية بتركيب السياق ، وتناسق الألفاظ ، وترتيب الفواصل ، كما في قوله تعالى : ( فأوجس في نفسه خفيفة موسى ) (٥). فتأخر الفاعل وحقه التقديم ، وعليه يحمل تقديم هارون على موسى في قوله تعالى :

( فألقى السحرة سجدا قالوا ءامنّا برب هارون وموسى ) (٦). فإن هارون وزير لموسى ، وأهمية موسى سابقة له ، وقدم هارون عليه رعاية لفواصل آيات السورة ، إذا انتظمت على الألف والألف المقصورة في أغلبها ، والله العالم.

__________________

(١) المعارج : ١١ ـ ١٤.

(٢) الفجر: ١ ـ ٤.

(٣) الفجر : ١٥ ـ ١٦.

(٤) الكافرون : ٦.

(٥) طه : ٦٧.

(٦) طه : ٧٠.

١٥٤

الرابعة : أشار الزركشي ( ت : ٧٩٤ هـ ) أنه قد كثر في القرآن الكريم ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد واللين وإلحاق النون ، وحكمته وجود التمكن من التطريب (١).

وحكى سيبويه ( ت : ١٨٠ هـ ) عن العرب أنهم إذا ما ترنموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء ، ما ينون ، وما لا ينون ، لأنهم أرادوا مدّ الصوت (٢).

وورود النون بعد حروف المدّ متواكبة في القرآن حتى عاد ذلك سراً صوتياً متجلياً في جزء كبير من فواصل آيات سوره ، ونشير على سبيل النموذج الصوتي لكل حرف من حروف المدّ تليه النون بمثال واحد.

١ ـ وردت الألف مقترنة بالنون في منحنى كبير من فواصل سورة الرحمان على نحوين :

الأول : وردهما متقاطرين ، وهما ـ أي الألف والنون ـ من أصل الكلمات كما في قوله تعالى :

( الرحمن * علم القرءان * خلق الانسان * علّمه البيان * الشمس والقمر بحسبان ) (٣).

الثاني : وردهما متقاطرين ، وهما ـ أي الألف والنون ـ ملحقان بالكلمة علامة للرفع ودلالة على التثنية كما في قوله تعالى : ( مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي ءالاء ربكما تكذبان ) (٤).

ويتحقق في النحوين مدّ الصوت تحقيقاً للترنم.

٢ ـ وردت الياء مقترنة بالنون في أبعاد كثيرة من فواصل الآيات القرآنية ، ففيما اقتص الله من خبر نوح عليه‌السلام قال تعالى : ( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد الله الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلني منزلا

____________

(١) ظ : الزركشي ، البرهان : ١|٦٨.

(٢) سيبويه ، الكتاب : ٢|٢٩٨.

(٣) الرحمن : ١ ـ ٥.

(٤) الرحمن : ١٩ ـ ٢١.

١٥٥

مباركاً وأنت خير المنزلين * إن في ذلك لأيات وإن كنا لمبتلين * ثم أنشأنا من بعدهم قرنًا ءاخرين ) (١).

والطريف ان سورة المؤمنين تتعاقب وواصلها الياء والنون أو الواو والنون ، شأنها في ذلك شأن جملة من سور القرآن ، فكأنها جميعا تعنى بهذا الملحظ الدقيق.

٣ ـ وردت الواو مقترنة بالنون في أجزاء عديدة ومتنوعة من فواصل طائفة كبيرة من السور، فسورة الشعراء فيها تعاقب كبير على الياء والنون مضافاً إليه التعاقب على الواو والنون موضع الشاهد كما في قوله تعالى :

( إن هؤلآء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون* فأخرجناهم من جنات وعيون ) (٢).

إن ما أبداه الزركشي من ختم كلمة مقطع الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون ، ليس بالضرورة للتمكن من التطريب ، ولكنه يشكل ظاهرة بارزة في صيغ تعامل القرآن الكريم مع هذه الحروف مقترنة بالنون ، وقد يخفى علينا السبب ، ويغيب عنا جوهر المراد ، ومع ذلك فهو ملحظ متحقق الورود.

الإيقاع الصوتي في موسيقى الفواصل :

هناك سمات إيقاعية في سياق فواصل الآيات ، ومن خلال عبارات الجمل والفقرات التي ارتبطت بنسق جمهرة من آيات القرآن المجيد ، نجم عنهما كثير من الاشكال في التفسير لوجودها مجارية لزنة جملة من بحور الشعر ، وبدأ محرّرو علوم القرآن ، يتصدرون للدفاع عن ذلك حيناً ، ولتفسيره كلامياً واحتجاجياً بلغة الجدل حيناً آخر ، ولو أنهم عمدوا إلى ربط مثل هذه الظواهر بالإيقاع الصوتي لكان ذلك رداً مفحماً ، ولو فسروها صوتياً لارتفع الإشكال وتلاشى.

القرآن كلام الله فحسب ، ليس من جنس النثر في صنوفه وإن اشتمل

__________________

(١) المؤمنون : ٢٨ ـ ٣١.

(٢) الشعراء : ٥٤ ـ ٥٧.

١٥٦

على ذروة مميزاته العليا ، ولم يكن ضرباً من الشعر وإن ضم بين دفتيه أوزان الشعر جميعاً ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين ) (١).

فهو ليس من سنخ ما يتقولون ، ولا بنسيج ما يتعارفون ، ارتفع بلفظه ومعناه ، وطبيعته الفنية الفريدة ، عن مستوى الفن القولي عند العرب ، فالمقولة بأنه شعر باطلة من عدّة وجوه :

الأول : التـأكيد في القرآن نفسه بنفي صفة الشعر عنه ، والتوجيه بأنه ذكر وقرآن مبين بقوله تعالى :

( وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان منين ) (٢).

الثاني : الردّ في القرآن على دعوى القول بأن النبي شاعر ، وأن القرآن منه في ثلاثة مواطن :

١ـ الملحظ الافترائي الموجه إليه ، والمعبر عن حيرة المشركين :

( بل قالوا اضغاث احلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بأية كما أرسل الأولون ) (٣).

٢ ـ التعصب الأعمى للآلهة المزعومة دون وعي ، وبكل إصرار بافتعال الادعاء الكاذب :

( ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون ) (٤).

٣ ـ التربص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوقع الموت له ، بزعمهم أن سيموت شعره المفترض معه!!

( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ) (٥).

الثالث : إن العرب لو اعتقدوا أن القرآن شعر لأسرعوا إلى معارضته من قبل شعرائهم ، فالشعر ديوان العرب ، وقصائدهم معلقة بالكعبة تعبيراً عن اعتدادهم بالشعر ، واعتزازهم بالشعراء ، وهم أئمة البيان ورجال

__________________

(١) الحاقة : ٤١ ـ ٤٣.

(٢) ياسين : ٦٩.

(٣) الأنبياء : ٥.

(٤) الصافات : ٣٦.

(٥) الطور : ٣٠.

١٥٧

الفصاحة ، ولكنها مغالطة واضحة « ولو كان ذلك لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد ، وأهله يتقاربون فيه ، أو يضربون فيه بسهم »(١).

الرابع : إن الشعر إنما يقصد إليه بذاته فينظم مع إرادة ذلك ، ولا يتفق اتفاقاً أن يقول أحدهم كلاماً فيأتي موزوناً ، فالشعر « إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه ، وما يتفق من كل واحد ، فليس بشعر فلا يسمى صاحبه شاعراً ، وإلا لكان الناس كلهم شعراء ، لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه ما يتزن بوزن الشعر وينتظم بانتظامه » (٢).

سقنا هذا في حيثية تنزيه القرآن عن سمة الشعر وصفته ، لأنه قد وجد فيه ما وافق شعراً موزوناً ، وما يدريك فلعل القرآن يريد أن يقول للعرب : إن هذا الشعر الذي تتفاخرون به ، نحن نحيطكم علماً بأوزانه على سبيل الأمثلة لتعتبروا بسوقها سياق القرآن في صدقه وأمانته ، ولا غرابة أن يكون القرآن يريد أن ينحو الشاعر بشعره منحى الحق والصرامة والفضيلة والصدق ، ومع هذا وذاك فما ورد من الموزون فيه جار على سنن العرب في كلامها ، إذ قد يتفق الموزون ضمن المنثور ، بلا إرادة للموزون ، ولا تغيير للمنظوم. فقد حكى الزركشي ( ت : ٧٩٤ هـ ) أن إعرابياً سمع قارئاً يقرأ : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) (٣).

فقال كسرت ، إنما قال :

يـا أيـها النـاس اتـقوا ربـكم

زلـزلـة الـسـاعة شـيء عـظـيم

فقيل له : هذا القرآن ، وليس الشعر (٤).

فاعتقده لأول مرة شعراً فحذف « أن » ليستقيم الوزن فيما عنده. ولو قلنا بالإيقاع الصوتي ، وفسرنا الورود البياني لهذا المظهر الموزون بمجانسة

__________________

(١) الباقلاني ، إعجاز القرآن : ٨٢.

(٢) المصدر نفسه : ٨٣.

(٣) الحج : ١.

(٤) الزركشي ، البرهان : ٢|١١٦.

١٥٨

الأصوات ، وقارنّا عن كثب بمناسبة الصوت للصوت ، وملاءمة النطق بالحروف ، ومتابعة الأذن للموسيقى ، والسمع للنبر والتنغيم ، زيادة على ما تقدم لكنا قد أحسنّا التعليل فيما يبدو، أو توصلنا في الأقل إلى بعض الوجوه المحتملة ، أو الفوائد الصوتية المترتبة على هذا المعلم الواضح ، والله أعلم.

وقد يقال بأن هذا المعلم إنما ينطبق على أجزاء من الآيات لا الفاصلة وحدها ، فيقال حينئذ بأن وجود الفاصلة في هذه الأجزاء من الآيات هو الذي جعل جملة هذا الكلام موزوناً ، فبدونها ينفرط نظام هذا السلك ، وينحل عقد هذا الابرام لهذا نسبنا أن يكون الحديث عن هذا الملحظ ضمن هذا البحث.

ومهما يكن من أمر ، فإن ورود ما ورد من هذا القبيل في القرآن ينظر فيه إلى غرضه الفني مضافاً إلى الغرض التشريعي ، وهما به متعانقان.

إننا بين يدي مخزون ثر في هذا الرصد ، ننظره وكأننا نلمسه ، ونتحسسه وكأننا نحيا به ، فحينما نستمع خاشعين إلى صيغة موزونة منتظمة بقوله تعالى : ( إنّا اعطيناك الكوثر ) (١). فإننا نتعامل مع وقع خاص بذكرنا بالعطاء غير المحدود للنبي الكريم ، وحينما نستمع ـ موزوناً ـ إلى قوله تعالى : ( هيهات هيهات لما توعدون ) (٢). تصك أسماعنا بلغة الوعيد ، فنخشع القلوب ، وتتحسس الأفئدة.

وحينما نستمع ـ موزوناً ـ إلى قوله تعالى : ( وذلّلت قطوفها تذليلاً ) (٣). نستبشر من الأعماق بهذا المناخ الهادي ، ونستشعر هذا النعيم السرمدي بإيقاع يأخذ بمجامع القلوب ، ويشد إليه المشاعر.

وحينما نستمع ـ موزوناً ـ إلى قوله تعالى : ( تبت يدآ أبي لهب ) (٤). يقرع أسماعنا هذا المصير الشديد العاتي ، فيستظهره السامع دون جهد ، ويجري مجرى الأمثال في إفادة عبرتها وحجتها. وحينما نستمع حالمين

__________________

(١) الكوثر : ١.

(٢) المؤمنون : ٣٦.

(٣) الدهر ( الإنسان ) : ١٤.

(٤) المسد : ١.

١٥٩

إلى قوله تعالى : ( ومن الليل فسبحه وأدبار السّجود ) (١). فإننا نستشعر هذا الأمر بقلوبنا قبل الأسماع ، هادئاً ناعماً متناسقاً ، وهو يدعو إلى تسبيح الله وتقديسه آناء الليل وأطرف النهار.

وحينما نستمع إلى قوله تعالى : ( نصر من الله وفتح قريب ) (٢). فإن العزائم تهب على هذا الصوت المدوي ، بإعلان النصر لنبيه ، والفتح أمام زحفه ، فتعم البشائر ، وتتعالى البهجة.

وحينما نستمع إلى قوله تعالى : ( لن تنالوا البّر حتا تنفقوا ممّا تحبّون ) (٣). فالصوت الرفيق هذا يمس الاسماع مساً رفيقاً حيناً ، ويوقظ الضمائر من غفلتها حيناً آخر ، وهو يستدر كرم المخائل ، ويوجه مسيرة التعاطف ، ويسدد مراصد الانفاق ، والمسلم الحقيقي يسعى إلى البر الواقعي فأين مواطنه؟ إنه الانفاق مما يحب ، والعطاء مما يحدب عليه ، والفضل بأعز الأشياء لديه ، وبذلك ينال البر الذي ما فوقه بر.

وحينما نستمع إلى قوله تعالى : ( أرءيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم ) (٤). وتمد الفتحة لتكون ألف إطلاق ، وتصبح في غير القرآن ( اليتيما ) فإنك تقف عند بحر الخفيف من الشعر ، وهو من الأوزان الراقصة ، تقف عند صرخة مدوّية ، وجلجلة متأججة تقارن بين التكذيب بيوم القيامة ، وبين دع اليتيم في معاملته بخشونة وصده بجفاف وغلظة.

هذه النماذج الخيرة التي تبركنا بإيرادها ، والتي تنبه من الغفوة والغفلة ، وتدفع إلى الاعتبار والعظة ، وتزيد من البصيرة والتدبر ، قد أضفى عليها الملحظ الصوتي موسيقاه الخاصة ، فعاد القول بصوتيتها من جملة أسرارها الجمالية ، والتأكيد على تناغمها الإيقاعي من أبرز ملامحها الفنية.

هذه ميزة ناصعة من مزايا فواصل الآيات باعتبار العبارات.

__________________

(١) ق : ٤٠.

(٢) الصف : ١٣.

(٣) آل عمران : ٩٢.

(٤) الماعون : ١ ـ ٢.

١٦٠