النحو العربي - ج ٣

إبراهيم إبراهيم بركات

النحو العربي - ج ٣

المؤلف:

إبراهيم إبراهيم بركات


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النشر للجامعات
الطبعة: ١
ISBN: 977-316-204-4
الصفحات: ٦٠٨

 ـ (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [غافر : ٤].

 ـ (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) [الأنعام : ٩٣].

 ـ (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأعراف : ٥].

 ـ (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤].

 ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) [الأنعام : ١٥٨].

 ـ (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٢٩].

 ـ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣].

 ـ (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) [الأعراف : ٥٨].

* * *

٢٦١

التمييز (١)

التمييز مصدر (ميّز) بتضعيف العين ، ويعنى : تخليص الشىء من الشىء ، والتفريق بين المتشابهين (٢) ، يقول تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ، أى :انعزلوا عن المؤمنين وكونوا على حدة. يسميه النحاة : التمييز والتبيين والتفسير ، والمميز ، والمفسر ، والمبيّن.

يتضمن التمييز معنى (من) الجنسية التى تسبق نكرة منصوبة فضلة غير تابع ، عدّى لها ما لا يتعدى ، وخرجت بيانا لما انبهم من الذوات.

فالتمييز يكون اسما نكرة جامدا رافعا لإبهام كائن أو مستقرّ فى اسم ما ، أو رافعا لإبهام فى كلام ما ، وذلك بتحديد جهة دلالية عامة يؤديها التمييز ، فترفع هذا الإبهام.

والتمييز اسم لأنه شىء ما ، ونكرة لأنه واحد يدل على أكثر منه ، وما بعد ذلك من مفهوم فإنما هو يدل على الجانب الدلالىّ فى التمييز ، حيث يكون بعد مبهم يصلح لكثير ، فيختار هذا اللفظ ليحدد جانبا من هذه الجوانب الدلالية العديدة.

فالضابط الدلالىّ للتمييز هو التحديد لمعنى عام ، أو تفسير إبهامه ، حيث يكون اسم عام أو كلام عام يصلح لجوانب عديدة فى الاستعمال اللغوى ، حيث يمكن

__________________

(١) يرجع فى هذه الدراسة إلى : الكتاب ١ ـ ٢٠٤ / ٢ ـ ١١٧ / ٣ ـ ٥٥٧ / المقتضب ٣ ـ ٣٢ / ٢ ـ ١٤٤ / ٤ ـ ٣٠ / الأصول ١ ـ ٢٦٨ / ١ ـ ٣٧٥ / التبصرة والتذكرة ١ ـ ٣١٦ / شرح عيون الإعراب ٤٧٩ / المفصل ٦٥ / المقتصد ٢ ـ ٦٩١ ، ٧٢٢ / شرح الكافية ١ ـ ٢٢١ ، ٢ ـ ١٤٥ / الإيضاح فى شرح المفصل ١ ـ ٣٤٨ / المقرب ١ ـ ٣٠٥ / الكافية ٢ ـ ١٤٥ / شرح ألفية ابن معطى ١ ـ ٥٧٢ ، ٢ ـ ١٠٩٧ / عمدة الحافظ ٣٤٩ / التسهيل ١١٤ / شرح ابن الناظم ٣٤٦ / المنتخب الأكمل فى شرح الجمل للخفاف ١٨١ ، مخطوط بجامعة أم القرى بمكة المكرمة / ارتشاف الضرب ٢ ـ ٣٧٧ / شرح ابن عقيل ٢ ـ ٢٨٦ / شرح اللمحة البدرية ٢ ـ ١٨٤ ، ٣٤٦ / شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك ٤ ـ ٦١ / شرح الكافية ٢ ـ ١٥٦ / الصبان على شرح التصريح : ١ ـ ٣٩٣.

(٢) شرح التصريح ١ ـ ٣٩٣.

٢٦٢

إطلاقه على أكثر من كلمة ، أو : يتضمن أجزاء متعددة ، فيحدّد أو يخصّص دلالته باستخدام المميّز أو التمييز ، فكأن المميّز مميّز لعلاقة معنوية واحدة لكلمة ما من علاقاتها العديدة بكلمات أخرى ، وهذه العلاقة تكون دائما عامة فى مدلولها ، وليست خاصة بالمميّز.

فإذا قلت : اشتريت ثلاثة ، فإن (ثلاثة) تصلح أن تكون لكل شىء مخلوق فى الوجود موجود أو متخيل ، فهو اسم مبهم غير محدّد الجانب ، إذ يمكن أن ينتقل من كلمة إلى أخرى ، فارتباطه الدلالىّ بالكلمات فى اللغة غير محدد ، فهو اسم مبهم ، مثل هذا الاسم يحتاج إلى تمييز يزيل إبهامه ، ويحدد أحد الجوانب المعنوية التى يصلح لها ، ويريدها المتحدث أو منشئ الكلام ، ويكون ذلك فيما يضاف إليه ، فكأن ما يميز يعزل علاقة واحدة عن علاقات متعددة ، كأن تقول : ثلاثة كتب ، ثلاثة أقلام ، ثلاثة منازل ... إلخ ، حيث تصلح ثلاثة أن يكون لها علاقة بكل هذه الكلمات وكلمات أخرى كثيرة غيرها ، فتميز أو تعزل إحدى هذه العلاقات عن غيرها ، بذكر التمييز ، فتذكر : كتبا أو أقلاما أو منازل ... أو غيرها.

كذلك إذا قلت : مصر أطيب ، فإن كلمة (أطيب) تصلح لمعان عديدة ، حيث تصلح للأرض ، وللرجال ، وللنساء ، وللجو ، وللمناخ ، وللهواء ، وللسكنى ...

إلى غير ذلك مما يوجد فى مصر ، فتحدد إحدى هذه الجهات المعنوية أو تعزل باستخدام ما يزيل هذا الإبهام ، أو الشمول والعموم والغموض فى المعنى عن طريق التمييز ، كأن يكون : أطيب هواء ، أطيب جوا ، أطيب رجالا ... إلخ.

ومثل هذا المفهوم من زوال الإبهام والغموض تحتاج إليه كلّ المعانى الكلية التى تحتاج إلى تمييز ، وهى : المساحات ، والمكيلات ، والأوزان ، وما أشبهها ، والأعداد وما يكنى به عنها ، والجمل ذات المعانى المبهمة : من نقل للتمييز عن الفاعلية أو المفعولية ، أو المجرور ، أو الابتدائية ، أو ما ميز معنى التعجب.

والمقصود بالإبهام فى الجملة إبهام فى الجملة الفعلية ، حيث يلتمس الإبهام فى العلاقة بين الفعل ومعموله ، وحقيقة الإبهام فى الجملة حقيقته فى اسم الذات ،

٢٦٣

حيث تحتمل الجملة عدة جهات معنوية تتحدد واحدة منها بوساطة التمييز ، بل إنها تحتاج إلى هذا التحديد أو العزل عن الجهات المعنوية الأخرى.

فإذا قلت : كثر محمد ، فإن الكثرة المسندة إلى محمد تحتاج إلى تحديد ؛ لأنّ معناها يصحّ لأشياء كثيرة فى الوجود ، والمحدد أو المفسر لهذا المعنى المبهم هو التمييز ، ويجب أن يكون التمييز ملائما لمعنى الكثرة مع محمد. فتقول : كثر محمد مالا ، أو : علما ، أو : عقارا ... إلخ.

فالإبهام فى الجملة يكون إبهاما فى العلاقة بين العامل وبين أحد معمولاته ، وتمييز العلاقة هذه يسمى تمييز النسبة ؛ لأن العلاقة بين دالّتين إنما هى نسبة بينهما.

ويكون التمييز الواقع بعد الجملة منصوبا عن تمام الكلام ، ورافعا للإبهام الحادث فى الكلام ، حيث يكون الإبهام فيه حاصلا فى الإسناد.

فإذا قلت : (حسن زيد وجها) ، فإنك تلمس أن (حسن) مسند فى اللفظ إلى (زيد) ، ولكنه فى المعنى مسند إلى مقدّر متعلق بزيد ، وذلك مبهم لاحتماله كلّ ما يتعلق بزيد ، فقد يكون حسنا فى شعره ، أو فى يده ، أو فى عمله ، أو فى وجهه ... الخ ، فتذكر (وجها) ليرفع هذا الإبهام.

لذلك فإنك تجد أن هذه العلاقة المبهمة بين العامل وأحد مكونات الجملة المميّزة ؛ إنما تبين وتتحدد من خلال التمييز ، الذى يمكن أن يأخذ الموقع الإعرابىّ لما ارتبط به العامل من مكونات الجملة ، والعلاقة المعنوية تكون قائمة بين العامل والتمييز.

ولذلك فإن هناك جهات تحول أو تنقّل لتمييز الجملة ؛ من أحد المواقع المعنوية والإعرابية فيها إلى موقعية التمييز ، وهذه نحددها فيما بعد.

تضمن التمييز معنى (من):

يتضمن التمييز معنى (من) ، حيث إن أصل القول : ما فى السماء قدر راحة سحابا ، هو راحة من السحاب ، وكذلك : عشرون درهما ، أصله عشرون من الدراهم ، ولله درّه رجلا ، أصله : من رجل ، واستعمال هذا الأصل بـ (من) جائز ، وتقدير (من) يعطى معنى النسبة ، أو التبعيض ، أى : إنّ العدد أو الكيل أو

٢٦٤

المساحة أو الوزن المذكور منسوب إلى جنس ما أضيف إليه ، أو ما نصبه ، أو هو بعض من كلّه.

ويجوز دخول (من) على ما كان تمييزا بعد تمام الاسم ، فتقول : اشتريت إردبا من قمح ، لو أعطيتنى ملء الأرض من ذهب ما نفعنى ، لله درّه من فارس ، حسبى المثل من شاهد ...

وتدرس (من) من بعض الجوانب فى (فكرة القضايا الأخرى المتصلة بالتمييز).

العامل فى التمييز :

يشبه التمييز بالمفعول به ، من حيث إن موقعه بعد ما يميزه كموقع المفعول به بعد ما ينصبه أو يتعلق به ، فانتصاب تمييز الجملة مشبه للمفعول لكونه بعد تمام الجملة.

أى : بعد ذكر الركنين الأساسين لها. وانتصاب تمييز المفرد مشبه لما انتصب عن تمام المفردات المشبّهة بالجمل من أسماء الفاعلين ، نحو : ضاربان ، وضاربون. فالنصب فى التمييز حادث بسبب وجوده بعد التمام ، سواء أكان تمام الاسم ، أم تمام الكلام.

فالناصب له هو ذلك الاسم المبهم لشبهه باسم الفاعل فى عمله فى مفعوله.

وللنحاة فى العامل فى تمييز النسبة أو الجملة مذهبان :

أولهما : ما ذهب إليه قسم من النحاة ، وعلى رأسهم سيبويه والمازنى والمبرد والسراج والفارسى ، من أن العامل فى تمييز الجملة هو ما فيها من فعل ، أو ما جرى مجراه من مصدر أو صفة مشتقة أو اسم فعل.

ثانيهما : ما ذهب إليه المحققون من أن العامل إنما هو الجملة المنتصب عن تمامها.

قضية الإعراب فى التمييز :

التمييز اسم ، والاسم إمّا مرفوع وإما منصوب وإما مجرور ، أما من حيث الرفع فإنه لا يصحّ مع التمييز لكونه فضلة وغير تابع لعمدة مرفوعة ، فلم يتبقّ سوى النصب والجر ، والتمييز يقع فى موقعى النصب والجرّ على النحو الآتى :

٢٦٥

مواضع جر التمييز :

يقع التمييز مجرورا فى المواضع الآتية :

أ ـ ما كان مسبوقا بـ (من) الجارّة مذكورة فى التركيب ، نحو : حصلت على عشرة جرامات من ذهب. اشترينا خمسة أرادبّ من قمح. لله درّه من شجاع.

كلّ من (ذهب وقمح وشجاع) مجرور بحرف الجر (من).

ب ـ ما لم يكن فيه ما يمنع من الإضافة ، وهو ما كان خاليا من التنوين ونونى التثنية والجمع ، نحو : شاهدت أربعة رجال. مائة طالب. ألفى نسمة. فكلّ من :

(رجال وطالب ونسمة) مجرور بالإضافة.

مواضع نصب التمييز :

ينصب التمييز فى المواضع الآتية (حيث يوجد ما يمنع من الإضافة فى اللفظ المميز) من نحو :

١ ـ التنوين : كأن تقول : عنده عشرة مثلا. (مثلا) تمييز لعشرة منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، والشائع أن يجرّ بالإضافة إلى العدد ، فلما نوّن العدد ـ وهو الجزء الأول من الإضافة ـ نصب.

٢ ـ نون ألفاظ العقود : نحو قولك : قرأت عشرين صفحة. حضر اليوم ثلاثة وسبعون طالبا. فكلّ من : (صفحة وطالب) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، وما دعا إلى نصبه هو وجود النون فى (عشرين وسبعين) ، لأنهما مع أمثالهما ألفاظ ملحقة بجمع المذكر السالم.

٣ ـ ما كان فيه تقدير تنوين : يتمثل هذا فى الأعداد المركبة من (١١ ـ ١٩) ، فتقول : فى القاعة خمسة عشر مقعدا ، وثلاث عشرة صورة. كل من (مقعد ، وصورة) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة. والأصل فى : خمسة عشر ، خمسة وعشرة ، فلما ركّبت الكلمتان تركيب إضافة بنيتا على الفتح ، فمنعتا من التنوين.

٢٦٦

٤ ـ المميّز الموصوف بالامتلاء أو ما يدل عليه ينصب تمييزه : حيث تكون الصفة فاصلة بين المميز الموصوف والتمييز ، فتمتنع الإضافة ، ويجب النصب ، كما يجب ذكر ما يتممه من تنوين ظاهر ، أو مقدّر ، أو نون تثنية ، أو نون جمع. فتقول : لدىّ وعاءان ممتلئان عسلا. الوعاء مملوء ماء. زارنى أضياف مكتملون ذوقا. المدرج مكتمل طلابا. فكل من : (وعاءان ، وأضياف) مميز موصوف بالامتلاء فى الأول (ممتلئان) ، وبما يدل عليه فى الثانى (مكتملون) ، وأولهما مثنى ، والآخر جمع ، فوجب إتمام لفظيهما بنونى التثنية والجمع ، فوجب نصب تمييز كلّ منهما.

ومنه أن تقول : هو من بيت ممتلىء خيرا. هذه قاعة مكتملة طلابا. حيث كلّ من : (بيت وقاعة) مميز موصوف بـ (ممتلىء ، ومكتملة) فوجب إتمامهما بالتنوين ، ولذا ينصب المميز.

٥ ـ الإضافة إلى ما لا يضاف إليه : فتمتنع الإضافة ، ويجب النصب ، نحو : لى مثله كتابا ، حيث (كتابا) تمييز لـ (مثل) منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، ووجب نصبه لأن المميّز (مثل) قد أضيف إلى الضمير ، والضمير لا يضاف إليه.

٦ ـ وكذلك المميّز للجملة : نحو : طبت نفسا ، لأن الجملة لا يضاف إليها ، لكنه فى مثل هذا التركيب قد يجرّ التمييز بحرف الجرّ (من).

٧ ـ تمييز اسم التفضيل ، إذا كان لا يصحّ صفة لموصوف اسم التفضيل : فإنه ينصب ؛ لأنه تمتنع إضافته إليه ، ويسميه النحاة بالتمييز المباين. فيقال : أنا أكثر منك مالا. بنصب (مال) بالضرورة ؛ لأنه لا يقال : أنا مال ، فهو مباين. أما إذا قلت : محمد أكرم الناس رجلا ، فإنه يجوز فيه الإضافة ؛ لأنه يمكن القول :محمد رجل ، فيقال : محمد أكرم رجل. ويجعلونه تمييزا غير مباين. وهذا النوع من التمييز (التمييز غير المباين) لا ينصب تمييزه إلا إذا فصل بينهما ، كما هو مذكور فى المثال السابق. فإن ذكر اسم التفضيل قبل التمييز مباشرة ، أى :لم يفصل بين التمييز وبين اسم التفضيل فإنه يجب أن يضاف ، فيقال : محمد أكرم رجل.

٢٦٧

نوعا التمييز

من خلال شرح ماهية التمييز ؛ ومعرفة جوانبه المعنوية المختلفة ؛ نجد أن التمييز ينقسم إلى قسمين : تمييز الذات ، وتمييز النسبة.

القسم الأول : تمييز الذات :

هو ما يطلق عليه : تمييز المفرد ، أو تمييز الذات ، وهو التمييز الذى يرفع إبهام اسم ما يصلح معناه لجوانب كثيرة ، فيذكر التمييز ليحدد جهة معنوية واحدة ، فالتمييز يذكر لإزالة التداخل والالتباس فى المعنى لاسم واحد مبهم ، فإذا قلت :

زرعت خمسة ، فإن الخمسة يتسع معناها ويتداخل إلى ما لا نهاية من الأشياء ، فيأتى معنى الزراعة فيحددها ويحصرها فى أشياء محصورة فى المساحات والمزروعات ، ولكنه لا يزيل إبهامها الكامن فيها ، فيأتى التمييز فيحصر معنى الثلاثة فى المميّز به فقط ، فتقول : زرعت خمسة أفدنة ، أو : خمس شجرات ، ... إلخ.

الأسماء المبهمة الذوات التى تحتاج إلى تمييز تنحصر فى : الممسوحات ، والمكيلات ، والموزونات ، وتسمى بالمقادير حيث يعرف بها كميات الأشياء معرفة محددة ، ثم الأعداد ، وما يشبه المقادير ، وأسماء أخرى تعرض فى حينها.

١ ـ الممسوحات :

ويقصد بها المصطلحات ذات الدلالات الخاصة التى يعرف بها مقدار المساحات التى يتعارف عليها : من أطوال للممسوحات ، أو مساحة لها ، أو غير ذلك ، من نحو : زرعت فدانا قمحا ، اشتريت قيراطا برسيما ، ما أملك شبرا أرضا. فكل من : (قمح ، وبرسيما ، وأرضا) منصوب ؛ لأنه تمييز لكل من : فدان ، وقيراط ، وشبر ، وهى مقادير للممسوحات.

٢ ـ المكيلات :

يقصد بها المصطلحات الخاصة بما يكال به ؛ ليدلّ على مقدار معين متعارف عليه. نحو : كيلة ، وصاع ، وقفيز ، وقدح ، ... إلخ. فتقول : اشتريت كيلتين

٢٦٨

أرزا ، وقدحين شعيرا ، فى الجوال صاعان تمرا ، أريد قفيزا برا. فكلّ من : أرز ، وشعير ، وتمر ، وبر منصوب ؛ لأنه تمييز لكلّ من : كيلتين ، وقدحين ، وصاعين ، وقفيز ، وهى مقادير للمكيلات.

٣ ـ الموزونات :

يقصد بها المصطلحات الخاصة بالأوزان ؛ لتدلّ على مقدار معين من الموزون متعارف عليه ، نحو : أقة ، ورطل ، وجرام ، ودرهم ، وكيلو جرام ، وأوقية ، ورطل ، وقنطار ، ... إلخ. فتقول : اشتريت كيلو جرامين موزا ، وكيلو جراما برتقالا ، هذان رطلان زيتا ، باع قنطارا قطنا ، الخاتم جرام ذهبا. فكلّ من : موز ، وبرتقال ، وزيت ، وقطن ، وذهب منصوب ؛ لأنه تمييز لكلّ من : كيلو جرامين ، وكيلو جرام ، ورطل ، وقنطار ، وجرام ، وكّلها دالة على مقادير الأوزان.

يلحظ ما يأتى فى المقادير السابقة :

* المقادير السابقة محددة الكمية فى مصطلحاتها حسبما يتعارف عليه مجتمع ما.

* هذه المقادير أمور نسبية ومصطلحات لغوية تختلف من مجتمع إلى آخر ، ومن جيل إلى جيل ، لكن لها ضابطا محددا ، هو : معرفة كميات الأشياء تحديدا للمساحة والكيل والوزن.

* قد تتداخل هذه المصطلحات بين الأنواع السابقة من المقادير ، نحو : الرطل الذى يستخدم كيلا للسمن ، كما يستعمل وزنا ؛ والإردب الذى يستخدم كيلا للقمح والأرز ، ... وغيرهما ، ويستعمل وزنا كذلك للحبوب ، وربما كان القيراط وزنا ومساحة.

* تمييز هذه المقادير الثلاثة السابقة يستخدم فى ثلاث صور من التركيب :

أولاها : أن يكون تمييزها منصوبا ، كما لحظنا فى الأمثلة السابقة. وكأن تقول :بعته إردبين قمحا ، وكيلو جرامين أرزا ، ومترا قماشا.

ثانيتها : أن يكون مجرورا بالحرف (من). فتقول : بعته إردبّين من القمح ، وكيلو جرامين من الأرز ، ومترا من القماش. وتقول : اشتريت قيراطا من البرسيم ، ما

٢٦٩

أملك شبرا من الأرض ، فى الجوال صاعان من التمر ، أريد قفيزين من البر ، هذان رطلان من الزيت ، الخاتم جرام من الذهب.

ثالثتها : أن يكون مجرورا بالإضافة. فتقول : بعته إردبّى قمح ، وكيلو جرامى أرز ، ومتر قماش ، اشتريت قيراط برسيم ، وما أملك شبر أرض ، فى الجوال صاعا تمر ، أريد قفيزى برّ ، هذان رطلا زيت ، الخاتم جرام ذهب.

٤ ـ الأعداد :

المقصود الدلالىّ من العدد التحديد العددىّ للتمييز ، لكن العدد يذكر فى النطق قبل مميّزه ، فيكون مبهما فيحتاج إلى تمييز. وندرس العدد بقضاياه المختلفة بعد عرض تمييز الذات ، حيث تشعّب هذه القضايا.

هذه هى الأقسام الأساسية لتمييز المفرد ، أو تمييز الذات. لكن هناك ذوات أو مفردات أخرى مبهمة تحتاج إلى تمييز ، منها ما هو شبيه بالمقادير بأنواعها المختلفة بما فيها الأعداد ، ومنها ما هو غير ذلك ، ورأيت أن أدرسها بالتفصيل كلّا على حدة على النحو الآتى :

٥ ـ الشبيه بالمقدار :

مما ينتصب على التمييز ما يشبه أنواع المقادير التى ذكرناها سابقا فى كونها مميزة لمبهم سابق عليها ، يحتاج إلى تحديد لجهة دلالية من جهاته المتعددة. ومن أنواع المشبهات بالمقدار :

أ ـ الشبيه بالوزن :

مثال ذلك : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧](١). حيث انتصبت النكرة الجامدة المنصوبة (خيرا) على التمييز ، فقد ميزت (مثقال ذرة) ، وهو فيه شبه الوزن ، فالمثقال قد يكون وسيلة للوزن.

__________________

(١) (من) اسم شرط جازم مبنى على السكون فى محل رفع ، مبتدأ ، خبره جملتا الشرط والجواب. (يعمل) فعل الشرط مضارع مجزوم ، وعلامة جزمه السكون ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : هو. (مثقال) مفعول به منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة. (ذرة) مضاف إليه مجرور ، وعلامة جره الكسرة. (خيرا) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة. (يره) فعل جملة جواب الشرط مجزوم ، وعلامة جزمه حذف حرف العلة ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : هو ، وضمير الغائب مبنى فى محل نصب ، مفعول به.

٢٧٠

ومنه : اشتريت صندوقا فاكهة ، وزجاجتين زيتا ، وأخرى خلا. فكل من :فاكهة وزيت وخل تمييز لصندوق وزجاجتين وأخرى ، وكلها فيها شبه بالوزن ، حيث إن التمييز مما يوزن.

ب ـ الشبيه بالكيل :

مثال ذلك : أعددت ذنوبا ماء ، حيث (الذنوب) يشبه الشىء المكيل به ، وهو قابل للانتقال من اسم إلى أسماء لا حصر لها ، فأصبح مبهما يحتاج إلى تمييز يتمثل فى النكرة الجامدة المنصوبة التى ذكرت بعده ، لتحدد جهة واحدة من هذه الجهات المتعددة التى يصلح لها ، وهى (ماء).

ومثل الشبيه بالمكيل أن تقول : اشتريت جبابرا ، أو : جوالا أرزا ، أحضرت لنا نحيا سمنا ، واحتجنا إلى راقود خلا ، عنده منوان سمنا. ويمكن أن نعدّ بعض هذه المبهمات شبيهة بالموزون تبعا لكيفية استخدامها فى المجتمع ، فكل ما يختصّ من وعاء مستخدم للنكرات فى حياتنا العامة فهو بمثابة الشبيه بالكيل ، وما يميزه فشبيه بالمكيل.

ج ـ الشبيه بالمساحة :

مثاله : ما فى السماء موضع راحة سحابا ، حيث انتصب (سحابا) على أنه تمييز لموضع الراحة ، وهو أشبه بالمساحة ، حيث يدلّ على مقدار مسحى ، وهو مبهم ، إذ يحتمل أن يكون موضعا من كلّ ما يمثل مكانا أو مساحة ؛ لذا لزمه التمييز من غيره ، فنصب مميزه (سحابا) بعد تمام الاسم (موضع) بإضافة (راحة) إليه.

ومنه أن تقول : عندنا حجرة قمحا ، وبهو أرزا ، حديقتنا نصفها مزروع شجرا ، ونصفها الآخر مزروع برسيما.

ومن الأمثلة التى تذكر فى كتب النحو منسوبة إلى تمييز المقادير أو ما يشبهها قولهم : ملء الأرض ذهبا ، بطولك رجلا. بعرضك أرضا ، بغلظه خشبا. وأرى أن (ذهبا) شبيه بالوزن ، وقد يكون شبيها بالمساحة بالنظر إلى الأرض ، وهى مساحة ، (رجلا ، وأرضا ، وخشبا) فيها شبه بالمساحة.

ومنه أن تقول : بحجمه ماء ، بكثافته غازا ، بمساحته سجادا ، ... إلخ.

٢٧١

الكنايات عن الأعداد :

مما يدرس فى هذا المجال ما يكنى به عن العدد ، من مثل : كم الاستفهامية ، وكم الخبرية ، وكأيّن ، وكذا ... والكلمات ذات الدلالات الخاصة ، مثل : بضع ، ورهط ، ... ، وأرى أن تدرس بالتفصيل بعد عرض دراسة العدد.

ملحوظة :

مما يستخدم شبيها بالمقدار أن تقول : عندى حزمة بقلا ، أو حزمتان ، أو ثلاث حزم. فتنصب (بقلا) على التمييز لحزمة أو مضاعفها. ولكننى أرى أن (بقلا) إنما هو تمييز مبين لنوع الحزمة أو الحزمتين أو الثلاث ، فتكون من الدائرة المعنوية للقول : خاتم حديدا ، وباب خشبا.

٦ ـ المماثلة والمغايرة :

المماثلة والمغايرة معنيان يربطان بين طرفين ، يكونان ـ غالبا ـ من دائرة معنوية واحدة ، أحدهما يقدر بالآخر إن نفيا باستخدام (غير) ، وإن إيجابا باستخدام (مثل) ، فهما مقداران ، أو يلحقان بما يفيد المقدار ، لذلك فهما معنيان مبهمان ، يحتاجان إلى تفسير وتوضيح ، هذا المفسر أو المبين أو الممّيز للمماثلة والمغايرة يأتى فى صورتين :

أولاهما : بذكر طرفيهما عن طريق الوصفية ، وفيه تجد (مثل أو غير) مضافا إلى المقدر به.

ثانيتهما : عن غير طريق الوصفية ، وفيه تجد (مثل أو غير) مضافا إلى ضمير المقدر به ، أما المقدّر فإنه يأتى بعدهما منصوبا ، ويكون نصبه على التمييز ؛ لأنه محدّد ومفسر لجهة المماثلة أو المغايرة.

وتفسير ما سبق أنك إذا قلت : محمد مثل على ، فإن (محمدا) فى المقدار كعلىّ ، حيث قدّرته بقدره باستخدام (مثل) ، و (مثل) هنا ربطت بين اسمين من دائرة معنوية واحدة ، وهى دائرة الإنسان ، فأصبحت وصفا لما قبلها عن طريق الإخبار ، فهى خبر لما قبلها.

٢٧٢

أما إذا قلت : على التمرة مثلها ، فإن طرفى المماثلة لم يكتملا ، حيث لم يذكر إلا طرف واحد وهو (التمرة) التى قدّر بقدرها شىء آخر ، يحتاج إليه التركيب ، وهو ما يميز أو يوضح أو يحدد جهة المماثلة المقدرة بالتمرة ، فتقول : زبدا ، ليكون (زبدا) منصوبا على التمييز للمماثلة ، ولتتمم طرفى المماثلة.

ومن أمثلة ذلك قولك : لى مثلها إبلا وشاء ، عندى غيره كتابا ، اشترى مثله قلما ، أتانى غيره ضيفا ، سأطالب بغيره حكما. تجد أن (مثل وغير) فى الأمثلة لهما موقعهما الإعرابىّ فى الجملة ، فهما على الترتيب : (مبتدأ مؤخر ، ومبتدأ مؤخر ، ومفعول به ، وفاعل ، ومجرور بالباء) ، أما ما بعدهما : (إبلا وشاء ، كتابا ، قلما ، ضيفا ، حكما) فهو منصوب على التمييز.

تلحظ إضافة : (مثل وغير) إلى ضمير المقدر به المفسّر بالتمييز المنصوب ، فتمام الاسم فى المماثلة والمغايرة هو الضمير الذى أضيف إليه (مثل وغير) ، أما (مثل وغير) فهما المميّزان لأنهما مقدار فى المعنى.

من ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : «لا تسبّوا أصحابى ، فو الّذى نفسى بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (١). حيث (ذهبا) تمييز لـ (مثل) ، لأنه شبيه بالمقدار ، أى : مقدار أحد ذهبا.

٧ ـ تمييز المفرد المبين للنوع :

مما يستخدم تمييزا للمفرد ؛ وليس دالّا على مقدار يفيد الوزن أو الكيل أو المساحة أو شبه ذلك ؛ أن تقول : عندى خاتم حديدا ، للقاعة باب خشبا ، ...

إلخ. فكلّ من (حديد وخشب) منتصب على أنه تمييز لخاتم وباب ، وليس كلّ منهما دالا على مقدار ، وإنما هو مبين لأصل مميزه ، فالعلاقة بين المميّز والتمييز إنما هى بيان للأصل أو النوع.

ومن النحاة من يجعل (حديدا وخشبا) فى موضعيهما حالا.

ومنه كذلك : هذه جبة صوفا ، وهذا قميص حريرا ، اشترى ساعة ذهبا ، وخاتما فضة ، للحديقة باب صاجا.

__________________

(١) مختصر سنن أبى داود : ٧ ـ ٣٤ / باب النهى عن سب أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

٢٧٣

٨ ـ تمييز الضمير :

يقع الضمير مبهما فى أنماط تركيبية معينة ، ويحتاج ـ حينئذ ـ إلى ما يميزه ، منها :

أ ـ الضمير الواقع فاعلا لـ (نعم وبئس):

فاعل المدح والذمّ فيه معنى الجنس ، وإن كان معرفة ، حيث يمدح الجنس كلّه أو يذمّ ، ثم يخصص منه المراد بالمدح أو الذم ، فإذا كان فاعلهما ضميرا فإنه يحتاج إلى ما يرفع الإبهام الواقع فيه من شموله الجنس ؛ ومن عدم مرجعه إلى معنى سابق عليه ، ويكون رافع الإبهام فيه نكرة منصوبة تعرب تمييزا ؛ فتقول : نعم رجلا محمد ، حيث فاعل (نعم) ضمير مستتر مميز بنكرة ، و (رجلا) تمييز للفاعل الضمير المستتر ، ومثله أن تقول : بئس صديقا الخائن. ونحن نعرف أن الضمير لا يذكر إلا إذا ذكر قبله ما يعود عليه من اسم ، فلمّا لم يذكر الاسم فى هذا التركيب وجب أن يميز الضمير بالنكرة المنصوبة ؛ لتكون عوضا من مرجع الضمير.

منه قوله تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠]. حيث ميّزت النكرة الجامدة المنصوبة (بدلا) الضمير المستتر الفاعل لفعل الذم (بئس).

وقوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف : ١٧٧]. حيث (ساء) بمعنى (بئس) ، وفاعله ضمير مستتر تقديره (هو) ، و (مثلا) تمييز مفسر للمضمر. ومنه أن تقول : نعم رجلا الصدوق. بئس عبدا الجاحد نعمة ربّه.

ب ـ الضمير الواقع بعد (ربّ):

(ربّ) حرف جر شبيه بالزائد ، لا يدخل إلا على النكرات ، فتقول : رب رجل ... ورب امرأة ... ، رب كتاب ... ، .. إلخ ، لكنه قد يدخل على الضمير ، فيأخذ الضمير صفة الإبهام ، ويحتاج حينئذ إلى تمييز ، ذلك لأن الضمير لابدّ له من مرجع يعود عليه ، وإذا وقع بعد (رب) فإنه يفتقد هذا المرجع ، ويتخذ

٢٧٤

صفة الإبهام التى تحتاج إلى تمييز ، حيث يذكر بعده نكرة منصوبة تميزه ، فتقول :

ربه رجلا صالح ، وربّه نجارا أقبل إلىّ. ويكون (رجلا) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، وهو يميز الضمير المبهم الواقع فى محلّ رفع ، مبتدأ ، وهو ضمير الغائب فى (ربّ).

ومن أمثلة ذلك قول الشاعر :

ربّه فتية دعوت إلى ما

يورث المجد دائبا فأجابوا

حيث ميزت النكرة الجامدة (فتية) الضمير المجرور لفظا بربّ ، وهو مبهم حيث سبق بـ (رب) التى لا تدخل إلّا على النكرات.

ج ـ الضمير المتعجّب منه :

الضمير المتعجب منه يحتاج إلى ما يميّزه ؛ لأن الضمير يكون لكلّ الأسماء ـ ذوات ومعانى ـ فعندما يذكر فى أسلوب تعجب فإنه يكون مبهما ؛ لأنه لا يذكر ما يرجع إليه من اسم المعنى أو اسم الذات المحدد الذى لا يقبل التنقل ، ولذلك كان فى حاجة إلى التمييز. من أمثلة ذلك أن تقول : يا له رجلا ، يا لها قصة ، يا لك ليلا. كلّ من (رجل ، وقصة ، وليل) نصب على التمييز للضمير المبهم الذى يسبقه ، ولذلك فإن كلّا منها يتضمّن (من) ، والتقدير : من رجل ، من قصة ، من ليل ، وقد صرح بها امرؤ القيس فى قوله :

فيالك من ليل كأنّ نجومه

بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل (١)

__________________

(١) (يا) حرف نداء تعجبى مبنى ، لا محل له من الإعراب. (لك) اللام : حرف جر مبنى لا محل له ، وفتح من أجل التعجب ، وكاف المخاطب مبنى فى محل جر باللام. وهو المنادى معنى ، والأسلوب تعجبى لا محل له. (من) حرف جر مبنى لا محل له. (ليل) اسم مجرور بمن ، وعلامة جره الكسرة. (كأن) حرف تشبيه مبنى لا محل له. (نجومه) اسم كأن منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، وضمير الغائب مبنى فى محل جر بالإضافة. (بكل) جار ومجرور ، وشبه الجملة متعلقة بالشد. (مغار) مضاف إليه مجرور ، وعلامة جره الكسرة. (الفتل) مضاف إليه مجرور ، وعلامة جره الكسرة. (شدت) فعل ماض مبنى على الفتح مبنى للمجهول ، والتاء للتأنيث حرف مبنى ، لا محل له إعرابيا ، ونائب الفاعل ضمير مستتر مبنى فى محل رفع. والجملة الاسمية المنسوخة فى محل جر ، نعت لليل. (بيذبل) الباء : حرف جر مبنى لا محل له. يذبل : اسم مجرور بالباء ، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة ؛ لأنه ممنوع من الصرف ، وحرك بالكسر من أجل الروى.

٢٧٥

طرق تمام الاسم

ذكرنا أن تمييز الذات يكون منصوبا عن تمام الاسم ، حيث يكون الإبهام حادثا فى الاسم الذى هو جزء كلام. وللنحاة فى تمام الاسم طرق يفرضها التركيب فى الجملة العربية ، وهى الطرق التى يفصل بها بين المضاف والمضاف إليه ، أو يكون الاسم فيها محالا إضافته ، وتنحصر فى (١) :

أ ـ التنوين : مثاله : عندى فدان قمحا ، حيث (قمحا) تمييز منصوب لـ (فدان) ، والاسم المميز تامّ بالتنوين فنصب ما ميزه ، ولو لا هذا التمام الذى كان بوساطة التنوين لما نصب ، فيقال : عندى فدان قمح ، بجر (قمح) بالإضافة.

ب ـ تقدير التنوين : كما فى : معه أحد عشر رجلا ، حيث يقدر التنوين فى (عشر) ، ومنع من ظهوره بناؤه على الفتح. فنصب (رجلا) ، وهو تمييز لتقدير التنوين ، فامتنعت الإضافة.

وما يقدر فيه التنوين كذلك : (كم) الاستفهامية ، كأن تقول : كم درسا ذاكرته؟فلتقدير التنوين نصب تمييز (كم) ، وهو (درسا).

ج ـ نون التثنية : نحو : عندى فدانان قمحا ، حيث (قمحا) تمييز منصوب لتمام ما ميزه وهو (فدانان) عن طريق وجود نون التثنية التى حجبت الإضافة ، ولو لا وجودها لقلت : عندى فدانا قمح ، بحذف النون وإثبات الإضافة.

د ـ نون جمع المذكر السالم : يمثل له بقوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف : ١٠٣] ، يختلف فيه بين المنصوب عن تمام الاسم وبين المنصوب عن تمام الكلام ، ويلحق به شبه نون جمع المذكر السالم. وتتضح فى ألفاظ العقود. وهى ملحقة بجمع المذكر السالم ، فتقول : معى عشرون طالبا ، حيث (طالبا) تمييز لعشرين منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، ونصب لتمام عشرين لوجود نون الجمع التى منعت الإضافة.

__________________

(١). المنتخب الأكمل ١٨٥ يمكن الاستزادة فى هذا الموضوع بالعودة إلى بحث للمؤلف ، بعنوان : «نظرية التمام فى النحو العربى».

٢٧٦

ه ـ الإضافة : يتحقق تمام الاسم بذكر ما أضيف إليه ، فيكون التنوين فى المضاف ظاهرا أو مقدرا ، نحو : ما فى السماء كفّ راحة سحابا ، حيث (سحابا) تمييز منصوب لكف ، وقد نصب لأن كفا اسم تمّ ذكره فى الجملة بما ذكر بعده من مضاف إليه وهو (راحة) ، فإن لم يكن (كف) منونا فإن ما أضيف إليه حمل التنوين ، إلى جانب أن الإضافة تنوب مناب التنوين ، فالتنوين والإضافة يتناوبان الاسم ، ولا يجتمعان فيه.

ويجعلون من ذلك القول : على التمرة مثلها زبدا. حيث إن الاسم (مثل) يتمّ بضمير الغائبة المضاف إليها ، وينصب (زبدا) لامتناع إضافة (مثل) إليها مع وجود الهاء.

القسم الثانى : تمييز النسبة :

وهو تمييز الجملة ، التمييز الذى يرفع إبهام العلاقة بين ركنى الجملة الأساسين ، أو بين أحدهما وفضلة ، كأن تقول : طاب الضيف ، فهذه جملة فعلية تامة الركنين ، لكن العلاقة المعنوية بين الفعل وفاعله مبهمة ؛ لأنها علاقة عامة ، تصلح أن يكون لها جهات دلالية متعددة ، حيث طيب الضيف يمكن أن يكون فى المأكل أو المشرب أو المثوى أو النفس ، ... إلخ ، وهذه العلاقة لا تتحدد إلا بتمييز منصوب ، أما سائر المنصوبات التى تصلح فى هذا التركيب كالمفعول المطلق والمفعول معه ، ولأجله ، والمفعول فيه ، والحال ... فإنها لا تحدد الدلالة النابعة من العلاقة بين الفعل (طاب) ، وفاعله (الضيف) ، ولكن هذه يمكن أن تتحدد باستخدام التمييز ، فتقول : طاب الضيف مأكلا ، أى : فى أشيائه المأكولة.

ومثله أن تقول : أتريد أن تهيننى خلقا ، حيث إهانة الإنسان تكون ذات جهات دلالية متعددة ، فتتحدد بالتمييز المنصوب (خلقا). فتمييز النسبة تمييز علاقة بين مكونات جملة ، أما تمييز الاسم فهو تمييز جهة دلالية فى ذات واحدة.

يقسم النحاة تمييز النسبة أو تمييز الجملة إلى قسمين ، أولهما : تمييز نسبة محول ، والآخر : تمييز نسبة غير محوّل ، وهذا التقسيم ينبنى على الأداء الموقعىّ للتمييز فى الجملة قبل التحويل إلى تمييز أو عدم وجود أداء موقعى ، فإن كان للتمييز أداء موقعى مفهوم فى الجملة المميزة فهو محول عن هذا الموقع ، وإن لم يكن له موقع فى الجملة المميزة فهو تمييز غير محول.

٢٧٧

أولا : تمييز النسبة المحول :

ذكرنا فيما قبل أن هناك جهات تحول أو تنقل لتمييز الجملة من أحد المواقع المعنوية والإعرابية فيها إلى موقعية التمييز ، وهذه الجهات هى :

أ ـ التحول من الابتدائية أو النقل عن الابتدائية :

كما فى قوله تعالى : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) [الكهف ٣٤](١) ، حيث إن الأصل يجوز أن يكون : مالى أكثر من مالك ، ونفرى أعز ... ، فتحول كلّ من المبتدأين (مال ، ونفر) إلى التمييز ، فنصبا ، ومنه : زيد أحسن وجها ، والتقدير :وجه زيد أحسن.

ويحلو لبعض النحاة أن يجعلوا ذلك من قبيل التحول عن المضاف ، حيث يقدرون ما سبق بالقول : وجه زيد أحسن ، ولنلحظ أن (وجها) ـ وهو التمييز المنصوب فى الجملة المقدرة ـ مبتدأ ، فهو فى رأيى تحول من الابتدائية.

ومنه قولك : إنه أبدا أقرب مصباحا ، وأعظم نارا ، إذ التقدير : إنّ مصباحه أقرب ، وإن ناره أعظم ، ومثله القول : هنّ أنتن ريحا ، وأكثر ثمنا ، وأجمل خلقا.

ب ـ التحول من الفاعلية :

هو أن يكون التمييز محولا من موقعية الفاعلية إلى موقعية التمييز ، كأن تقول :طاب محمد نفسا ، أى : طابت نفس محمد ، فتحولت النفس ـ وهى فاعل ـ إلى تمييز منصوب يزيل إبهام العلاقة بين الفعل (طاب) وفاعله (محمد).

وتقول : تفقّأ محمود شحما ، حيث الأصل : تفقأ شحم محمود ، فشحم فى الأصل فاعل ، ولكنه تحوّل إلى تمييز منصوب.

__________________

(١) (أنا) ضمير مبنى فى محل رفع ، مبتدأ. (أكثر) خبر المبتدإ مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة. (منك) جار ومجرور مبنيان ، وشبه الجملة متعلقة بأكثر. (مالا) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة. (وأعز) الواو :

حرف عطف مبنى ، لا محل له من الإعراب. أعز : معطوف على أكثر مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة.

(نفرا) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة.

٢٧٨

ومثل ذلك أن تقول : تصبب علىّ عرقا ، امتلأ الكوب ماء ، حسن الحليم عقلا ، وجاد الحكيم رأيا. حيث انتصبت الأسماء المبهمة الجامدة : (عرقا ، وماء ، وعقلا ، ورأيا) على التمييز للجملة التى تسبقها ، وقد صحّت أن تقع فى موقعية الفاعلية فى هذه الجملة.

ويجوز أن يكون منه : أجمل بالربيع هواء ، حيث التقدير : أجمل بهواء الربيع ، فيكون (هواء) فاعلا مرفوعا ، وعلامة رفعه الضمة المقدرة.

ومثل ذلك : أكرم بسمير خلقا ، وأطيب بمصر جوا.

ومن التمييز المحول عن الفاعل قول أبى طالب مخاطبا النبى صلّى الله عليه وسلّم :

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وأبشر بذاك وقرّ منك عيونا (١)

وفيه نصب (عيونا) على التمييز المحول عن الفاعلية ، حيث الأصل : وقرت عيونك.

ومن التمييز المحول عن الفاعلية قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم :٤] ، والأصل : واشتعل شيب الرأس ، فتحول الفاعل إلى تمييز منصوب.

ومثله قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤](٢) ، حيث انتصب التمييز (نفسا) ، وهو تمييز نسبة محول من الفاعلية.

__________________

(١) شرح الكافية : ١ ـ ٢٢٢.

(اصدع) فعل أمر مبنى على السكون ، والفاعل ضمير مستتر تقديره : أنت. (بأمرك) جار ومجرور ومضاف إليه ، وشبه الجملة متعلقة باصدع. (ما) حرف نفى مبنى ، لا محل له من الإعراب. (عليك) جار ومجرور مبنيان وشبه الجملة فى محل رفع خبر مقدم. (غضاضة) مبتدأ مؤخر مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة ، والجملة فى محل نصب على الحالية. (وأبشر) الواو : حرف عطف مبنى لا محل له من الإعراب. أبشر : فعل أمر مبنى على السكون ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : أنت. (بذاك) جار ومجرور مبنيان ، وشبه الجملة متعلقة بالبشر. (وقر) الواو : حرف عطف. قر : فعل أمر مبنى على السكون المقدر ، وحرك من أجل التقاء الساكنين ، وفاعله ضمير مستتر تقديره : أنت. (منك) جار ومجرور مبنيان ، وشبه الجملة متعلقة بقر. (عيونا) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة.

(٢) (إن) حرف شرط جازم مبنى على السكون ، لا محل له من الإعراب. (طبن) طاب : فعل الشرط ماض مبنى على السكون ، ونون النسوة ضمير مبنى فى محل رفع ، فاعل. (لكم) جار ومجرور مبنيان ، وشبه الجملة متعلقة بالطيب. (عن شىء) جار ومجرور ، وشبه الجملة متعلقة بالطيب. (منه) جار ومجرور

٢٧٩

ومنه قولك : يزيد إشراقا واستنارة ، يزدان كلامه فصاحة وبيانا.

وفى قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [هود : ٢٤]. (مثلا) اسم نكرة جامد منصوب على التمييز للجملة (يستويان) ، وهو منقول من الفاعلية ؛ لأن الأصل : هل يستوى مثلهما.

ومنه قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) [الزمر : ٢٩]. وفيه نصب (مثلا) بعد (يستويان) على التمييز المنقول من الفاعلية.

وقوله تعالى : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [يوسف : ٣٠]. (حبا) منصوب لأنه تمييز منقول من الفاعلية ، والتقدير : قد شغفها حبّه.

وأرى أن يكون منه قوله تعالى : (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) [الكهف : ١٨]. حيث يجوز أن يكون التقدير : ولملأك الرعب منهم ، فيكون (رعبا) تمييزا منصوبا محولا عن الفاعلية. وقد يعرب مفعولا به ثانيا.

من التراكيب التى نلحظ فيها تحول التمييز فى أحد وجهيه الإعرابيّين من الفاعلية قوله تعالى : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) [الكهف : ٩١]. حيث تعرب (خبرا) تمييزا منصوبا ، وهو محول من الفاعلية ، والتقدير : وقد أحاط خبرنا ، وقد يكون نائبا عن المفعول المطلق ؛ إذ يمكن أن نجعله مرادفا لمصدر الفعل (أحاط).

__________________

مبنيان ، وشبه الجملة فى محل جر ، صفة لشىء. (نفسا) تمييز منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة. (فكلوه) الفاء : واقعة فى جواب الشرط حرف مبنى ، لا محل له من الإعراب. كلوه : فعل أمر مبنى على حذف النون ، وواو الجماعة ضمير مبنى فى محل رفع فاعل ، وضمير الغائب مبنى فى محل نصب ، مفعول به ، والجملة فى محل جزم ، جواب الشرط. (هنيئا) نائب عن المفعول المطلق منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة ، والتقدير : أكلا هنيئا ، أو : حال منصوبة ، وعلامة نصبه الفتحة ، والتقدير : هانئين. (مريئا) مثل إعراب (هنيئا).

٢٨٠