مظلوميّة الزهراء عليها السلام

السيّد علي الحسيني الميلاني

مظلوميّة الزهراء عليها السلام

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-261-X
الصفحات: ٨٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



المطلب التاسع :

في بعض ما كان منهم مع علي والزهراء عليهما‌السلام

أي في ذكر بعض الضغائن التي بدت ، والقضايا التي وقعت ، ومن الطبيعي أنْ لا يصلنا كلّ ما وقع ، وأنْ لا تصلنا تفاصيل الحوادث ، مع الحصار الشديد المضروب علىٰ الروايات والأحاديث ، ومع ملاحقة المحدثين والرواة ، ومع منعهم من نقل الأحاديث المهمة ، وحتى مع حرق تلك الكتب التي اشتملت على مثل هذه القضايا أو تمزيقها وإعدامها بأيّ شكل من الأشكال.

فإذن ، من بعد هذه القرون المتطاولة ، ومن بعد هذه الحواجز والموانع ، لا نتوقّع أنْ يصل إلينا كلّ ما وقع ، وإنّما يمكننا العثور على قليل من ذلك القليل الذي رواه بعض المحدّثين وبعض المؤرخين.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر أهل بيته بأنّ الأُمّة ستغدر بهم ، وأنّهم

٤١

سيظهرون ضغائنهم من بعده ، وسينتقمون منه أي : سينتقمون من النبي بانتقامهم من بضعته ، لأنّها بضعته ، والإنتقام من الزهراء انتقام من النبي ، وإنّما أبقاها هذه البضعة في هذه الأُمّة ليختبر الأُمّة ، وليظهروا ما في ضمائرهم.

ولم تطل المدة ، فقد وقع الإختبار ، وكانت المدة على الأشهر أشهُر ، ثمّ عادت البضعة إلىٰ رسول الله واتّصلت اللحمة ببدنه المبارك وجسده الشريف ، وكلّ ذلك وقع.

ولكنّنا لا نتوقّع أنْ نعثر على كلّ تفاصيل تلك القضايا ، وحتّى لو عثرنا علىٰ الخمسين بالمائة من القضايا يمكننا فهم الخمسين البقيّة.

لقد رأيتم كيف يحرّفون الروايات ، حتّى تلك الكلمة القاسية التي يقولها أبو سفيان في حقّ النبي رأيتم كيف يرفعون اسم أبي سفيان ويضعون مكان الإسم كلمة قال رجل ، فكيف تتوقّعون أنْ يروي لنا الرواة كلّ ما حدث بعد رسول الله ، أو يتمكّن الرواة من نقل كلّ ما حدث ؟

وبالرغم من ذلك الحصار الشديد ، ومن ذلك المنع الأكيد ، ومن ذلك الإرعاب والتهديد ، مع ذلك ، تبلغنا أطرافٌ من أخبار ما وقع.

٤٢

ونحن لا ننقل في بحثنا هذا إلاّ من أهم مصادر أهل السنّة ، ولا نتعرّض لِما ورد في كتبنا أبداً ، وحتّى أنّا ننقل ـ قدر الإمكان ـ عن أسبق المصادر وأقدمها ، فلا ننقل في الأكثر والأغلب عن الكتب المؤلَّفة في القرون المتأخّرة.

فهنا مسائل :

٤٣
٤٤



المسألة الاُولىٰ

مصادرة ملك الزهراء عليها‌السلام وتكذيبها

وإنّنا نعتقد بأنّ تكذيب الزهراء عليها‌السلام من أعظم المصائب ، ينقل عن بعض كبار فقهائنا أنّ أحد الخطباء في أيام مصيبة الحسين عليه‌السلام قرأ جملة : « دخلت زينب على ابن زياد » وأراد أن يشرح ذلك الموقف ، فأشار إليه الفقيه الكبير الحاضر في المجلس بالصبر وبالتوقف عن قراءة بقية الرواية ، قال : لأنّا نريد أن نؤدّي حقّ هذه الجملة : « دخلت زينب على ابن زياد » وهذه مصيبة ، وما أعظمها !! دخلت زينب علىٰ ابن زياد !!

مجرّد تكذيب الزهراء سلام الله عليها وعدم قبول قولها مصيبة ما أعظمها ، ليست القضية قضية فدك ، ليست المسألة مسألة أرض وملك ، إنّما القضية ظلم الزهراء سلام الله عليها وتضييع حقّها ، وعدم إكرامها ، وإيذائها وإغضابها وتكذيبها ، ولاحظوا خلاصة

٤٥

القضية أنقلها كما في المصادر المهمة المعتبرة :

أوّلاً : لقد كانت فدك ملكاً للزهراء في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ رسول الله أعطىٰ فاطمة فدكاً ، فكانت فدك عطية من رسول الله لفاطمة.

وهذا الأمر موجود في كتب الفريقين.

أمّا من أهل السنة : فقد أخرج البزّار وأبو يعلىٰ وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : لمّا نزلت الآية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة فأعطاها فدكاً.

وهذا الحديث أيضاً مروي عن ابن عباس.

تجدون هذا الحديث عن هؤلاء الكبار وأعاظم المحدّثين في الدر المنثور (١).

ومن رواته أيضاً : الحاكم ، والطبراني ، وابن النجار ، والهيثمي ، والذهبي ، والسيوطي ، والمتقي وغيرهم.

ومن رواته : ابن أبي حاتم ، حيث يروي هذا الخبر في تفسيره ، ذلك التفسير الذي نصّ ابن تيميّة في منهاج السنة علىٰ أنّه خال من الموضوعات (٢) ، تفسير ابن أبي حاتم في نظر ابن تيميّة خال من

__________________

(١) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٤ / ١٧٧.

(٢) منهاج السنّة ٧ / ١٣.

٤٦

الموضوعات ، فهؤلاء عدّة من رواة هذا الخبر.

وقد أقرّ بكون فدك ملكاً للزهراء في حياة رسول الله ، وأنّ فدكاً كانت عطيةً منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للزهراء البتول ، غير واحد من أعلام العلماء ، ونصّوا على هذا المطلب ، منهم : سعد الدين التفتازاني ، ومنهم ابن حجر المكي في الصواعق ، يقول صاحب الصواعق : إنّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً (١).

فكانت فدك بيد الزهراء وانتزعها أبو بكر.

فلماذا انتزعها ؟ وبأيّ وجه ؟ لنفرض أنّ أبا بكر كان جاهلاً بأنّ الرسول أعطاها وملّكها ووهبها فدكاً ، فهلاّ كان عليه أن يسألها قبل الانتزاع منها ؟

وثانياً : لو كان أبو بكر جاهلاً بكون فدك ملكاً لها ، فهل كان يجوز له أنْ يطالبها بالبيّنة علىٰ كونها مالكة لفدك ؟ إنّ هذا خلاف القاعدة ، وعلى فرض أنّه كان له الحق في أنْ يطالبها البيّنة على كونها مالكة لفدك ، فقد شهد أمير المؤمنين سلام الله عليه ، ولماذا لم تقبل شهادة أمير المؤمنين ؟ قالوا : كان من اجتهاده عدم كفاية الشاهد الواحد وإنْ علم صدقه !

لاحظوا كتبهم ، فهم عندما يريدون أن يدافعوا عن أبي بكر

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٣١.

٤٧

يقولون : لعلّه كان من اجتهاده عدم قبول الشاهد الواحد وإن كان يعلم بصدق هذا الشاهد (١).

نقول : لكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل شهادة الواحد ـ وهو خزيمة ذو الشهادتين ـ وخبره موجود في كتب الفريقين ، بل إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضىٰ بشاهد واحد فقط في قضية وكان الشاهد الواحد عبدالله بن عمر ، وهذا الخبر موجود في صحيح البخاري وإنّه في جامع الاصول لابن الأثير : قضىٰ بشهادة واحد وهو عبدالله بن عمر (٢).

أكان علي في نظر أبي بكر أقل من عبدالله بن عمر في نظر النبي ؟

وثالثاً : لو سلّمنا حصول الشك لأبي بكر ، وفرضنا أنّ أبا بكر كان في شك من شهادة علي ، فهلاّ طلب من فاطمة أن تحلف ؟ فهلاّ طلب منها اليمين فتكون شهادة مع يمين ؟ وقد قضىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشاهدٍ ويمين.

راجعوا صحيح مسلم في كتاب الأقضية (٣) ، وراجعوا صحيح أبي داود (٤) بل القضاء بشاهد ويمينٍ هو الذي نزل به جبريل على

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٥٦.

(٢) جامع الأصول ١٠ / ٥٥٧.

(٣) صحيح مسلم ٥ / ١٢٨.

(٤) صحيح أبي داود ٣ / ٤١٩.

٤٨

النبي ، كما في كتاب الخلافة من كنز العمّال.

وهنا يقول صاحب المواقف وشارحها : لعلّه لم ير الحكم بشاهد ويمين (١).

نقول : فكان عليه حينئذ أنْ يحلف هو ، ولماذا لم يحلف والزهراء ما زالت مطالبة بملكها ؟

وهذا كلّه بغضّ النظر عن عصمة الزهراء ، بغضّ النظر عن عصمة علي عليه‌السلام ، لو أردنا أن ننظر إلى القضيّة كقضيّة حقوقيّة يجب أن تطبق عليها القواعد المقررة في كتاب الأقضية.

وأيضاً ، فقد شهد للزهراء ولداها الحسن والحسين ، وشهد للزهراء أيضاً أُم أيمن ، ورسول الله يشهد بأنّها من أهل الجنّة ، كما في ترجمتها من كتاب الطبقات لابن سعد وفي الإصابة لابن حجر (٢).

ثمّ نقول : سلّمنا ، إنّ فاطمة وأهل البيت غير معصومين ، وسلّمنا أنّ فدكاً لم تكن بيد الزهراء سلام الله عليها في حياة النبي ، فلا ريب أنّ الزهراء من جملة الصحابة الكرام ، أليس كذلك ؟! تنزّلنا عن كونها بضعة رسول الله ، تنزّلنا عن كونها معصومة ، لا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ٣٥٦.

(٢) الإصابة في معرفة الصحابة ٤ / ٤٣٢.

٤٩

إشكال في أنّها من الصحابة ، وقد كان لأحد الصحابة قضية مشابهة تماماً لقضيّة الزهراء ، وقد رتّب أبو بكر الأثر على قول ذلك الصحابي وصدّقه في دعواه.

هذا كلّه بعد التنزّل عن عصمتها ، عن شهادة علي والحسنين وأُم أيمن ، وبعد التنزّل عن كون فدك ملكاً لها في حياة النبي.

استمعوا إلى القضية أنقلها لكم ، ثمّ لاحظوا تبريرات كبار العلماء لتلك القضية :

أخرج الشيخان عن جابر بن عبدالله الأنصاري : إنّه لمّا جاء أبا بكر مال البحرين ، وعنده جابر ، قال جابر لأبي بكر : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي : إذا أتى مال البحرين حثوت لك ثمّ حثوت لك ثمّ حثوت لك ، فقال أبو بكر لجابر : تقدّم فخذ بعددها.

فنقول : رسول الله ليس في هذا العالم ، يدّعي جابر أنّ رسول الله قد وعده لو أتى مال البحرين لأعطيتك من ذلك المال كذا وكذا ، وتوفي رسول الله وجاء مال البحرين بعد رسول الله ، وأبو بكر خليفة رسول الله ، عندما وصل هذا المال أتاه جابر فقال له : إنّ رسول الله قال لي كذا ، ورتّب أبو بكر الأثر على قوله وصدّقه وأعطاه من ذلك المال كما أراد.

هذه هي القضية ، وتأمّلوا فيها ، وهي موجودة في الصحيحين.

٥٠

فلاحظوا ما يقوله شرّاح البخاري ، كيف يجوز لأبي بكر أنْ يصدّق كلام صحابي ودعواه على رسول الله ، وقد رحل رسول الله عن هذا العالم ، ثمّ أعطاه من مال المسلمين ، من بيت المال ، بقدر ما ادّعاه ، ولم يطلب منه بيّنة ، ولا يميناً !! لاحظوا ماذا يقولون !!

يقول الكرماني في كتابه الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري وهو من أشهر شروح البخاري يقول : وأمّا تصديق أبي بكر جابراً في دعواه ، فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من كذب عَلَيّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار » ، فهو وعيد ، ولا يُظنّ بأنّ مثله ـ مثل جابر ـ يقدم على هذا (١).

فإذا كنتم لا تظنّون بجابر أنْ يقدم على هذا الشيء ، ويكذب علىٰ رسول الله ، بل بالعكس ، تظنّون كونه صادقاً في دعواه ، فهلاّ ظننتم هذا الظن بحقّ الزهراء ـ بعد التنزّل عن كلّ ما هنالك كما كرّرنا ـ وقد فرضناها مجرّد صحابيّة كسائر الصحابة !

ثمّ لاحظوا قول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري يقول : وفي هذا الحديث دليل علىٰ قبول خبر الواحد العدل من الصحابة ولو [ لو هذه وصلية ] جرّ ذلك نفعاً لنفسه (٢).

__________________

(١) الكواكب الدراري في شرح البخاري ١٠ / ١٢٥.

(٢) فتح الباري في شرح البخاري ٤ / ٣٧٥.

٥١

فالحديث يدلّ على قبول خبره ، لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحة دعواه ، وهلاّ فعل هكذا مع الزهراء التي أخبرت بأنّ رسول الله نحلني فدكاً ، أعطاني فدكاً ، ملّكني فدكاً !!

ويقول العيني في كتاب عمدة القاري في شرح صحيح البخاري قلت : إنّما لم يلتمس شاهداً منه ـ أي من جابر ـ لأنّه عدل بالكتاب والسنّة ، أمّا الكتاب فقوله تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وقوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) ، فمثل جابر إنْ لم يكن من خير أُمّة فمن يكون ؟ وأمّا السنّة فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من كذب عَلَيّ متعمداً ...

لاحظوا بقية كلامه يقول : ولا يظن بمسلم فضلاً عن صحابي أنْ يكذب علىٰ رسول الله متعمّداً (١).

فكيف نظن بجابر هكذا ؟ فكان يجوز لأبي بكر أنْ يصدّق جابراً في دعواه ، فلِمَ لم يصدق الزهراء في دعواها ؟ وهل كانت أقل من جابر ؟ ألم تكن من خير أُمّة أُخرجت للناس ؟ أيظن بها أن تتعمّد الكذب على رسول الله ؟ وأنت تقول : لا يظن بمسلم فضلاً عن صحابي أنْ يكذب متعمّداً علىٰ رسول الله ؟

أقول : ما الفرق بين قضية جابر وقضية الصدّيقة الطاهرة سلام

__________________

(١) عمدة القاري في شرح البخاري ١٢ / ١٢١.

٥٢

الله عليها ، بعد التنزّل عن كلّ ما هنالك ، وفرضها واحداً أو واحدة من الصحابة فقط ؟ ما الفرق ؟ لماذا يعطىٰ جابر ؟ ولماذا يكون الخبر الواحد هناك حجة ؟ ولماذا لا يكذَّب جابر بل يصدّق ويترتّب الأثر على قوله بلا بيّنة ولا يمين ولا ولا ؟ ولماذا ؟ ولماذا ؟ ولماذا ؟

إذن ، هناك شيء آخر ...

إذن ، من وراء القضيّة ـ قضيّة الزهراء ـ شيء آخر ...

فرجعت فاطمة خائبة إلى بيتها ...

ثمّ جاءت مرّةً أُخرىٰ لتطالب بفدك وغير فدك من باب الإرث من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ فدكاً أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب بالإجماع ، وكلّ ما يكون كذا فهو ملك لرسول الله بالإجماع ، وكلّ ما يتركه المسلم من ملك أو من حق فإنّه لوارثه من بعده بالاجماع ، والزهراء أقرب الناس إلى رسول الله في الإرث بالإجماع.

هذه مقدمات أربع ، وكلّها مترتبة متسلسلة.

أخرج البخاري ومسلم عن عائشة ـ واللفظ للأوّل ـ إنّ فاطمة عليها‌السلام بنت النبي أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي عن خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله قال : « لا نورّث ما تركنا صدقة » ، إنّما

٥٣

يأكل آل محمّد في هذا المال ، وإنّي والله لا أُغيّر شيئاً من صدقة رسول الله عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله. فأبىٰ أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته ، فلم تكلّمه حتّىٰ توفّيت ، وعاشت بعد النبي ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلّىٰ عليها ، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة (١).

وقضية مطالبة الزهراء بفدك وغير فدك من باب الإرث قضية كتبت فيها الكتب الكثيرة منذ قديم الأيّام ، وخطبتها سلام الله عليها في هذه القضية خطبة خالدة تذكر على مدىٰ الأيّام ، وهنا أيضاً نسأل ونتسائل فنقول :

كيف يكون إخبار أبي سعيد وابن عباس وشهادة علي والحسنين وغيرهم في أن رسول الله أعطىٰ فدكاً للزهراء ، هذه الإخبارات والشهادات كلها غير مقبولة ، ويكون خبر أبي بكر وحده في أنّ الأنبياء لا يورّثون مقبولاً ؟ لاحظوا آراء العلماء في هذه القضيّة ، فلقد اختلفت آراؤهم واضطربت كلماتهم اضطراباً فاحشاً ، وكان أوجه حلّ للقضيّة أنْ يقال بأنّ الخبر متواتر ، ولم

__________________

(١) صحيح البخاري باب غزوة خيبر ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير.

٥٤

يكن أبو بكر لوحده الراوي لهذا الخبر ، وإنّما أبو بكر أحد الرواة من الصحابة ، وهنا نقاط :

النقطة الاُولىٰ : كيف لم يسمع هذا الحديث أحد من رسول الله ؟ ولم ينقله أحد ؟ وحتّى أبو بكر لم يُسمع منه هذا الخبر والإخبار به عن رسول الله إلىٰ تلك الساعة ؟

النقطة الثانية : كيف لم يسمع أهل بيته هذا الحديث ؟ وحتّى ورثته لم يسمعوا هذا الحديث ؟ ولذا أرسلت زوجاته عثمان إلى أبي بكر يطالبن بسهمهنّ من الإرث ! هلاّ قال لهنّ عثمان ـ في الأقل ـ إنّ رسول الله قال كذا ؟ ولماذا مشىٰ إلى أبي بكر وبلّغه طلب الزوجات ؟

وهنا كلمة لطيفة للفخر الرازي سجّلتها ، هذه الكلمة في تفسيره يقول : إنّ المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعلي والعباس ، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين ، وأمّا أبو بكر فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة ، لأنّه ما كان ممّن يخطر بباله أنّه يورّث من الرسول ، فكيف يليق بالرسول أن يبلّغ هذه المسألة إلى من لا حاجة له إليها ، ولا يبلّغها إلى من له إلى معرفتها أشدّ الحاجة ؟ (١).

__________________

(١) التفسير الكبير ٩ / ٢١٠.

٥٥

النقطة الثالثة : إنّه لو تنزّلنا عن كلّ ذلك ، فإنّ دعوى تواتر الخبر كاذبة ، لأنّهم ينصّون على انفراد أبي بكر بهذا الخبر ، وقد ذكروا ذلك في مباحث حجّية خبر الواحد ، ومثّلوا بهذا الخبر من جملة ما مثّلوا ، وإن كنتم في شكٍ من ذلك فارجعوا إلى : مختصر ابن الحاجب (١) ، والمحصول في علم الأصول (٢) للفخر الرازي ، والمستصفىٰ في علم الأصول (٣) للغزّالي ، والإحكام في أصول الأحكام (٤) للآمدي ، وكشف الأسرار في شرح اصول البزدوي (٥) للبخاري ، وغير هذه الكتب.

مضافاً إلى هذا ، هناك في الأحاديث أيضاً شواهد على انفراد أبي بكر بهذا الحديث ، فراجعوا مثلاً : كتاب كنز العمال (٦).

وحتّى المتكلّمون أيضاً يقرّون بانفراد أبي بكر بهذا الحديث ، فراجعوا : شرح المواقف ، (٧) وشرح المقاصد (٨) ، بل أقول في :

__________________

(١) المختصر في علم الأصول ٢ / ٥٩ بشرح العضد.

(٢) المحصول في علم الأصول ٢ / ٨٥.

(٣) المستصفى في علم الأصول ٢ / ١٢١.

(٤) الإحكام في أصول الأحكام ٢ / ٧٥ و ٣٤٨.

(٥) كشف الأسرار ٢ / ٦٨٨.

(٦) كنز العمال ١٢ / ٦٠٥ ح ١٤٠٧١.

(٧) شرح المواقف ٨ / ٣٥٥.

(٨) شرح المقاصد ٥ / ٢٧٨.

٥٦

النقطة الرابعة : إنّ أبا بكر أيضاً ليس من رواة هذا الحديث ، لا أنّه منفرد به ، بل إنّ هذا الحديث موضوع ، وضعه بعض الناس دفاعاً عن أبي بكر ، وأبو بكر في تلك القضيّة لم يكن عنده جواب ، حتّى بهذا الحديث لم يستدل ، وهذا ما يقوله الحافظ عبدالرحمن بن يوسف ابن خراش ، إنّه يقول : هذا الحديث باطل ، وضعه مالك بن أوس بن الحدثان ».

وهو الراوي للقصّة ، فلقد ذكر الحافظ ابن عدي بترجمة الحافظ ابن خراش المتوفىٰ سنة ٢٨٣ ه‍ الذي ألّف جزئين في مثالب الشيخين قال : سمعت عبدان يقول : قلت لابن خراش : حديث ما تركنا صدقة ؟ قال : باطل ، أتّهم مالك بن أوس بالكذب (٣).

فكيف يريدون رفع اليد عن محكمات القرآن الحكيم بخبر موضوع يحكم ببطلانه هذا الحافظ الكبير ، الذي لأجل هذا الحكم بالنسبة إلى هذا الحديث ، ولأجل تأليفه جزئين في مثالب الشيخين ، رموه بالرفض ، ومع ذلك كلّ كتبهم مملوءة بأقواله وآرائه في الحديث والرجال.

لاحظوا كيف يتهجّم عليه الذهبي يقول : هذا والله الشيخ المعثّر الذي ضلّ سعيه ، فإنّه كان حافظ زمانه ، وله الرحلة الواسعة

__________________

(١) الكامل في الضعفاء ٥ / ٥١٨.

٥٧

والإطلاع الكثير والإحاطة ، وبعد هذا فما انتفع بعلمه [ وكأنّ الإنتفاع بالعلم يكون فيما إذا كان ما يقوله في صالح القوم !! ] فلا عتب على حمير الرافضة وحوافر جزّين ومشغرىٰ » (١).

هذه بلاد في جبل عامل في جنوب لبنان من المناطق الشيعية البحتة ، فلا عتب على حمير الرفضة أو الرافضة وحوافر جزّين ومشغرىٰ !!

فظهر أن هذه القضية ـ قضية غصب فدك وتكذيب الزهراء وأهل البيت ـ من جملة القضايا التي أخبر عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ الفؤاد ليقطر دماً عندما يكتب الإنسان الحرّ الأبي مثل هذه القضايا أو يقرؤها أو يرويها ، ولكن أُريد أنْ اُسيطر على أعصابي ، وأقرأ لكم القضايا بقدر ما توصّلت إليه ، لتكونوا على بصيرةٍ أو لتزدادوا بصيرة.

__________________

(١) تذكرة الحفّاظ ٢ / ٦٨٤ ، وانظر : سير أعلام النبلاء ١٣ / ٥٠٩ ، ميزان الاعتدال ٢ / ٦٠٠.

٥٨



المسألة الثانية

إحراق بيتها عليها‌السلام

وقد ذكرنا أنّ القوم قد منعوا من نقل القضايا والحوادث ، وجزئيّات الأمور ، وتفاصيل الوقائع ، أتتوقّعون أن ينقل لكم البخاري أنّ فلاناً وفلاناً وفلاناً أحرقوا دار الزهراء بأيديهما ؟! بهذا اللفظ تريدون ؟! لقد وجدتم البخاري ومسلماً وغيرهما يحرّفون الأحاديث التي ليس لها من الحسّاسيّة والأهميّة ولا عشر معشار ما لهذه المسألة.

إنّ إحراق بيت الزهراء من الأُمور المسلّمة القطعيّة في أحاديثنا وكتبنا ، وعليه إجماع علمائنا ورواتنا ومؤلّفينا ، ومن أنكر هذا أو شكّ فيه أو شكّك فيه فسيخرج عن دائرة علمائنا ، وسيخرج عن دائرة أبناء طائفتنا كائناً من كان.

أمّا في كتب أهل السنّة ، فقد جاءت القضيّة على أشكال ، وأنا

٥٩

قد رتّبت القضايا والروايات والاخبار في المسألة ترتيباً ، حتّىٰ لا يضيع عليكم الأمر ولا يختلط ، وحتّىٰ تكونوا على يقظة ممّا يفعلون في نقل مثل هذه القضايا والحوادث فإنّ القدر الذي ينقلونه أيضاً يتلاعبون به ، أمّا الذي لم ينقلوه ، أمّا الذي منعوا عنه ، أمّا الذي تركوه عمداً ، فذاك أمر آخر ، فالذي نقلوه كيف نقلوه ؟ وسأذكر لكم ما يتعلّق بهذه المسألة تحت عناوين :

١ ـ التهديد بالإحراق :

بعض الأخبار والروايات تقول بأنّ عمر بن الخطّاب قد هدّد بالإحراق ، فكان العنوان الأول التهديد ، وهذا ما تجدونه في كتاب المصنّف لابن أبي شيبة ، من مشايخ البخاري المتوفىٰ سنة ٢٣٥ ه‍ ، يروي هذه القضيّة بسنده عن زيد بن أسلم ، وزيد عن أبيه أسلم وهو مولىٰ عمر ، يقول :

حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله ، كان علي والزبير يدخلان علىٰ فاطمة بنت رسول الله ، فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم ، فلمّا بلغ ذلك عمر بن الخطّاب ، خرج حتّى دخل علىٰ فاطمة فقال : يا بنت رسول الله ، والله ما أحد أحبّ إلينا من أبيك ، وما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك ، وأيم الله ما ذاك بمانعي إنْ اجتمع هؤلاء

٦٠