تهذيب اللغة - ج ١

محمّد بن أحمد الأزهري

تهذيب اللغة - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الأزهري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

لنا أبو الفضل المنذريُّ هذه الكتبَ ، إلّا ما فاته منها ، عن أبي شُعيب الحَرَّاني عن يعقوب. قال أبو الفضل : سمعتُ الحَرَّاني يقول : كتبت عن يعقوب بن السكيت من سنة خمس وعشرين إلى أن قُتِل قال : وقُتل قبل المتوكل بسنة. وكان يؤدِّب أولادَ المتوكل. قال : وقُتل المتوكِّل سنة سبعٍ وأربعين.

قال الحرَّاني : وقَتل المتوكِّل يعقوبَ بن السكيت ، وذلك أنه أمره أن يشتِم رجلاً من قُريش وأن يَنال منه ، فلم يَفعَل ، فأمر القرشيَّ أن ينال منه فنال منه ، فأجابه يعقوب ، فلما أن أجابه قال له المتوكِّل : أمرتك أن تفعلَ فلم تفعلْ فلمّا أن شَتَمكَ فعلت! فأمر به فضُرب ، فحمِل من عنده صريعاً مقتولاً ، ووجّه المتوكِّل من الغد إلى ابن يعقوب عشرة آلاف درهم دِيَته.

قلت : وقد حُمِل إلينا كتابٌ كبير في «الألفاظ» مقدار ثلاثين جلداً ونُسِب إلى ابن السكيت ، فسألت المنذريّ عنه فلم يَعرفْه ، وإلى اليوم لم أقف على مؤلف الكتاب على الصحَّة. وقرأت هذا الكتابَ وأعلمتُ منه على حروف شككتُ فيها ولم أعرفْها ، فجاريتُ فيها رجلاً من أهل الثَّبَت فعرفَ بعضَها وأنكر بعضَها ، ثم وجدتُ أكثر تلك الحروف في كتاب «الياقوتة» لأبي عُمر. فما ذكرتُ في كتابي هذا لابن السكيت من كتاب «الألفاظ» فسبيله ما وصفْتُه ، وهو غير مسموعٍ فاعلمْه.

ومن هذه الطبقة : أبو سعيد البغدادي الضرير : وكان طاهر بن عبد الله استقدَمه من بغداد ، فأقام بنيسابور وأملى بها كتباً في معاني الشعر والنوادر ، وردَّ على أبي عبيد حروفاً كثيرة من كتاب «غريب الحديث». وكان لقي ابن الأعرابي وأبا عمرو الشيبانيّ. وحفظ عن الأعرابي نكتاً كثيرة. وقدم عليه القتيبيُّ فأخذ عنه. وكان شِمر وأبو الهيثم يوثِّقانه ويثنيان عليه ، وكان بينه وبين أبي الهيثم فضلُ مودّةٍ. وبلغني أنه قال : يؤذيني أبو الهيثم في الحسين بن الفضل وهو لي صديق.

فما وقع في كتابي هذا لأبي سعيد فهو مما وجدته لِشمر بخطِّه في مؤلَّفاته.

ومن هذه الطبقة : أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن هانىء النيسابوري : أخبرني أبو الفضل المنذريّ أنه سمع أبا عليّ الأزديّ يقول : سمعت الهذيل بن النضر بن بارح يَحكِي عن أبي عبد الرحمن بن هانىء أنه قال : أنفق أبي على الأخفش اثني عشر ألف دينار.

قال أبو علي : وبلغني أن كتب أبي عبد الرحمن بيعت بأربعمائة ألف درهم.

قال : وسمعت شمراً يقول : كنت عند أبي عبد الرحمن فجاءه وكيل له يحاسبه ،

٢١

فبقي له عليه خمسمائة درهم ، فقال : أيْشٍ أصنعُ به؟ قال : تصدَّقْ به.

قال : وكان أعدّ داراً لكلّ من يَقدَم عليه من المستفيدين ، فيأمر بإنزاله فيها ويُزيح علّته في النفقة والوَرَق ، ويوسِّع النسخ عليه.

قلت : ولابن هانىء هذا كتابٌ كبير يُوفي على ألفي ورقة في «نوادر العرب وغرائب ألفاظها» ، وفي «المعاني والأمثال». وكان شِمر سمع منه بعضَ هذا الكتاب وفرّقه في كتبه التي صنّفها بخطه. وحُمِل إلينا منه أجزاء مجلدة بسوادٍ بخطٍّ متقَن مضبوط. فما وقع في كتابي لابن هانىء فهو من هذه الجهة.

ومن هذه الطبقة أبو معاذ النحوي المَرْوَزيّ ، وأبو داود سليمان بن معبد السِّنجي : وسِنْج : قرية بمَرْو.

فأمّا أبو معاذ فله كتابٌ في القرآن حسن. وأما أبو داود فإنه جالسَ الأصمعيّ دهراً وحفظ عنه آداباً كثيرة ، وكتب مع ذلك الحديث. وكان محمد بن إسحاق السعدي لقيه وكتب عنه ووثّقه ، وسأله عن حروف استغربها في الحديث ففسَّرها له.

ويتلو هذه الطبقة أبو عمرو شِمْر بن حَمْدويه الهَرويّ : وكانت له عناية صادقة بهذا الشأن ، رحل إلى العراق في عنفوان شبابه فكتب الحديث ، ولقي ابن الأعرابي وغيره من اللغويين ، وسمع دواوين الشعر من وجوه شتّى ، ولقي جماعةً من أصحاب أبي عمرو الشيباني ، وأبي زيد الأنصاري ، وأبي عبيدة ، والفرّاء. منهم : الرياشيُّ ، وأبو حاتم ، وأبو نصر ، وأبو عدنان ، وسلمة بن عاصم ، وأبو حسّان. ثم لمّا رجع إلى خراسان لقِيَ أصحاب النضر بن شُمَيل ، والليث بن المظفر ، فاستكثر منهم.

ولما ألقى عصاه بهراة ألّف كتاباً كبيراً في «اللغات» أسّسه على الحروف المعجمة وابتدأ بحرف الجيم ، فيما أخبرني أبو بكر الإيادي وغيره ممن لقيه ، فأشبعه وجوّده ، إلّا أنه طوّله بالشواهد والشعر والروايات الجمّة عن أئمة اللغة وغيرهم من المحدثين ، وأودعه من تفسير القرآن بالروايات عن المفسِّرين ، ومن تفسير غريب الحديث أشياء لم يسبقه إلى مثله أحدٌ تقدّمه ، ولا أدرك شأوه فيه من بعده. ولما أكمل الكتاب ضنَّ به في حياته ولم يُنْسِخْه طُلَّابَه ، فلم يُبارَك له فيما فعله حتى مضى لسبيله. فاختزلَ بعضُ أقاربه ذلك الكتابَ من تركته ، واتصل بيعقوب بن الليث السِّجزيّ فقلّده بعض أعماله واستصحبه إلى فارس ونواحيها. وكان لا يفارقه ذلك الكتابُ في سفر ولا حضر. ولمّا أناخ يعقوب بن الليث بسِيبِ بني ماوان من أرض السواد وحطّ بها سَواده ، وركب في جماعة المقاتلة من عسكره مقدِّراً لقاء الموفَّق وأصحاب السلطان ، فجُرَّ الماء من

٢٢

النهروان على معسكره ، فغرِق ذلك الكتاب في جملة ما غرق من سواد العسكر.

ورأيت أنا من أوّل ذلك الكتاب تفاريق أجزاء بخط محمد بن قَسْورَة ، فتصفَّحتُ أبوابها فوجدتها على غاية الكمال. والله يغفر لأبي عمرو ويتغمدُ زلته.

والضنُّ بالعلم غير محمود ولا مبارَك فيه.

وكان أبو تراب الذي ألف كتاب «الاعتقاب» قدم هَرَاة مستفيداً من شِمْر ، وكتب عنه شيئاً كثيراً. وأملى بهراة من كتاب «الاعتقاب» أجزاء ثم عاد إلى نيسابور وأملى بها باقيَ الكتاب. وقد قرأت كتابه فاستحسنته ، ولم أره مجازِفاً فيما أودَعه ، ولا مصحِّفاً في الذي ألّفه.

وما وقع في كتابي لأبي ترابٍ فهو من هذا الكتاب.

وتوفي شمر رَحِمه الله ـ فيما أخبرني الإيادي ـ سنة خمس وخمسين ومائتين.

وكان أبو الهيثم الرازي : قدِم هراة قبل وفاة شِمر بِسُنَيَّاتٍ فنظر في كتبه ومُصَنَّفاته وعَلِقَ يَرُدُّ عليه ، فَنُمِي الخَبَرُ إلى شِمْر فقال : «تَسَلَّحَ الرازيّ عليّ بكتبي!» وكان كما قال ؛ لأني نظرتُ إلى أجزاء كثيرة من أشعار العرب كتبها أبو الهيثم بخطِّه ثم عارضها بنسخ شمر التي سمعها من الشاه صاحب المؤرّج ، ومن ابن الأعرابي ، فاعتبرَ سماعَه وأصلح ما وجد في كتابه مخالفاً لخطّ شِمر بما صحَّحه شِمر.

وكان أبو الهيثم رَحِمه الله عِلمُه على لسانه ، وكان أعذبَ بياناً وأفطنَ للمعنى الخفيِّ ، وأعلم بالنحو من شِمر وكان شمر أروى منه للكتب والشِّعر والأخبار ، وأحفظَ للغريب ، وأرفقَ بالتصنيف من أبي الهيثم.

وأخبرني أبو الفضل المنذري أنه لازمَ أبا الهيثم سنين ، وعرض عليه الكتب ، وكتب عنه من أماليه وفوائده أكثر من مائتي جِلد ، وذكر أنه كان بارعاً حافظاً صحيح الأدب ، عالماً ورعاً كثير الصلاة ، صاحبَ سُنَّة. ولم يكن ضنيناً بعلمه وأدبه.

وتوفي سنة ست وسبعين ومائتين ، رَحِمه الله.

وما وقع في كتابي هذا لأبي الهيثم فهو مما أفادنيه عنه أبو الفضل المنذريّ في كتابه الذي لقّبه «الفاخر والشامل». وفي الزيادات التي زادها في «معاني القرآن» للفرّاء ، وفي كتاب «المؤلَّف» ، وكتاب «الأمثال» لأبي عبيد.

ومن هذه الطبقة من العراقيين أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني : الملقّب بثعلب ، وأبو العباس محمد بن يزيد الثُّمَالي الملقَّب بالمبرّد.

٢٣

وأجمع أهل هذه الصناعة من العراقيين وغيرهم أنهما كانا عالِميْ عصرهما ، وأن أحمد بن يحيى كان واحدَ عصره. وكان محمد بن يزيد أعذبَ الرجلين بياناً وأحفظهما للشعر المحدَث ، والنادرة الطريفة ، والأخبار الفصيحة ، وكان من أعلم الناس بمذاهب البصريين في النحو ومقاييسه.

وكان أحمد بن يحيى حافظاً لمذهب العراقيين ، أعني الكسائي والفرّاء والأحمر ، وكان عفيفاً عن الأطماع الدنية ، متورّعاً مِن المكاسب الخبيثة.

أخبرني المنذري أنه اختلف إليه سنةً في سماع كتاب «النوادر» لابن الأعرابي ، وأنه كان في أذنه وَقْر ، فكان يتولى قراءة ما يُسمَع منه. قال : وكتبت عنه من أماليه في «معاني القرآن» وغيرها أجزاء كثيرة ، فما عرَّض ولا صرَّح بشيءٍ من أسباب الطمع.

قال : واختلفت إلى أبي العباس المبرد وانتخبت عليه أجزاءً من كتابيه المعروفَين «بالروضة» و «الكامل». قال : وقاطعته من سماعها على شيءٍ مسمَّى ، وإنَّه لم يأذن له في قراءة حكاية واحدة ممَّا لم يكن وقع عليه الشرط.

قلت : ويتلو هذه الطبقة :

طبقة أخرى أدركناهم في عصرنا

منهم : أبو إسحاق إبراهيم بن السرِيّ الزّجاج النحوي ، صاحب كتاب «المعاني» في القرآن ، حضرتُه ببغداد بعد فراغه من إملاء الكتاب ، فألفيت عنده جماعةً يسمعونه منه. وكان متقدِّماً في صناعته ، بارعاً صدوقاً ، حافظاً لمذاهب البصريين في النحو ومقاييسه. وكان خدم أبا العباس المبرد دهراً طويلاً.

وما وقع في كتابي له من تفسير القرآن فهو من كتابه. ولم أتفرغ ببغداد لسماعه منه. ووجدت النسخَ التي حُملت إلى خراسان غير صحيحة ، فجمعتُ منها عدّة نسخ مختلفة المخارج ، وصرفت عنايتي إلى معارضةِ بعضها ببعض حتى حصَّلت منها نسخة جيّدة.

ومنهم : أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشّار الأنباري النحوي : وكان واحدَ عصره ، وأعلمَ من شاهدتُ بكتاب الله ومعانيه وإعرابه ، ومعرفته اختلاف أهل العلم في مُشْكِله. وله مؤلفات حسان في علم القرآن. وكان صائناً لنفسه ، مقدَّماً في صناعته ، معروفاً بالصدق حافظاً ، حسن البيان عذبَ الألفاظ ، لم يُذكر لنا إلى هذه الغاية من الناشئين بالعراق وغيرها أحد يخلُفُه أو يسدُّ مسدُّه.

٢٤

ومن هذه الطبقة : أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عَرَفة الملقب بنِفْطَويه : وقد شاهدته فألفيتُه حافظاً للغات ومعاني الشعر ومقاييس النحو ، ومقدَّماً في صناعته. وقد خدمَ أبا العباس أحمد بن يحيى وأخذ عنه النحو والغريب ، وعُرِف به.

وإذ فرغنا من ذكر الأثبات المتقنين ، والثقات المبرِّزين من اللغويين ، وتسميتهم طبقةً طبقة ، إعلاماً لمن غَبِيَ عليه مكانُهم من المعرفة ، كي يعتمدوهم فيما يجدون لهم من المؤلفات المرويَّة عنهم ، فلنذكر بعقب ذكرهم أقواماً اتَّسموا بسمة المعرفة وعلم اللغة ، وألَّفوا كتباً أودعوها الصحيح والسَّقيم ، وحشَوْها ب «المزال المُفْسَد» ، والمصَّحف المغيّر ، الذي لا يتميّز ما يصحّ منه إلّا عند النِّقاب المبرِّز ، والعالم الفطِن ، لنحذِّر الأغمار اعتمادَ ما دوَّنوا ، والاستنامةَ إلى ما ألَّفوا.

فمن المتقدمين : الليث بن المظفر : الذي نَحَلَ الخليل بن أحمد تأليف كتاب «العين» جملةً لينفِّقه باسمه ، ويرغِّب فيه مَنْ حوله. وأُثبتَ لنا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ الفقيه أنه قال : كان الليث بن المظفَّر رجلاً صالحاً ، ومات الخليل ولم يفرغ من كتاب «العين» ، فأحبَّ الليث أن ينفِّق الكتابَ كلَّه ، فسمَّى لسانه الخليل ، فإذا رأيت في الكتاب «سألت الخليل بن أحمد» ، أو «أخبرني الخليل بن أحمد» فإنه يعني الخليل نفسَه. وإذا قال : «قال الخليل» فإنما يعني لسان نفسه. قال : وإنما وقع الاضطراب في الكتاب من قِبَل خليل الليث.

قلت : وهذا صحيحٌ عن إسحاق ، رواه الثقات عنه.

وأخبرني أبو الفضل المنذري أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى عن كتاب «العين» فقال : ذاك كتابٌ مَلَىْ غُدَدْ قال : وهذا كان لفظ أبي العباس ، وحقُّه عند النحويين ملآن غُدَداً. ولكن أبا العباس كان يخاطب عوامّ الناس على قدر أفهامهم ، أراد أن في كتاب «العين» حروفاً كثيرة أُزيلت عن صورها ومعانيها بالتصحيف والتغيير ، فهي فاسدة كفساد الغدد وضَرِّها آكلَها.

وأخبرني أبو بكر الإيادي عن بعض أهل المعرفة أنه ذكر كتاب الليثِ فقال : ذلك كتابُ الزَّمْنَى ، ولا يصلح إلّا لأهل الزوايا.

قلت : وقد قرأت كتاب «العين» غيرَ مرَّة ، وتصفّحته تارة بعد تارة ، وعُنيتُ بتتبُّع ما صُحِّف وغُيِّر منه ، فأخرجته في مواقعه من الكتاب وأخبرت بوجه الصحَّة فيه ، وبيَّنت وجه الخطأ ، ودللت على مَوْضع الصواب منه ، وستقف على هذه الحروف إذا تأمَّلْتَها

٢٥

في تضاعيف أبواب الكتاب ، وتحمد الله ـ إذا أنصفتَ ـ على ما أفيدك فيها. والله الموفِّق للصواب ، ولا قوَّةَ إلّا به.

وأمَّا ما وجدتُه فيه صحيحاً ، ولغير الليث من الثقات محفوظاً ، أو من فصحاء العرب مسموعاً ، ومن الرِّيبة والشكّ لشهرته وقلَّة إشكاله بعيداً ، فإني أعْزيه إلى الليث بن المظفَّر ، وأؤدِّيه بلفظه ، ولعلِّي قد حفظته لغيره في عدَّة كتب فلم أشتغل بالفحص عنه لمعرفتي بصحَّته. فلا تشكَّنَّ فيه مِن أجلِ أنه زلَّ في حروفٍ معدودة هي قليلة في جَنْب الكثير الذي جاء به صحيحاً ، واحمدْني على نفي الشُّبَه عنك فيما صحَّحته له ، كما تحمدني على التنبيه فيما وقع في كتابه من جهته أو جهة غيره ممن زاد ما ليس منه. ومتى ما رأيتَني ذكرت من كتابه حرفاً وقلت : إني لم أجده لغيره فاعلم أنَّه مُريب ، وكنْ منه على حذر وافحصْ عنه ؛ فإن وجدتَه لإمام من الثقات الذين ذكرتُهم في الطبقات فقد زالت الشُّبَه ، وإلّا وقفتَ فيه إلى أن يَضِحَ أمرُه.

وكان شِمرٌ رَحِمه الله مع كثرة علمه وسماعه لما ألَّف كتاب «الجيم» لم يُخْلِهِ من حروف كثيرة من كتاب الليث عزاها إلى مُحارب ، وأظنه رجلاً من أهل مَرْو ، وكان سمع كتاب الليث منه.

ومن نظراء الليث : محمد بن المستنير المعروف بقطرب : وكان متَّهماً في رأيه وروايته عن العرب. أخبرني أبو الفضل المنذري أنه حضر أبا العباس أحمد بن يحيى ، فجرى في مجلسه ذكر قطرب ، فهجَّنه ولم يعبأ به.

وروى أبو عُمر في كتاب «الياقوتة» نحواً من ذلك. قال : وقال قطرب في قول الشاعر :

مثل الذَّميم على قُزْم اليعامير

زعم قطرب أن اليعامير واحدها يعمور : ضرب من الشجر. وقال أبو العباس : هذا باطل سمعت ابن الأعرابي يقول : اليعامير : الجِداء ، واحدها يَعْمور.

وكان أبو إسحاق الزَّجاج يهجِّن من مذاهبه في النحو أشياء نسبه إلى الخطأ فيها.

قلت : وممَّن تكلم في لغات العرب بما حضر لسانَه وروى عن الأئمة في كلام العرب ما ليس من كلامهم :

عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ : وكان أوتيَ بسطةً في لسانه ، وبياناً عذباً في خطابه ، ومجالاً واسعاً في فنونه ، غير أن أهل المعرفة بلغات العرب ذمُّوه ، وعن

٢٦

الصِّدق دفَعوه. وأخبرَ أبو عُمر الزاهد أنه جرى ذكره في مجلس أحمد بن يحيى فقال : اعذِبوا عن ذكر الجاحظ فإنه غير ثقة ولا مأمون.

وأما أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري : فإنَّه ألَّف كتباً في «مشكل القرآن وغريبه» ، وألَّف كتاب «غريب الحديث» ، وكتاباً في «الأنواء» ، وكتاباً في «الميسر» ، وكتاباً في «آداب الكتَبة» ، وردَّ على أبي عبيد حروفاً في «غريب الحديثِ» سمَّاها «إصلاح الغلط». وقد تصفَّحتها كلها ، ووقفت على الحروف التي غلِط فيها وعلى الأكثر الذي أصاب فيه. فأمَّا الحروف التي غَلِط فيها فإنّي أثبتُّها في موقعها من كتابي ، ودللت على موضع الصواب فيما غلط فيه.

وما رأيت أحداً يدفعه عن الصدق فيما يرويه عن أبي حاتم السِّجزي ، والعباس بن الفرج الرِّياشيّ ، وأبي سعيد المكفوف البغدادي. فأمَّا ما يستبدُّ فيه برأيه من معنًى غامض أو حرفٍ من علل التصريف والنحو مشكل ، أو حَرفٍ غريب ، فإنَّه ربَّما زلَّ فيما لا يخفى على مَن له أدنى معرفة. وألفيته يَحدِس بالظنِّ فيما لا يعرفه ولا يحسنه. ورأيت أبا بكر بنَ الأنباري ينسبه إلى الغفلة والغباوة وقلَّة المعرفة ، وقد ردَّ عليه قريباً من رُبع ما ألَّفه في «مشكل القرآن».

وممّن ألَّف في عصرنا الكتبَ فوُسمَ بافتعال العربية وتوليد الألفاظ التي ليس لها أصول ، وإدخالِ ما ليس من كلام العرب في كلامهم.

أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي : صاحب كتاب «الجمهرة» ، وكتاب «اشتقاق الأسماء» ، وكتاب «الملاحن». وحضرته في داره ببغداد غير مرَّةٍ ، فرأيته يروي عن أبي حاتم ، والرياشيِّ ، وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي ، فسألت إبراهيم بن محمد بن عرفة الملقب بنفطويه عنه فاستخف به ، ولم يوثِّقْه في روايته.

ودخلتُ يوماً عليه فوجدته سكران لا يكاد يستمرُّ لسانُه على الكلام ، من غلبة السكر عليه. وتصفحت كتاب «الجمهرة» له فلم أره دالاً على معرفة ثاقبة ، وعثرت منه على حروف كثيرة أزالها عن وجوهها ، وأوقعَ في تضاعيف الكتاب حروفاً كثيرة أنكرتُها ولم أعرف مخارجَها ، فأثبتُّها من كتابي في مواقعها منه ، لأبحث عنها أنا أو غيري ممّن ينظُر فيه. فإن صحَّت لبعض الأئمة اعتُمدَتْ ، وإن لم توجد لغيره وُقِفَت.

والله الميسر لما يرضاه وما يشاء.

وممن ألف وجمع من الخراسانيين في عصرنا هذا فصحَّف وغيَّر وأزالَ العربية عن وجوهها رجلان :

٢٧

أحدهما يسمى أحمد بن محمد البُشْتي ، ويعرف بالخارْزَنجيّ. والآخر يكنى أبا الأزهر البخاريّ.

فأمَّا البُشْتيّ فإنه ألَّف كتاباً سمَّاه «التكملة» ، أومأ إلى أنه كمّل بكتابه كتاب «العين» المنسوبَ إلى الخليل بن أحمد.

وأما البخاريُّ فإنه سمَّى كتابه «الحصائل» وأعاره هذا الاسم لأنه قصدَ قَصْدَ تحصيل ما أغفله الخليل.

ونظرتُ في أول كتاب البشتى فرأيته أثبت في صدره الكتب المؤلَّفة التي استخرج كتابه منها فعدَّدها وقال :

منها للأصمعي : كتاب «الأجناس» ، وكتاب «النوادر» ، وكتاب «الصفات» ، وكتاب في «اشتقاق الأسماء» ، وكتاب في «السَّقي والأوراد» ، وكتاب في «الأمثال» ، وكتاب «ما اختلف لفظه واتَّفق معناه».

قال : ومنها لأبي عبيدة : كتاب «النوادر» ، وكتاب «الخيل» ، وكتاب «الديباج».

ومنها لابن شُمَيل : كتاب «معاني الشعر» ، وكتاب «غريب الحديث» ، وكتاب «الصفات».

قال : ومنها مؤلفات أبي عبيد : «المصنَّف» ، و «الأمثال» ، و «غريب الحديث».

ومنها مؤلفات ابن السكيت : كتاب «الألفاظ» ، وكتاب «الفروق» وكتاب «الممدود والمقصور» ، وكتاب «إصلاح المنطق» ، وكتاب «المعاني» ، وكتاب «النوادر».

قال : ومنها لأبي زيد : كتاب «النوادر» بزيادات أبي مالك.

ومنها كتاب «الصفات» لأبي خَيْرة.

ومنها كتب لقطرب ، وهي «الفروق» ، و «الأزمنة» ، و «اشتقاق الأسماء».

ومنها «النوادر» لأبي عمرو الشيباني ، و «النوادر» للفرّاء ، ومنها «النوادر» لابن الأعرابي.

قال : ومنها «نوادر الأخفش» ، و «نوادر اللَّحياني» ، و «النوادر» لليزيدي.

قال : ومنها «لغات هُذيل» لعُزَير بن الفضل الهذلي. ومنها كتب أبي حاتم السِّجزي. ومنها كتاب «الاعتقاب» لأبي تراب. ومنها «نوادر الأعاريب» الذين كانوا مع ابن طاهر بنيسابور ، رواها عنهم أبو الوازع محمد بن عبد الخالق ، وكان عالماً بالنحو

٢٨

والغريب ، صدوقاً ، يروي عنه أبو تراب وغيره.

قال أحمد بن محمد البُشتي : استخرجت ما وضعتُه في كتابي من هذه الكتب.

ثم قال : ولعلّ بعض الناس يبتغي العنتَ بتهجينه والقدح فيه ، لأني أسندت ما فيه إلى هؤلاء العلماء من غير سماع. قال : وإنّما إخباري عنهم إخبار من صُحفهم ، ولا يُزري ذلك على ما عَرف الغثَّ من السَّمين ، وميز بين الصحيح والسقيم. وقد فعلَ مثلَ ذلك أبو ترابٍ صاحب كتاب «الاعتقاب» ، فإنه روى عن الخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء والكسائي ، وبينه وبين هؤلاء فترة.

قال : وكذلك القتيبي ، روى عن سيبويه ، والأصمعي ، وأبي عَمرو ؛ وهو لم يَرَ منهم أحداً.

قلت أنا : قد اعترَف البُشتي بأنه لا سماعَ له في شيء من هذه الكتب ، وأنه نَقل ما نقل إلى كتابه من صُحفهم ، واعتلَّ بأنه لا يُزْري ذلك بمن عرف الغثَّ من السمين.

وليس كما قال ؛ لأنه اعترفَ بأنه صُحُفيّ والصُّحُفي إذا كان رأس ماله صُحفاً قرأها فإنّه يصحّف فيكثِر ، وذلك أنه يُخبر عن كتبٍ لم يَسمعْها ، ودفاتر لا يدري أصحيحٌ ما كُتب فيها أم لا. وإنّ أكثر ما قرأنا من الصحف التي لم تُضبَط بالنقْط الصحيح ، ولم يتولَّ تصحيحَها أهل المعرفة ـ لسقيمةٌ لا يعتمدها إلّا جاهل.

وأما قوله : إن غيره من المصنفين رووا في كتبهم عمن لم يسمعوا منه مثل أبي تراب والقتيبي ، فليس رواية هذين الرجلين عمّن لم يرياه حجةً له ، لأنهما وإن كانا لم يسمعا من كل من رويا عنه فقد سمعا من جماعة الثقات المأمونين. فأمّا أبو تراب فإنه شاهد أبا سعيد الضرير سنين كثيرة ، وسمع منه كتباً جَمَّة. ثم رحل إلى هَرَاة فسمع من شِمرٍ بعض كتبه. هذا سوى ما سمع من الأعراب الفصحاء لفظاً ، وحفظه من أفواههم خِطاباً. فإذا ذكر رجلاً لم يَرَه ولم يسمع منهُ سومِحَ فيه وقيل : لعلَّه حفظ ما رأى له في الكتب من جهة سماعٍ ثبت له ، فصار قول من لم يره تأييداً لما كان سمعه من غيره ، كما يفعل علماء المحدِّثينَ ؛ فإنهم إذا صحَّ لهم في الباب حديثٌ رواه لهم الثقات عن الثقات أثبتوه واعتمدوا عليه ، ثم ألحقوا به ما يؤيده من الأخبار التي أخذوها إجازة.

وأما القُتَيبيُّ فإنّه رجل سمع من أبي حاتم السِّجْزيّ كتبَه ، ومن الرياشيّ سمع فوائد جمّة ، وكانا من المعرفة والإتقان بحيث تُثنى بهما الخناصر ؛ وسمِعَ من أبي سعيد الضرير ، وسمع كتب أبي عبيد ، وسمع من ابن أخي الأصمعيّ ، وهما من الشهرة وذهاب الصِّيت والتأليف الحسن ، بحيث يُعفَى لهما عن خطيئة غلطٍ ، ونَبْذِ زلة تقع في

٢٩

كتبهما ، ولا يلحق بهما رجل من أصحاب الزوايا لا يعرف إلّا بقَرْيته ، ولا يوثق بصدقه ومعرفته ونقْلِه الغريبَ الوحشي من نسخة إلى نسخة. ولعل النسخ التي نقل عنهما ما نَسَخَ كانت سقيمة.

والذي ادّعاه البشتي من تمييزه بين الصحيح والسقيم ، ومعرفته الغثَّ من السمين ، دعوى. وبعضُ ما قرأتُ من أول كتابه دَلَّ على ضدِّ دعواه.

وأنا ذاكرٌ لك حروفاً صحّفها ، وحروفاً أخطأ في تفسيرها ، من أوراق يسيرة كنتُ تصفّحتها من كتابه ؛ لأثبت عندك أنه مُبْطل في دعواه ، متشبِّع بما لا يفي به.

فممّا عثرت عليه من الخطأ فيما ألّف وجمع ، أنه ذكر في «باب العين والثاء» أن أبا تراب أنشد :

إنْ تمنعي صَوبَكِ صَوبَ المدمِع

يَجرِي على الخدِّ كضِئْب الثِّعثِعِ

فقيّده البُشتيّ بكسر الثاءين بنقْطِه ، ثم فسر ضِئْب الثّعثِع أنه شيءٌ له حب يُزرع. فأخطأ في كسره الثاءين ، وفي تفسيره إياه. والصواب «الثَّعثَع» بفتح الثاءين ، وهو اللؤلؤ. قال ذلك أبو العباس أحمد بن يحيى ، ومحمد بن يزيد المبرد ، رواهُ عنهما أبو عُمر الزاهد. قالا : وللثَّعثَع في العربية وجهان آخران لم يعرفهما البشتي. وهذا أهوَن.

وقد ذكرتُ الوجهين الآخرين في موضعهما من «باب العين والثاء».

وأنشد البُشْتيّ :

فبآمرٍ وأخيه مؤتمر

ومُعلِّل وبمطفىء الجمر

قال البشتي : سمِّي أحد أيام العجوز آمراً لأنه يأمر الناسَ بالحذر منه.

قال : وسُمّي اليوم الآخر مؤتمراً لأنه يأتمر الناس ، أي يؤذنهم.

قلت : وهذا خطأ محض ، لا يُعرف في كلام العرب ائتمر بمعنى آذن. وفسِّر قول الله عزوجل : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) [القَصَص : ٢٠] على وجهين : أحدهما يَهُمُّون بك ، والثاني يتشاورون فيك. وائتمر القوم وتآمروا ، إذا أمر بعضهم بعضاً. وقيل لهذا مؤتمر لأنَّ الحيّ يؤامر فيه بعضهم بعضاً للظعن أو المُقام ، فجعلوا المؤتمر نعتاً لليوم والمعنى أنه مؤتَمَر فيه ، كما قالوا : ليل نائم أي يُنام فيه ، ويوم عاصفٌ يَعصِف فيه الريح. ومثله قولهم : نهاره صائم ، إذا كان يَصُوم فيه. ومثله كثيرٌ في كلامهم.

وذكر في «باب العين واللام» : أبو عبيد عن الأصمعي : أعللت الإبلَ فهي عالّة ، إذا أصدرتَها ولم تُروِها.

٣٠

قلت : هذا تَصحيفٌ منكر ، والصواب أغللت الإبلَ بالغين ، وهي إبلٌ غالة. أخبرني المنذريّ عن أبي الهيثم عن نُصيرٍ الرازي قال : صَدَرت الإبل غالةً وغوَالَّ ، وقد أغللتُها ، من الغُلّة والغليل ، وهو حرارة العطش. وأما أعللت الإبل وعللتُها فهما ضدُّ أغللتها ، لأن معنى أعللتها وعللتها أن يسقيها الشربة الثانيةَ ثم يُصدرَها رواءً ، وإذا عَلّت الإبلُ فقد رويتْ. ومنه قولهم : عرضَ عليَّ سَوْمَ عالَّة. وقد فُسر في موضعه.

وروى البُشتي في «باب العين والنون» قال الخليل : العُنَّة : الحظيرَة ، وجمعُها العُنَن. وأنشد :

ورَطْبٍ يُرفَّعُ فَوقَ العُننْ

قال البُشتيّ : العُنَن هاهنا : حِبال تُشدُّ ويُلقَى عليها لحمُ القديد.

قلتُ : والصواب في العُنَّة والعُنَن ما قاله الخليل إن كان قاله. وقد رأيتُ حُظُرات الإبل في البادية تسوَّى من العَرْفَج والرِّمث في مَهَبِّ الشمال ، كالجدار المرفوع قدرَ قامةٍ ، لتُناخَ الإبل فيها ، وهي تقيها بردَ الشمال ورأيتهم يسمُّونها عُنَناً لاعتنانها معترضةً في مهبّ الشمال. وإذا يبست هذه الحُظُرات فنحروا جزوراً شرّروا لحمها المقدَّدَ فوقها فيجفُّ عليها.

ولست أدري عمن أخذ ما قاله في العُنّة أنه الحبل الممدود. ومدّ الحبل من فِعل الحاضرة. ولعل قائله رأى فقراء الحَرَم يمدون الحبال بمنى فيلقون عليها لحوم الهَدْي والأضاحي التي يُعطَوْنَها ، ففسر قول الأعشى بما رأى. ولو شاهد العربَ في باديتها لعلم أنّ العنة هي الحِظار من الشجر.

وأنشد أحمد البُشتي :

يا رُبَّ شيخٍ منهم عِنِّينِ

عن الطعان وعن التجفين

قال البشتي في قوله : «وعن التجفين» هو من الجفان ، أي لا يُطعم فيها.

قلت : والتجفين في هذا البيت من الجِفان والإطعام فيها خطأ ، والتجفين هاهنا : كثْرة الجماع. رواه أبو العباس عن ابن الأعرابيّ. وقال أعرابي : «أضواني دوامُ التجفين» ، أي أنحفَني وَهزَلني الدوامُ على الجماع. ويكون التجفين في غير هذا الموضع نحر الناقة وطبخَ لحمها وإطعامَه في الجِفان. ويقال : جَفن فلانٌ ناقةً ، إذا فعل ذلك.

وذكر البُشتي أنّ عبد الملك بن مروان قال لشيخ من غَطَفان : صف لي النساء.

٣١

فقال : «خُذْها ملسَّنة القدمين ، مُقرمدَة الرفغين» قال البشتيّ : المقرمَدة : المجتمع قصبها.

قلت : هذا باطلٌ. ومعنى المقرمَدة الرُّفغين الضيِّقتُهما ؛ وذلك لالتفاف فخذيها ، واكتناز بادَّيْها. وقيل في قول النابغة يصف رَكَبَ امرأة :

رابي المَجَسَّة بالعبير مُقرمَدِ

إنه المضَيَّق ، وقيل : هو المطليّ بالعَبِير كما يُطلَى الحوض بالقَرمَد إذا صُرِّج.

ورُفغا المرأة : باطنا أصول فخذيها.

وقال البشتيُّ في «باب العين والباء» : أبو عبيد : العبيبة : الرائب من الألبان.

قلت : وهذا تصحيفٌ قبيح. وإذا كان المصنّف لا يميز العين والغين استحال ادّعاؤه التمييز بين السقيم والصحيح.

وأقرأني أبو بكر الإيادي عن شِمر لأبي عبيد في كتاب «المؤلف» : الغبيبة بالغين المعجمة : الرائب من اللبن. وسمعت العرب تقول للَّبن البيُّوت في السِّقاء إذا راب من الغد غبيبة. ومن قال عبيبة بالعين في هذا فهو تصحيف فاضح. وروينا لأبي العباس عن ابن الأعرابي أنه قال : الغُبُب أطعمة النُّفَساء بالغين معجمة ، واحدتها غَبِيبة. قال : والعُبُب بالعين : المياه المتدفّقة. وقال غيره : العَبِيبة بالعين ، شيء يقطر من المغافير. وقد ذكرته في موضعه.

وقال البشتي في «باب العين والهاء والجيم» : العوهج : الحية في قول رؤبة :

حَصْبَ الغُواة العَوهجَ المنسوسا

قلت : وهذا تصحيف دالٌ على أنّ صاحبَه أخذ عربيّتَه من كتب سقيمة ، ونسخ غير مضبوطة ولا صحيحة ، وأنه كاذب في دعواه الحفظ والتمييز. والحية يقال له العَوْمج بالجيم ، ومن صيَّره العوهج بالهاء فهو جاهلٌ ألكن. وهكذا روى الرواةُ بيت رؤبة.

وقيل للحية عومج لتعمجه في انسيابه ، أي لتلوّيه. ومنه قول الشاعر يشبه زمام البعير بالحيةِ إذا تلوّى في انسيابه :

تُلاعِب مَثْنَى حَضرمي كأنه

تعمجُ شيطانٍ بذي خِروعٍ قَفْرٍ

وقال في «باب العين والقاف والزاي» : قال يعقوب بن السكيت : يقال قوزَع الديكُ ولا يقال قنْزَعَ. قال البُشتيّ : معنى قوله قوزعَ الديك أنه نفّشَ بُرائِلَه وهي قَنازعه.

٣٢

قلت : غلط في تفسير قوزع أنه بمعنى تنفيشه قنازعَه ، ولو كان كما قال لجاز فنْزَع. وهذا حرفٌ لهج به عوامُّ أهلِ العراق وصبيانهم ، يقولون : قنْزع الديك ، إذا فرَّ من الديك الذي يقاتله. وقد وضع أبو حاتم هذا الحرف في «باب المزال المفسَد» ، وقال : صوابه قوزع. وكذلك ابن السكيت وضعه في «باب ما تلحن فيه العامّة». وروى أبو حاتم عن الأصمعيّ أنه قال : العامّة تقول للديكين إذا اقتتلا فهربَ أحدهما : قنْزعَ الديك ، وإنما يقال قوزع الديك إذا غُلِب ، ولا يقال قنْزعَ.

قلت : وظنَّ البشتيُّ بحَدْسه وقلة معرفته أنه مأخوذ من القنْزعة فأخطأ في ظنّه.

وإنما قوزعَ فَوعل من يقزَع ، إذا خفَّ في عَدْوه ، كما يقال قَونَس وأصله قنس.

وقال البشتيّ في «باب العين والضاد» قال : العيضوم : المرأة الكثيرة الأكل.

قلت : وهذا تصحيف قبيحٌ دالٌ على قلة مبالاة المؤلف إذا صحَّف ، والصواب العيصوم بالصاد ، كذلك رواه أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي. وقال في موضع آخر : هي العَصُوم للمرأة إذا كثر أكلُها ، وإنما قيل لها عَصوم وعيصوم لأنّ كثرةَ أكلها يعصمها من الهُزَال ويقوّيها. وقد ذكرتُه في موضعه بأكثر من هذا الشرح.

وقال في «باب العين والضاد مع الباء» : يقال مررت بالقوم أجمعين أبضعين بالضاد.

وهذا أيضاً تصحيف فاضح يدلّ على أنّ قائله غير مُميِّز ولا حافظ كما زعم.أخبرني أبو الفضل المنذري عن أبي الهيثم الرازي أنه قال : العرب تؤكّد الكلمة بأربع توكيدات فتقول مررت بالقوم أجمعين أكتعين أبصعين أبتعين. هكذا رواه أبو العباس عن ابن الأعرابي قال : وهو مأخوذ من البَصْع وهو الجمع. وقرأته في غير كتاب من كتب حُذّاق النحويين هكذا بالصاد.

وقال في «باب العين والقاف مع الدال» قال يعقوب بن السكيت : يقال لابن المخاض حين يبلغ أن يكون ثنيَّاً : قَعودٌ وَبَكْر ، وهو من الذكور كالقَلوص من الإناث. قال البشتي : ليس هذا من القَعود التي يقتعدها الراعي فيركبها ويحمل عليها زاده وأداته ، وإنما هو صفة للبَكرِ إذا بلغَ الإثناء.

قلت : أخطأ البشتي في حكايته كلامَ ابن السكيت ثم أخطأ فيما فسره من كِيسه وهو قوله إنه غير القَعود التي يقتعدها الراعي ، من وجهين آخرين. فأما يعقوب بن السكيت فإنه قال : يقال لابن المخاض حتى يبلغ أن يكون ثَنياً قَعودٌ وَبكر ، وهو من الذكور كالقلوص من الإناث.

فجعل البشتي «حتى» : «حينَ». ومعنى حتّى إلى وهو انتهاء الغاية. وأحد الخطأين

٣٣

من البشتي فيما قاله من كِيسِه تأنيثُه القَعود ولا يكون القَعود عند العرب إلّا ذكراً. والثاني أنه لا قعود في الإبل تعرفه العربُ غير ما فسره ابن السكيت. ورأيت العربَ تجعل القعود البَكرَ من حينَ يُركِبُ ، أي يُمكن ظهرَه من الركوب. وأقرب ذلك أن يستكمل سنتين إلى أن يُثْنى ، فإذا أثنَى سمِّي جملاً. والبكْر والبَكْرة بمنزلة الغلام والجارية اللذين لم يدركا. ولا تكون البكرةُ قَعوداً. وقال ابن الأعرابي فيما أخبرني المنذريّ عن ثعلب عنهُ : البكر قَعودٌ مثل القَلوص في النوق إلى أن يثْنى. هكذا قال النضر بن شميل في كتاب «الإبل».

قلت : وقد ذكرت لك هذه الأحرف التي أخطأ فيها والتقطتها من أوراق قليلة ، لتستدلّ بها على أنّ الرجل لم يَفِ بدعواه. وذلك أنه ادّعَى معرفةً وحفظاً يميز بها الغثَّ من السمين ، والصحيح من السقيم ، بعد اعترافه أنه استنبط كتابه من صحف قرأها ، فقد أقرَّ أنه صحفيٌّ لا رواية له ولا مشاهدة ، ودلّ تصحيفه وخطؤه على أنه لا معرفة له ولا حفظ. فالواجب على طلبة هذا العلم ألّا يغترُّوا بما أودع كتابه ، فإنّ فيه مناكير جَمّةً لو استقصيتُ تهذيبَها اجتمعت منها دفاترُ كثيرة. والله يُعيذنا من أن نقول ما لا نعلمه ، أو ندَّعي ما لا نُحسنه ، أو نتكثَّرَ بما لم نُؤْتَه. وفقنا الله للصوابِ ، وأداءِ النُّصح فيما قصدناه ، ولا حَرَمنا ما أمّلناه من الثواب.

وأما أبو الأزهر البُخَاري : الذي سمّى كتابه «الحصائل» ، فإني نظرت في كتابه الذي ألّفه بخطّه وتصفَّحته ، فرأيته أقلَّ معرفة من البُشتيّ وأكثر تصحيفاً. ولا معنى لذكر ما غيَّر وأفسد ، لكثرته. وإن الضعيف المعرفة عندنا من أهل هذه الصناعة ، إذا تأمَّل كتابَه لم يَخْفَ عليه ما حلَّيتُه به. ونعوذ بالله من الخذلان وعليه التُّكلان.

ولو أنّي أودعتُ كتابي هذا ما حوتْه دفاتري ، وقرأته من كتب غيري ووجدته في الصحف التي كتبها الورّاقون ، وأفسدها المصحِّفون ، لطال كتابي. ثم كنتُ أحدَ الجانين على لغة العرب ولسانها ولَقليلٌ لا يُخْزِي صاحبه خيرٌ من كثير يفضحُه.

ولم أُودِعْ كتابي هذا من كلام العرب إلّا ما صحّ لي سماعاً منهم ، أو رواية عن ثقة ، أو حكايةً عن خطِّ ذي معرفةٍ ثاقبة اقترنت إليها معرفتي ، اللهمّ إلّا حروفاً وجدتها لابن دريد وابن المظفّر في كتابيهما ، فبينت شكّي فيها ، وارتيابي بها. وستراها في مواقعها من الكتاب ووقوفي فيها.

ولعلَّ ناظراً ينظرُ في كتابي هذا فيرى أنه أخلَّ به إعراضي عن حروفٍ لَعلَّه يحفظها لغيري ، وَحذْفي الشواهدَ من شعر العرب للحرفِ بعد الحرف ، فيتوّهم ويوهم غيره أنَّه حفِظ ما لم أحفظْه ، ولا يعلم أني غزَوتُ فيما حذَفتُه إعفاءَ الكتاب من التطويل الممّل ،

٣٤

والتكثير الذي لا يحصَّل.

وأنا مبتدىءٌ الآن في ذكر الحروف التي هي أصلُ كلام العرب ، وتقديم الأولى منها بالتقديم أوّلاً فأوّلاً ، وتبيين مدارجها لتقف عليها ، فلا يعسُر عليك طلبُ الحرف الذي تحتاج إليه.

ولم أر خلافاً بين اللغويين أن التأسيس المجمل في أوّل كتاب «العين» ، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد ، وأن ابن المظفَّر أكملَ الكتابَ عليه بعد تلقُّفه إياه عن فيه. وعلمتُ أنه لا يتقدَّم أحدٌ الخليل فيما أسّسه ورسمَه. فرأيت أن أحكيَه بعينه لتتأمّله وتردّد فكرك فيه ، وتستفيد منه ما بك الحاجةُ إليه. ثم أُتبعه بما قاله بعض النحويّين ممّا يزيد في بيانه وإيضاحه.

قال الليث بن المظفَّر : لما أراد الخليل بن أحمد الابتداءَ في كتاب «العين» أعملَ فكره فيه فلم يمكنه أن يبتدىء من أول ا ب ت ث لأن الألف حرف معتل فلمّا فاته أوّل الحروف كره أن يجعل الثاني أوّلاً وهو الباء إلّا بحجّة ، وبعد استقصاء. فدبَّر ونظر إلى الحروف كلّها وذاقَها ، فوجدَ مخرجَ الكلام كلّه من الحلق ، فصيَّرَ أولاها بالابتداء به أدخلَها في الحلق ، وكان ذوقُه إياها أنه كان إذا أراد أن يذوق الحرف فتح فاه بألف ثم أظهر الحرف ، نحو أت ، أح ، أع. فوجد العينَ أقصاها في الحلق وأدخلها. فجعل أول الكتاب العين ، ثم ما قرب مخرجُه منها بعد العين الأرفع فالأرفع ، حتى أتى على آخر الحروف. فإذا سئلت عن كلمة فأردت أن تعرف موضعها من الكتاب فانظر إلى حروف الكلمة ، فمهما وجدتَ منها واحداً في الكتاب المتقدم فهو في ذلك الكتاب.

قال : وقلَّب الخليل ا ب ت ث فوضعَها على قدر مخارجها من الحلق. وهذا تأليفه :

ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م وا ي.

قال الخليل بن أحمد : كلام العرب مبنيٌ على أربعة أصناف : على الثنائي ، والثلاثي ، والرباعي ، والخُماسيّ.

فأمّا الثنائيّ فما كان على حرفين ، نحو قد ، لم ، بل ، هل ، ومثلها من الأدوات.

قال : والثلاثي نحو قولك ضرب ، خرج ، مبنيّ على ثلاثة أحرف.

والرباعي نحو قولك : دحرج ، هملج ، قرطس ، مبنيّ على ثلاثة أحرف.

قال : والخماسيّ نحو قولك : اسحنككَ ، اقشعرَّ ، اسحنفر ، مبنيّ على خمسة أحرف.

٣٥

قال : والألف في اسحنكك واسحنفر ليست بأصلية إنما أدخلت لتكون عماداً وسُلَّماً للسان إلى الساكن ؛ لأن اللسان لا ينطلق بالساكن. والراء التي في اقشعرَّ راءانِ أدغمت واحدة في الأخرى ، فالتشديدةُ علامة الإدغام.

قال : والخماسيّ من الأسماء نحو : سفرجل ، وشمردل ، وكنَهبُل ، وقَبَعْثَر ، وما أشبهها.

قال : وقال الخليل : ليس للعرب بناءٌ في الأسماء وفي الأفعال أكثر من خمسة أحرف ، فمهما وجدت زيادة على خمسة أحرف في فعل أو اسم فاعلم أنها زائدة على البناء ، نحو قَرَعْبَلانة ، إنما هو قَرَعْبَل ، ومثل عنكبوت ، إنما هو أصله عَنكب.

قال : والاسم لا يكون أقلَّ من ثلاثة أحرف : حرف يبتدأ به ، وحرف يُحشَى به الكلمة ، وحرف يوقف عليه. فهذه ثلاثة أحرف ، مثل سعد ، وبدر ، ونحوهما. فإن صيّرت الحرف الثنائيّ مثل قد وهل ولو أسماءً أدخلتَ عليها التشديد فقلت : هذه لوٌ مكتوبة ، هذه قَدٌ حَسَنَة الكِتْبة. وأنشد :

ليت شِعري وأين مِنِّيَ ليتٌ

إنَّ ليتاً وإنَّ لَوًّا عناءُ

فشدَّد لوًّا حين جعله اسماً. قال : وقد جاءت أسماءٌ لفظُها على حرفين ، وتمامُها على ثلاثة أحرف ، مثل يد ودم وفم ، وإنما ذهب الثالث لعلَّة أنها جاءت سواكن وخِلقتها السكون ، مثل ياء يَدْيٍ وياء دَمْيٍ في آخر الكلمة ، فلما جاء التنوين ساكناً لم يجتمع ساكنان فثبت التنوين لأنه إعراب ، وذهب الحرف الساكن. فإذا أردتَ معرفتها فاطلبْها في الجمع والتصغير ، كقولك : أيديهم ، ويُدَيّة.

قال : وتوجد أيضا في الفعل ، كقولك : دَمِيَتْ يده. ويقال في تثنية الفم فَمَوان. وهذا يدل على أنّ الذاهب من الفم الواو.

وقال الخليل : الفم أصله فَوْه كما ترى ، والجمع أفواه. وقد فاه الرجُل ، إذا فتح فاه بالكلام.

قلت : وقد بيّنت في كتاب الهاء ما قاله النحويون فيه.

٣٦

باب ألقاب الحروف ومدارجها

قال الخليل بن أحمد : اعلم أن الحروف الذُّلْق والشفوية ستّة : ر ل ن ف ب م. فالراء واللام والنون سمِّيت ذُلْقاً لأنّ الذّلاقة في المنطق إنما هي بطرَف أسَلة اللسان. وسمِّيت الفاء والباء والميم شفوية لأنّ مخرجها بين الشفتين ، لا تعمل الشفتان في شيء من الحروف إلّا في هذه الثلاثة الأحرف. فأمّا سائر الحروف فإنها ارتفعت فجرَتْ فوقَ ظهر اللسان من لَدُنْ باطن الثنايا من عند مخرج الثاء إلى مخرج الشين بين الغار الأعلى وبين ظهر اللسان. وليس للسان فيهّن أكثر من تحريك الطبقين بهنّ. ولم ينحرفن عن ظهر اللسان انحراف الراء واللام والنون.

فأمّا مخرج الجيم والقاف فبين عَكدة اللسان وبين اللهاة في أقصى الفم. وأمّا مخرج العين والحاء والهاء والغين فمن الحَلْق.

وأمّا مخرج الهمزة فمن أقصى الحلق. وهي مهتوتة مضغوطة ، فإذا رُفِّه عنها لانت وصارت الياء والألف والواو على غير طريقة الحروف الصحاح.

ولما ذلِقت الحروف الستّة ومَذِل بهنّ اللسان وسَهُلت في المنطق ، كثرت في أبنية الكلام ، فليس شيءٌ من بناء الخماسيّ التام يَعرَى منها أو من بعضها. فإن وردَ عليك خماسيٌّ معرّى من الحروف الذُّلق والشفوية فاعلم أنّه مولَّد وليس من صحيح كلام العرب ؛ نحو الخَضَعْثَج والكَشَعْطَج وأشباه ذلك ، وإن أشبه لفظهم وتأليفَهم فلا تقبلنَّ منه شيئاً ؛ فإنّ النحارير ربَّما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب إرادة التلبيس والتعنُّت.

وأمّا بناء الرباعي المنبسط فإنّ الجمهور الأكثر منه لا يعرى من بعض الحروف الذُّلق إلّا كلماتٍ نحواً من عشر ، جئن شواذَّ ، فسَّرناهُنّ في أمكنتها ، وهي : العَسْجد ، والعَسَطوس ، والقُداحِس ، والدُّعْشُوقة ، والدُّهَدعة ، والدَّهدقة ، والزَّهزقة.

٣٧

قال : وأمّا الغَطْمَطِيط وجَلَنْبَلَق وحَبَطِقْطِق فإنّ لهذه الحروف وما شاكلها مما يُعرف الثنائي وغيره من الثلاثيّ والرباعيّ والخماسيّ فإنَّها في مواضعها بيّنة. والأحرف التي سمّيناهن فإنهنَّ عَرِين من الحُروف الذُّلق ، ولذلك نَزُرن فقَلَلْن. ولو لا ما لزمهنّ من العين والقاف ما (١) حَسُنَّ على حال ، ولكن العين والقاف ، لا تدخلان على بناءٍ إلّا حسَّنتاه ، لأنَّهما أطلق الحروف. أمّا العين فأنصعُ الحروف جَرْساً وألذُّها سماعاً. وأمّا القاف فأصحُّها جَرساً. فإذا كانتا أو إحداهما في بناء حسُنَ لنصاعتهما. فإن كان البناء اسماً لزمته السين أو الدال مع لزوم العين أو القاف ، لأن الدال لانت عن صلابة الطاء وكزازتها ؛ وارتفعت عن خُفُوت التاء فحسنت. وصارت حالُ السين بين مخرجَي الصاد والزاي كذلك. فمهما جاء من بناء اسم رباعي منبسط معرى من الحروف الذُّلق والشفوية فإنّه لا يعرى من أحد حرفي الطلاقة أو كليهما ، ومن السين والدال أو إحداهما ، ولا يضرُّه ما خالطه من سائر الحروف الصُّتْم.

وإذا ورد عليك شيءٌ من ذلك فانظر ما هو من تأليف العرب وما ليس من تأليفهم ، نحو قعثج ، دعثج ، لا ينسب إلى العربية ولو جاء عن ثقة ، أو قَعْسَج لم ينكر ولم نسمع به ، ولكنا ألَّفناه ، ليعرف صحيح بناء كلام العرب من الدخيل.

وأمّا ما كان من هذا الرباعي المنبسط من المعرَّى من الحروف الذُّلْق حكاية مؤلّفة نحو دَهداق وزَهزاق وأشباه ذلك ، فإن الهاء لازمة له فصلاً بين حرفيه المتشابهين مع لزوم العين والقاف أو إحداهما. وإنما استحسنوا الهاء في هذا الضرب من الحكاية للينها وهشاشتها ، إنما هي نَفَس لا اعتياصَ فيها.

وإن الحكاية المؤلّفة غير معرّاة من الحروف الذُّلق فلن تَضرّ أكانت فيها الهاء أم لا ، نحو غَطْمَطَة وأشباهه. ولا تكون الحكاية مؤلفة حتى يكون حرف صدرها موافقاً لصدر ما ضَمّ إليها في عجزها ، كأنهم ضمُّوا دَهْ إلى دَق فألّفوهما. ولو لا ما فيهما من تشابه الحرفين ما حسنت الحكاية بهما ، لأن الحكايات الرباعيات لا تخلو من أن تكون مؤلّفة أو مضاعفة. فأمّا المؤلّفة فعلى ما وصفتُ لك ، وهو نَزرٌ قليل. ولو كان العهعخ جميعاً من الحكاية لجاز في تأليف بناء العرب وإن كان الخاء بعد العين ، لأنّ الحكاية تحتمل من بناء التأليف ما لا يحتمل غيرُها لما يريدون من بيان المحكيّ. ولكن لمَّا جاء العهعخ ، فيما ذكر بعضهم ، اسماً عاماً ولم يكن بالمعروف عند أكثرهم وعند أهل البصر والعلم منهم رُدَّ فلم يُقْبَل.

__________________

(١) في المطبوع : «أما» والمثبت من كتاب «العين» (١ / ٥٢).

٣٨

وأمّا الحكاية المضاعفة فإنها بمنزلة الصلصلة والزلزلة وما أشبههما ، يتوهمون في حُسن الحركة ما يتوهمون في جَرْس الصوت ، يضاعفون لتستمرّ الحكاية على وجه التصريف.

والمضاعف من البناء في الحكايات وغيرها ما كان حرفا عجزه مثل حرفي صدره ، وذلك بناء نستحسنه ونستلذُّه ، فيجوز فيه من تأليف الحروف ما جاء من الصحيح والمعتلّ ، ومن الذُّلق والطُّلُق والصُّتم. ويُنسَب إلى الثنائيّ لأنه يضاعفه. ألا ترى أنّ الحاكي يحكي صلصلة اللجام فيقول : صلصل اللجام ، فيقال صَلْ يخفّف ، فإن شاء اكتفى بها مَرّة ، وإن شاء أعادها مرتين أو أكثر من ذلك فقال صَلْ صَلْ صل ، فيتكلف من ذلك ما بدا له. ويجوز في حكاية المضاعَف ما لا يجوز في غيرها من تأليف الحروف. ألا ترى أن الضاد والكاف إذا ألّفتا فبدىء بالضاد فقيل ضك كان هذا تأليفاً لا يحسُن في أبنية الأسماء والأفعال إلّا مفصولاً بين حرفيه بحرف لازم أو أكثر من ذلك ، نحو الضَّنْك والضَّحِك وأشباه ذلك. وهو جائز في تأليف المضاعف نحو الضكضاكة من النساء وأشباه ذلك. فالمضاعف جائز فيه كل غَثٍّ وسمين من المَفْصول والأعجاز وغير ذلك.

والعرب تشتق في كثير من كلامها أبنية المضاعف من بناء الثنائي المثقل بحرفي التضعيف ، ومن الثلاثيّ المعتلّ. ألا ترى أنهم يقولونَ صلَّ اللجام صليلاً ، فلو حكيت ذلك قلت صلّ تمد اللام وتثقلها ، وقد خففتها من الصلصلة ، وهما جميعاً صوت اللجام ، فالتَّثقيل مدٌّ والتضعيف ترجيع ، لأن الترجيع يخف فلا يتمكن لأنه على حرفين فلا ينقاد للتصريف حتى يضاعف أو يثقل ، فيجيء كثير منه متّفقاً على ما وصفتُ لك ويجيء كثير منه مختلفاً نحو قولك : صرّ الجنوب صريراً ، وصرصر الأخطب صرصرة ، كأنهم توهموا في صوت الجندُب مداً ، وتوهموا في صوت الأخطب ترجيعاً. ونحو ذلك كثير مختلف.

وأمّا ما يشتقون من المضاعف من بناء الثلاثيّ المعتلّ فنحو قول العجاج :

ولو أنَخْنا جَمعَهم تنخنَخوا

لِفحلنا إنْ سرَّه التنوُّخ

ولو شاء لقال في البيت الأول : ولو أنخنا جمعهم تنوّخوا ، ولكنّه اشتقّ التنوّخ من نَوّخناها فتنوّخت ، واشتقَّ التنخنخ من قولك أنخنا ، لأنّ أناخ لما جاء مخفّفاً حسن إخراج الحرف المعتل منه وتَضاعُفُ الحرفين الباقيين ، تقول نخنخنا فتنخنخ. ولما قال نوّخنا قرّت الواو فثبتت في التنوّخ. فافهم.

٣٩

باب أحياز الحروف

قال الخليل بن أحمد : حروف العربية تسعة وعشرون حرفاً ، منها خمسة وعشرون حرفاً لها أحيازٌ ومدارج ، وأربعة أحرف يقال لها : جُوفٌ. الواو أجوف ، ومثله الياء والألف اللينة والهمزة ، سمِّيت جُوفاً لأنها تخرج من الجوف فلا تخرج في مدرجةٍ ، وهي في الهواء فلم يكن لها حيّز تنسب إليه إلّا الجوف. وكان يقول كثيراً : الألف اللينة والواو والياء هوائية ، أي إنها في الهواء.

قال : وأقصى الحروف كلها العين ، وأرفع منها الحاء ، ولو لا بُحّةٌ في الحاء لأشبهت العين ، لقرب مخرج الحاء من مخرج العين. ثم الهاء ، ولو لا هَتَّة في الهاء ـ وقال مَرّةً : هَهَّة في الهاء ـ لأشبهت الحاء ، لقرب مخرج الهاء من الحاء. فهذه الثلاثة في حيز واحد. ثم الخاء والغين في حيز واحد ، ثم القاف والكاف في واحد ، ثم الجيم والشين والضاد ثلاثة في حيّز واحد ، ثم الصاد والسين والزاي ثلاثة في حيّز واحد ، ثم الطاء والدال والتاء ثلاثة في حيز واحد ، ثم الظاء والذال والثاء ثلاثة في حيّز واحد ، ثم الراء واللام والنون ثلاثة في حيز واحد ، ثمّ الفاء والباء والميم ثلاثة في حيّز واحد ، ثم الواو والياء والألف ثلاثة في الهواء لم يكن لها حيّز تُنسَب إليه غيره.

قال الخليل : فالعين والحاء والهاء والخاء والغين حَلْقية. والقاف والكاف لَهَويان. والجيم والشين والضاد شَجْرية ـ والشَّجْر مَفرج الفم. والصاد والسين والزاي أسَلية ، لأنَّ مبدأها من أسَلة اللسان ، وهي مستدَقّ طرف اللسان. والطاء والدال والطاء نطعية ، لأنّ مبدأها من نطع الغار الأعلى. والظاء والذال والثاء لِثوية ، لأن مبدأها من اللِّثة. والراء واللام والنون ذَوْلقية ، وهي الذُّلْق ، الواحد أذلق ، وذولق اللسان كذولق السِّنان. والفاء والباء والميم شفوية ، ومرة قال : شفهية. والواو والألف والياء هوائية. نسب كل حرف إلى مَدْرجته.

وكان الخليل يسمي الميم مطبَقة لأنَّها تطبق إذا لُفِظ بها.

قال الخليل : واعلم أنّ الكلمة الثنائية المضاعفة تتصرف على وجهين ، مثل دقّ ،

٤٠