موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٤

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٦

٨١

الإمارة غامض في أوائل أمره. وفي الشرفنامه أن أول من عرف منهم (زين الدين). وكان في أيام الأمير تيمور لنك وأيام ابنه الشاه رخ. وخلفه ابنه الأمير سيف الدين بن زين الدين. وصار بعده ابنه الأمير حسن وكان أدرك أيام السلطان سليمان وهذا أعقب أولادا ولي الإمارة منهم (السلطان حسين) وهذا أبدى خدمات جلى للسلطان سليمان فنال إمارة إربل وإنعامات أخرى. وتوفي أيام السلطان سليم ابن السلطان سليمان.

ثم توالى الأمراء بعده. ويأتي الكلام عليهم في حينه. وكانت إمارتهم قد أقرها السلاطين العثمانيون بفرامين. وصارت تابعة لبغداد. ولقبوا بلقب (باشا). وتكاثرت مدونات الدولة عنهم.

سيدي علي رئيس في بغداد

في غياب الوالي وقائممقامية سهيل بك أمير لواء الرماحية أوائل سنة ٩٦١ ه‍ ـ ١٥٥٣ م ورد سيدي علي رئيس بغداد مارا بها في طريقه إلى البصرة. قال في رحلته : إن السلطان سليمان في أواسط رمضان سنة ٩٦٠ سار إلى بلاد الشرق. وكان معه فورد حلب. وفي عيد الأضحى وجهت إليه قبطانية مصر. وأمر أن يذهب بالسفن الحربية الراسية في البصرة إلى مصر. وقبل هذا كانت جرت وقائع للعثمانيين وحروب مع البرتغال يوضحها :

١ ـ وقائع سليمان باشا :

إن العثمانيين بعد فتح مصر كانوا شعروا بوطأة البرتغال في الهند والاستيلاء على تجارته ، بل الاستيلاء على مرافقه المهمة. فكان هذا مما أغضب القوم ، وعلموا يقينا أنه يولد لهم مشاكل في التجارة والسياسة لا تعد ولا تحصى. يضاف إلى ذلك أن ملك كجرات السلطان محمود قد استعان بالسلطان سليمان القانوني ، وطلب منه أن يمده من

٨٢

جراء أنه سلطان المسلمين ولا يرضى أن يهان ملك مسلم فيتغافل عنه مما زاد في النخوة وحرك أمر الإسراع فأودع هذه المهمة إلى أمير أمراء مصر (واليها) سليمان باشا ، ولذا منحه سلطة إصلاح السواحل في الجزيرة العربية ، ومنع التجاوزات البرتغالية في الهند.

أعد الأمير العدة ، وفي أواخر محرم الحرام سنة ٩٤٦ ه‍ نهض من ميناء السويس ، بقوة بحرية متكونة من أسطول محتو على ٣٠ قادرغة ، ومن سفائن عديدة تحمل العسكر ، ولكن ما ذا يؤمل من أمير البحرية (أميرال) إذا كان قد بلغ الثمانين ، ونال من العجز حده!.

أراد الأميرال أن يولد رعبا في الأعداء ، ويبعث أملا في نفوس رجال الدولة ومن على شاكلتهم ، فمضى من سواحل العرب حتى وصل إلى جدة ، ومن هناك توجه نحو جزيرة قمران. وفي ١٣ ربيع الأول مخر البحر الأحمر ، وفي أربعة أيام بلياليها استمر الأسطول سائرا في طريقه ، وفي ١٧ منه وصل إلى ميناء عدن. وكانت هذه المدينة بتوابعها يحكمها عامر بن داود (١) ، وبتدابير حسنة استولى عليها الأسطول وهناك اتخذ برج أحكم بناؤه ، وأقيم فيه محافظون ، ووجهت ايالته إلى بهرام بك ثم مضى الأسطول في سبيله إلى الهند.

وفي غرة ربيع الأول وصل الأسطول إلى سواحل الهند الغربية. وافوا أمام قلعة (غوآ) ، وفي بادىء الأمر استولى على هذه ، وبعدها سيق الجيش من طريق البحر فحاصر بلدة (كوه) و (كاره) الواقعة في شمال تلك ، وبعد التخريب استولى الجيش عليها وعلى سابقتها ، وفي أثناء الحصار والتضييق هلك كثير من البرتغال ، فقتل نحو ألف نفر منهم ، وهكذا مضوا إلى الشمال فساروا نحو مدينة (ديو) ، شرعوا في التضييق

__________________

(١) من بني طاهر في اليمن. شعبة حكمت بلدة عدن. ويدعون أنهم من بني أمية. (دول إسلامية ص ١٣٣).

٨٣

عليها وأخرج إلى البر نحو عشرين ألف جندي ، ومعهم نحو ٥٠ مدفعا ، وكانت هذه محكمة ، وفيها خنادق ، وليس من السهل الاستيلاء عليها كما أن المؤونة كانت قليلة ، والمصاعب كثيرة ، فاستعصى الأمر.

وفي هذه الأيام كان أرسل خبر إلى السلطان محمود ملك كجرات (١) ليرسل المؤونة إلا أنه مضى شهر ولم يرد جواب منه الأمر الذي أدى إلى مصاعب وحدوث مجاعة في الجيش حتى تزايد شأنه بل عظم خطره ، يضاف إلى ذلك أن المحصورين طيروا خبرا إلى السلطان محمود بأن سليمان پاشا قتل أمير عدن عامرا وهكذا يفعل بك ، فالأولى أن تتفق معنا ، ولا ترسل أرزاقا لجيش الباشا وإلا نالك ما نال الأمير المذكور. ومن ثم وحذرا من سوء القصد اتفق مع هؤلاء وامتنع من إرسال المؤونة ، بل ساعد المحصورين فعلا ومال لجهتهم. فعلم الپاشا بالأمر ، فلم ير بدا من رفع الحصار ، وتحميل المدافع والجيوش في السفن ، والإقلاع عن هذه المواطن ، فسار في البحر قافلا من الطريق الذي أتى منه ، قطع ٢٠ يوما في البحر ، فوصل إلى سواحل جزيرة العرب الجنوبية ، فحط في الشحر. وكان حاكم البلد قد أبدى طاعة وقام بكل ما يجب من تقديم أرزاق ، ومساعدات للجيش ، ثم أقلعت السفن من هناك فوافت عدنا ، ثم مرت بميناء زبيد. وفي هذه الأثناء وجد أن الأمير أحمد استولى على هذه البقاع ، وأعلن إمارته هناك. وكان هذا الشيخ اتخذت معه لطائف الحيل ، فاستولت الحكومة على ما بيده ، وقضى على غائلته ، ووجهت ايالة اليمن إلى مصطفى بك آل بيقلي محمد باشا.

أما سليمان باشا فإنه أقام هناك مدة شهر ، نظم في خلالها أمور

__________________

(١) ابن لطيف خان. دامت حكومته من سنة ٩٤٤ ه‍ إلى سنة ٩٦١ ه‍. (دول إسلامية ص ٤٨٢).

٨٤

الحكومة وطرق محافظتها ثم عاد إلى جدة. فخرج من السفن ومضى لأداء فريضة الحج ، وذهب من طريق البر إلى مصر. ومنها مضى إلى استانبول.

ونظرا لما قام به هذا الباشا من الخدمات قبل السلطان منه ما قام به ، وأنعم عليه برتبة الوزارة. وصار في عداد رجال الديوان.

هذه أول وقائع العثمانيين في البحر الهندي. ولم تكن هناك علاقة للعراق بهذه الحوادث إلا أن الموضوع قد اتصل بهذه الواقعة اتصالا مكينا ... وهنا لا نريد أن نتعرض إلا لما له مساس بحوادثنا (١).

٢ ـ وقائع بيري رئيس :

مر الكلام على ما جرى لسليمان باشا في الهند من الحوادث. وفي هذه المرة كانت الدولة شعرت بالضعف ، وعرفت طريق سياستها ، وعدتها الحربية في البحر الهندي ، فكان الواجب يدعوها أن تقوم بما يلزم من إعداد العدة والعدد ، وتهتم اهتماما أكثر. فإن الاستيلاء على عدن أعقبه اتفاق العرب هناك مع البرتغال للوقيعة بالجيش التركي ، واستعادة البلد منه. تولدت المشادة بسبب الاستيلاء والنهب ، وقتل الحاكم هناك مما آلمهم.

وفي هذه الحالة سيرت الحكومة أسطولها تحت رياسة أمير بحريتها قائد بحرية مصر (پيري بك) المشهور وهذا صاحب (كتاب البحرية) ، وابن أخت كمال رئيس. سار لاستخلاص البلد واستعادته ، فاسترد عدن حربا ، الأمر الذي دعا أن يعرض والي مصر داود باشا أمره إلى السلطان ببيان خدماته ، ومن ثم قبل السلطان ذلك بالقبول الحسن ، وزاد في راتبه وجعلت له زعامة بمبلغ (مائة ألف آقچه). ثم أرسل مرة أخرى إلى

__________________

(١) تحفة الكبار في أسفار البحار ص ٥٨.

٨٥

سواحل جزيرة العرب ، لينظم إدارتها ، وأن يستعيد المواطن التي استولى عليها البرتغال. ففي سنة ٩٥٩ ه‍ تحرك من ميناء السويس بـ (٣٠) قطعة قاليته ، وقادرغة وباشتارده (باشترده) ، وقاليون. ومن هذه تكون الاسطول ، ومعهم فرقة من العساكر المصرية ، فوافى جدة ، ثم إنه اجتاز مضيق باب المندب ، ومضى إلى عدن. وهناك أظهر سطوته ، ثم توجه نحو شحر وظفار من طريق رأس الحد ، ومسقط التي وقعت في أيدي البرتغال. وبينا هو مجتاز في الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب من سواحل الشحر ، وظفار إذ ظهر ريح زعزع فتبعثرت السفن ، وتفرقت نوعا ، حتى أن بارچة منها من نوع القاليون اصطدمت في أرض من سواحل الشحر فغرقت ولكن بعد أن سكن هائج الرياح عادت السفن فاجتمعت ، وسارت في طريقها ، فمضت من رأس الحد ، فوصلت إلى أمام قاعدة عمان وهي (مسقط). فافتتحتها هذه القوة البحرية.

وهذه المدينة لها موقع ممتاز في أنها حاكمة على مدخل خليج البصرة ، وأنها تقع على الطريق. فلها أهمية خاصة ، ومكانة لا تنكر. فأشغلها البرتغال نظرا لأهميتها هذه. ذلك ما دعا پيري بك أن يخرج جيشا إلى البر ، ويتخذ التدابير لمحاصرة المدينة والتضييق عليها دون إضاعة وقت. فدافع عنها البرتغال ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يصدوا الهجوم الذي قام به الجيش العثماني ، فتمكنوا من ضبطها والاستيلاء عليها. وأسروا جيش البرتغال. ومن هناك تحركت السفن إلى مضيق هرمز فتمكنوا من ضبطه بعد حرب قوية وهجوم عنيف. وكذا استولوا على جزيرة هرمز وبرخت (كشم) ، ومن هناك توجهوا نحو البصرة. وكانت قد دخلت البصرة قبل مدة في حوزة العثمانيين لما رأوا من حاجة لوصل البصرة بمصر.

وفي أثناء وصول الأسطول إلى البصرة شاع أن البرتغال عزموا على قطع خط الرجعة ، وأملهم أن يأتوا بقوة عظيمة إلى مضيق

٨٦

هرمز ، فارتاب پيري بك ، وأبدى خوفا لا يأتلف وما كان قد أبداه سابقا. فترك الأسطول في البصرة ، وسار بثلاث قطع قادرغة خاصة به ، وبمفرزة صغيرة ، فعاد إلى السويس. فكانت حركته هذه داعية للارتياب لا سيما وأنه لم يستأذن فيما فعل. فسار بما أخذه فوصل البحرين ، وهناك جلست إحدى القادرغات على البر فتفككت ، وغرقت ، وعاد إلى السويس بالباقي وبقيت السفن الحربية الأخرى في البصرة ، فكان هذا الفرار منه أكبر باعث إلى نكبته. وكانت حكومته تأمل منه أعمالا كبيرة ، فخاب الأمل فيه. ومن ثم صدر الأمر السلطاني بإعدامه لما ارتكب من هزيمة ، فأعدم بمصر. ويقال إنه حاول تهريب الأموال التي استولى عليها. اتهم بذلك في حين أن القوة كانت ضعيفة ، والانتحار محقق ، فرأى أن يمضي بالقوة الكافية للنجاة ويتأهب للأمر كما تبين ذلك من تكليف علي بك المصري وكان قائد الحملة وامتناعه من قبول قيادة الأسطول وما ذلك إلا لعدم صلاح البحرية للمرور وقدرة الدفاع.

ولما أعدم پيري رئيس بمصر وجدت لديه أموال كثيرة ، استولت عليها الحكومة. أما أمير الجيش علي بك فلم يوافق على قيادة الأسطول ، وعاد من طريق البر إلى مصر ولم يقبل بتكليف والي البصرة (قباد باشا) (١) في أن يعهد إليه الأسطول. فتبعثر أمر السفن الحربية ، ولما سمع والي مصر أخبر الدولة بما جرى. فكان ما كان. ثم جاء أهل هرمز إلى مصر فشكوا پيري رئيس ، وقالوا : نهب أموالنا وعذبنا ، فلم تسمع لهم دعوى وأرسلت الأموال إلى الدولة.

ثم ظهر مؤخرا أن قتله لم يكن بحق. وكانت الأسباب لذلك كثيرة

__________________

(١) والي البصرة قباد باشا سعى بقتلة بيري رئيس عند السلطان فقتله سنة ٩٦٢ ه‍. ذكره في تهذيب التواريخ ، وفي تاريخ تركية لأحمد رفيق ، وفي عثمانلي مؤلفلري.

٨٧

منها أنه كان من رجال إبراهيم باشا المقتول ، وأنه لم يعط إلى قباد باشا دراهم ، فكان فداء لخيانات ذلك الزمن. ويعد من أفذاذ الرجال. وكتابه (بحرية) شاهد ذلك.

ألفه سنة ٩٣٢ ه‍ بأمر من السلطان. ومعه أطلس جغرافي. طبع على الزنك سنة ١٩٣٥ م بمطبعة الدولة باستانبول وله مؤلف في بحار الصين والهند في مجلدين. وهو ابن أخت كمال رئيس القبطان البحري الشهير.

٣ ـ واقعة مراد رئيس :

كان هذا سماه صاحب التحفة (مراد قپودان) (١) وهو معزول من لواء القطيف ، وكان في البصرة في تلك الأثناء بقي في البصرة حينما عاد پيري بك فوجهت إليه قيادة أسطول مصر (البحر الأحمر) وكان ترك پيري رئيس في البصرة بارچتين وخمس قادرغات وقاليته في بندر البصرة والباقي سار به نحو السويس حسب الأمر الصادر إليه إلا أن قادرغة واحدة كانت قد احترقت في البصرة. فكان أخذ معه ـ عدا ما أبقاه وما غرق ـ (١٥ قادرغة). وبارچتين ، فتكون أسطول منها ، وسار في البحر ، فورد مضيق هرمز. تمكن من الوصول إلى هناك دون أن يرى عارضة إلا أنه عند المعبر اصطدم بأسطول البرتغال ، وكانوا قد تأهبوا للحرب ، ينتظرون الأسطول العثماني ويترقبون وروده. فابتدأت الحرب من الصبح واستمرت بشدة إلى المساء ، وذهبت ضائعات كثيرة من الطرفين ، واستشهد كل من (سليمان رئيس) فارس سفينة القائد ، و (رجب رئيس) فارس سفينة أخرى ، فكان فقدهما من أعظم الضائعات ، والذين

__________________

(١) مراد رئيس أصله من فاس. وكان من مشاهير رجال البحرية أيام السلطان سليمان. عرف في كثير من المحاربات البحرية ببسالته. وصار متصرف لواء القطيف (الأسفار البحرية وكتاب حقائق الأخبار عن دول البحار ج ٢ ص ٤١).

٨٨

استشهدوا ، وجرحوا من سائر أفراد الجيش كثيرون جدا ، وكذا السفن قد تضعضعت كثيرا من جراء طلقات العدو.

ذلك ما جعل الأسطول العثماني لا يستطيع الدوام في الحرب ، أيسوا من أوضاعهم. واستفادة من اختلاط الظلام والكف عن الحرب بسبب الليل عادوا ، ومن ثم صار مراد بك يفكر في أمر الاحتفاظ بالباقي من السفن ، ويراعي سلامتها ، فاستفاد من ظلمة الليل فعاد إلى البصرة ، دون أن يضيع الفرصة. ونظرا لزيادة الظلمة بسبب الليل قد اصطدمت إحدى السفن المسماة (بارچة) بالبر في جانب اللار ، وإن قسما من الجيوش فيها نجوا سالمين ، وقسم منهم مع السفينة صاروا في أسر العدو.

وفي هذه الحرب خذل الأسطول العثماني ، ولم يتيسر له الانتصار إلا أن هذه لم تكن الحرب الحاسمة وإنما هي رجوع بانتظام ، والعدو في هذه الحرب أصابته خسائر كبيرة وناله ضرر عظيم أيضا إلا أن العثمانيين لم يستطيعوا تعقب أثره لما نالهم من ضعف حذروا من المجازفة. والعدو بالرغم من التلفيات لا تزال قوته كبيرة ...

ولما وصل الأسطول إلى البصرة أخبروا الدولة بما جرى. ذلك ما دعا أن توجه أميرالية مصر إلى سيدي علي رئيس ومن ثم سار في طريقه إلى البصرة.

قبطانية مصر توجه إلى سيدي علي رئيس :

بعد خذلان مراد رئيس عرض الأمر على السلطان سليمان فعهد بالمهمة إلى (الكاتبي الرومي).

وهذا هو (سيدي علي بن حسين). وكان متضلعا في علم البحار ، فتح جزيرة رودس. ومن ذلك الحين إلى يومنا هذا كان ولا يزال في

٨٩

بحر المغرب (البحر الأبيض المتوسط) في كافة الغزوات والفتوحات بصحبة المغفور لهما (خير الدين باشا) و (سنان باشا) وسائر القبطانية وقام بأنواع الخدمات وتجول في جميع أطراف بحر المغرب وأكنافه فحصل على جميع ما يتعلق بعلم البحار واكتسب الخبرة الوافرة. ألف في علم الهيئة وفي الحكمة وسائر متعلقات علم البحار تآليف مهمة ، وفي أحوال النجوم. ومما أهله للمهمة أن أباه وجده وأسلافه من أيام فتح القسطنطينية كانوا كتخدائية دار الصناعة (الترسانة) العامرة في غلطة. وكل واحد منهم كان ماهرا في العلوم البحرية فانتقلت هذه إليه إرثا واكتسابا.

رأى السلطان فيه من الكفاءة والقدرة على الأمور البحرية فأودع إليه قبطانية مصر في ذي الحجة سنة ٩٦٠ وأمره أن يذهب بالسفن الموجودة في بندر البصرة إلى مصر. صدر إليه الفرمان بذلك فنهض في أول المحرم سنة ٩٦١ من حلب فكانت وجهته البصرة.

سيدي علي في طريقه إلى بغداد :

خرج من حلب متوجها إلى الموصل وبغداد ، فعبر الفرات من أمام پيره جك فجاء الرها (أورفة) وزار هناك مقام إبراهيم عليه السّلام وسار في طريقه إلى نصيبين ومنها ورد الموصل وزار مراقد يونس عليه السّلام وجرجيس عليه السّلام والشيخ محمد الغرابيلي ، وفتح الموصلي ، وقضيب البان الموصلي ثم مضى إلى بغداد ومر بمدينة تكريت ومنها جاء إلى سامراء وزار فيها الإمام عليا الهادي والإمام حسنا العسكري وسار من بلد العاشق والمعشوق ومنها مضى في الطريق المار إلى قصبة حربي ، وقصر سمكة (سميكة) فبلغ بغداد وعبر دجلة (شط بغداد) من الجسر وزار مدة بقائه يوشع عليه السّلام والإمام الأعظم ، والإمام أحمد بن حنبل ، والإمام أبا يوسف والإمام محمدا ، والإمام محمدا الغزالي ، وعيص بن إسحاق عليه السّلام والإمام

٩٠

موسى الكاظم ، والإمام محمدا التقي وقنبر علي ، والشيخ عبد القادر الكيلاني ، وجنيدا البغدادي ، ومعروفا الكرخي ، والشيخ الشبلي ، وسريّا السقطي ، والحلاج ، وبشرا الحافي ، وجومرد القصاب ، وبهلول دانه وفضيل بن عياض ، والشيخ شهاب الدين السهروردي ، والشيخ داود الطائي ، ثم مر من أمام قلعة الطيور وذهب إلى قلعة پيره (الظاهر قلعة البير). وعبر الفرات من أمام قصبة المسيب فوصل الحائر (كربلا) وهنا زار حضرة الإمام الحسين ، ومشهد الشهداء ، والحر الشهيد ، ثم مضى من جهة شفاثة (شفاثى) من طريق البر إلى المشهد وفي اليوم الثاني وصل إلى الغري (النجف) وزار آدم ونوحا وشمعون عليه السّلام والإمام عليا المرتضى (رض) ، ثم ذهب إلى الكوفة وهناك زار مسجدها ومحاريب الأنبياء عليه السّلام وشهادة الإمام علي المرتضى ومقام قنبر ودلدل ثم جاء إلى قلعة الحسينية وفي طريقه زار ذا الكفل بن هارون عليه السّلام ومن هناك مضى إلى الحلة وفيها مقام صاحب الزمان (الإمام محمد المهدي) ، والإمام عقيل أخو الإمام علي (رض) ، وزار (مسجد شمس) (١) ومن هناك عبر الفرات أيضا وعاد إلى بغداد. كل ذلك قصه في رحلته (٢).

سيدي علي رئيس في طريقه إلى البصرة :

ثم ركب السفينة ومضى إلى البصرة وفي طريقه مر بالمدائن ورأى طاق كسرى وقصر شاه زنان ، وزار سلمان الفارسي (رض) ثم عبر خليج العمارة فوصل إلى زكية من طريق واسط وزار العزير عليه السّلام ومن هناك وصل قلعة صدر السويب بعد أن مر من قلعة عجل ، وقلعة مزرعة. ثم وصل شط البصرة وفي آخر صفر سنة ٩٦١ ه‍ دخل المدينة.

__________________

(١) قال الدكتور (مصطفى جواد) صوابها الشمس.

(٢) مرآة الممالك ص ١٦.

٩١

سيدي علي رئيس في البصرة :

في اليوم التالي من وصوله ذهب إلى مصطفى باشا (حاكم البصرة) وقدم له الفرمان وعرفه بما جاء من أجله وحينئذ سلم إليه خمس عشرة قدرغة ، وعمر ما تمكن من تعميره مما يحتاج إلى المرمة وحشى المفكك منها فأصلح ما استطاع إصلاحه. ولما لم يحن وقت الذهاب بعد بقي في البصرة نحو خمسة أشهر ، في خلالها زار (مسجد الإمام علي) ، و (الحسن البصري) ، و (طلحة) ، و (الزبير) ، و (أنس بن مالك) ، و (عبد الرحمن بن عوف) وشهداء الصحابة (رض).

ومما أرعبه في بقائه أنه رأى رؤيا مؤداها أنه وجد أن قد فقد سيفه فتطير من ذلك لما علم أن الشيخ محيي الدين بن عربي نقل أن الرسول صلّى الله عليه وسلم فقد سيفه فحدثت له هزيمة وحينئذ بادر بالدعاء والاستغاثة بالرسول. فلاح لقلبه أن عسكر الإسلام منصور فانتبه مذعورا لما رأى إلا أنه لم يقصص هذه الرؤيا على أحد واغتم لها كثيرا ...

وقعة الحويزة ـ ابن عليان :

ومما اتفق أن مصطفى باشا عزم أن يفتح الحويزة وينتزعها من طائفة المشعشعين فسار إليها وأرسل سيدي علي رئيس إلى الجزائر علي بن عليان لئلا يضر بـ (البصرة) استفادة من هذه المشغلة فذهب بخمس قدرغات. وفيها عساكر مصرية فلم يتيسر الفتح. واستشهد من جماعة سيدي علي أكثر من مائة ممن تعودوا ضرب البنادق فاضطرب لهذا الحادث إلا أنه ظن أن الرؤيا صدقت فعلا بهذا الحادث ولكن التقدير غلب التدبير (١).

وهذا الحادث لم يدون من صاحب گلشن خلفا ولا غيره وإنما انفرد به صاحب مرآة الممالك مما يدل على أن المؤرخين لم يذكروا إلا

__________________

(١) مرآة الممالك : سيدي علي رئيس ص ١٧.

٩٢

بعض الوقائع ولا تزال خفايا كثيرة مجهولة ووقائع مهملة. وما نقله صاحب (جامع الدول) أخذ من هذا المرجع. وهكذا غيره ممن تلاه.

سيدي علي رئيس في طريقه إلى مصر

ولما قرب حلول الموسم واقتضى الذهاب أرسل مصطفى باشا في پركنده أي فرقته (Frigate) رجلا ماهرا في علم البحار يقال له (شريف) (١) إلى هرموز للتفحص فبقي نحو شهر يتجول في السواحل فلم يجد للبرتغاليين سفنا سوى أربع بوارج. وهذه سفن الموسم. فجاء بهذا الخبر. وحينئذ ركبت الجيوش السفن ، وتوجهت بصحبة سيدي علي رئيس إلى مصر.

أقلعت السفن في أول شعبان لسنة ٩٦١ ه‍ ـ ١٥٥٤ م ووصلت مع (فرقتة) شريف إلى هرموز. كان رافقهم في طريقهم. أرسل معهم لهذا الغرض ، فتحركوا من شط العرب إلى عبادان. وزار مقام الخضر عليه السّلام.

ثم مضى إلى سواحل دسفول وتستر (ششتر) وجاؤوا إلى جزيرة (خارك) وزار فيها محمد بن الحنفية (رض) وشهداء الأصحاب (رض). ومن هناك مضى إلى ريشهر (الظاهر أبو شهر) من بنادر شيراز وقطعا سواحل بر فارس. وفي طريقهم رأوا جلبة (چكلوه) (٢) فاستطلعوا أحوال العدو فلم يتمكنوا من معرفة شيء. ثم مالوا إلى هجر من بر العرب أي أنهم وصلوا القطيف. وهناك رأوا (شايتي). استطلعوا الأخبار منها فلم يعثروا على أمر يخص العدو. ثم صاروا إلى البحرين وهناك التقى بحاكمها مراد رئيس (٣) فبين له أن ليس في هذا البحر برتغالي.

__________________

(١) من البحارة المعروفين استخدم للمهمة وكان قد ورد بلفظ (شريفي باشا).

(٢) مركب صغير يسير بالشراع أو المجاذيف لنقل الحمل ويسمى Sacoleve كذا في الترجمة الإنكليزية لرحلة سيدي علي.

(٣) هذا أصابته الضربة من أسطول البرتغال ولم يستطع الذهاب إلى مصر فخلفه سيدي علي رئيس.

٩٣

ومن غريب ما شاهد هناك وعجب منه أن البحرانيين يأخذون بأيديهم قربة صغيرة (جودا) ويغوصون إلى قعر البحر نحو ثمانية باعات أو أكثر وحينئذ يملأون ذلك الجود من ماء عذب يخرج من عين داخل البحر يعرفون موقعها ويأتون بالماء دائما إلى مراد رئيس فيشرب منه باردا في الصيف وهو ألطف كل المياه وأعذبها. قدم إلى سيدي علي رئيس منه رعاية له فأعجبه وانبهر من قدرة الباري ونهاية عظمته مما لم ير نظيره في البحار الأخرى ويقول الأهلون إن آية (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) وردت فيها حتى أن وجه التسمية بالبحرين كان هذا سببه. ثم رحل فوصل إلى جزيرة قيس أي جزيرة هرموز القديمة (١) وجزيرة برخته ، والبحر الأخضر. شاهد كثيرا من الجزائر هناك فلم يتمكن من الحصول على خبر فعبر هرموز (٢). وعند ذلك أذن (لشريف) وكان رافقه وسار معه من البصرة. كتب كتابا معه إلى مصطفى باشا يذكر فيه أنه عبر هرموز بصحة وسلامة ، وبعد ذلك سار من سواحل (جلفار) و (جادى) فمر بـ (كيمزار) و (ليمة). ثم وصل إلى قرب مدينة خورفكان وفي ١٠ رمضان بعد أربعين يوما من حركتهم جاءتهم على حين غرة أساطيل العدو وبينها

__________________

(١) لفظها ابن بطوطة (هرمز) وفيه بعض التوضيح في رحلته ج ١ ص ١٦٤ وما بعدها. بيّن الدكتور (مصطفى جواد) ان جزيرة قيس قديمة الاسم ومنهم من يسميها (كيش) كما في المعجم. وفيه أيضا هرمز أو هرموز عن لفظ آخر ، مدينة في البحر على بر فارس وهي فرضة كرمان ، ولا تزال جزيرة قيس معروفة بجزيرة كيشم مقابل بندر عباس ولعلها هي هرمز الأصلية في مضيق هرمز الحالي ، وأقول وردت هرمز في صبح الأعشى ج ٤ ص ٣٤٩ فأوضح عنها كثيرا.

(٢) أورد الدكتور داود الجلبي طريق البحارة إلى هرموز من سواحل العرب ومن سواحل العجم ومنها إلى سواحل العرب الجنوبية على بحر عمان حتى باب المندب ثم يمر في سواحل اليمن إلى جدة ، حتى يصل إلى السويس ومنها إلى سواحل مصر والحبشة حتى آخر سواحل إفريقيا. أو يسير من هرموز إلى سواحل الهند وفيها تفصيل أكثر وبيان لمواقع عديدة من عارف بها. نقلا من رسالة بحرية. (لغة العرب ج ٩ ص ٤٠٥ وما بعدها).

٩٤

أربع قطع (كوه) مما يعادل قراقه ، وثلاث قليونات Galleon وست قراولات بورتغالية واثنتا عشرة قطعة غربان أي قاليته Galley ، والخلاصة هاجم العدو بخمس وعشرين سفينة وهم في الحال أنزلوا التنتات (١) وتسلحوا وأعدوا آلات الحرب وتهيأوا للكفاح متوكلين على الله ورفعوا الفلانديرات (الرايات الصغيرة) ، ونشروا الأعلام فأقدموا للقراع فباشروا الحرب بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به وأخذوا بالضرب بمدافع وبنادق حتى أنه لا يستطيع المرء وصف هول ما جرى فأصيب قليون للعدو بمدفع فانسحب إلى جزيرة فك الأسداد وغرق.

وأورد سيدي علي لمسيحي :

غالبا كو مدى چشم أنجم

بو قدر حادثه عظمايى

بيلمز كيم نيجه تعبير ايده يم

سكا بو واقعه كبرايى

يريد أن عين النجم لم تر في غالب أحوالها هولا كهذا فلا أدري كيف أعبر عن هذا الحادث الجلل وهذه الواقعة العظمى ...

دامت الحرب إلى العشاء فكانت في أشد ما يتصور. ثم أشعل فانوس القبطان وحينئذ أطلق العدو مدفعا لتنبيه سفنه أن تقلع عن الحرب وعلى هذا انسحبت بوارجه بعد أن اختلت آلاتها ورجعت إلى هرموز. وبهذا تغلب سيدي علي رئيس على العدو وانتصر عليه. فانهزم.

ثم إنه اشتد الظلام ظهر تشوش في الجو وبدت زوبعة كما حدثت أمطار فابتعدت السفن عن الساحل وسلكت الطريق. ساروا بمشقة حتى

__________________

(١) التنتة معروفة في اللغة العامية ومستعملة في اللغة التركية وتعني الظلال والستائر.

٩٥

وصلوا مدينة خورفكان في اليوم التالي وبعد أن أخذ الجيش ماءه مضوا في طريقهم حتى وصلوا إلى ولاية عمان ، وجاؤوا إلى بلدتها صحار (١). ثم مضوا في البحر نحو ١٧ يوما أيضا. وفي ٢٦ من شهر رمضان ليلة القدر فاجأتهم سفن العدو مرة أخرى. جاءت من قرب مدينة مسقط وقلهات (٢) هاجمتهم سحرا من ميناء مسقط وهي اثنتا عشرة بارجة واثنان وعشرون غرابا فالمجموع ٣٤ قطعة من السفن. صال بها كوه ابن الحاكم وهو القبطان ومعه جيوش لا تحصى فنصب الشراع وتقدم ببوارجه وقليوناته ونصب (مايسترا) أي (شراعا) وپنتة (شراعا صغيرا) لكل منها ، وكذا نصبوا للقراولات شراعها ، وزين العدو سفنه بفلانديرات (رايات أو أعلام صغيرة) ومشى عليهم ، وهم أيضا طلبوا العون من الله وتأهبوا في جانب من الساحل فجاءتهم البوارج فاصطدمت بالقدرغات واشتعلت نيران البنادق والمدافع فيما بين الفريقين ، وتعاطوا رشق السهام وتضاربوا بالسيوف فآل الأمر إلى حالة لا يستطيع المرء وصفها.

كان هولها عظيما حتى هلكت بوارج للطرفين واحترق بعضها وكانت ضائعات سيدي علي بارجة وست قدرغات ، لحد أن أنهكت قوى الطرفين وصارت الحرب في أطراف السفن.

وكان من ضايعات العثمانيين (علمشاه رئيس) ، و (قره مصطفى) ، و (قلفات ممى). وقائد المتطوعين مصطفى بك الدرزي ، وسائر أفراد مصر ، وأصحاب الآلات ، فكان المجموع نحو مائتين. وحينئذ رمى

__________________

(١) في معجم البلدان تفصيل عن صحار فتحها المسلمون سنة ١٢ ه‍. وفي رحلة سيدي علي وردت بلفظ (سخار) وليس بصواب.

(٢) جاء في لغة العرب أنها قريات ، فحرف أو صحف حين الطبع وهو بلد معروف بهذا الاسم والصواب أنها (قلهات). ومسقط وردت في معجم البلدان. وتلفظ مسكت.

٩٦

العرب الذين كانوا من أصحاب المجاذيف بأنفسهم إلى الساحل فاستصرخوا عربان نجد هناك فابتدروا لمعاونة المسلمين فصاروا أدلاءهم لجانب البر ، وأخذ البرتغال الذين كانوا في بوارج العدو يرمون بأنفسهم أيضا. وكذا العرب الذين كانوا مستخدمين عندهم انسحبوا إلى بلاد العرب.

قال سيدي علي رئيس : ويعلم الله أن (خير الدين باشا) في حربه مع (آندريه طوريه) Andreas Doria لم ير هذه الدرجة من شدة وعظمة. فاضطر سيدي علي رئيس أن يبتعد عن الساحل فأمر بنصب الشراع ضرورة فانفصل عن بر العرب ودخل في بحر عمان وفي النتيجة وصل إلى برجاش (١) من كرمان وليس في هذه السواحل ميناء يلجأ إليه. وبعد اللتيا والتي وردوا (كيچى) من ولاية (مكران) إلا أنه لم يتيسر الوصول إلى الساحل بسبب الظلام فوقفوا في البحر. ولما أصبح الصباح وصلوا بكل محنة ومشقة إلى الساحل إلى (بندر شهبار). ذهب جماعة منهم فأفهموا الأهلين أنهم مسلمون وطلبوا الماء فوافق ذلك النهار يوم العيد فصار الحصول على الماء أكبر عيد لهم. ومن هناك وبواسطة الدليل مضوا إلى بندر كوادر. أهلوها من البلوج. ملكهم جلال الدين ابن ملك دينار وأن حاكمها جاء إلى الأسطول ورحب بهم وأحضر لهم ما يحتاجون إليه من عدة كافية كاملة وكتب إلى الملك وطلب منه ربانا ومعلما أي دليلا للبحر في عمان وسواحله ففعل وأبدى الطاعة والانقياد للسلطان.

ثم أقلعوا من بندر كوادر ومضوا إلى بحر الهند وساعدهم الريح مدة فجاؤوا إلى ساحل اليمن مرة أخرى. ساروا في البحر أياما عديدة

__________________

(١) ويقال جسك. ميناء إيران على مقربة من بلوجستان. قاله في ترجمة الرحلة إلى الإنكليزية.

٩٧

ومروا من نحو رأس الحد. جاؤوا إلى ما يقارب ظفار وشحر فعاكستهم الرياح فلم يستطيعوا إدارة الشراع أو ينزلوها لشدة هذه الرياح المسماة بـ (طوفان الفيل) مع ريح (دامانى) أو كما يقولون (كون باتيسى) أي ريح المغيب هذه تعد الرياح الزعازع في بحر المغرب بالنظر إليها كقطرة من بحر. ومن ثم ولشدة هذه الرياح عادوا أو جرفتهم الرياح دون أن يتمكنوا منها فصاروا إلى سواحل الهند مرة أخرى.

وصف سيدي علي هولها بأشنع أشكاله ومن ثم تغير الوضع واضطرب الأمر وكان الرئيس ينصح بحارته ويوعز إليهم بلفظ (سوغوريه) أي تأهبوا وكونوا على بصيرة. عسى العاقبة خيرا داموا عل هذا عشرة أيام. ولا تسل عما أصابهم من ارتباك ولقيهم من رعب وخوف حينما علموا أنهم في مقربة من ديار العدو. ضاق بهم الأمر ولم يبق لهم أمل إلا أن ينظروا ما يجري عليهم من قضاء. وفي خلال ذلك كان سيدي علي ينصح القوم ويوصيهم بالصبر.

مضى على ذلك عشرة أيام في البحر بين مده وجزره وزوابعه وأمطاره ، فوصلوا قريبا من خليج چكد. وحينئذ صاح المعلمون بالويل والثبور لما رأوا من تغير مياه البحر وما شاهدوا من حيتانه وحيواناته فظنوا أن هذه سورة بحر الهند والورطة التي فيه (تيار أودردور). وهي قرب السند وتعرف بتيارها وخطرها لا خلاص للسفن منه فطرحوا الأثقال وبعض آلات واشتغلوا يوما وليلة بلا توقف وباستمرار فنجوا من الخطر.

ركد الهواء نوعا وساروا صباحا فنظروا إلى الأطراف فرأوا أنهم في سواحل ولاية جامهر (١) شاهدوا دار الأصنام لها. ومن هناك ساروا فمروا من فورميان ومنگلور ومضوا إلى سومنات (٢) Some nat ثم وصلوا

__________________

(١) تقع في مقاطعة بومبي.

(٢) بلدة في جنوبي شبه جزيرة كاثياوار.

٩٨

إلى (ديو) Dio وكانت بيد البرتغال ، فاستولى عليهم الخوف ولا يستطيع القلم أن يعبر عما أصابهم من هول وهلع فكأنهم في يوم محشر ... فوصلوا بشق الأنفس إلى ولاية كجرات من الهند. وهناك صادفهم خطر آخر وهو الشق (السورة) فزاد المصاب ولم ينجوا منه إلا بعد جهد جهيد ، فوصلوا إلى (فشت قيدسور) وهذا ما بين (ديو) و (دمن) Daman (١) فلم يستطيعوا الركون إليها فمضوا إلى بندر (دمن) فحمدوا الله على السلامة بعد ما لاقوا كل الأخطار والصعاب والأمطار وهذا موسم الأمطار ويقال له بارصاد. وكان ملك كجرات السلطان أحمد (٢) وحاكم (دمن) ملك أسد تابعا له. وهذا حذر من البقاء ونصح بالذهاب إلى سورت خوفا من البرتغال فلم يتمكنوا من البقاء فقام سيدي علي رئيس بمن تبعه من البحارة فمضى بالسفن إلى سورت فوصلوها ففرح المسلمون بهم وقالوا لم نر طوفانا مثل هذا من قديم الزمان ، ولا رأينا قرصانا أي قبطانا (٣) ماهرا في علم البحار مثلك.

ولا ننكر القدرة العلمية والمهارة الفنية في مثل هذه الأمور وإن كان التوفيق حليف القدرة البحرية في العدد وكمال العدد وقد اتخذ العدو لها الأهبة ، ولم يترك وسيلة لا سيما في وقت لم تتغير فنونه الحربية ، بل تكاد تكون مشتركة بين الفريقين ولم تختلف إلا في الكمال ، والنقصان ، ولم تعرف الأوضاع الجديدة بعد مما تعد من أركان السيطرة على الأمم والبحار ...

__________________

(١) مستعمرة برتغالية في خليج كمباي.

(٢) هو أحمد شاه الثاني ابن محمود شاه ولي سنة ٩٦١ ه‍ ودام حكمه إلى سنة ٩٦٩ ه‍. (دول إسلامية ص ٤٨٤).

(٣) عند الغربيين يقال Corsair أوCorsaire ويطلق على السفن الخاصة بتعقب العدو.

وأصحابها قراصنة. ثم صار يسمى سراق البحر من أصحاب السفن بهذا الاسم.

وألغيت القرصانية أو القرصنة سنة ١٨٥٦ م.

٩٩

١٠٠