الرّفق في المنظور الإسلامي

ابو زلفى الخزاعي

الرّفق في المنظور الإسلامي

المؤلف:

ابو زلفى الخزاعي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-57-9
الصفحات: ٦٩

إنّها تحملكم وتحمل أثقالكم ، وكلّ عزائها أن تمرّ بأرض مخصبة تنهش منها أو ترتع فيها فتقوى على أمرها وتخفّف العناء عن نفسها ، فلا تصنعوا معها صنع الحانق الناقم ، أو الغافل الذي همّه نفسه وقد هيّأ لها الماء والزاد والراحلة دون أن يشعر بأن راحلته لها روح مثله ، فهي تضمأ وتجوع وتجهد مثله ..

وفي المعنى ذاته قال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : « إذا سرت في أرض خصبة فارفق بالسير ، واذا سرت في أرض مجدبة فعجّل بالسير » (١).

وذاك الذي همّه نفسه ، سيهرع إذا بلغ مقصده إلى أدنى فراش طلباً للاسترخاء ، ويدعو عاجلاً بالماء والطعام فلقد أضناه السفر.. تاركاً وراءه ظهراً حمله الطريق كلّه ، لأنّه لا يملك نطقاً يفصح فيه عن عنائه وحاجته ، وربما لو نطقت أيضاً لما كان حظّها أحسن عند هؤلاء !! ولهؤلاء يقول رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سافر منكم بدابةٍ فليبدأ حين ينزل بعلفها وسقيها » (٢) قبل ان ينشغل بطعام نفسه وسقيها ..

حقوق الحيوان :

إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبصر ناقة معقولة وعليها جَهازها ، فقال: « أين صاحب هذه الراحلة ، ألا تتقي الله فيها ، إما أن تعلفها ، وإما أن ترسلها حتى تبتغي لنفسها » (٣). هذه هي العدالة النموذجية.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٩٠ / ٦ باب ٩١.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٨٩ / ٥ باب ٩١.

(٣) كنز العمال : خبر ٢٤٩٨٣.

٤١

النبي ينصب محكمة لمن يترك الحمل على البعير في حالة توقفه عن السير ولا يدعه يستريح خلال هذا التوقف.

لا تتخذوها كراسي :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اركبوا هذه الدواب سالمة ودعوها سالمة ، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فربّ مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكراً لله تبارك وتعالى منه » (١) !.

فليس من حق المستخدم للدابة في الحمل والتنقل أن يتخذ منها كرسياً لحديثه وتأمّله وتفرّجه ، فيوقفها وهو على ظهرها من أجل التأمل بمنظر أو الحديث مع شخص ، بل يلزمه النزول من على ظهرها حتى يقضي حاجته ثم يمتطيها لسفره.

ثم يلزمه أن لا يركبها إلاّ وهي سالمة حتى لا يجهدها ويشق عليها ، ويضيف بذلك علة مرضية اُخرى إلى علتها الاولى كما هو ملزم أيضاً أن ينزل من عليها وهي سالمة وهذا يعني مراعاتها في سفره في الاكل والشرب والراحة.

ضرب الدابة :

حج علي بن الحسين عليهما‌السلام على ناقة أربعين حجة فما قرعها بسوط (٢).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اضربوها على النفار ولا تضربوها على العثار » (٣).

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٢٤٩٥٧. مستدرك الوسائل ٢ : ٥٠.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٣٥٢.

(٣) الكافي ٦ : ٥٣٩ / ١٢ باب نوادر في الدواب كتاب الدواجن.

٤٢

وضربها على النفار تأديب لها على الوضع الطبيعي الذي لا يخرجها عن مهمتها التي شاءها الله لها في الطاعة عند التسفير من حيثُ كونها مسخرة للانسان ، وقد ذللها الله له ، أي جعلها سهلة الانقياد ، والضربُ حال ترويضها وتأديبها عندما تنفر لا يمنع منه الإسلام ويقبله العقل. أما في حالة عثارها فهذا أمر لا يتعمده الحيوان بل هو يجري عليه دون اختيار. كما يحصل للانسان ، أيضاً فمن المنطقي أن لا يؤاخذ عليه الحيوان ، وهذا ما جاءت به الشريعة الغراء.

هذه التعاليم المباركة قد لا يجد فيها إنسان العصر الحديث شيئاً جديداً في الرفق واللطف ، أما في ذلك الزمن البعيد وقبل أربعة عشر قرن فهي تعاليم جديدة أوقدت مصباح الرفق في دنيا الغلظة وحنادس الجهل (١).

ست خصال

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « للدابة على صاحبها ست خصال : يعلفها إذا نزل ، ويعرض عليها الماء إذا مرّ به ، ولا يضربها إلاّ على حقّ ، ولا يُحمّلها ما لا تطيق ، ولا يكلفّها من السير إلاّ طاقتها ، ولا يقف عليها أفواقاً » (٢).

داجن البيت :

وفي حديث وفاة أمير المؤمنين عليه‌السلام قالت أم كلثوم : « ثم نزل إلى الدار

__________________

(١) للمزيد راجع حقوق الدابة المندوبة والواجبة في كتاب وسائل الشيعة ٨ : باب ٩.

(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٠. أفواق : جمع فواق بضم الفاء وهو الوقت بين الحَلبتين ، إشارة إلى الوقت القليل جداً.

٤٣

وكان في الدار وز قد أُهديَ إلى أخي الحسن عليه‌السلام فلما نزل خرجن وراءه وصحن في وجهه وكنّ قبل تلك الليلة لم يصحن ، ثم قال : « يابنية بحقي عليك إلاّ ما اطلقتيه فقد حبستِ ما ليس له لسان ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه ، وإلاّ خلّي سبيله يأكل من خشاش الأرض » » (١).

عُذبت امرأةٌ في هرّة :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رأيت في النار صاحبة الهرة تنهشها مقبلةً ومدبرة ، كانت أوثقتها ، فلم تكن تطعمها ولم تُرسلها تأكل من خشاش الأرض » (٢). فالعدل الالهي إذن بالمرصاد لمن لا يرفق بالحيوان.

غُفر لامرأة في كلب :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « غفر الله لامرأة مومسة مرّت بكلب على رأس رَكِيٍّ ، يلهث كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك » (٣). فاللطف والرحمة والعفو والمغفرة اذن تشمل المومسة إذا صدر عنها مثل هذا الرفق بالحيوان ، فما بال من يدرك ذي لهفة من بني الإنسان ويرفق بالضعيف والمحتاج واليتيم والارملة وما شاكل ذلك ؟

قتل الحيوان بغير حق :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من دابة ، طائرٍ ولا غيره ، يُقتل بغير الحق إلاّ

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨.

(٢) مستدرك الوسائل ٢ : ٥٨.

(٣) كنز العمال : خبر ١٦٣٥٤ ، ٤٣٠٦٨. رَكِيٍّ : حافة البئر.

٤٤

ستخاصمه يوم القيامة » (١). نعم ، ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (٢) وحشر الناس لربِّ العالمين ستظهر العدالة الكاملة في يوم التغابن فلا مظلومية يعفو عليها الزمان حتى مظلومية الحيوانات.. « ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقّها إلاّ سأله الله عنها يوم القيامة » (٣).

أحسنوا الذبح :

إذا كان الله تعالى قد كرّم الإنسان وسخّر له ما في السموات وما في الأرض ، بما في ذلك أصناف من الحيوان يتقوّت بلحومها ، يضع حدّاً لحياتها من أجل أن يقيم حياته ، فإنّه تعالى برٌّ رؤوف رحيم بهذه المخلوقات التي أدّت رسالة خُلقت لأجلها ، فلا يرضى استغلال اباحتها بما يتنافى مع الرحمة والرأفة والرفق بها ، فأمر عباده على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صاحب الخُلق العظيم ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إذ قال : « إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، ليحدّ أحدكم شفرته ، ليريح ذبيحته » (٤).

قتل العصفور :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله يوم القيامة منه يقول : ياربِّ إن فلاناً قتلني عبثاً ولم يقتلني لمنفعة » (٥).

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٣٩٩٦٨.

(٢) التكوير ٨١ : ٥.

(٣) كنز العمال : خبر ٣٩٩٧٠.

(٤) التفسير الكاشف ٢ : ١٨٨.

(٥) كنز العمال : خبر ٣٩٩٧١.

٤٥

قتل المؤذي :

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نهى عن قتل كل ذي روح إلاّ ان يؤذي » (١).

وبهذه التعاليم المسالمة والرحيمة بالحيوان يربي الإسلام أتباعه على الهدفية النافعة غير العبثية ، ويصنع من أحدهم مخلوقاً وديعاً رؤوفاً رحيماً يرفق بالضعيف ولا يطغى عليه .. فهنيئاً لمن صاغ الإسلام شخصيتهم على فضائله ومكارم أخلاقه حتى صاروا وجوداً نافعاً لا ضرر فيه.

حضارة الغرب والرفق بالحيوان :

لعلّ الحضارة الغربية التي تتبجح بتأسيسها جمعيات الرفق بالحيوان وإنفاقها الكثير في توفير الخدمات الصحية للحيوان وحمايته وتحسين أحواله المعيشية .. لكنّها ..

أولاً : هل تملك مثل هذا الرصيد في عمق التأريخ ، تستند إليه في طروحاتها المعاصرة... ؟!

وثانياً : هل تستطيع أن تفتح للاِنسان اُفق السماء ، وتعِده بالعفو والمغفرة الإلهية والنعيم الأبدي بغير الرجوع إلى الإسلام ؟!

وثالثاً : أليس الأجدر بدعاة الرفق بالحيوان الاعتزاز بمن دعا إلى ذلك في عمق الزمان ، والانتساب إليه في المبدأ والطروح ، والاخذ عنه بما هو أهم من ذلك فيما يعود للانسان ؟!

ورابعاً : وأخيراً ، هل يخفى على الضمير الحيّ هذا التناقض البشع

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٣٩٩٨١. الوسائل ٨ : ٢٩٧.

٤٦

المريع بين مايدّعونه وينفقونه في خدمة الحيوان عامة ، والكلاب خاصّة ، وبين واقعهم الوحشي الذي قام وتنامى على دماء الشعوب البريئة وطاقاتها ؟

إنّ اللبنة الاولى التي أنشأت عليها الحضارة الغربية المعاصرة كانت تجارة الرقيق ! العمل الوحشي المشين ! الذي ما كان يجري ـ مع بشاعته ـ إلاّ بأبشع الأساليب وأكثرها همجيّةً وعدواناً ، إذ يباغتون أبناء القرى الضعيفة في افريقيا ، فيقتطعون منهم من شاءوا من الشباب والنساء ، غير مبالين بأطفال يفصلون بهذه الطريقة عن اُمّهاتهم ، ولا بالاُمهات يُسَقن قسراً تحت وقع السياط بعيداً عن أطفالهن وازواجهن وبيوتهن !

لقد عرفت هذه الحضارة لكلاب اُوربا من الحقوق ما لا تعرفه لجميع شعوب العالم ! ولم تنته سياسة امتهان الشعوب وسحق الاطفال والنساء في عالم يدّعي مناصرة الطفل والمرأة ويعلن حروباً تحت هذا الستار ، لم تنته هذه السياسة بانتهاء زمن تجارة الرقيق ، بل هي السياسة القائمة اليوم في ظل ما يسمى ب‍ ( النظام الأمني الجديد ) ! إنّه التناقض المفضوح ، ولكنه تناقض الأقوياء الذين يغلّفون سوءاتهم بما يمتلكون من قوّة وبطش وقدرة على إلجام الضعفاء.

٤٧
٤٨



الفصل الثالث

الرفق

آفاقه وفلسفته

أ ـ إرفق يرفق بك :

لما كان الله جل شأنه رفيق ويحب الرفق فلا شك أنّه سبحانه سيقابل رفق الإنسان بأخيه الإنسان ، ورفق الإنسان بالحيوان بالرفق واللطف والسماحة والتجاوز. فيما يخص تعامل الخالق مع مخلوقه في الدنيا أو ما يعود لمحاسبته في الاخرى قال تعالى : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) (١).

فعن زين العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام إنه قال : « من وصايا الخضر لموسى عليه‌السلام ، ... ما رفق أحد في الدنيا إلاّ رفق الله عزَّ وجل به يوم القيمة » (٢).

__________________

١ ـ الرحمن ٥٥ : ٦٠.

٢ ـ بحار الانوار ٧٢ : ٢٨٦.

٤٩

فمن أراد أن يرفق الله به فما عليه إلاّ ان يرفق بغيره.

ب ـ قد يكون الرفق خرقاً :

إذا ادلهمت النفوس بآثامها واُطفىء مصباح فطرتها وعمت بصيرتها عن معرفة الصواب وضلت عن درب رشدها وسبيل تكاملها لما تجمع من صدأ الذنوب على أفئدتها ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١). فعند ذلك لا تستذوق تلك النفوس الفاسقة المنحرفة حلاوة الرفق الذي يستعمل معها ويستخدم من أجل خيرها وصلاحها ، فهي تقابل الرفق واللين واللطف والرحمة والسماحة والتجاوز أو العطف والرأفة بما يضاد ذلك من الخرق والشدة والغلظة والقسوة وتتبع العثرات والمحاسبة على الزلات والنقمة واللؤم.

والحكمة تقتضي التعامل مع هذه النوعية من النفوس الخائبة الخاسرة بما يناسب ذلك مما يؤدي إلى تأديب نزقها وتعديل مسارها ، وتقويم اعوجاجها فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « وإذا كان الرفق خرقاً كان الخرق رفقاً » (٢).

وعليه فان من لا يصلحه الرفق أصلحته الشدّة ، ومن لم يتقوّم بالمسامحة تَقوّم بالمحاسبة ، ومن إذا ما رفقت به اندفع في غيّه وعناده وغروره وغطرسته ولم ينتفع بما تقدّمه له من علاج ناجح ودواء نافع فما عليك إلاّ تركه في مستنقع مرضه الاخلاقي وسقمه السلوكي ودائه الذي

__________________

(١) المطففين ٨٣ : ١٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ١٦ : ٩٧ كتاب ٣١.

٥٠

هو فيه حتى يتحول هذا الداء إلى موقظ له من غفلته ، فيصحوا بعد مصارعته طويلاً ومعاناته كثيراً بما سيجرّه عليه من بلاء وخيم حتى يتحسس ويدرك ما ينفعه مما يضرّه ، فإن استقام فهو المطلوب وإلاّ فدع ما به يقضي عليه وهو حسبه.

وفي الشعر الحكمي :

ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا

مضرٌّ ، كوضع السيف في موضع الندى (١)

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضاً : « من لم يصلحه حسن المداراة يصلحه حُسن المكافأة » (٢).

ومن كتاب لأمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بعض عماله « واخلط الشدة بضغث من اللين وارفق ما كان الرفق أرفق » (٣).

وفي غرر الحكم : « اخلط الشدّة برفق ، وارفق ما كان الرفق أرفق ».

فالمحمود عند اعتدال الاصول هو التوسط بين اللين والعنف ، كما في سائر الأخلاق.. يقول الغزالي : لمّا كانت الطباع إلى العنف والحدّة أميل ، كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر ، فلذلك أكّد الشرع على جانب الرفق دون العنف ، وإن كان العنف في محلّه حسناً ، كما أن الرفق

__________________

(١) إحياء علوم الدين ٣ : ١٨٦.

(٢) غرر الحكم : ٦٠٢ / ٥٥٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ١٧ : ٣ كتاب ٤٦.

٥١

في محلّه حسن.. فإذا كان الواجب هو العنف فقد وافق الحقُّ الهوى ، وهو ألذّ من الزبد بالشهد !..

والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور ، وإنّما الكامل من يميّز مواقع العنف فيعطي كلّ أمرٍ حقّه ، فإنْ كان قاصر البصيرة ، أو أشكل عليه حكم واقعةٍ من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإنّ النجاح معه في الأكثر (١)

فالرفق هو وسيلة التعامل الفضلى ما أدى الغرض وأصاب الهدف الاصلاحي وحقق الغاية المنشودة ، إلاّ اذا كانت النتيجة خلافاً لذلك المبتغى ولم يكن الرفق أوفق فيتوسل بالشدة من أجل الردع المقوِّم والهادي إلى سواء الصراط.

ج‍ ـ الرفق في العبادة :

معلوم أمر العبادة أنها على نمطين اثنين : واجبة ومستحبة.

فالاُولى : فرض يلزم الاتيان بها بحدودها وكيفياتها وتوقيفاتها..

والثانية : لك فيها الخيار في إثباتها وعدمه ، إلاّ أنّ الاتيان فيه ثواب مضاعف وأجر جزيل ومردودات ايجابية على شخصيتك وبنائها التكاملي.

وما قد فرضه الله الحكيم سبحانه هو على قدر طاقة الانسان فلم يكلفه ما لا يقدر عليه :

__________________

(١) إحياء علوم الدين ٣ : ١٨٦.

٥٢

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا ) (١).

( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) (٢).

( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) (٣).

( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (٤).

( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (٥)

( وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) (٦).

( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٧).

( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٨).

هذهِ الآيات المباركات وغيرها تخص العبادات الواجبات وليس المستحبات ، وكلّها تتحدث عن مراعاة الله ، فيها طاقة الإنسان ومقدوره وترفع عنه الاصر ولا تثقل عليه بما يشق عليه وبما يسبب له حرجاً أو

__________________

(١) الطلاق ٦٥ : ٧.

(٢) البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٤.

(٤) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٥) النساء ٤ : ١٠١.

(٦) النور ٢٤ : ٦١.

(٧) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٨) الحج ٢٢ : ٧٨.

٥٣

عسراً في أمر من الامور العبادية ، وتفصيل ذلك والوقوف عند كل آية لايتسع له هذا البحث.

فالله جلَّ جلاله يرفق بهذا العبد ويلزمه بالتكاليف الممكنة والسهلة ويرضى منه باليسير اذا ما جاء وفق الضوابط الشرعية.

ويؤكد هذا ما جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الحارث الهمداني « خادع نفسك في العبادة ، وارفق بها ولا تقهرها ، وخذ عفوها ونشاطها ، إلاّ ماكان مكتوباً عليك من الفريضة ، فإنّه لابدّ من قضائها وتعاهدها عند محلها » (١).

المخاطب بالتكاليف والوعظ والنصح هو الإنسان ، والإنسان إنسان بعقله إذ لا يحاسب إلاّ على قدر ذلك العقل الذي آتاه الله.

ولهذا نجد أمير المؤمنين عليه‌السلام قد خاطب في كتابه الشريف العقلَ وحمّله مسؤولية مخادعة النفس وعدم تفويت الفرصة على مخادعتها والمكر بها قبل أن تمكر هي به ، فخداع العقل ومكره يعني التخطيط السليم للهدف السليم ، وخداع النفس ومكرها هو على العكس من ذلك ، فمن أراد كبح جماح نفسه وتحرير إرادته وعقله من أسر هواها ، فما عليه إلاّ أن يجعل المبادرة بيد عقله حتى يسجّل في ميدان الصراع سبقاً وغلبة على نفسه الأمّارة بالسوء.

ولما كانت النفس تميل إلى التحلل من التكاليف ومنها العبادة ، فما على العقل إلاّ أن يمكر بها ويخدعها بخطة خفية يبرمج فيها أوقات هذه النفس على ما ليس فيه الملل من العبادة التي لابدّ من الالتزام بها لإسعاف وجودها العاقل حتى تنمو وتسمو وتتقدم في مدارج الكمال.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد المعتزلي ١٨ : ٤٢ كتاب ٦٩.

٥٤

والرفق بها في هذا المجال يعني عدم تحميلها ما لا تطيق من المسنونات المستحبة ككل ما جاء من الاوراد والاذكار والادعية والصلوات ، إذ إن قهرها على ذلك يولّد ردة فعل معاكسة ـ والعياذ بالله ـ تسأم فيه الإسلام كله ، فلابدّ إذن من الرفق بها وأخذها بالتدريج وبما تتسع له حركتها ونشاطها ، بل وعدم أخذها بما يوقف حركتها أو يحدّ من نشاطها وينفّرها من المستحبات ، بل عليه أن يقهرها في الواجبات على وفق الشروط والحدود والأوقات ، لأنها تكاليف من الحكيم الرحيم على قدر الطاقة والسعة. وما تَعلّلُ النفس وتسويفها إزاء تلك الواجبات إلاّ طغيان منها يجب قمعه من أجل إصلاحها.

والنفسُ كالطفل إن تُهمله شب على

حبّ الرضاعِ ، وإن تفطمه ينفطمِ

فالرفق بالنفس وترويضها على العبادة المستحبة التي تطيقها هو السبيل الأمثل في منهجية التكامل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خذوا من العبادة ما تطيقون ، فإنّ الله لا يسأم حتى تسأموا » (١).

وعن حفيده الإمام الصادق عليه‌السلام : « لا تُكرِّهوا إلى أنفسكم العبادة » (٢).

فمن أكره نفسه على العبادات المستحبة بما تملّ منه فقد كرّه العبادة إلى نفسه.

د ـ الرفق والتعمق في الدين :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إياكم والتعمّق في الدين ، فإنّ الله قد جعله سهلاً

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٥٣٠١.

(٢) الكافي ٢ : ٨٦ / ٢ باب الاقتصاد في العبادة.

٥٥

فخذوا منه ما تُطيقون ، فإنّ الله يحبّ مادامَ من عملٍ صالحٍ وإن كان يسيراً » (١).

وهذا أمير المؤمنين عليه‌السلام يعنّف أحد أصحابه حين كلّف نفسه مالا يأمر به الله ولا سُنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يظنّ أنّه متعمّق في العبادة ! ذلك أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد زار العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه... ، فقال له العلاء ، يا أمير المؤمنين ، أشكو اليك أخي عاصم بن زياد. قال عليه‌السلام : « وماله » ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال عليه‌السلام : « عليَّ به ». فلما جاء قال عليه‌السلام : « يا عَدُي نَفسِهِ ! لقد استهامَ بِكَ الخبيثُ ! أما رحمت أهلك وولدَكَ ! أترى الله أحلَّ لكَ الطيَّباتِ ، وهو يكرهُ أن تأخذها ! أنت أهونُ على الله من ذلكَ » !

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجُشوبة مأكلك ! قال عليه‌السلام : « ويحكَ ، إنِّي لستُ كأنتَ ، إنَّ اللهَ تعالى فرضَ على أئمة العدل ( الحق ) أن يُقَدِّروا أنفسهم بضعفةِ النَّاس ، كيلا يتبيغ بالفقير فقرُهُ » (٢).

التحذير من التعمّق في الدين يخص الجهلة به والذين يغورون في بحره بجهلهم دون علم ودراية وتدبّر ، حتى يختنقوا بأوهامهم وتصوراتهم التي لا تقوم على اُسس موضوعية ، وعندها يخيّل إليهم أن الدين شاقّ في تكاليفه ، عسير في عباداته ، والحال هو العكس تماماً إلاّ أنهم أخذوا بالمستحبات مأخذ الواجبات ، فشقَّ عليهم الأمر وخرجوا بالنتيجة المغلوطة. أو أنّهم وسوسوا في الغسل والوضوء والطهارة والنجاسة وألفاظ الصلاة فملّوه. ولو أنّهم أخذوا بما يطيقون لوجدوه سهلاً يسيراً ،

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٥٣٤٨.

(٢) نهج البلاغة ، خ ٢٠٩.

٥٦

ولو لم يوسوسوا فيه لما ملَّوه.

ه‍ ـ الوغول في الدين برفق :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، ولا تُكرِّهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المُنْبَتِّ الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى » (١).

نعم إنّ هذا الدين متين ، لأنّه دين لكلِّ زمان ولكلِّ مكان ، وكتابه تبيان لكلِّ شيء.. فمن لم يدخل إلى حريمه برفق ، وفق منهجية حكيمة ، ينبهر بجماله ، أو يصطدم بجلاله ، ومن يتكلّف العبادة دفعة واحدة دون التدرج المرحلي المناسب للداخل في هذا الدين يصعب عليه تحمل هذا الدين ، فيتركه ، وبتركه والعياذ بالله يترك سعادته الدنيوية والاخروية. وعلى المسلم الرسالي أن يتصرف بحكمة متناهية في الدقة مع من يكسبه إلى الإسلام ، ولا يحمله ما لا يطيق فيكره الإسلام والدين وعبادة ربِّ العالمين والله يقبل اليسير.

عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال: « اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي : يا بني دون ما أراك تصنع ، فأنّ الله عزّ وجلّ إذا أحب عبداً رضي عنه باليسير » (٢).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنَّ النفس ملولة وإنّ أحدكم لا يدري ما قدر المدة ، فلينظر من العبادة ما يطيق ، ثم ليداوم عليه ، فإنّ أحبَّ الأعمال إلى الله ما

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٥٣٥٠.

(٢) الكافي ٢ : ٨٧ / ٥ باب الاقتصاد في العبادة.

٥٧

دِيم عليه وإن قلّ » (١).

فالنبي الأكرم في هذا الحديث وغيره يؤكد لنا حقيقة أنّ النفوس تملُّ ، وعلينا أن نرفق بها في أن لا نكلفها ما لا تطيق ، وأن نستديم على اليسير من المسنونات التي لا تنفر منها نفوسنا ، وذاك أحبّ عند الله.

و ـ الرفيق من يرفقك على صلاح دينك :

عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّما سمّي الرفيق رفيقاً لأنّه يرفقك على صلاح دينك فمن أعانك على صلاح دينك فهو الرفيق » (٢).

فاختر لنفسك رفيقاً يرفق بك على صلاح دينك ويعينك على تكامل سبيلك.

الرفق والإيمان :

عن الإمام الباقر عليه‌السلام : « من قسم له الرفق قسم له الايمان » (٣) ، هذا يعني أن الرفق يفضي إلى الإيمان.

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « لكلِّ شيء قفل ، وقفل الإيمان الرفق » (٤) فمن كان رفيقاً بنفسه وبالناس وبالحيوان كان قلبه منفتحاً للإيمان.

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٥٣١٢.

(٢) غرر الحكم : ٢٧٣ / ٢٠ ، ط دار الكتاب الاسلامي. ميزان الحكمة ٤ : ١٥٨ والنص منه.

(٣) الكافي ٢ : ١١٨ / ٢ باب الرفق.

(٤) الكافي ٢ : ١١٨ / ١ باب الرفق.

٥٨

نتائج عدم الرفق بالنفس :

إنَّ قصة البقرة في القرآن قصة طريفة تحكي سهولة التشريع الإلهي ، وتشديد الإنسان على نفسه فيما يضعه من قيود وضوابط لم يكن ملزم بها من قبل ربه ، فبنو إسرائيل بعد أن ضيّقوا على أنفسهم ضيّق الله عليهم ، أذ لم يطلب منهم إلاّ ذبح بقرة نكرة. غير معرّفة بوصف معين كما هو منطوق الآية الشريفة ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (١) فهو سبحانه لم يعرّفها بالالف واللام ليسهل عليهم التكليف وليتحقق مراده بذبح أي بقرة أرادوا ذبحها ، وتحل مشكلتهم تلك بمعرفة الجاني الذي قتل أحد مشايخهم الاثرياء بضربه ببعضها ليحيا ويشخّص لهم القاتل وينتهي الخلاف المتأزم بينهم.

إلاّ أنهم مارسوا اللجاجة وماطلوا كثيراً في أداء التكليف ، متّهمين موسى عليه‌السلام بالهزو فيهم ، إذ قالوا : ( أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) (٢) ؛ لأن الهزو يناسب الجُهّال وهو كليم الله ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) (٣) ظناً منهم أنها ذات خصوصية فريدة في أوصافها قال : ( إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) (٤) أي ليست مسنة ولا صغيرة وإنّما هي ( عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ) أي متوسطة ( فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ) (٥) في ذبح هكذا بقرة ولا تماطلوا ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ) متكلفين

__________________

(١) البقرة ٢ : ٦٧.

(٢) البقرة ٢ : ٦٧.

(٣) البقرة ٢ : ٦٨.

(٤) البقرة ٢ : ٦٨.

(٥) البقرة ٢ : ٦٨.

٥٩

البحث فيما ليس مطلوباً منهم ومشددين على أنفسهم بما لم يشدد به عليهم ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ) (١) غير أنّهم لم يقفوا عند هذا الحد من اللجاجة والمماطلة فيذبحوا بقرة صفراء متوسطة العمر ، وما أكثر البقر الذي يتمتع بهذه المواصفات ، فلم يريحوا أنفسهم ولا نبيهم من عناء البحث والتدقيق بل نراهم اندفعوا في أسئلتهم التي تعقّد عليهم الأمر ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) ؟!! ( وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ) (٢) يالهم من حمقى لا يرفقون بأنفسهم ولا يتأدبون مع نبيهم ، إذ لم يسكتوا عما سكت عنه ، ويالهم من متكبرين في نفوسهم والفاظهم إذ لم يقولوا ادعُ لنا ربنا وإنّما قالوا ادعُ لنا ربك ؟!!

ومثل هذا الطرح يدلل على ضعف الإيمان وغلظة الجَنان ، ولعل المقصود من قولهم ( وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ ) يعني إلى التصديق العملي بأوامرك وتنفيذها ، قال : ( إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ ) بين يدي مالكها ، طبعها النفور وعدم الانصياع ، صعبة لا تنقاد. فهي متمردة على العمل لا ( تُثِيرُ الأَرْضَ ) (٣) أي لا تستخدم في حراثة الأرض كغيرها من البقر الذلول الذي ذُلّل بين يدي صاحبه ( وَلا تَسْقِي الحَرْثَ ) إذ هي ترفض العمل كغيرها في إدارة الناعور ( مُسَلَّمَةٌ ) من العيوب الجسدية ( لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) لونها أصفر بالكامل حتى قرنها وظلفها. وهكذا شدّد الله عليهم بتشديدهم على أنفسهم ( قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالحَقِّ ) أي بالوصف

__________________

(١) البقرة ٢ : ٦٩.

(٢) البقرة ٢ : ٧٠.

(٣) البقرة ٢ : ٧١.

٦٠