الرّفق في المنظور الإسلامي

ابو زلفى الخزاعي

الرّفق في المنظور الإسلامي

المؤلف:

ابو زلفى الخزاعي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-57-9
الصفحات: ٦٩

أن يتخلّقوا بأخلاقه ، فيكونون رحمانيين ورحماء ، وإلاّ فليس حرياً أن ينسبوا إليه مع تجافيهم وتباعدهم عن الرفق والرحمة.

والرحمانيون من النمط الأول تجلت وتجسدت بهم الرحمة المطلوبة في حياتهم الرسالية بكلِّ وضوح ، وهم الأنبياء والأوصياء والصلحاء ، والآيات في ذلك كثيرة ، إذ إنهم مأمورون بمكارم الأخلاق.

الآية الرابعة : ( هجراً جميلاً )

( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) (١).

الهجر الجميل : أن لا تتعرّض لخصمك بشيء ، وإن تعرّض لك تجاهلت (٢).

أُمِر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآية المباركة بالصبر ـ الذي منه كظم الغيض ـ على ما يسمعه من الاَقوال البذيئة التي لا تليق ومقام النبوة الشامخ ، صبراً لا عتاب فيه على أحد ، ولا اعتزاز بالشخصية ، أو دفاع عن الذات ، بل تركهم إلى الله سبحانه ، مع الهجر الجميل الذي لا يترك في نفوسهم شيئاً من وخز الضمير ما داموا لم يقابلوا بالمثل ، بل بالهجر الجميل الذي لم يترك في نفوسهم اشمئزازاً من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يزرع فيهم ما يحول بينهم وبينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستقبلاً فلا يُقبلوا عليه ولا يسمعوا هديه ، بل كان هجراً جميلاً لم يقطع خيوط المودة ولم يهدم جسور التواصل التي تمر من خلالها رسالة السماء التي تنشد لاُولئك التكامل وسعادة الدارين.

__________________

(١) المزمل ٧٣ : ١٠.

(٢) التفسير الكاشف ٧ : ٤٤٩.

٢١

والملاحظ في هذه الآية المباركة أن الله سبحانه استخدم لفظة الهجر ولم يستخدم مكانها لفظة الترك ، ولعل الأمر يعود إلى أن الترك يعني التخلي تماماً عنهم ، بينما الهجر يحمل معه معنى امكانية الرجوع إليهم والتبليغ فيهم مرة ثانية ، ولأجل هذه الاحتمالية يلزم أن يكون الهجر جميلاً ؛ لأنهم في حاجة إلى المعاودة والنصح والارشاد الذي لا يتحقق مع تواصل الهجر المستمر بلا انقطاع. ومن هنا يعلم أنّ رحمة الله عزَّ وجل لا يمكن تصور حدودها ، فهي شملت حتى من يسيء إلى مقام الرسل والانبياء ، أملاً أن يصلُحوا في مستقبل أيامهم ويعودوا إلى حضيرة الإسلام لينهلوا من آدابه ويتخلقوا بمكارم أخلاقه.

ولا يخفى ما في ذلك من عبرة عظيمة ، وموعظة جليلة ، إذ يمكن للمسلم الرسالي أن يستثمر الصبر على الاذى والهجر الجميل ؛ ليحصد ما يحمد عقباه.

الآية الخامسة : ( ادفع بالَّتي هي أحسن )

( وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١) في هذه الآية المباركة يتبين لنا حكم الله جلّ جلاله في المجالين : التكويني والتشريعي ، عند التفريق بين الحسن والحسنة من جهة ، والسيء والسيئة من جهة اُخرى ؛ إذ إنّ إرادته سبحانه شاءت أن تكون الطبيعة ويكون العقل شاهدين على التفاوت بين الاثنين ، وإلاّ كان الحسن والقبيح على حدٍ سواء ، والمحسن والمسيء بمنزلة واحدة ، وواقع الحال ليس كذلك ؛ إذ عدم التساوي بين الحسنة والسيئة

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٣٤.

٢٢

مسلّم عند سائر العقلاء ، ومقرر في جميع الشرائع بلا خلاف.

ولا يخفى بأن الاساءة للآخرين لها آثارها السلبية في تحقيق التكافل والتعاون ، واثارة البغضاء والعداوة ؛ لذا كان الأمر بدفعها من أقصر الطرق وأوضحها فائدة ، وأكثرها عائدة ، وذلك بان تقابل بالاحسان ؛ إذ الانسان مجبول على حب وتقدير من أحسن إليه.

وقد حملت لنا هذه الآية التوجيه الفذّ الذي يمكن من خلاله الوصول إلى هذه الغاية السامية ، وذلك بعقد مبدأ الرفق واللطف في عملية التدافع بين الحسن والأحسن فلا يُقدم الحسن على الأحسن ، ولا الفاضل على الأفضل ، أو المهم على الأهم. وهذه قاعدة عقلائية تستذوقها النفوس وترضاها الطبائع وتدعو إليها الفطرة ، وأمر بها الشرع ـ كما عرفت ـ بقوله : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).

الآية تقول : فرق بعيد بين عملك يا محمّد وأنت تدعو إلى الله وتتحمل الاذى في سبيله صابراً محتسباً وبين عمل الذين أجابوا دعوتك بالإعراض والأذى والافتراء.. إن عملك صلوات وحسنات ، وعملهم سيئات ولعنات.. وعلى الرغم من ذلك فعليك ان ترفق بهم وتتسامح معهم وتصبر على سفاهتهم ، فإنّ منهم من لو قابلته بهذه السماحة لعاد إلى ربّه وعقله ، وانقلبت عداوته لك إلى محبّة ، وبغضه إلى مودّة (١).

كأنه وليٌّ حميم :

ثم أن الآية ـ من أجل إرساء هذه الدعامة المهمة في آثارها

__________________

(١) التفسير الكاشف ٦ : ٤٩٢.

٢٣

والموضوعية في واقعها ـ أسست بناءً مهذباً للنفوس يقوم على هذه الحقيقة المتينة في حكمتها ، اللطيفة في رقتها ، الرحيمة في هدفيتها فقالت : ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١) أي اصبر على الأذى ، واكظم الغيظ الذي تبتلى به ، واحلم عمن أساء إليك ، وتعامل مع مصدر اتعابك وشانئيك تعامل الرؤوف الرحيم العطوف الكريم برفق ولطف يمس قلوبهم القاسية فيحولها من قسوتها وجفوتها عليك إلى تعاطفها وتجاذبها إليك ، ومن غفوتها ونومتها التي هي عليها ، إلى اليقظة والصحوة التي أنت فيها. فهي تأمرنا باعتماد منهجية الرفق مع أعداءنا إلى

الحد الذي يجلي الفرد الواحد منا أمام اعداء دعوته ( كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فيستقطب مجامع قلوبهم إليه حتى تصير اذان صاغية لهديه وارشاده فيستنقذها من ضلالها وجهالتها إلى الهدى والنور الذي هو عليه والدين والفكر الذي يدعو إليه.

ثم أن الدفع بالتي هي أحسن والتحلي بالرفق قبال الذي بينك وبينه عداوة حتى تبدو له كأنك وليٌّ حميم ، ليست قضية تخص البعد التبليغي فحسب دون المجالات الحياتية الاُخرى ، سياسية أو اجتماعية أو سلوكية عامة. فكل هذه المساحات وغيرها هي ليست في غنى عن هذا المبدأ الاخلاقي القويم الذي يبلور الشخصية الرصينة في حركتها الفردية والاجتماعية ، ويكشف عن سماحتها وعلو همتها وعظم قدرها.

وكم صدقت هذه القاعدة على حالات كانت في منتهى التوتّر ، وشيكة أن تقود إلى سفك دماء كثيرة بغير حقّ ، فإذا الهياج ينقلب إلى سكون ، ويعود الزمام المنفلت إلى محلّه ، ذلك حين قوبل الغضب المجنون

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٣٤.

٢٤

بنبرات هادئة من نفسٍ مطمئنة ! وبالعكس تصنع الكلمة الاُخرى ، فينقلب السكون غضباً مجنوناً ، وينفلت الزمام ..

المؤرّخ الفيلسوف أبو علي مسكويه ينقل في ( تجارب الاُمم ) بالتفصيل الحوار الخطير الذي أداره الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مع الزبير بن العوام قبل نشوب معركة الجمل ، إذ دعاه فالتقيا بين الصَفّين فقال له : ( « يا زبير ، أتذكر يوم مررتَ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني غنم فنظر إليَّ وضحِك وضحكتُ إليه ، فقلتَ : لا يدع ابن أبي طالب زَهوه ! فقال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَه ! إنه ليس كذلك ، ولتقاتلنّه وأنت له ظالم » ؟

قال الزبير : اللهمّ نعم ، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا ، والله لا أقاتلك أبداً.

فانصرف عليّ عليه‌السلام وحكى ذلك لأصحابه ، ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها : ما كنتُ في موطن مذ عقلت إلاّ وأنا أعرف فيه أمري ، غير موطني هذا !

قالت : ما تريد أن تصنع ؟

قال : اُريد أن أدَعَهم وأذهب.

قال له ابنه عبدالله : جمعتَ هذين الفئتين حتى إذا جرّد بعضهم لبعض أردتَ أن تتركهم وتذهب ؟! أحسست رايات ابن أبي طالب وعلمت أنّها بأيدي فتية أنجاد !!

فغضب الزبير حتى اُرعِد ، ثم قال : ويحك ، إني قد حلفتُ ألاّ اُقاتله !

قال : كفّر عن يمينك !!

٢٥

فدعا غلاماً له يقال له مكحول فأعتقه.

فقال عبدالرحمن بن سليمان التميمي :

لم أرَ كاليوم أخا إخوان

اعجَبَ مِن مكفِّرِ الإيمان

بالعتقِ في معصية الرحمن

قال مسكويه : وإنّما حكينا هذه الحكاية لأنّ فيها تجربة تستفاد ، وإن ذهب ذلك عن قوم فإنّا ننبّه عليه ، وذلك أنّ المُحنق ربّما سُكِّن بالكلام الصحيح ، والساكن ربّما أحنق بالزور من الكلام ) (١).

غير أن تلك السماحة لا تؤتي أثرها إلاّ وهي صادرة مع القدرة على الردّ ، وإلاّ انقلبت في نفس المسيء ضعفاً وذلاً ، فلا يبقى عندئذ للحسنة أثر على الإطلاق.

كما أن هذه السماحة لا تتعدى حالات الاِساءة الشخصية ، أما العدوان على العقيدة أو على العرض والمال فلا يقابل إلاّ بمثله ، فالنبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يحسن إلى من أساء إليه فوضع الأذى في طريقه أو أسمعه غليظ الكلام ونحو ذلك ، ويعفو ويصفح ، هو نفسه القائل حين يكون العدوان على العقيدة : « والله ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه » (٢).

__________________

(١) تجارب الاُمم ١ : ٣٢٢. ونصّ الحوار الذي دار بين أمير المؤمنين عليه‌السلام وبين الزبير ثابت لدى سائر المؤرخين ، فانظر : الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣٥.

(٢) تاريخ الطبري ١ : ٥٤٥.

٢٦

ولا شكّ أن الوصول لمثل هذا أمر متعسر على الجميع ولا يحلق في سماء فضيلته إلاّ الكمّل من الناس وبدرجات متفاوتة هي على قدر هِمّة الساعين إليه.

ذو حظٍ عظيم :

ولأجل هذه الحقيقة القائمة بين الناس نرى الآية القرآنية المباركة التي تلتها تصرّح بهذا الأمر. إذ تقول ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (١) فهي تعلن أن مبدأ الرفق والبلوغ من خلاله إلى درجة الدفع بالتي هي أحسن حتى يصير كأنه وليٌّ حميم ، أمر يليق بالعينات السائرة في درب التكامل ، وقد استحقت الدخول في زمرة الذين صبروا وطبيعي أن هذه الزمرة هي من ذوات « الحظ العظيم » أي من ذوات الرأي السديد ، والعقل الراجح ، والرعاية الخاصة ، والنصيب الأوفر في مجال الفيوضات الربانية بما يستحقونه على صبرهم وتحملهم في سبيل الله ، وبما لهم من حظٍّ وافر في مكارم الاخلاق وفواضل السجايا.

فهنيئاً للصابرين منّا في درب الإسلام العزيز ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (٢) ( ... وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ ) (٣).

في حديث قدسي شريف ـ يسنده الإمام الصادق عليه‌السلام إلى رسول

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٣٥.

(٢) النحل ١٦ : ٤٢.

(٣) البقرة ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٧.

٢٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال الله تعالى : « إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً ، فمن أقرضني منها قرضاً أعطيته بكلِّ واحدةٍ عشراً إلى سبع مئة ضعف وما شئتُ من ذلك ، فمن لم يقرضني قرضاً فأخذتُ منه شيئاً قسراً فصبر أعطيته ثلاث خصال لو أعطيتُ واحدةً منهنّ ملائكتي لرضوا بها منّي ».

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « قوله تعالى : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ) فهذه واحدة من ثلاث خصال ، ( وَرَحْمَةٌ ) اثنان ، ( وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ ) ثلاث .. هذا لمن أخذ الله منه شيئاً قسراً فصبر » (١).

هذه الصلوات والرحمة عليهم في الدنيا تصنع فيهم الشخصية الفذة وتمنحهم العزيمة الصامدة ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) (٢) فالغفران ـ وهو مفردة من المفردات التي يقوم عليها مبدأ الرفق ـ هو من أعلى الأعمال شرفاً وأكثرها ثباتاً ، وإنّه لكاشف قطعاً عن هممٍ عالية وعقولٍ راجحة ومروءة صادقة ، يلازمها على الدوام ترفّع على تتبع عثرات الآخرين ، وبهذا يكسب ودّهم ويسمو عليهم لسمو روحه عن دوافع الثأر للذات والتذبذب في حضيض ( الأنا ).

هذه بعض الآيات المحكمات التي يمكن الاستفادة منها والاستضاءة بأنوارها والاهتداء بها في موضوع الرفق تفيّأنا تحت ظلالها الوارفة في وقفتنا القصيرة هذه ، والمتأمل في آيات الذكر الحكيم يجد غيرها من الآيات البينات التي تدعو إلى الرفق واللين واللطف والرأفة في حركة الفرد والمجتمع.

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ تحقيق مؤسسة البعثة ـ ط١ ـ ١٤١٥ ه‍.

(٢) الشورى ٤٢ : ٤٣.

٢٨



الفصل الثاني

الرفق في السُنّة المطهّرة

جاء في كثير من الأحاديث الشريفة الحث على الرفق والدعوة إليه وبيان أهميته وتحديد أبعاده وتشخيص ثمراته ، ولا بأس بالوقوف على ضفاف شواطىء تلك الاحاديث ؛ لنغترف من عذب مائها الرقراق في زمن الضمأ ؛ حيثُ الافكار المادية العكرة وما نصبته لهذا الإنسان من كؤوس مرة المذاق لا تروي الغُلّة ولا تشفي العِلّة.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمدح الرفق :

لقد مدح النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرفق بأحاديث كثيرة نذكر بعضاً منها :

١ ـ الرفق يُمنٌ والخُرق شُؤم :

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الرفق يُمنٌ والخُرق شؤمٌ » (١).

وهذا الحديث يصف الرفق باليُمن ، أي : البركة ؛ لمِا لَهُ من دور حيوي

__________________

(١) الكافي ٢ : ١١٩ / ٤ باب الرفق. إحياء علوم الدين ٣ : ١٨٥. والخُرق : الجهل والحُمق.

٢٩

في شدّ أزر الناس بعضهم إلى البعض الآخر من خلال ما يزرعه في نفوسهم من المحبة والصفاء ، حتى يعودوا مباركين في تصرفاتهم ، فيعمّ اليمن ساحتهم وتتغشاهم بركات السماء.

٢ ـ الرفق جمال :

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّ الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه ، ولا نُزع من شيء إلاّ شانه » (١).

وهذا الحديث يحكي جمالية الرفق في أنه لبوس حسن ، يزين مرتديه ، فمن تخلّق بالرفق فإنّ الرفق سيزينه ويزيده جمالاً ووقاراً وهيبة ، فلا يلتفت الآخرون إلى ماهو عليه من عيوب ونقاط ضعف لا ينجو منها عادة إلاّ الكُمّل من الناس ، وعلى العكس من ذلك فلو أن إنساناً يستجمع من المزايا الحميدة الشيء الكثير غير أنّه لا يتخلق بالرفق في تصرفاته ، فإنّ مثل هذا الإنسان سرعان ما ينفر الناس منه لما للرفق من دورٍ مهم في الكشف عن الاخلاق العملية التي يتفاعل معها الآخرون.

٣ ـ جمال ماهية الرفق وحسن جوهره :

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو كان الرفق خَلقاً يرى ما كان مما خلق الله عزّ وجل شيء أحسن منه » (٢).

ويبين لنا هذا الحديث جمال ماهية الرفق وحسن جوهره الباهر ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ١١٩ / ٦ باب الرفق. وقريب منه في إحياء علوم الدين ٣ : ١٨٥.

(٢) الكافي ٢ : ١٢٠ / ١٣ باب الرفق.

٣٠

فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لو كان الرفق خلقاً يرى » ، أي : لو أن لحقيقة الرفق صورة مجسدة تظهر للعيان وتتمثل للاِنسان « ما كان مما خلق الله عز وجل شيء أحسن منه » فهو يفوقها حسناً وجمالاً ، وبهذا الطرح الافتراضي والتصويري يبين لنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما للرفق من جمالية في حقل الاخلاق وكيانها التكاملي الشامخ.

٤ ـ الرفق خير :

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أُعطي حظّه من الرفق أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة » (١).

وفي هذا الحديث إخبارٌ عن الصادق الامين بأن من يرزق الرفق يرزق الخير كله. وهذا يعني أن الذي يزداد رفقاً ، يزداد من خير الدنيا والآخرة ، وعلى العكس سيكون حال الآخر الذي حُرم حظّه من العقل والوقار ، وصرعته الأنا ، فاستبدل أناةً بالحُمق ، وجهلاً بالحلم ، فزرع لدنياه وآخرته ما يسوءه حصاده ، وتُطيل ندامته عقباه ..

٥ ـ الرفق نصف المعيشة :

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « التودد إلى الناس نصف العقل والرفق نصف المعيشة ، وما عال امرؤ في اقتصاد » (٢).

وبهذا التشخيص الدقيق في بعده الاجتماعي تتوضح أهمية الانفتاح

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ٦ : ٢٢٩. إحياء علوم الدين ٣ : ١٨٥.

(٢) بحار الأنوار ٧١ : ٢٤٩.

٣١

على الآخرين ، ومداراة عقولهم ، والانسجام معهم من خلال الرفق بهم دون الغلظة عليهم ، ويعتبر ذلك الرفق معادلاً لنصف الجهد الذي يبذله الإنسان في دائرة عمله الاقتصادي بين أفراد المجتمع ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا يعطي أهمية فائقة للاخلاق في المجال الاجتماعي والاقتصادي اللذين لا ينفكان عن تلازمهما في تسيير عجلة الحياة المعاشية للفرد والأُمة ، ولأجل هذه الحقيقة الحيوية جاء قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفقرة الاَخيرة وما عال امرؤ في اقتصاد.

٦ ـ الرفق كرم :

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الرفق كَرمٌ ، والحلم زَينٌ ، والصبر خيرُ مَركب » (١).

بهذا الوصف النبوي الشريف يكون المتخلق بالرفق كريماً موقعه بين الناس ، يلزمهم تبجيله وتعظيمه على سجيته هذه. وبهذا الاحترام تتوسع دائرة الرفق بينهم لما للقدوة من أثر في تعميق المفهوم ، واستحقاقه لهذا التجليل جاء من تكرّمه وترفّعه عن متابعة الآخرين في هفواتهم وزلاّتهم.

٧ ـ الرفق وزير الحلم :

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نِعمَ وزير الايمان العلم ، ونِعمَ وزير العلم الحلم ، ونِعمَ وزير الحلم الرفق ، ونِعمَ وزير الرفق اللين » (٢).

استوزر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العلم للايمان ، الحلم للعلم ، الرفق للحلم

__________________

(١) بحار الانوار ٦٩ : ٤١٤.

(٢) بحار الأنوار ٧٥ : ٥٢.

٣٢

واللين للرفق ، وبهذه المنظومة المباركة بيّن لنا التماسك الحيوي بين الايمان والعلم والاخلاق ، فمن أراد الإيمان فعليه بالعلم ، ومن أراد العلم الذي يفضي إلى الإيمان فعليه أن يتزين بالحلم الذي يجعل من العلم علماً هادفاً نحو التكامل لا العلم الذي يرافقه الغرور والعجب والتكبر ، ومن أراد إيماناً يستند إلى العلم النافع والمستوزر بالحلم فما عليه إلاّ التخلق بالرفق الكاشف عن واقعية الحلم وحقيقته.

الرفق الذي يتضمن : السماحة واللطف والانفتاح والتواضع وتكليم الناس على قدر عقولهم والتجاوز عن سيئاتهم والترفع من متابعة هفواتهم، رفقاً يتجلى فيه اللين وتمحى من ساحته الغلظة ، فلا خشونة عند التعامل ولا جفوة بعد التخاصم ، ولا طغيان عند البغي ، هكذا يريدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أبعادنا العلمية والايمانية والاخلاقية ، وهكذا كان هو ـ روحي له الفدى ـ مجسداً لأخلاق القرآن ، وسنته العملية هي التعبير الادق لكلِّ ذلك الخُلق النبوي العظيم ، ولاجل هذه الحقيقة الناصعة والمحجة البيضاء عرّفه ربه سبحانه وتعالى بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ).

٨ ـ الله رفيق يحب الرفق :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنّ الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه » (١).

وفي حديث آخر قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّ الله عزَّ وجل رفيق يحب الرفق في الأمر

__________________

(١) الكافي ٢ : ١١٩ / ٥ باب الرفق. إحياء علوم الدين ٣ : ١٨٥.

٣٣

كلّه » (١).

فالله جلَّ جلاله رفيق ، والرفق خلقه ، إذ هو اللطيف بعباده والرحمن بخلقه والرحيم بالمؤمنين ، يرأف ويتحنن ويعفو ويسامح ويغفر ويتوب ، برٌّ كريم ، ودود حليم ، وهو ـ جلّ ثناؤه ـ يحب لنا أن نتخلق بأخلاقه حتى نغدوا ربانيين بأخلاقنا ؛ فربنا الصادق يحب لنا أن نكون صادقين ، وربنا المحسن يحب لنا أن نكون محسنين ، وربنا الرفيق يحب لنا أن نكون رفقاء. ولاشك أنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.

٩ ـ الله يعين على الرفق :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله يحب الرفق ويعين عليه » (٢).

في هذا الحديث المبارك يبين لنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الله مع كونه يحب الرفق ، فهو سبحانه يعين عليه ، فمن أراد التخلق بالرفق وسعى لاكتساب هذه الفضيلة فإنّ المد الإلهي يُقبل عليه ويقوّي فيه هذه العزيمة ، وهذا كقوله تعالى : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) (٣) فبعد أن أقبلوا على الايمان زادهم الله هدىً ، فكذا الحال في اكتساب سجية الرفق ، فإنّ الله يعين الساعين إليها بأن يسهل لهم سبل الوصول إلى بغيتهم التكاملية هذه.

فإذا وجدنا أنفسنا غير متخلقين بهذه السجية الفاضلة فإنّ العيب فينا ،

__________________

(١) كنز العمال : خبر ٥٣٧٠.

(٢) الكافي ٢ : ١٢٠ / ١٢ باب الرفق.

(٣) الكهف ١٨ : ١٣.

٣٤

إذ لم نسع نحوها حتى تُقْبِل هي إلينا.

١٠ ـ الرفق رأس الحكمة :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الرفق رأس الحكمة ، اللّهم من وليَ شيئاً من أمور أُمتي فرفق بهم ، فارفق به ، ومن شقق عليهم فاشقق عليه » (١).

الحكمة كما لا يخفى هي وضع الشيء في محله ، ولما كان الرفق هو من محامد الصفات التي يتصف بها الخالق المتعال وأنبياءه الكرام وذوي الحجى والالباب ، وبه يعالجون سقم الناس ، فهو الدواء المحكمة مراهمه ، والبلسم الناجح شفاؤه ، ينفع مع الفرد في تطبيبه وتهذيبه ، ومع الاُمّة في تدبير أمرها وسَوْسها.

فالنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن يعرّف الرفق بأنه رأس الحكمة ، يتوجه إلى ربه بالدعاء بالرفق لمن يرفق بمن وُليَّ عليه ، وبالمشقة على من يشق عليهم ، ولاشك أن دعوة المصطفى حبيب الله هي دعوة مستجابة حتماً ، وهي في الوقت نفسه كشف عن قانون وإرادة سماوية في المكافأة والمجازاة على الأفعال.

١١ ـ أفضل الصاحبين :

الصحبة في الله عمل ممدوح ، باركه الإسلام كثيراً ، وحثّ عليه ، وبشّر أهله بالثواب الجزيل والمنزلة الرفيعة ، لكن بين المتصاحبين في الله تفاضل ، فأحدهما أرفع منزلةً وأعظم أجراً من أخيه ، فبأيّ مزيّة نال هذا

__________________

(١) بحار الانوار ٧٥ : ٣٥٢.

٣٥

التفضيل ؟

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكشف لنا عن سرِّ هذه المفاضلة ، فيقول : « ما اصطحب اثنان إلاّ كان أعظمهما أجراً وأحبّهما إلى الله عزَّ وجل : أرفقهما بصاحبه » (١).

الرفق إذن هو الذي رفع أحد الصاحبين على أخيه درجةً ، وشرّفه بمنزلة من حبّ الله أعلى.

١٢ ـ الزيادة والبركة :

إنّ الله تعالى ليجازي عباده على مكارم الاخلاق في الدنيا فيريهم ثمراتها ، كما يدّخر لهم ليوم لقائه ما هو أنمى وأبقى ، فما الذي يراه المتحلّي بالرفق في دنياه ؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ في الرفق الزيادة والبركة ، ومن يُحرم الرفق يُحرم الخير » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما زوي الرفق عن أهل بيت إلاّ زويَ عنهم الخير » (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس » (٤).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « أيّما أهل بيت اُعطوا حظّهم من الرفق فقد وسّع الله عليهم في الرزق ، والرفق في تقدير المعيشة خيرٌ من السعة في المال ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٢٠ / ١٥ باب الرفق.

(٢) الكافي ٢ : ١١٩ / ٧ باب الرفق.

(٣) الكافي ٢ : ١١٩ / ٨ باب الرفق.

(٤) الكافي ٢ : ١٢٠ / ١٦ باب الرفق.

٣٦

والرفق لا يعجز عنه شيء والتبذير لا يبقى معه شيء ، إنّ الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ الرفق » (١).

١٣ ـ الرفق سور الايمان :

عن هشام بن أحمر ، قال : جرى بيني وبين رجل من القوم كلام ، فقال لي أبو الحسن عليه‌السلام : « ارفق بهم ، فإنّ كُفرَ أحدهم في غضبه ، ولا خير في من كان كفره في غضبه » (٢).

وفي كلام بعض الصالحين : ما تكلّم الناس بكلمة صعبة ، إلاّ وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها (٣).

١٤ ـ الرفق في حقوق المؤمنين :

ركّز الإسلام كثيراً عنايته بحقوق المؤمنين بعضهم على بعض ، حفظاً لكرامة الإنسان المؤمن ، وصيانة للمجتمع ورصّاً لصفوفه ، قال تعالى : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) (٤).

والرفق واحد من تلك الحقوق التي ينبغي حفظها ، وفي ( رسالة الحقوق ) التي أفاض بها الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام أكمل دستور يتناول شعب الحقوق وجوانبها وألوانها ، وفيها تجد للرفق حظّه المبرّز وهو يوزعه على أولى الفئات التي ينبغي أن يحفظ لها حقّها فيه ،

__________________

(١) الكافي ٢ : ١١٩ / ٩ باب الرفق.

(٢) الكافي ٢ : ١١٩ ـ ١٢٠ / ١٠ باب الرفق.

(٣) إحياء علوم الدين ٣ : ١٨٦.

(٤) التوبة ٩ : ٧١.

٣٧

ومنها :

المسلمون عامّة :

قال عليه‌السلام : « وحقّ أهل ملّتك : إضمار السلامة ، والرحمة لهم ، والرفق بمسيئهم ، وتألّفهم ، واستصلاحهم ، وشكر محسنهم ، وكفّ الاذى عنهم » (١).

المستنصح :

وقال عليه‌السلام : « وحق المستنصح : أن تؤدّي إليه النصيحة ، وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به » (٢).

الزوجة :

وقال عليه‌السلام : « حقُّ الزوجة : أن تعلم أنّ الله عزّوجلّ جعلها لك سكناً وأُنساً وتعلم أنّ ذلك نعمةً من الله عليك ، فتكرمها ، وترفق بها ، وإن كان حقك عليها أوجب فإنّ لها عليك أن ترحمها لأنّها أسيرك ، وتطعمها وتسقيها وتكسوها ، وإذا جهلتْ عفوتَ عنها » (٣).

وفي الزوجة جاءت وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفقاً بالقوارير » (٤).

الصغير :

وقال عليه‌السلام : « وحق الصغير : رحمته في تعليمه ، والعفو عنه ، والستر عليه ،

__________________

(١) شرح رسالة الحقوق ، للسيد حسن القبانچي ٢ : ٥٤١.

(٢) رسالة الحقوق ٢ : ٣٨٧ حق المستنصح.

(٣) المصدر السابق ١ : ٥١٧ حق الزوجة.

(٤) مسند الحميدي : ١٢٠٩.

٣٨

والرفق به ، والمعونة له » (١).

وهكذا يزيّن الرفق أخلاق المرء وحياته ، بل أخلاق المجتمع كلّه ، ليسهم مع إخوانه من مكارم الاخلاق في بناء انسان متكامل ومجتمع متين متجانس يسوده الائتلاف والوئام، وتتجذّر فيه كلّ عناصر الصحة والقوّة والصلاح.

١٥ ـ الرفق بالحيوان :

الرفق مع الاقتدار ، مبدأ ، وليس وسيلة لتحقيق غاية آنية أو مرحلية ، من هنا فليس هناك حدّ زمني بين الرفق وضدّه ، بل قد يكون هناك حدّ تفرضه طبيعة سلوك الطرف الآخر المقصود بالرفق ، طبيعة سلوكه وليس ذاته .. فالتحوّل مع الطفل من الرفق الظاهر إلى التأديب اللازم أمر يفرضه سلوك الطفل لا ذات الطفولة التي كنا قبل صدور هذا السلوك نتعامل معها بالرفق كلّه .. وكذا فالذات الاِنسانية أيضاً لا تحتكر الرفق لنفسها ، بل تشاركها فيه كلّ ذوات الأرواح ، وحتّى النبات ، وربما الجمادات الميتة أيضاً ، فلربما رأيتَ صبياً يعبث بالحصى بكلِّ عنف ، يهشم ويحطم ، فأخذتك على هذه الحصى شفقة ، أو أثار فيك المنظر اشمئزازاً. وهذا شأن الخُلق حين يكون متأصلاً في الفطرة ، فكيف بك وأنت ترى معتوهاً يبطش ببهيمة ضعيفة لا تملك الدفاع عن نفسها ولا حيلة لها بالفرار من بين يديه ، إلاّ أنها تصرخ وتجأر بكلِّ ما تحسبه يرقّق القلوب ويستدرّ العواطف عليها من صوت ؟

__________________

(١) رسالة الحقوق ٢ : ٤٥٥ حق الصغير.

٣٩

وكم استغلّ الشذوذ البشري ضعف الحيوان وقلّة حيلته ليتخذه وسيلة للعبه وطيشه ، فيجري عليه تجارب طيش معتوه بفنون الحبس وفنون التعذيب ، وربما اتخذها مخبراً لقدراته في الصيد ، فيجندل منها حتى يروّي غروره فيعود منتفخ الصدر ومن ورائه عشرات الجثث الهامدة من أنواع الحيوان التي كانت تملأ الصحارى والحقول والاَنهار والخلجان روحاً وحركة وزينة وحياة ..

فإذا كان الإسلام دين الهداية الحقّة الذي أخذ على عاتقه مسؤولية نظم الحياة واعمار الدنيا ، فلا تفوته العناية بالحيوان وحفظ حقّه ، بعد أن أعطى الإنسان ما يستحقه ، بل بعد أن تعدّت رعايته للنبات الذي جعل تعاهده ورعايته عبادةً جزاؤها الثواب العظيم ، وأعطى في الجنة شجرة تضلّه لمن غرس في الدنيا مثلها ، وزاد على ذلك أن نفخ في رُوع تابعه أن لو كانت بيدك فسيلة ، وليس بينك وبين قيام الساعة إلاّ أن تغرس هذه الفسيلة فاغرسها قبل قيام الساعة !

ترى كيف كانت رعايته للحيوان الذي يعيش مع الإنسان ويساهم في اعمار دنياه ؟

صاحبة السفر :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّ الله يحب الرفق ويعين عليه ، فإذا ركبتم الدواب العجف فأنزلوها منازلها ، فإن كانت الارض مجدبة فانجوا عنها ، وإن كانت مخصبة فأنزلوها منازلها » (١).

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٢٠ / ١٢ باب الرفق.

٤٠