الرّفق في المنظور الإسلامي

ابو زلفى الخزاعي

الرّفق في المنظور الإسلامي

المؤلف:

ابو زلفى الخزاعي


الموضوع : الأخلاق
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-57-9
الصفحات: ٦٩

Description: image001

١

٢

Description: image002

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، نبينا محمد المصطفى وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

وبعد ، إنّ من مهام الدين التي لا تنفصل عنه : تنظيم أنشطة الغرائز الفردية ، وتنظيم العلاقات الاجتماعية ، وأنشطة الغرائز لوحدها ذات بعدين: فردي تنعكس آثاره على الفرد ذاته ، واجتماعي تمتد آثاره إلى المجتمع لتظهر في طبيعة علاقاته وفي صورته النهائية بالضرورة .. وهذا النظام المعني بتنظيم ذلك كلّه هو النظام الاخلاقي ، ببعديه ؛ الفردي والاجتماعي.

وهو من النظم التي تميّزت بها الاديان عن النظريات الوضعية ، حتى عادت هذه الأخيرة تستعير من الاديان بعض جوانب نظم الاخلاق التي لا تستقيم الحياة بدونها.

إنّ تركيز الإسلام على ثنائية الانسان ـ الروح والمادة ـ هو تجلية لواقع الانسان ولضرورات الحياة معاً ، وكما أخفق الماديون في تعطيل حاجات الروح ، أخفق الرهبانيون في تعطيل الحاجات الجسدية والمادية ، ودفع الاثنان ضريبة ذلك في فقدان التوازن ، توازن حاجات الفرد وحاجات المجتمع ، وكما اضطر الفريق الاول الى اقتباس بعض تعاليم الايان في اشباع حاجات الروح ، اضطر الفريق الثاني ولو متنكراً إلى اشباع حاجات الجسد ، خضوعاً اضطرارياً إلى صرامة القانون الذي تفرضه الطبيعة البشرية الثنائية ، والذي لا يمكن ضمان استقرار الانسان وتكامله من خلال التمرّد عليه ، ذلك القانون الذي نلمس أكمل مصاديق صيانته في تعاليم الإسلام الحنيف ، فهو في الوقت الذي يحث فيه على اشباع حاجات الروح بالعبادات من فرائض ونوافل ، صلوات واذكار وصيام وحج وزكاة وعطاء ، نراه يحث بالقوة نفسها على اشباع حاجات الجسد.

نعم إن النظام الاخلاقي في بعديه ـ الفردي والاجتماعي ـ هو رسالة الاديان السماوية كافة ، ذلك أن مصدر هذه الاديان كلها واحد ، وهو الواحد ذاته المتفرّد بخلق الطبيعة البشرية والعالِم بسرّها وبما يصلحها ويقودها إلى الكمال والتألّق ،

٥

ولربما أوجز خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته في بعض جوانبها بقوله الشريف : « إنّما بعثتُ لاُتمم مكارم الأخلاق » وفي نص مماثل : « إنّما بعثتُ لاُتمم صالح الأخلاق ».

وإذا كان النظام الاخلاقي ذا بعدين ، فقد عني الإسلام برعايتهما معاً وبالدرجة نفسها دون ترجيح لاحدهما على الآخر ، فكما عني بصلاح الفرد ووضع له نظامه الذي يصونه ، فقد عني بصلاح المجتمع ووضع له النظم والضوابط التي تحفظه وتصونه ، ومن تلك النظم والضوابط ما تمثله التعاليم التي تهدف إلى تنمية الروح الاجتماعية لدى الأفراد ، ابتداءً بالتربية التي توفّرها صلاة الجماعة والجمعة ومواسم الاعياد الإسلامية وموسم الحجّ وصلة الأرحام وعيادة المرضى والدعاء للمؤمنين سراً وعلانية وأداء التحية وردّها وانتهاءً بقوانين التكافل الاجتماعي التي لا تقف عند حدود الزكاة والصدقات بل تتعدى إلى الايثار والتضحية في سبيل المجتمع المؤمن.

وفوق ذلك تميّز عمق النظام الاخلاقي في الإسلام بالتأكيد في تعاليم متعددة على أنّ صلاح أحد العنصرين ـ الفرد والمجتمع ـ ليس فقط مكملاً لصلاح الآخر ، بل قد يكون وقفاً عليه تماماً.

ومن هذه الأهمية التي يمثلها النظام الاخلاقي في الإسلام فقد جعل مركز الرسالة للبحوث المعنية في التعريف بهذا النظام حظّها المناسب في سلسلة اصداراته الموسومة بسلسلة المعارف الإسلامية ، وهو في اصداره هذا يقدم لقرائه واحداً من الاسهامات الموفقة في تجلية ركن من أركان النظام الاخلاقي ، وهو « الرفق ».

ذلك الخُلق الذي وصفه الحديث الشريف بأنّه : « لو كان خَلقاً يرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه » وإنه : « لم يوضع على شيء إلاّ زانه ، ولا نُزع من شيء إلاّ شانه » ، لنستفيء في ظلّه ساعة ، متنسمين عطر الآي العظيم وحديث النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرين : ومقتبسين شذرات من سير الاُسوة الحسنة ، علّها تكون لنا معالم هدى إلى الخلق الكريم.

والحمدُ لله أولاً وآخراً

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

عندما اختفت شمس الهداية خلف غيوم الحضارة المادية ، وحُرِم الانسان من دفئها وسناها الباعث روح الحياة في هذه النفوس ، قست القلوب وغادرت الرحمة أفق هذا الزمن وضعف الوجدان عن أداء دوره ، وغفا الضمير على نغمات عصره ، فلم يعد للرفق واللطف وما إلى ذلك من مفردات معنوية وجود فعلي ودور عملي على ساحة الواقع المادي.

نعم لم يبقَ منها لاِنسان القرن العشرين إلاّ العناوين التي قد كبرت ، والشعارات التي قد تكثرت ، وقد استفاد من هذه وتلك قساة الصهاينة والشيوعيون وكل الطغاة والمستكبرين ، فأسسوا الجمعيات والاحزاب تحت تلك الشعارات وتلك العناوين لتحقيق أهدافهم الاستعلائية ونواياهم التسلطية ، ومارسوا الغلظة بدل اللطف ، والقسوة مكان الرأفة والشدة عوض الرفق.. وحرموا الإنسان من حرية الفكرة وحرية الإرادة وحرية الاختيار ، تحت شعارات تحمل هذه العناوين لفظاً لكنّها خالية من المضمون واقعاً.

إنّ رقي الاُمم إنّما هو بمقدار ما تمتلكه من قيم أخلاقية تتفاضل من خلالها ، وتتنافس مع غيرها من أجل الحفاظ عليها وديمومتها منهجاً للأجيال. ومن هنا أدرك الكثير من الاُمم التي أوجدت لمجتمعاتها معايير مادية أخطار تلك المعايير في تفتيت وحدة المجتمع التي تضعها روح الاخاء بين أفراده ، فأوصدت أبواب الاُلفة والتعايش على مائدة القيم

٧

الاخلاقية ، بعد أن أنمت فيهم روح الأثَرة وحب الذات والتنافس على حطام زائل ، مما أدّى إلى تفكك مجتمعاتهم تبعاً لتمزق شمل الاُسرة وانفراط عقد المودة بين أفرادها ، فازدادت بذلك مشاكلهم ، واشتدت أزماتهم الاجتماعية والاخلاقية والنفسية.

ومن الواضح أنه لن تجد تلك الاُمم الحلّ المناسب لجميع ما عصف بها من مشاكل على أثر مناهجها وسياساتها إلاّ في اقتباس خلق الإسلام وآدابه وتعاليمه التي هي في الواقع الاستقامة بعينها ، والاعتدال بنفسه ، والوسط المقبول بين الافراط والتفريط ؛ لاَن القطب الوحيد الذي تدور حوله رحى التوازن الفذة في كل شيء في السياسة والاجتماع والاخلاق لا يستقر إلاّ على محور الإسلام ، ذلك المحور الذي ينتهي بمريديه إلى أقصى درجات الكمال الممكن للانسان في سموه ورفعته وعزته وكرامته الحقيقية.

وتوضيحاً لمن غاب عنهم ما في دين الإسلام العظيم من كمالات لا نظير لها في دساتير العالم أجمع ولا قرين لها في الاديان السماوية الاُخرى ، تنطلق من ضرورة تصميم الرحمة الهادية ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) تلك الرحمة التي بعث بها من هو على خلق عظيم بشهادة السماء، لعلها تشق طريقها إلى النفوس الفاضلة فتروّي ضمأها من عذب نمير الإسلام ، جاء هذا البحث ..

ولما كان المسلمون اليوم هم أحوج من غيرهم إلى التعرف على ذلك لذا كان الخطاب إلى غيرهم عرضاً وإليهم ذاتاً ، لعلهم يعرضوا تصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم على مرآة الإسلام ومفاهيمه في كلِّ وقت وحين

٨

ليشاهدوا مدى انطباقها أو افتراقها عن منهج الإسلام ؛ فيقوِّموا بذلك اعوجاجهم ويعمقوا استقامتهم على ضوء ما سيعرضه البحث من مفردات الرفق لما فيها من رسالة تكاملية هادفة إلى كلِّ خير وصلاح.

ونحن في هذا المقتضب من الحديث عن الرفق ـ كفضيلة سامية ـ نحاول إعطاء فكرة مبسطة عن واقعه وأهميته في المنظور الإسلامي ، وذلك من خلال بيانات بعض الآيات المباركة والأحاديث الشريفة ، ليتضح بجلاء دور الإسلام العزيز في تربية الإنسان في كلِّ عصر وزمان على الشفقة والرحمة والتعايش المعنوي من أجل الحياة الحرّة الكريمة على وجه هذه الأرض والسعادة الاَبدية في عالم الخلود.

وليتبين البون الشاسع بين الحضارة الماديّة الجافة القاسيّة التي لا تُذكي إلاّ الأنانيّة والجشع والغلظة والقسوة ، وبين الإسلام الذي ينمّي روح التراحم والتواصل والايثار ، ويُرَبي الإنسان على مكارم الأخلاق ، ويحمله على المحبّة والصلح والتفاهم وحرية الإرادة وحرية الاختيار ، هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ اُخرى ليتبين البون الشاسع بين الإسلام وبين غيره من الأديان السماوية كالمسيحية مثلاً التي يتظاهر أتباعها بالدعوة الى الصلح والصفاء بين أبناء البشرية في العالم .. مبتدئين أولاً ببيان معنى الرفق ..

٩
١٠

مدخل في تعريف الرفق :

الرفق ضد العنف والشدّة ، ويُراد به اليسر في الاَُمور والسهولة في التوصل إليها ، وأصل الرفق في اللغة هو النفع ، ومنه قولهم : أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به ، ورفيق الرجل : من ينتفع بصحبته ، ومرافق البيت : المواضع التي ينتفع بها ، ونحو ذلك (١).

ويقال : رَفَقَ ـ به ، وله ، وعليه ـ رِفقاً ، ومَرْفِقاً : لانَ له جانبه وحَسُنَ صنيعه (٢).

والذي يعنينا من الرفق هنا ، هو ما يحمل لنا معاني اللين واللطف والسهولة واليسر ؛ لما لها من دور مهم في حياة المؤمن الرسالي ، وما يضطلع به من مهام وأدوار في حركته الواعية بين شرائح وعينات المجتمع بكل أشكالها ، وما لها من لبوس حسن جميل يدل على حسن وجمال سريرة المتلبس به ، واستقامة ذاته واعتدال تصرفاته ، إذ إن الرفق ليس مستهدفاً للغير في مهمته وتأثيراته فحسب ، بل هو يبدأ من الذات ليشمل غيرها من الأفراد والمجتمعات ، ويوصل إليها رسالة التكافل الاجتماعي بأبهى صُوَرِه.

وقد أكد الإسلام العزيز على هذه السجية الفاضلة والخصلة النبيلة

__________________

١ ـ مختار الصحاح ، الرازي : ٢٥١. معجم الفروق اللغوية : ٢٥٩.

٢ ـ المعجم الوسيط ( رفق ).

١١

ببيانات كثيرة ومتعددة الألفاظ ، داعياً أتباعه وحملة همومه وأهدافه إلى التحلي بها وتجسيدها في أرض الواقع العملي لتؤدي إلى الأهداف المطلوبة والغايات المرغوبة.

وجدير ذكره أن الذي صنعه الإسلام على صعيد العنصر الأخلاقي بجميع أركانه ومظاهره ؛ كالصدق والأمانة والبرّ والإحسان والرفق والعفو والرحمة والسلام والحب وغير ذلك ، إنّما هو على نحو التقرير والتنظيم والإحياء والإنماء ، لا على نحو الفرض العلوي المتعالي على الطبيعة البشرية ، ذلك لأن العنصر الأخلاقي عنصر فطري ثابت في الفطرة التي فطر الله عليها عباده ، ولا تبديل لخلق الله ، فمهما احتالت الأفراد أو الشعوب في زمن من الازمان لأجل قلب القيم وتجاهل أصالتها فإنها لا تستطيع أن تدعو بوضوح إلى اشاعة الكذب والخيانة والخسّة والدناءة ، حتّى ولو كانت تمارس ذلك بالفعل ، وليس ذلك إلاّ لأن للمبدأ الأخلاقي أصالة في الفطرة.

١٢



الفصل الأول

الرفق في القرآن الكريم

حثَّ القرآن الكريم على اعتماد الرفق خياراً مبدئياً في نهج الدعوة إلى الإسلام ، واعتبره ركناً وأساساً مهماً يقوم عليه صرح الهدى الرسالي للفكر والعقيدة الحقّة التي دعى إليها جميع الأنبياء والمرسلين : ، ولقد تعددت لغة الخطاب القرآني لتمتلىء بها كلّ الآفاق التي يمتد إليها الرفق في معانيه الواسعة وغاياته البعيدة.. وسوف نصنف هنا الآيات الواردة في الرفق بحسب مواردها ، على النحو الآتي.

الآية الاُولى : ( اللين والعفو )

خاطب الله سبحانه نبيه الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ على اللهِ ) (١).

اللين في المعاملة : الرفق.

__________________

١ ـ آل عمران ٣ : ١٥٩.

١٣

أي أنّ لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين ، لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين (١).

فلولا هذا الرفق الذي اعتمده الرسول مع من أُرسل اليهم لما تمكن من استقطاب الناس حول رسالته ، إذ إن الفضاضة والغلظة المناقضة للرفق واللين إذا ما اعتُمدت خياراً منهجياً في التبليغ والدعوة إلى الحق فإنَّ مردودها سيكون عكسياً ، لا يثمر استقطاب الناس حول ذلك الحق وإن كان أبلجاً. بل على العكس من ذلك ، سيعمل على التنفير وانفضاض الناس من ساحة ذلك القطب الهادي والمنار الواضح. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودٍّ يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلبٍ كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنّيهم بهمّه ، ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضا.

وتعميقاً لروح الرفق واللين التي يريدها الله جل شأنه في الدعوة إلى الحق ، جاء التأكيد في نفس تلك الآية المباركة على ما يجسد حالة الرفق واللين العملي بين يدي المؤمنين ، في جملة مكارم الأخلاق التي اهتم الإسلام بتحقيقها على النحو الأكمل وإشاعتها بين الناس ، فهي تأمر بالعفو لمن يُسيء والغفران لمن يخطىء ، ليتجلى الرفق ويتمظهر اللين في حركة التغيير والاصلاح على منهجية المبلغ الرسالي ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٨٦٩.

١٤

ولمزيد من الرفق أمرت هذه الآية الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن يقتدي به من باب أولى ـ أن يشاور أُولئك الذين صدر عنهم الفرار من الزحف وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الميدان مع نفرٍ قلائل من أصحابه ، فقال عزَّ وجل ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ) وبعد ذلك يُمضي ما يراه الأصوب في ذلك ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) والآية اذن تضرب على وتر الرفق بكلِّ أبعاده ليُنشد أنغامه القدسية في هذه الحياة ، وليصنع الأثر الذي يريده الله تعالى في درب التكامل البشري من خلال رسالته السامية.

ويحضى الأمر باللين والرفق والرحمة في هذا الموضع بالذات بوقع خاص يجلّي أهميّة هذه القيم على نحو قد يُظهره موضع آخر .. إذ جاء ذلك على أثر مخالفة المسلمين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أُحد ، تلك المخالفة التي أدّت إلى أسوء النتائج إذ دهمهم العدو ، فلم يجدوا في أنفسهم ثباتاً ، فانقلبوا منهزمين يلوذون بالجبل ، وتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع نفرٍ يسير من أصحابه ، حتى أثخنته الجراح وكُسرت رباعيته وشُجّ وجهه ، وهو صامد يدعوهم فلم يفيئوا إليه حتى انكشف العدو ، فلمّا رجعوا لم يعنّفهم ولم يُسمعهم كلمة ملامة ولا ذكّرهم بأمره الذي خالفوه فتحمّلوا بخلافهم مسؤولية كلّ ما وقع .. « بل رحّب بهم وكأن شيئاً لم يكن ، وكلّمهم برفق ولين ، وما هذا الرفق واللين إلاّ رحمة من الله بنبيّه وعون له على رباطة الجأش .. وإذا مدح الله نبيّه بكظم الغيض والرفق بأصحابه على اساءتهم له، فبالأولى أن يعفو الله ويصفح عن عباده المسيئين .. ثمّ بيّن سبحانه الحكمة من لين جانب نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخطابه له : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ ) وشمت العدوّ بك وطمع فيك ولم يتمّ أمرك وتنتشر رسالتك ..

١٥

إنّ المقصود من بعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداية الخلق إلى الحق ، وهم لا يستمعون إلاّ إلى قلب رحيم كبير كقلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وسع الناس ، كلّ الناس ، وما ضاق بجهل جاهل أو ضعف ضعيف » (١).

الآية الثانية : ( خفض الجناح )

( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع (٣).

أي ألِن لهم جانبك وارفق بهم ، والعرب تقول : فلان خافض الجناح إذا كان وقوراً حليماً .. والمعنى : تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينك (٤). والتعبير عن تلك المعاني بخفض الجناح تعبير تصويري يمثّل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقّة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.

وفي هذه الآية الكريمة تعبير آخر عن الرفق واللين واللطف واليسر ، التي يحرص القرآن المجيد على أن يتخلق بها حملته ومبلّغوا تعاليمه ، وقد خوطب بها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو الذي يشهد له القرآن بقوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٥) وقوله سبحانه : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ

__________________

(١) التفسير الكاشف ٢ : ١٨٨.

(٢) الحجر ١٥ : ٨٨.

(٣) تفسير الرازي ٩ : ٢١١.

(٤) مجمع البيان ٦ : ٤٤٧.

(٥) القلم ٦٨ : ٤.

١٦

مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (١). وهو الذي يقول لأصحابه « إنّ أحبكم إليّ يوم القيامة وأقربكم مجلساً أحسنكم أخلاقاً ، الموطّئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون » (٢) ـ فإذا كان الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خوطب بمثل هذا الخطاب ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) فمن باب أولى ان يقتدي المؤمن الرسالي بتلك الأخلاق العالية ويتحلى بها ، تجسيداً لقوله تعالى : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣).

وخفض الجناح في الآية المباركة وان كان كناية عن التواضع والرفق واللين ، إلاّ أنه ينطوي على معاني اُخرى رفيعة تتدفق بالمودة والرأفة والتسامح ونظائر ذلك من مكارم الأخلاق التي لو وجدت طريقها في نفوس المؤمنين وغرست في قلوبهم لمارسوا عملية الانفتاح على الآخرين بأتم وجه ، واقتطفوا ثمار سعيهم في إعلاء كلمة الحق ، برد الفعل المناسب من الانفتاح عليهم وقبول طرحهم.

وفي السياق ذاته يتقدّم هذا الخطاب الجميل خطابٌ آخر ، له جَرسٌ آخر ووقع آخر ، ذلك قوله تعالى : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ ) (٤). وهو العفو من غير عتاب (٥) !

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٨.

(٢) التفسير المبين : ٢٩٢.

(٣) الاحزاب ٣٣ : ٢١.

(٤) الحجر ١٥ : ٨٥.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٥٣٠.

١٧

وبعد .. فالقرآن الكريم أراد لنا عبور كل ذلك مع المؤمنين إلى بلوغ صفة التذلل لهم ( أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (١) ، ومن هنا يعلم أن خفض الجناح يستلزم تلك الصفة الراقية التي يستشعر المؤمن من خلالها كرامته ، وتقوى بذلك شخصيته ، ولا ريب أنّه لا يغفل المؤمن سر التذلل له ، ويدرك جيداً أنّه وليد التزام الطرف الآخر برسالته لا خوفاً ولا طمعاً ، وعندها سيندفع الطرف الآخر إلى نفس المبادرة ، فتتم المعادلة ، ويتحقق التوازن في بناء شخصية المؤمن الرسالي على أتم وجه.

لكنّ ذلك إنّما هو وقف على المؤمنين المخلصين والطيبين المتواضعين ، فالتواضع لهؤلاء إنّما هو تواضع لله ، وعلى العكس من ذلك يكون الموقف إزاء الخونة والمفسدين والمنافقين والمتكبّرين ، فالتكبّر عليهم عبادة ، بل جهاد في سبيل الله (٢).

الآية الثالثة : ( عباد الرحمن )

( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) (٣) الرحمن ربنا سبحانه يعرّف عباده بجملة من الآيات المباركات في نهاية سورة الفرقان ، ويبتدىء ذلك بهاتين الصفتين المذكورتين في الآية المتقدمة.

الصفة الأولى : هي السير على الأرض هوناً أي بسكينة ووقار ،

__________________

(١) المائدة ٥ : ٥٤.

(٢) اُنظر التفسير الكاشف ٤ : ٤٩٠.

(٣) الفرقان ٢٥ : ٦٣.

١٨

بلا استعلاء وخيلاء.

الهون ، مصدر هان عليه الشيء يهون ، أي : خفَّ ، وهذا يعني أنّ مشيهم على الأرض مشية مُرفِقٍ بها لا يثير غبارها ، لسهولة التعامل معها واللين في تماسها ، وخفّة الروح عليها. ومن كانت هذه صفته مع الأرض التي يطأها فهو مع ساكنيها ـ من بني جنسه ـ أهون في تعامله وأرقّ في معاشرته وأخفّ في روحه.

وبهذه الكلمات يرسم القرآن صورة المؤمن الحقّ ظاهرةً وباطنةً فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية وعمّا يستكن فيها من مشاعر ، والنفس السوية المطمئنة الجادّة القاصدة تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها.

وليس معنى ( يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا ) أنّهم يمشون متماوتين منكّسي الرؤوس متداعي الاَركان متهاوي البنيان ، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا مشى تكفّأ تكفّئاً وكان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها .. قال الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مشى تكفّأ تكفُّؤاً كأنّما ينحطُّ من صبب » (١) وهي مشية أُولي العزم والهمّة والشجاعة.

وأما الصفة الثانية : فهي ( إِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) فهم لا يمارون الجاهل ولا يقارعونه بالحجة تلو الحجة التي لا يستطيع هضمها وفهمها ، بل يرفقون به ويقدّرون مبلغ علمه ومستوى جهله ويرأفون بحاله

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٢٢١.

١٩

ولا يسمعونه ما يثقل عليه من كلمات تجرح شعوره مما هي فيه وهو أهلها ويستحقها لغروره وتبلّد ذهنه إذ وضع نفسه الوضيعة في غير موضعها ، بل راح يتعالى عليهم بمخاطبتهم. وهذا يعني : أن الجاهل يبلغ به عجبه بنفسه وعلمه بأن يرى الآخرين ـ وإن كانوا علماء ـ هم دونه في المستوى ، وعند ذلك تسمح له تصوراته المغرورة هذه في تنصيب نفسه خطيباً عليهم ، له أن يتكلّم وعليهم أن يسمعوا.

نعم ، فاذا كانت هذه حقيقة ماثلة في أغلب النفوس ، وهي كذلك ، فلماذا لا يرفق العالم بالجاهل ، والأعلم بالمتعلم ، ويقول له : سلاماً ، في المواضع التي يتطاول فيها الجاهل ، ويترك للزمن إقناعه ، وللمراحل التي يلزم طيها حتى يبلغ الفهم ويبلغ التواضع للحقيقة التي يُراد له الوصول إلى فهمها وبلوغها ؟

الرحمانيون :

فمن لم يتلطف ويرأف بهذه النفوس المريضة بداء الجهل والغرور ، ولم يداوها بدواء الرفق والسماحة فليس هو بالحكيم الذي يضع الاُمور في محلها ، كما هو ليس أهلاً بأن ينسب إلى الرحمن بالعبودية ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) (١).

والملاحظ في هذه الآية الكريمة أنها أتت باسم وصفة الرحمن في هذا المجال ، هذا يعني أن المنسوبين إلى الله ( الرحمن ) بالعبودية يجب

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٦٣.

٢٠