ليالي بيشاور

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي

ليالي بيشاور

المؤلف:

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي


المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١

نقل عنه سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح المقاصد ، والعلاّمة برهان الدين الحنفي في كتابه الهداية ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري وغيرهم نقلوا أنه قال في موضع من كتابه [هو جائز لأنّه كان مباحا مشروعا واشتهر عن ابن عباس حلّيّتها وتبعه على ذلك أكثر أهل اليمن وأهل مكة من أصحابه. وقال في موضع آخر :

هو جائز لأنّه كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه.]

فنعرف من كلام مالك بأنّه إلى زمانه ـ عام ١٧٩ من الهجرة ـ ما كانت روايات النسخ ، وإنّما وضعها الكاذبون الجاعلون بعد هذا الزمن وهي من وضع وجعل المتأخّرين.

والذين قالوا بتحريم المتعة استندوا على كلام عمر وما استدلّوا بغير قوله [وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما.] وهو دليل باطل ، لأنّه ليس من حق عمر ، التشريع فإنّ الشارع هو الله العزيز الحكيم ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبيّن لأمّته ما أوحي إليه من ربّه ، من أحكام الدين والشريعة.

الشيخ عبد السلام : نعم ليس من حق عمر (رض) ولا من حق غيره ، التشريع ... ولكن قول عمر الفاروق سند قويّ ودليل محكم لنا في كشف الحق ، فإنّه لا يحكم بشيء إلاّ على استناد ما سمعه من النبي (ص) ، والعتب على المسلمين الحاضرين في مجلس الخليفة (رض) إذ لم يسألوه عن دليل التحريم ، وإنّما قبلوا منه بغير اعتراض ، لما يعرفون فيه من الصدق والصلاح ، فلذلك صار قوله لنا دليلا محكما وسندا مقبولا.

قلت : هذه كلها مغالطات وتوجيهات ، وقد قيل حبّ الشيء يعمي ويصم ، وأنتم من فرط حبكم لعمر ، تسعون في توجيه أعماله

٩٦١

المخالفة لصميم الإسلام ونصّ القرآن ، وتفسّرون كلامه على خلاف ظاهره ، لأنّه يصرّح [أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما.]

وأنتم تقولون : بأنّه لا يحكم بشيء إلاّ على استناد ما سمعه من النبي ؛ وتلقون العتب على المسلمين الحاضرين في مجلسه إذ لم يسألوه عن دليل التحريم ، والرجل ليس له دليل إلاّ أنّ رأيه قد قطع بذلك.

وأما قولك : بأن الحاضرين قبلوا منه بغير اعتراض ؛ فهو مخالف لما رواه أعلامكم ، بأنّ ابنه عبد الله كان يفتي على خلاف رأي أبيه وكذلك جمع من الصحابة والتابعين كما ذكرنا لكم.

وأما قولك : بأنّ قول عمر دليل محكم وسند مقبول لديكم.

ليت شعري بأيّ نصّ شرعي من الكتاب أو السنّة أصبح قول عمر دليلا محكما وسندا مقبولا؟!

هذا الذي ليس فيه نصّ من الكتاب أو السنّة ، تجعلوه لأنفسكم حجّة وتلتزمون به وتتمسكون به أشدّ التزام وتمسّك ، وتعرضون عن الخبر الذي وصل حد التواتر وهو حديث الثقلين ، فلا تعملون بقول العترة ولا تتمسكون بهم ، علما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : «ما إن تمسّكتم بهما ـ أي بالقرآن والعترة ـ لن تضلوا بعدي أبدا» فقد جعلهما صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمانا من التيه والضلال.

هل يجوز للمجتهد أن يخالف النصّ؟

الشيخ عبد السلام : إنكم تعلمون أنّ جماعة من علمائنا المحققين قالوا : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يضع الأحكام باجتهاد رأيه ، فلذلك يجوز لمجتهد آخر أن ينقض حكمه إذا توصّل رأيه إلى خلاف قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٩٦٢

ولذلك نقضه عمر وقال [أنا أحرّمهما.]

قلت : ما كنت أتوقع منك هذا الكلام يا شيخ عبد السلام! فإنّك لتصحيح غلطة ارتكبت غلطات ، بالله عليكم هل يصح الاجتهاد مقابل النصّ؟ وهل يجوز لإنسان أن يخالف القرآن ويخالف حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزعم الاجتهاد؟! أما يكون كلام الشيخ غلوا في حق عمر وإجحافا في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ إذ يساوي رأي عمر برأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يرجّحه على رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! وكلام الشيخ خلاف صريح لصريح القرآن الحكيم لقوله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَ) (١).

فإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز له أن يبدّل حكما من الأحكام ، فكيف تجيزون لعمر؟! وعلى فرض اجتهاده فلا يجوز لمجتهد أن يخالف النصّ المسلّم (٢).

والقائلون بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يضع الأحكام باجتهاده وبرأيه ، كلامهم باطل وليس على أساس عقلي وعلمي بل هو مخالف لصريح

__________________

(١) سورة يونس ، الآية ١٥.

(٢) الاجتهاد .. عبارة عن الحصول على قدرة علميّة لفهم الأحكام الشرعيّة واستنباطها من كلام الله العزيز الحكيم وسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحديثه.

فيلزم أن يكون رأي المجتهد في بيان الحكم الشرعي مستندا بالكتاب الحكيم أو سنّة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا مناقضا لهما ، فلا يحق للمجتهد أن يفتي مخالفا لهما معتمدا على رأيه.

«المترجم»

٩٦٣

القرآن الحكيم أيضا لقوله عزّ وجلّ : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (١).

وقوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَ) (٢).

وكلامكم يخالف صريح كلام الله العزيز.

الشيخ عبد السلام : لا شك أنّ الخليفة (رض) حكم بصلاح المسلمين ، وحرّم المتعة لأنّه كما جاء في كتاب الإصابة للعسقلاني ج ٣ / القسم ١ / ١١٤ عن عمر بن شبّة قال [واستمتع سلمة بن أميّة من سلمى مولاة حكيم بن أميّة بن الأوقص الأسلمي ، فولدت له ، فجحد ولدها ، فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة.]

فحرّم عمر (رض) المتعة حتى لا يشيع هذا الأمر ولا يتكرّر ، وكلّنا نعلم أنّ الأولاد الذين جحدهم آباؤهم ، ينكرهم المجتمع أيضا ، فيسبّبون فسادا كبيرا ، من أجل ذلك ولكي لا يكثر الفساد ، نهى عمر عن المتعة.

قلت : ولكن هذا حاصل حتى في النكاح الدائم أيضا ، فكم من رجل جحد ولده وأنكر ما ولدته زوجته ، فهلاّ نهى عمر عن النكاح الدائم أيضا؟!

أفهل تكليف الخليفة ومسئوليته في قبال عمل سلمة بن أميّة وإنكاره ولده ، أن يحرّم حلال الله ويغيّر حكمه ويبدّل دينه؟! أم كان المفروض أن يعظ سلمة ويأمره بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يقابله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فيوقظ وجدانه ويقوّي إيمانه فيشعره

__________________

(١) سورة النجم ، الآية ٣ و ٤.

(٢) سورة الاحقاف ، الآية ٩.

٩٦٤

بالمسئوليّة ، ثم يحكم بإلحاق الولد بسلمة بن أميّة لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد للفراش» ، وما كان لسلمة أن ينكر العقد ، لأنّه كما نقرأ في الكتب أنّهم كانوا يشهدون العدول على العقد في المتعة ، فقد روى في كنز العمال : ج ٨ / ٢٩٤ عن سليمان بن يسار عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة [أنّ رجلا قدم من الشام فنزل عليها ، فقال : إنّ العزوبة قد اشتدّت عليّ فابغيني امرأة أتمتّع معها. قالت : فدللته على امرأة فشارطها ، وأشهدوا على ذلك عدولا ، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه خرج ، فأخبر بذلك عمر بن الخطّاب فأرسل إليّ فسألني : أحقّ ما حدّثت؟ قلت : نعم. قال : فإذا قدم فآذنيني به. فلما قدم ، أخبرته فأرسل إليه ، فقال : ما حملك على الذي فعلته؟ قال : فعلته مع رسول الله (ص) ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ، ثم مع أبي بكر فلم ينه عنه حتى قبضه الله. ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا. فقال عمر : أما والذي نفسي بيده : لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك ، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح.] وأخرجه ابن جرير أيضا.

وأما قولك : إنّ الخليفة حكم بصلاح المسلمين.

فإنّ الله ورسوله أعرف بصلاح الخلائق ، والخالق أعلم بمصالح مخلوقه ولا شكّ أنّ الله سبحانه وتعالى شرّع المتعة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّها لحكمة حكيمة ومصلحة عظيمة للمؤمنين ولكن عمر نقضها.

وقد جاء في الخبر كما في شرح معاني الآثار للطحاوي / كتاب النكاح / باب نكاح المتعة / روى بسنده عن عطاء عن ابن عباس ، قال [ما كانت المتعة إلاّ رحمة رحم الله بها هذه الأمّة ، ولو لا نهي عمر بن الخطاب عنها ما زنى إلاّ شقي.]

٩٦٥

وروى الثعلبي والطبري في تفسيريهما وأحمد في المسند في تفسير آية المتعة [عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال «لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي».]

فتحريم عمر للزواج المؤقّت ، زاد في الفحشاء ولم يقلّل الفساد ، وإنّ اثر نهيه المتعة كان بعكس ما تقولون ، وبخلاف ما تزعمون.

ولنترك هذا البحث الذي جاء استطرادا ، لأنّ البحث كان حول إيمان أبي طالب عليه‌السلام فقلنا : إنّه كان مؤمنا ومات مؤمنا إلاّ أنّ أعداء الإمام علي عليه‌السلام أرادوا تنقيصه والحطّ من كرامته وشخصيته ، فوصموا أباه ـ شيخ بني هاشم وكافل النبي وحاميه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بوصمة الكفر والشرك ، وأشاعوه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوضع حديث افتروه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو (حديث الضحضاح) فخبر عدم إيمان أبي طالب عليه‌السلام إن هو إلاّ من أكاذيب بني أمية وأباطيلهم ، وشيوع الخبر جاء بتبليغ منهم بحيث غطّى على خبر إيمانه ، فقلّبوا الحقيقة وغيّروا الواقع حتى التبس الحق على المسلمين.

فلمّا وصل حديثنا إلى هذا المكان ، استبعد الشيخ عبد السلام ذلك ، وقال : لا يمكن لأحد أن يقلب الحقيقة ويغيّر الواقع الذي كان شائعا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيبدّله بحيث يلتبس الأمر على المسلمين ، فينكروا الحقيقة ويقولوا بغير الواقع.

فقلنا : إنّ هذه ليست بأول قارورة كسرت في الإسلام.

فطلب مثالا ليكون مصداقا آخر وشاهدا على كلامنا ، فمثّلنا له بتحريم عمر متعة الحج ومتعة النساء ، فصرّح قائلا [متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما] والشاهد تمسكهم بقول

٩٦٦

عمر وتركهم سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فثبت بأنّ الحكومة والقوّة تلعب دورا هامّا في إخفاء الواقع ونشر الأكاذيب ولبس الحق ، وإشاعة الباطل باسم الحق ، ولا يخفى في هذه الأمور دور الدعايات والأحاديث الزائفة المجعولة بواسطة رجال ممن عرفوا بصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم فلا أطيل الكلام في الموضوع أكثر من هذا ، ومن أراد من الحاضرين أن يتعمّق أكثر ويحقّق في الموضوع ويبحث فيه أكثر مما قلنا فليراجع الكتب المعتبرة عند العامّة من أعلامهم ، مثل السيوطي ، وأبي القاسم البلخي ، ومحمد بن إسحاق ، وابن سعد الكاتب ، وابن قتيبة ، والواقدي ، والشوكاني ، والتلمساني ، والقرطبي ، والبرزنجي والشعراني ، والسبحمي ، وأبي جعفر الإسكافي ، وغيرهم من علماء العامّة الذين اعترفوا في كتبهم بإيمان أبي طالب عليه‌السلام. وقد كتب بعضهم رسالة مستقلة في الموضوع.

الكعبة مولد الإمام عليّ عليه‌السلام

وأما الفضيلة الأخرى التي امتاز بها الإمام عليّ عليه‌السلام وتعدّ من فضائله الخاصة به ، إذ لم يحدث مثله لأحد قبله ولا بعده ، ألا وهو مولده في وسط بيت الله الحرام في الكعبة المشرّفة ، وقد حدث ذلك بإرادة الله سبحانه وبدعوة منه لفاطمة بنت أسد والدة أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ انشقّ لها ركن البيت لما استجارت به تطلب من الله تعالى أن يسهّل عليها الولادة ، فدخلت في الكعبة وعاد الركن فالتأم والتصق. إنّما حدث ذلك لكي لا يقول أحد أنّ ولادة علي بن أبي طالب داخل الكعبة كانت عن صدفة وليس فيها كرامة له عليه‌السلام.

٩٦٧

وكما في بعض الأخبار المرويّة أنّ فاطمة بنت أسد بقيت في الكعبة ثلاثة أيّام ضيفة على ربّها ، فصار الناس يتحدّثون في المجالس والنوادي عن هذا الحادث الخارق والأمر الغريب ، وفي اليوم الثالث عند اجتماع الناس وتزاحمهم في المسجد الحرام ، وإذا بالركن ينشق ثانيا ، وتخرج فاطمة بنت أسد وعلى يديها ولدها الكريم عليّ عليه‌السلام ، ويعدّ علماء الإسلام شيعة وسنّة هذه الفضيلة من خصائص أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد قال الحاكم في المستدرك ، والعلاّمة ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة / الفصل الأول ص ١٤ :

ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه وهي فضيلة خصّه الله تعالى بها إجلالا له وإعلاء لمرتبته وإظهارا لتكريمه (١).]

__________________

(١) روى العلاّمة أبو عبد الله محمد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي في كتابه كفاية الطالب / الباب السابع في مولده عليه‌السلام / وهو في الفصل الثالث بعد الأبواب المائة التي ذكرها في مناقب الإمام علي عليه‌السلام.

روى بسنده المتصل بمسلم بن خالد المكّي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال [سألت رسول الله عن ميلاد علي بن أبي طالب ، فقال : لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبه المسيح عليه‌السلام. إنّ الله تبارك وتعالى خلق عليا من نوري وخلقني من نوره وكلانا من نور واحد ، ثم إنّ الله عزّ وجلّ نقلنا من صلب آدم عليه‌السلام في اصلاب طاهرة إلى أرحام زكيّة ، فما نقلت من صلب إلاّ وعلي معي فلم نزل كذلك حتى استودعني خير رحم وهي آمنة ، واستودع عليا خير رحم وهي فاطمة بنت أسد.

قال عليه‌السلام : وكان في زماننا رجل زاهد عابد يقال له المبرم بن دعيب بن الشقبان ، قد عبد الله تعالى مائتين وسبعين سنة لم يسأل الله حاجة ، فبعث الله إليه أبا طالب فلما أبصره المبرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بين يديه ، ثم قال له : من أنت؟ فقال :

٩٦٨

__________________

رجل من تهامة. فقال : من أيّ تهامة؟ فقال : من بني هاشم ، فوثب العابد فقبّل رأسه ثانية ثم قال : يا هذا إنّ العليّ الأعلى ألهمني إلهاما ، قال أبو طالب : وما هو؟ قال : ولد يولد من ظهرك وهو وليّ الله عزّ وجلّ.

فلما كانت الليلة التي ولد فيها عليّ ، أشرقت الأرض فخرج أبو طالب وهو يقول : أيها الناس ولد في الكعبة وليّ الله عزّ وجلّ. فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول :

يا ربّ هذا الغسق الدجيّ

والقمر المنبلج المضيّ

بيّن لنا من أمرك الخفيّ

ما ذا ترى في اسم ذا الصبيّ؟

قال : فسمع صوت هاتف يقول :

يا أهل بيت المصطفى النبيّ

خصصتم بالولد الزكيّ

إنّ اسمه من شامخ العليّ

عليّ اشتقّ من العليّ]

قال العلامة الكنجي : تفرّد به مسلم بن خالد المكيّ الزنجيّ وهو شيخ الشافعي ـ إمام المذهب ـ وتفرّد به عن الزنجي عبد العزيز بن عبد الصمد وهو معروف عندنا ، والزنجي لقب لمسلم وسمي بذلك لحسنه وحمرة وجهه وجماله. انتهى.

وقال بعد هذا الخبر أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجّار بقراءتي عليه ببغداد ، قلت له : قرأت على الصفّار بنيسابور : أخبرتني عمتي عائشة ، أخبرنا ابن الشيرازي ، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري قال [ولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بمكة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه ، إكراما له بذلك وإجلالا لمحلّه في التعظيم.]

أقول : إنّ خبر مولد عليّ عليه‌السلام في وسط الكعبة مشهور ، وقد نقله كثير من الأعلام وعلماء العامّة وذكره شعراؤهم ونقلت عنهم بعضها سابقا في تعليقاتي على هذا الكتاب. «المترجم»

٩٦٩

اسم «عليّ عليه‌السلام» نزل من عند الله تعالى

والفضيلة الأخرى التي امتاز بها الإمام عليّ عليه‌السلام على سائر الصحابة إنّ اسمه الشريف جاء له من عند الله تبارك وتعالى من عالم الغيب.

الشيخ عبد السلام : إنّ هذا الكلام غريب جدّا ، أفهل كان أبو طالب نبيّا يوحى إليه ، حتى نقول بأنّ اسم ابنه نزل أو جاء من عند الله؟! إن هذا إلاّ من أقاويل الشيعة يختلقونها من فرط حبهم لسيدنا عليّ كرّم الله وجهه ، وليس لهذا الاسم ربط بعالم الغيب ، بل اختاره أبو طالب لولده.

قلت : ليس كلامي بغريب ، وإنّما استغربته لأنّك لا تعتقد بولاية الإمام علي عليه‌السلام. فإنّك تظنّ أنّ هذا الاسم جعل على الإمام علي عليه‌السلام حين ولادته ، وليس كذلك ، فإنّ الله تعالى قد ذكر في جميع الكتب السماويّة اسمي محمد وعلي عليهما الصلاة والسلام بصفة النبوّة والإمامة ، وإنّ هذين الاسمين المباركين كتبهما الله عزّ وجلّ وجعلهما على السماوات والأرضين وعلى أبواب الجنة وعلى العرش العظيم ، قبل أن يخلق آدم أبو البشر بآلاف السنين ، فلا يختصّ بزمن أبي طالب عليه‌السلام.

الشيخ عبد السلام : أليس هذا الكلام غلوّا في حق عليّ كرّم الله وجهه؟ فقد قارنتموه بسيد المرسلين (ص) وذكرتم اسمه مع اسم النبي (ص) مكتوبا في عالم الملكوت وحتى على العرش العظيم. نعم اسم رسول الله (ص) كوجوده ونفسه فوق كل شيء ، وليس له قرين ،

٩٧٠

ولكنكم بالتمسّك بخبر ضعيف ، غير معتبر تحتجّون علينا ، بل وتجعلونه سندا مقبولا ودليلا معقولا لفتوى فقهائكم فيفتون بوجوب ذكر عليّ بعد اسم النبي (ص) في الأذان.

فتبسّمت ضاحكا من قوله. وقلت : لا يا أخي إنّني غير مغال في حق أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغرّ المحجّلين ، ابن عم الرسول وزوج البتول وسيف الله المسلول اسد الله الغالب مظهر العجائب والغرائب وصاحب الفضائل والمناقب الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.

نحن ما قرنّا اسمه مع اسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا نحن سجلنا اسمه مع اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السماوات والعرش العظيم ، بل الله عزّ وجلّ هو قرن اسم وليّه علي بن أبي طالب مع اسمه واسم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتب اسمه مقارنا لاسمه العزيز واسم حبيبه على أبواب الجنان كما ورد في روايات أعلامكم وعلمائكم بأسنادهم لا باسناد ضعيفة كما زعمت ، وقد أثبتوا تلك الروايات ونقلوها في مصادركم المعتبرة لدى كبار علمائكم وأعلام محدثيكم الذين لو ضعّفتهم فقد ضعّفت مذهبك ، فليس لك ولا لأيّ واحد منكم إلاّ الخضوع لمقامهم والتسليم لآرائهم وقبول ما رووا في مسانيدهم وتصانيفهم.

الشيخ عبد السلام : لو تتفضل بذكر بعض تلك الروايات التي نقلها كبار علمائنا وأعلام محدثينا.

قلت : روى الطبري في تفسيره وابن عساكر في تاريخه في ترجمة الإمام علي عليه‌السلام ، وروى العلاّمة الكنجي القرشي الشافعي في كفاية الطالب / باب ٦٢ ، والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ، والعلامة

٩٧١

القندوزي في الينابيع / باب ٥٦ حديث ٥٢ نقلا من ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري ، رووا بأسانيدهم إلى أبي هريرة ـ مع اختلاف يسير في الألفاظ واتحاد المعنى ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «مكتوب على ساق العرش ، لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، ومحمد عبدي ورسولي ، أيّدته بعليّ بن أبي طالب».

وروى جلال الدين السيوطي في الخصائص الكبرى : ج ١ / ١٠ ، وفي الدرّ المنثور في أوائل سورة الإسراء ، نقلا عن ابن عساكر وابن عدي أنّهما رويا عن أنس بن مالك عن النبي (ص) قال «ليلة أسري بي إلى السماء رأيت مكتوبا على ساق العرش : لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أيّدته بعليّ».

وروى القندوزي في الينابيع / باب ٥٦ ، نقلا عن ذخائر العقبى للطبري عن أبي الحمراء عن النبي (ص) قال «ليلة أسري بي إلى السماء ، نظرت إلى الساق الأيمن من العرش فرأيت مكتوبا محمد رسول الله ، أيّدته بعليّ ونصرته به». وقال : أخرجه الملاّ في سيرته.

وروى القندوزي أيضا في الباب نقلا عن كتاب «المناقب السبعون» الحديث التاسع عشر / عن جابر بن عبد الله قال «قال رسول الله (ص) : مكتوب على باب الجنّة قبل أن يخلق الله السموات والأرض بألفي عام ، محمد رسول الله ، وعلي أخوه». قال رواه ابن المغازلي.

أقول : ورواه أحمد في المناقب ، والعلاّمة الهمداني في كتابه مودّة القربى / المودّة السادسة ، والخطيب الخوارزمي في المناقب ، وابن شيرويه في الفردوس ، كلهم عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، كما مرّ.

٩٧٢

وتذكرت حديثا جميلا مناسبا لموضوع الحوار ، أخرجه العلاّمة الهمداني الشافعي في مودّة القربى / المودة الثامنة / عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّي رأيت اسمك مقرونا باسمي في أربعة مواطن :

١ ـ فلمّا بلغت البيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرة بها ، لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، أيّدته بعليّ وزيره.

٢ ـ ولمّا انتهيت إلى سدرة المنتهى ، وجدت عليها ، إنّي أنا الله لا إله إلا انا وحدي ، محمد صفوتي من خلقي ، أيّدته بعليّ وزيره ونصرته به.

٣ ـ ولما انتهيت الى عرش رب العالمين فوجدت مكتوبا على قوائمه ، إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا ، محمد حبيبي من خلقي ، أيّدته بعليّ وزيره ونصرته به.

٤ ـ فلمّا وصلت الجنة وجدت مكتوبا على باب الجنة لا إله إلاّ أنا ، ومحمد حبيبي من خلقي ، أيّدته بعليّ وزيره ونصرته به».

وروى الثعلبي في تفسيره ـ كشف البيان ـ ، والطبري في تفسيره في تفسير الآية ٦٢ من سورة الأنفال : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) عن أبي هريرة وعن ابن عباس أنّها نزلت في عليّ. ثم رووا عن النبي (ص) «رأيت مكتوبا على العرش : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، محمد عبدي ورسولي أيّدته ونصرته بعلي بن أبي طالب».

أخرجه القندوزي أيضا في الينابيع الباب الثالث والعشرون عن أبي نعيم الحافظ عن أبي هريرة ، وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس حبر الأمّة ، قال القندوزي : وروى عن أنس بن مالك نحوه ، ثم

٩٧٣

نقل عن كتاب الشفاء : روى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء قال : قال رسول الله (ص) «لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله أيّدته بعليّ».

وروى ابن المغازلي الفقيه الشافعي في كتابه المناقب / حديث رقم ٨٩ بسنده عن ابن عباس قال «سئل النبي (ص) عن الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه. قال : سأله بحق محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت عليّ ، فتاب عليه (١)».

وأخرجه عنه القندوزي في الينابيع / الباب الرابع والعشرون.

أكتفي بهذا المقدار من الروايات والأخبار وأظن أنّ الشيخ استوفى جوابه : بأنّ الله تعالى قرن اسم وليه علي بن أبي طالب باسمه واسم حبيبه ونبيّه ، لا نحن ، والخبر ليس بضعيف ولا عن طريق واحد بل وصل إلينا من طرق شتّى ، ونقله علماء المسلمين من السنّة والشيعة.

وأما كلامك يا شيخ : بأنه هل كان أبو طالب نبيا يوحى إليه؟

فأقول : الوحي لا يلازم النبوّة ، فقد أوحى الله تعالى إلى أم موسى وما كانت في مقام النبوّة ، والله سبحانه يصرّح في ذلك بقوله عزّ وجلّ : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢).

__________________

(١) وكذلك أخرجه عن ابن المغازلي صاحب تفسير اللوامع : ج ١ / ٢١٩.

وأخرجه السيوطي في الدرّ المنثور : ج ١ / ٦٠ وقال : أخرجه ابن النجّار. «المترجم»

(٢) سورة القصص ، الآية ٧.

٩٧٤

وربّما أوحى الله تعالى إلى غير الإنسان كما في قوله سبحانه : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (١).

وممّا لا شكّ فيه أنّ الوحي له مراتب فالمرتبة الأعلى والأقوى منها تحصل للأنبياء ، والأدنى منها تحصل لغير الأنبياء بإرادة الله القادر المنّان.

كما أنّنا نستفيد من كلام الله تعالى ، أنّ أوامره إلى عباده وهدايتهم لمقاصده ، لا تنحصر بطريق الوحي ، فإنه قادر أن يبلّغها لمن يريد بأي طريق شاء ، ولو بخلق النداء والصوت ، كما حدث ذلك لمريم ابنة عمران ، فقد قال سبحانه : (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢).

فكما إن الله عز وجلّ بلّغ مراده إلى أم موسى بالوحي ، وإلى أمّ عيسى بالنداء ، فقد بلّغ أبا طالب أيضا بأنّه انتخب اسم عليّ واشتقّه من اسمه الأعلى لوليد الكعبة ، فسمّاه عليّا.

ولا نقول بأنّ الوحي الذي كان ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل على أبي طالب ولا نعتقد نبوّته ، وانما نقول بأنّ الله تعالى نبّه أبا طالب وبلّغه إمّا بالنداء أو بمشاهدته لوحا مكتوبا أن يسمّي ولده بالاسم المشتق من اسم الله العليّ الأعلى ، فيسمّيه عليا وقد فعل أبو طالب

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٦٨.

(٢) سورة مريم ، الآية ٢٤ ـ ٢٦.

٩٧٥

ذلك ، ولم ننفرد نحن بهذا القول ، بل وافقنا فيه بعض أعلامكم أيضا.

روى العلاّمة الهمداني الشافعي في كتابه مودّة القربى / المودّة الثامنة ، ونقل عنه الحافظ القندوزي في كتابه ينابيع المودّة / الباب السادس والخمسون : عن العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه قال : [لما ولدت فاطمة بنت أسد عليّا سمّته باسم أبيها أسد ، ولم يرض أبو طالب بهذا الاسم فقال : هلمّ حتى نعلو [جبل] أبا قبيس ليلا وندعو خالق الخضراء لعلّه ينبئنا في اسمه ، فلمّا أمسيا خرجا وصعدا أبا قبيس ودعيا الله تعالى ، فأنشأ أبو طالب شعرا :

يا ربّ هذا الغسق الدجيّ

والفلق المنبلج المضيّ

بيّن لنا عن أمرك المقضيّ

بما نسمّي ذلك الصبي؟

فاذا خشخشة من السماء ، فرفع أبو طالب طرفه فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر فأخذه بكلتي يديه وضمّه إلى صدره ضمّا شديدا فإذا مكتوب :

خصّصتما بالولد الزكيّ

والطاهر المنتجب الرضيّ

واسمه من قاهر عليّ

عليّ اشتق من العليّ

فسر أبو طالب سرورا عظيما وخرّ ساجدا لله تبارك وتعالى وعقّ [عنه] بعشر من الإبل ، وكان اللوح معلّقا في بيت الله الحرام يفخر به بنو هاشم على قريش حتى غلب الحجاج بن الزبير.] انتهى كلام العلاّمة الهمداني.

أقول : وهذه الرواية عطف على ما سبق وتدلّ على أنّ أبا طالب كان مؤمنا بالله موحّدا له سبحانه متوجّها إليه في مهامّه وحوائجه.

وأمّا قولك يا شيخ : بأنّ فقهاء الشيعة يفتون بوجوب ذكر

٩٧٦

عليّ عليه‌السلام في الأذان. فهو كذب وافتراء ، ولو كنت صادقا فاذكر لنا فتوى واحد من فقهائنا.

نعم نحن نذكر اسم الإمام عليّ عليه‌السلام ونشهد له بالولاية والإمامة ، بقصد الندب وإجهارا بالحق ، لأنّا نعرف مندوبيّة ذلك ومطلوبيّة ذكر اسم عليّ بالولاية والإمامة بعد ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، نعرفه ممّا ذكرنا من الروايات في كتبكم المعتبرة والتي مرّت مع ذكر المصادر الكثيرة ، بأنّ الله عزّ وجلّ قرن اسم عليّ عليه‌السلام مع اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر عليا بعد ذكر حبيبه ورسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى في عرشه العظيم وعلى أبواب الجنان قبل أن يخلق الأرض والسماوات.

ونكتفي بهذا ونرجع إلى صلب الموضوع في الحوار وهو ذكر أمهات الفضائل وأصول المناقب الثابتة لعليّ عليه‌السلام.

زهد الإمام عليّ عليه‌السلام وتقواه

والفضيلة الثانية التي امتاز بها ولا يساويه أحد فيها فضيلة الزهد والتقوى. وأجمع علماء الاسلام عامّة ، وجمهور المحدثين وأصحاب السيرة والتاريخ بأنّ عليّ بن أبي طالب كان أزهد الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأورعهم واتقاهم ، حتى أنّ العلاّمة ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة نقل قول الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أنّه قال : [ما علمنا أحدا كان في هذه الأمّة بعد النبي (ص) أزهد من عليّ بن أبي طالب (١).]

__________________

(١) وجاء في كتاب تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي / الباب الخامس في ذكر ورعه

٩٧٧

__________________

وزهد وعبادته عليه‌السلام / قال [أخبرنا غير واحد ، ثم ذكر الإسناد إلى محمد بن قيس عن أبي شهاب قال : كان عمر بن عبد العزيز (رض) يقول : ما علمنا أنّ أحدا من هذه الأمة بعد رسول الله (ص) أزهد من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ما وضع لبنة على لبنة ، ولا قصبة على قصبة.]

وبه قال عبد الله بن أحمد بن حنبل.

قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح نهج البلاغة وهو يصفه [وأمّا الزهد في الدنيا فهو سيّد الزهّاد ، وبدل الأبدال ، وإليه تشدّ الرحال ، ما شبع من طعام قطّ ، وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا.

قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت إليه يوم عيد ، فقدّم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدّم فأكل. فقلت : يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه؟

قال : خفت هذين الولدين أن يلتّاه بسمن أو زيت.

وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وليف أخرى ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرباس الغليظ.

وكان يأتدم اذا ائتدم بخلّ أو بملح فإن ترقّى عن ذلك فبعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل. ولا يأكل اللحم إلا قليلا ، ويقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان. وهو الذي طلّق الدنيا ، وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلاّ من الشام ، فكان يفرّقها.]

ونقل ابن أبي الحديد في ج ٢ / ٢٠١ ، ط دار إحياء الكتب العربية / قال : وروى معاوية بن عمار عن جعفر بن محمد عليه‌السلام ، قال «ما اعتلج على عليّ عليه‌السلام أمران في ذات الله سبحانه ، إلاّ أخذ بأشدّهما ، ولقد علمتم أنّه كان يأكل ـ يا أهل الكوفة ـ عندكم من ماله بالمدينة ؛ وأن كان ليأخذ السويق فيجعله في جراب ويختم عليه مخافة أن تزاد عليه من غيره ؛ ومن كان أزهد في الدنيا من عليّ عليه‌السلام؟!».

٩٧٨

ونقل أعلام محدثيكم في كتبهم عن الأحنف بن قيس قال : [دخلت على عليّ بن أبي طالب وقت إفطاره إذ دعا بجراب مختوم فيه سويق الشعير.

فقلت : يا أمير المؤمنين لم أعهدك بخيلا فكيف ختمت على هذا الشعير؟!

فقال : لم اختمه بخلا ولكن خفت أن يلينه الحسن أو الحسين بسمن أو زيت.

قلت : هما حرام عليك؟ قال : لا ولكن يجب على الأئمة أن

__________________

وروى في صفحة ٢٠٠ عن بكر بن عيسى ، قال [كان عليّ عليه‌السلام يقول : يا أهل الكوفة ، إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان ؛ فأنا خائن ، فكانت نفقته تأتيه من غلّته بالمدينة بينبع.]

ونقل محمد بن طلحة العدوي النصيبي في كتابه مطالب السئول / الفصل السابع / فقال إنّه عليه‌السلام كان قد ولى على عكبرا رجلا من ثقيف فقال هذا الوالي : [قال لي عليه‌السلام إذا صلّيت الظهر غدا فعد إليّ. قال : فلمّا كان الغد وصلّيت الظهر غدوت إليه فلم أجد عنده حاجبا يحبسني دونه ، فوجدته جالسا وعنده قدح وكوز ماء ، فدعا بوعاء مشدود عليه ختم ... فلمّا كسر الختم وحلّه فإذا فيه سويق فأخرج منه فصبّه في القدح وصب عليه ماء وشرب وسقاني ، فلم أصبر فقلت : يا أمير المؤمنين أتصنع هذا بالعراق وطعام العراق كثير؟! فقال : أما والله ما أختم عليه بخلا ولكنّني أبتاع قدر ما يكفيني فأخاف أن يوضع في من غيره وأنا أكره أن يدخل بطني إلاّ طيّبا ، فلذلك احترزت بما ترى. فإيّاك وتناول ما لا تعلم حله.]

رواه أيضا سبط بن الجوزي في التذكرة / الباب الخامس / بسنده عن عبد الملك بن عمر ورواه آخرون من أعلام العامة.

«المترجم»

٩٧٩

يغتذوا بغذاء ضعفاء الناس وافقرهم ليراهم الفقير فيرضى عن الله تعالى بما هو فيه ، ويراهم الغني فيزداد شكرا وتواضعا (١).]

ونقل المحدّثون عن سويد بن غفلة وغيره ، قال [دخلت على عليّ ابن أبي طالب في الكوفة فرأيت بين يديه رغيفا من شعير وقدحا من لبن والرغيف يابس ، تارة يكسره بيده وتارة بركبتيه ، فشقّ عليّ ذلك.

فعاتبت جارية له يقال لها فضّة فقلت : ألا ترحمين هذا الشيخ وتنخلين له هذا الشعير ، أما ترين نشارته على وجهه وما يعاني منه؟!

فقالت : إنّه عهد إلينا أن لا ننخل له طعاما قطّ. فالتفت عليّ إليّ وقال : ما تقول لها؟ فأخبرته وقلت : يا أمير المؤمنين! ارفق بنفسك.

فقال : ويحك يا سويد ما شبع رسول الله (ص) من خبز برّ ثلاثا حتى لقي الله ، ولا نخل له طعام قط ، يا ابن غفلة! ذلك أحرى أن يذل النفس ويقتدي بي المؤمنون ، وألحق برسول الله (ص) (٢).]

ونقل العلاّمة القندوزي في الينابيع / الباب الحادي والخمسون / قال : أخرج الموفق بن أحمد الخوارزمي عن عدي بن ثابت قال : أوتي عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه بفالوذج فأبى أن يأكل منه وقال [إنه شيء لم يأكل منه رسول الله (ص) فلا أحب أن آكل منه (٣).]

__________________

(١) رواه سبط ابن الجوزي في التذكرة / الباب الخامس ، ورواه الحافظ القندوزي في الينابيع / الباب الحادي والخمسون.

(٢) رواه سبط ابن الجوزي عن سويد بن غفلة والقندوزي عن علقمة. ورواه الخطيب الخوارزمي في المناقب والطبري في تاريخه.

«المترجم»

(٣) الفالوذج : نوع من الحلوى.

٩٨٠