ليالي بيشاور

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي

ليالي بيشاور

المؤلف:

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي


المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١

حربه حربي وسلمه سلمي ، ولكنّها أبت إلاّ إثارة الفتنة!!

وإنّ أعلام مؤرّخيكم الذين أرّخوا واقعة الجمل وكبار محدثيكم ذكروا أنّ رسول الله (ص) حذّرها أن تكون صاحبة الجمل الأحمر التي تنبحها كلاب حوأب ، وحين خرجت إلى البصرة مرّت بمنطقة تسمّى الحوأب فنبحتها الكلاب ، فسألت عن اسم المكان ، فقالوا : تسمّى الحوأب. فذكرت حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحذيره لها ، فأرادت الرجوع ، ولكن طلحة والزبير وابناهما غرّوها وغيروا إرادتها وثبّتوها على عزمها الأول وهو الخروج والفتنة ، فتابعت طريقها حتى وصلت البصرة وألّبت الجيوش لقتال الإمام عليّ عليه‌السلام وأجّجت نار الحرب وقتل بسببها آلاف المسلمين ، فهل تعذروها بعد هذا ، وتقبلون قولها بأنّها نسيت؟! فأيّ نسيان هذا بعد التذكر؟! (١).

__________________

(١) لكي يسمع القارئ الكريم شكوى إمامه أمير المؤمنين عليه‌السلام ويعرف حقيقة واقعة الجمل ، اختطفت بعض النكات والجمل من نهج البلاغة وانقلها في هذا المجال :قال في الخطبة المرقّمة / ٢٢ ـ حين بلغه خبر الناكثين طلحة والزبير وأصحابهما ، ومطالبتهم بدم عثمان ـ «ألا وإنّ الشيطان قد ذمّر حزبه ، واستجلب جلبه ، ليعود الجور إلى أوطانه ، ويرجع الباطل إلى نصابه والله ما أنكروا عليّ منكرا ، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا ، وإنّهم ليطلبون دما هم سفكوه!!». الخ.

وقال عليه‌السلام في كلام له في الخطبة رقم ١٤٨ من نهج البلاغة ـ يصف طلحة والزبير ـ «كلّ واحد منهما يرجو الامر له ، ويعطفه عليه دون صاحبه ، لا يمنّان إلى الله بحبل ولا يمدّان إليه بسبب ، كلّ واحد منهما حامل ضبّ لصاحبه ، وعمّا قليل يكشف قناعه به!».

«والله لئن أصابوا الذي يريدون لينتزعنّ هذا نفس هذا!

وليأتينّ هذا على هذا! قد قامت الفئة الباغية ، فأين المحتسبون». وقال عليه‌السلام في

٨٦١

__________________

خطبة له من نهج البلاغة رقمها ١٧٢ ، في ذكر أصحاب الجمل «فخرجوا يجرّون حرمة رسول الله (ص) كما تجرّ الامة عند شرائها ، متوجّهين بها الى البصرة ، فحبسا نساءهما في بيوتهما وأبرزا حبيس رسول الله (ص) لهما ولغيرهما في جيش ما منهم رجل الاّ وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة ، طائعا غير مكره ، فقدموا على عاملي بها ـ بالبصرة ـ وخزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها ، فقتلوا طائفة صبرا ، وطائفة غدرا ، فو الله لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحدا متعمدين لقتله بلا جرم جرّه لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه ، إذ حضروه فلم ينكروا ، ولم يدفعوا عنه بلسان ولا بيد ، دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم!».

وقال عليه‌السلام في كلام له خاطب به أهل البصرة / نهج البلاغة الخطبة رقم ١٥٦ / قال عليه‌السلام «وأمّا فلانة ـ عائشة ـ فأدركها رأي النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليّ ، لم تفعل. ولها بعد حرمتها الأولى ، والحساب على الله تعالى».

والآن ، لكي يطمئنّ قلب القارئ الكريم إلى واقع الأمر ويعرف عائشة ونفسيّتها أكثر من ذي قبل ، فأترك القلم بيد ابن قتيبة وهو من أعلام أهل السنّة والمتوفّى سنة ٢٧٠ هجرية ، فإنه كتب في كتابه الإمامة والسياسة / ٤٨ ، ط مطبعة الأمّة بمصر / تحت عنوان : خلاف عائشة (رض) على عليّ قال [وذكروا أنّ عائشة لما أتاها أنّه بويع لعليّ ، وكانت خارجة عن المدينة ، فقيل لها قتل عثمان وبايع الناس عليا ، فقالت : ما كنت أبالي أن تقع السماء على الأرض ، قتل والله مظلوما! وأنا طالبة بدمه!!

فقال لها عبيد : إنّ أول من طعن عليه وأطمع الناس فيه لانت ولقد قلت : اقتلوا نعثلا فقد فجر!!

٨٦٢

__________________

فقالت : قد والله قلت وقال الناس ، وآخر قولي خير من أوله!

فقال عبيد : عذر والله ضعيف يا أمّ المؤمنين! ثم قال :

منك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإما

م وقلت لنا أنّه قد فجر «كفر»

فهبنا أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

قال : فلما أتى عائشة خبر أهل الشام أنّهم ردّوا بيعة عليّ وأبو أن يبايعوه ، أمرت فعمل لها هودج من حديد وجعل فيه موضع عينيها ، ثم خرجت ومعها الزبير وطلحة وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة.]

أقول : وذكر ابن قتيبة في صفحة ٥٢ تحت عنوان : كتاب أم سلمة إلى عائشة.

[قال : وذكروا أنّه لما تحدّث الناس بالمدينة بمسير عائشة مع طلحة والزبير ونصبهم الحرب لعليّ وتألّبهم الناس ، كتبت أمّ سلمة إلى عائشة : أما بعد فإنك سدة بين رسول الله وبين أمّته ، وحجابك مضروب على حرمته ، قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تبذليه ، وسكّن عقيرتك فلا تضيّعيه ، الله من وراء هذه الأمة ، قد علم رسول الله مكانك ، لو أراد أن يعهد إليك ، وقد علمت أنّ عمود الدين لا يثيب بالنساء ان مال ، ولا يرأب بهنّ إن انصدع ، خمرات النساء غضّ الأبصار وضم الذيول ، ما كنت قائلة لرسول الله (ص) لو عارضك بأطراف الجبال والفلوات ، على قعود من الإبل من منهل الى منهل. إن بعين الله مهواك ، وعلى رسول الله (ص) تردين وقد هتكت حجابه الذي ضرب الله عليك عهيداه ، ولو اتيت الذي تريدين ثم قيل لي أدخلي الجنة ، لاستحييت أن ألقى الله هاتكة حجابا قد ضربه عليّ ، فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصنك ، فابغيه منزلا. لك حتى تلقيه ، فإنّ أطوع ما تكونين إذا ما لزمته ، وأنصح ما تكونين إذا ما قعدت فيه ، ولو ذكّرتك كلاما قاله رسول الله (ص) لنهشتني نهش الحيّة والسلام.

٨٦٣

__________________

فكتبت إليها عائشة : ما أقبلني لوعظك ، وأعلمني بنصحك ، وليس مسيري على ما تظنّين ، ولنعم المطلع مطلع فرقت فيه بين فئتين متناجزتين ، فإن أقدر ففي غير حرج وإن أحرج فلا غنى بي عن الازدياد منه والسلام!!]

أقول : وذكر ابن ابن قتيبة في كتابه صفحة ٥٧ قال [ولما نزل طلحة والزبير وعائشة بأوطاس من أرض خيبر ، أقبل عليهم سعيد بن العاصي على نجيب له ، فأشرف على الناس ومعه المغيرة بن شعبة ، فنزل وتوكّأ على قوس له سوداء ، فأتى عائشة فقال لها : أين تريدين يا أم المؤمنين؟ قالت : أريد البصرة ، قال : وما تصنعين بالبصرة؟ قالت : أطلب بدم عثمان! فقال : هؤلاء قتلة عثمان معك!!

ثم أقبل على مروان فقال له : وأين تريد أيضا؟ قال : البصرة.

قال : وما تصنع بها؟ قال : أطلب قتلة عثمان قال : فهؤلاء قتلة عثمان معك ، إنّ هذين الرجلين ـ طلحة والزبير ـ قتلا عثمان وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلمّا غلبا عليه قالا : نغسل الدم بالدم والحوبة بالتوبة!!

ثم قال المغيرة بن شعبة : أيها الناس إن كنتم إنّما خرجتم مع أمكم فارجعوا بها خيرا لكم ، وإن كنتم غضبتم لعثمان فرؤساؤكم قتلوا عثمان!! وان كنتم نقمتم على عليّ شيئا فبيّنوا ما نقمتم عليه.

انشدكم الله فتنتين في عام واحد!! فأبوا إلاّ أن يمضوا بالناس ، ... فلما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة ، نبحها كلاب الحوأب ، فقالت لمحمد ابن طلحة : أي ماء هذا؟ قال : هذا ماء الحوأب. فقالت : ما أراني إلاّ راجعة! قال : ولم؟ قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول لنسائه : كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب ، وإيّاك أن تكوني أنت يا حميراء!!

فقال لها محمد بن طلحة : تقدّمي رحمك الله ودعي هذا القول!

وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفتيه أوّل الليل!!

٨٦٤

__________________

أتاها ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك!!

فزعموا أنّها أوّل شهادة زور شهد بها في الاسلام!!

أقول : هكذا عارضوا الحق بالباطل ، هؤلاء الضّلال الذين ضلّوا وأضلّوا ، فخالفوا كتاب الله عزّ وجلّ إذ يقول : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة : ٢٢٤.

فكيف إذا جعلوا الله سبحانه عرضة لأيمانهم ليشعلوا الفتنة ويشبّوا القتال بين المسلمين ، لينالوا أمانيهم الفاسدة؟!]

أقول : وذكر ابن قتيبة في صفحة ٦٣ و ٦٤ تحت عنوان تعبئة الفئتين : [.. ثم كتب عليّ إلى طلحة والزبير «أما بعد فقد علمتما أنّي لم أرد الناس حتى أرادوني ولم أبايعهم حتى بايعوني ... وزعمتما أنّي آويت قتلة عثمان ، فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ثم يخاصموا إليّ قتلة أبيهم.

وما أنتما وعثمان ، إن كان قتل ظالما أو مظلوما!!

ولقد بايعتماني ، وأنتما بين خصلتين قبيحتين ، نكث بيعتكما وإخراجكما أمكما.

وكتب إلى عائشة : أما بعد فإنّك خرجت غاضبة لله ولرسوله ، تطلبين أمرا كان عنك موضوعا ، ما بال النساء والحرب والإصلاح بين الناس؟! تطلبين بدم عثمان!! ولعمري لمن عرّضك للبلاء وحملك على المعصية ، أعظم إليك ذنبا من قتلة عثمان ، وما غضبت حتى أغضبت ، وما هجت حتى هيجت ، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك».

فأجابه طلحة والزبير : إنك سرت مسيرا له ما بعده ولست راجعا وفي نفسك منه حاجة فامض لأمرك ، أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك ، ولسنا بداخلين فيها أبدا ، فاقض ما أنت قاض. وكتبت عائشة : جلّ الأمر عن العتاب والسلام.] فانصف أيها القارئ .. هل تعذر بالنسيان بعد هذا التذكير والتحذير؟! وهل لطلحة والزبير عذر في عصيانهما وخروجهم؟! «المترجم»

٨٦٥

ألم تكن هذه المخالفات منها للقرآن الحكيم وللنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصمات عار في تاريخها؟!

هل أنّ خروجها على الإمام عليّ عليه‌السلام ، وقتالها له كان حقا أم باطلا؟ فإذا كان باطلا فكل باطل وصمة عار لفاعله ، وإن تقولوا كان حقا ، ولستم بقائلين ، فكيف التوفيق بينه وبين الأحاديث الشريفة التي مرّت عن طرق محدثيكم وكبار علمائكم ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «من آذى عليا فقد آذاني». وقال «حربه حربي ، وسلمه سلمي ، ولا يبغضه إلاّ منافق». وما إلى ذلك.

بالله عليكم أنصفوا!! هل حرب عائشة وطلحة والزبير لعليّ عليه‌السلام وقتالهم له عليه‌السلام كان عن حبّهم لعليّ أم عن بغضهم له عليه‌السلام؟!

لم لا تنتقدوهم ولا تأخذون عليهم هذه الخطايا الكبرى والمعاصي العظمى؟! لما ذا تمرّون على هذه الحوادث مرور الجاهلين والغافلين ، ولكن تأخذون على الشيعة بأشدّ ما يكون ، لأنهم ينتقدون أعمال الصحابة ويميزون بين الحق والباطل فيمدحون أهل الحق ويفضحون أهل الباطل أيّا كانوا؟ والجدير بالذّكر أنّنا لا نروي في الصحابة وأفعالهم القبيحة إلاّ ما رواه محدثوكم وعلماؤكم ، فلما ذا لا تنقمون عليهم ولا ترفضون رواياتهم ولا تنفون كتبهم ولا تردّونها؟! بل هذه الكتب التي ننقل عنها كلها عندكم معتبرة ومقبولة وتطبع في البلاد السنيّة وعواصمهم ، مثل مصر وبغداد ولبنان وغيرها ، من باب المثال يقول العلاّمة المسعودي في كتابه مروج الذهب ج ٢ / ٧ ، وهو يتحدّث عن وقعة الجمل ، وهجوم أصحاب عائشة على أصحاب عثمان بن حنيف بعد المعاهدة كما ذكرنا فقال [فقتل منهم سبعون رجلا غير من جرح ،

٨٦٦

وخمسون من السبعين ضربت رقابهم صبرا من بعد الأسر ، وهؤلاء أول من قتلوا ظلما في الإسلام.]

هذا الخبر إذا نقله مؤرخوكم لا يحزّ في نفوسكم ولكن إذا نقله أحد الشيعة وقال إنّ هذا العمل كان ظلما قبيحا من عائشة وأصحابها ، تثور نفوسكم وتنفجر غيرتكم وتشتعل نيران التعصّب فيكم ، فترموننا بالكفر والضلالة وتبيحون لأتباعكم دماء الشيعة وأموالهم!!

الشيخ عبد السلام : لا يجوز عندنا التدخل في الحوادث التي جرت بين صحابة رسول الله (ص) ، فإنّا ننظر إليهم جميعا بعين الإكبار والاحترام ، فإنهم وإن اختلفوا بينهم ولكن الكل كانوا يدعون إلى الله ، ومن توجّه منهم إلى خطئه وانحراف مسيره عن الحق ، فقد تاب واستغفر مثل الزبير (رض) في البصرة ، وكذلك أم المؤمنين عائشة (رض) فإنها تبعت طلحة والزبير وأخذت بقولهما ، ولكنّها بعد ذلك عرفت بطلان كلامهما وأنهما أغرياها وحملاها معهما إلى البصرة ، فاستغفرت وتابت ، والله خير الغافرين ، وهو يقبل التوبة من عباده وهو أرحم الراحمين.

قلت : أولا : قولك : فإنّهم وإن اختلفوا بينهم ولكن الكلّ كانوا يدعون إلى الله. فهو مغالطة وكلام باطل .. ، لأنّ سبيل الله عزّ وجلّ واضح واحد وصراط الحق واحد كما قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١).

وقال سبحانه : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١٥٣.

٨٦٧

اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).

ثانيا ...

وأما قولك : بأنّ الزبير بعد ما توجّه إلى خطئه وانحرافه عن الحق تاب واستغفر. فأقول : نعم تاب ولكن لم يعمل بشرائط التوبة ، فقد كان الواجب عليه أن يسعى في ردّ ممن اغراهم فيهديهم إلى الحق الذي عرفه في جانب الامام علي عليه‌السلام ، وكان يلزم أن ينضمّ هو أيضا تحت راية الحق وجيش أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا ينعزل عن الميدان والمجاهدة.

وأما عائشة فإنّ عصيانها وذنبها معلوم لكل الناس ، ولكنّ توبتها غير معلومة ، وهي كذلك ما عملت بشرائط التوبة بل ارتكبت بعد ذلك أيضا أشياء تكشف عن حقدها وبغضها لآل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم انّ قولك : والله خير الغافرين وهو يقبل التوبة من عباده وهو أرحم الراحمين.

كل ذلك صحيح ومقبول ولكن حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، فقد قال الله سبحانه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٢)

وكلّنا نعلم أن عائشة كانت عالمة غير جاهلة وكانت في خروجها على الإمام وقتالها لعلي عليه‌السلام عامدة غير ساهية ، وقد نصحتها أم سلمة قرينتها ، ونصحها الإمام علي عليه‌السلام ، وكثير من الصحابة ، أن لا تخرج من بيتها ولا تغترّ بطلحة والزبير ومروان وأمثالهم ، وقد حذّرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلهم ، وأمرها الله عزّ وجلّ في كتابه بقوله : (وَقَرْنَ فِي

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠٨.

(٢) سورة النساء ، الآية ١٧.

٨٦٨

بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) (١) فما اعتنت بكل ذلك وخرجت وأحدثت ما أحدثت!! فكيف نحتّم بأنّ الله سبحانه قبل توبتها وهي عالمة عامدة في المعصية؟!

ثالثا : ... قولك : بأن طلحة والزبير أغرياها وحملاها إلى البصرة ، وأنّها عرفت بطلان كلامهما بعد ذلك .. الخ فإنّ قولك هذا يكشف بأنّ الحديث الذي تروونه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» كذب وافتراء على رسول الله وهو حديث موضوع مجعول ، لأنّ عائشة وآلاف من المسلمين اقتدوا بطلحة والزبير وهما من كبار الصحابة وما اهتدوا بل ضلّوا وخسروا أنفسهم ، خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين!!!

النواب : سيدنا المكرّم! قلتم خلال كلامكم أنّ أم المؤمنين (رض) بعد توبتها من حرب الجمل أيضا ارتكبت أشياء تكشف عن حقدها وبغضها لآل النبي (ص) فلو سمحت ، بيّن لنا تلك الأشياء بشكل واضح حتى نعرف واقع الأمر.

يوما على جمل .. ويوما على بغل

قلت : مما لا شك فيه أنّ عائشة كانت امرأة غير هادئة وغير رزينة فقد قامت بحركات لا يقبلها الدين القويم ولا العقل السليم ، وإن كل حركة من تلك الحركات تكفي في تسويد تاريخها بوصمات الذنب والمعصية ، منها واقعة الجمل ، وكلكم تقبلون أنها بعملها في البصرة خالفت الله ورسوله ، وهي أيضا قد اعترفت بخطئها ، ولكن تقولون

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية ٣٣.

٨٦٩

أنها تابت واستغفرت ، فإذا هي ندمت وتابت ، كان اللازم عليها أن توالي عليا وتوالي آل البيت النبوي ، ولكنها خرجت مرّة أخرى وكشفت عن ضميرها الممتلئ عداوة لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك يوم تشييع جنازة الامام الحسن بن علي عليه‌السلام سبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنعت من دفنه عند جدّه كما روى ذلك كثير من مؤرخيكم وأعلامكم ، منهم العلاّمة سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص ١٩٣ ، ط بيروت ، والعلاّمة ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٦ / ١٤ ، عن المدائني عن أبي هريرة ، وابو الفرج المرواني الأصبهاني في مقاتل الطالبيين / ٧٤ ، وفي روضة الصفا لمحمد خاوند / ج ٢ ، قسم وفاة الحسن [عليه‌السلام] ، وتاريخ ابن الأعثم الكوفي ، وفي روضة المناظر للعلاّمة ابن شحنة ، وأبو الفداء إسماعيل في كتابه المختصر في أخبار البشر ج ١ / ١٨٣ ط مصر ، والعلاّمة المسعودي صاحب مروج الذهب ، نقل في كتابه إثبات الوصية ١٣٦ : أنّ ابن عباس قال لها ـ أي لعائشة ـ : [أما كفاك أن يقال يوم الجمل حتى يقال يوم البغل ، يوما على جمل ويوما على بغل بارزة عن حجاب رسول الله (ص) تريدين إطفاء نور الله والله متمّ نوره ولو كره المشركون ـ إنّا لله وإنّا إليه راجعون.]

ونقل بعض المحدثين أنه قال لها :

تجمّلت تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت

لك التسع من الثمن ، وفي الكلّ تصرّفت

وأراد الهاشميون أن يجرّدوا السلاح لأن بني أمية تسلّحوا أيضا ليمنعوا من دفن الحسن المجتبى عليه‌السلام عند جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر عائشة ، ولكنّ الحسين عليه‌السلام تدارك الموقف فقال «الله الله يا بني هاشم

٨٧٠

لا تضيّعوا وصيّة أخي واعدلوا به إلى البقيع ، والله لو لا عهد إليّ أن لا أهريق في أمره محجمة دم لدفنته عند جدّنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهما بلغ الأمر!». فدفنوه في البقيع (١).

__________________

(١) ذكر كثير من المؤرخين منع عائشة لدفن الإمام الحسن عليه‌السلام بجوار جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم أبو الفرج الأصبهاني في كتابه [مقاتل الطالبيين] ٧٤ قال [فأمّا يحيى بن الحسن صاحب كتاب «النسب» فإنه روى أنّ عائشة ركبت ذلك اليوم بغلا.

واستنفرت بني أميّة مروان بن الحكم ومن كان هناك منهم ومن حشمهم] وهو قول القائل فيوما على بغل ويوما على جمل.

ومنهم ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ١٦ / ١٤ ، ط دار إحياء التراث العربي نقل عن المدائني عن أبي هريرة : [فلما رأت عائشة السلاح والرجال وخافت أن يعظم الشر بينهم وتسفك الدماء ـ هذا كله توجيه منه ـ قالت : البيت بيتي ولا آذن لأحد أن يدفن فيه!]

ومنهم العلاّمة سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ١٩٣ ، طبع بيروت وهذا نصّه : وقال ابن سعد عن الواقدي «لما احتضر الحسن قال : ادفنوني عند أبي يعني رسول الله» فأراد الحسين أن يدفنه في حجرة رسول الله (ص) ، فقامت بنو أميّة ومروان وسعيد بن العاص وكان واليا على المدينة فمنعوه!! قال ابن سعد : ومنهم أيضا عائشة وقالت : لا يدفن مع رسول الله (ص) أحد!!

ومنهم أبو الفداء في «المختصر في أخبار البشر» ج ١ / ١٨٣ طبع مصر قال [وكان الحسن قد أوصى أن يدفن عند جده رسول الله (ص) ، فقالت عائشة : البيت بيتي ولا آذن أن يدفن فيه.]

ومنهم اليعقوبي في تاريخه وهو من أعلام القرن الثالث الهجري قال : وقيل : إنّ عائشة ركبت بغلة شهباء وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد! فأتاها القاسم بن محمد ابن أبي بكر فقال لها : يا عمة ما غسّلنا رءوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء؟! فرجعت.]

٨٧١

فرحة عائشة لشهادة الإمام علي عليه‌السلام

وإذا كانت عائشة نادمة على خروجها وتابت من قتالها وحربها

__________________

ومنهم النيسابوري في روضة الواعظين / ١٤٣ ، ذكر أنّ ابن عباس خاطبها قائلا [وا سوأتاه .. يوما على بغل ويوما على جمل! تريدين أن تطفئي نور الله ، وتقابلين أولياءه؟!]

ولنا أن نتساءل : من أين جاء لها البيت الذي دفن فيه نبي الرحمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أما روى أبوها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ، ولا دارا ولا عقارا ، وبناء عليها منع سيدة النساء فاطمة إرثها وحقّها من أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو فرضنا أن عائشة ردّت رواية أبيها وكذّبته ... فكم حصّتها من الإرث؟ فقد قيل لها :

لك التسع من الثمن

وفي الكل تصرّفت؟!

لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات عن تسع زوجات وحصّة الزوجة من الإرث ثمن ٨ / ١ ما ترك الزوج من العمارات والأموال المنقولة ... فأمّا من الأرض فلا ترث ، وعائشة تصرّفت في الأرض خلافا لحكم الله فدفنت أباها في بيت رسول الله (ص) وسكتت عن دفن عمر أيضا.

ونصّ بعض المؤرخين كما في كتاب «الدرّة الثمينة في تاريخ المدينة» : / ٤٠٤ أنّ عائشة سمحت بدفن عبد الرحمن بن عوف في حجرة النبي (ص).

فلنا أن نتساءل : هل أنّ عبد الرحمن أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سبطه الأكبر الإمام الحسن الذي كان يقبّله في الملأ العام ويشمّه ويضمّه إلى صدره ويقول «الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا». ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اللهم إنّي أحبه وأحب من يحبه؟».

فلا أدري لأي سبب تسمح عائشة لابن عوف أن يدفن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبعد ريحانته وفلذة كبده عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! أكان ذلك استجابة منها لرغبة الأمويين!! أم للحقد الدفين؟

«المترجم»

٨٧٢

للامام علي عليه‌السلام ، فلما ذا أظهرت الفرح حين وصلها خبر شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام وسجدت شكرا لله تعالى؟!

كما أن أبا الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني ، روى في كتابه مقاتل الطالبيين / ٥٤ ـ ٥٥ / بإسناده إلى إسماعيل بن راشد وهو روى بالإسناد أيضا فقال : [لمّا أتى عائشة نعي عليّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ تمثّلت :

فألقت عصاها واستقرّت بها النّوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

ثم قالت : من قتله؟ فقيل : رجل من مراد ، فقالت :

فإن يك نائيا فلقد بغاه

غلام ليس في فيه التراب

فقالت لها زينب بنت أم سلمة : ألعليّ تقولين هذا؟!

فقالت : إذا نسيت فذكّروني!!]

ثم روى أبو الفرج بإسناده عن أبي البختري قال : [لمّا أن جاء عائشة قتل عليّ عليه‌السلام سجدت!! (١).]

أيها الحاضرون! وأيها العلماء! هل بعد هذا الخبر ، تصدّقون توبتها؟ أم تقبلون أنّها كانت خفيفة العقل ، وغير رزينة ولا متوازنة في سلوكها ومعاشرتها مع آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

__________________

(١) نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ٩ / ١٩٨ ، ط دار إحياء التراث العربي عن الشيخ أبي يعقوب وقال فيه : انه لم يكن يتشيّع. قال : ماتت فاطمة ، فجاء نساء رسول الله (ص) كلهنّ الى بني هاشم في العزاء الاّ عائشة فانها لم تأت ، واظهرت مرضا ، ونقل الى عليّ عليه‌السلام عنها كلام يدلّ على السرور!! «المترجم»

٨٧٣

تناقضات عائشة في عثمان

والغريب أنكم لا تنتقدون أم المؤمنين عائشة لموقفها السلبي تجاه عثمان ، ولا تأخذون عليها جملاتها وكلماتها الشنيعة في حقه حتى رمته بالكفر ، ولكن تصبّون جام غضبكم على الشيعة وترمونهم بالكفر والضلال إذا نسبوا عثمان إلى سوء التدبير والإجحاف ، أو نسبوه إلى إتلاف بيت المال وسوء التصرّف ، وهم ينقلون كلّ ذلك من كتب أعلامكم وروى أكثر محدثيكم وأكبر مؤرخيكم أنّ عائشة كانت تؤلّب الناس وتحرّضهم على قتل عثمان ، منهم المسعودي في كتابه أخبار الزمان ، وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ٦٤ ، ط بيروت ، وأعلام المؤرخين : مثل ابن جرير وابن عساكر وابن الأثير وغيرهم ، ذكروا في أحداث قتل عثمان أن عائشة كانت تحرّض على قتله بالجملة المشهورة عنها : [اقتلوا نعثلا فقد كفر!]

وذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٦ / ٢١٥ ، ط إحياء التراث قال : قال كلّ من صنّف في السّير والأخبار : [انّ عائشة كانت من أشد الناس على عثمان ، حتى أنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله (ص) ، فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله (ص) لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته! قالوا : أوّل من سمّى عثمان نعثلا ، عائشة ؛ والنعثل : الكثير شعر اللحية والجسد ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا!!]

قال : وروى المدائني في كتاب «الجمل» قال : لما قتل عثمان ، كانت عائشة بمكة وبلغ قتله إليها وهي بشراف ، قالت : [بعد النعثل وسحقا!!]

٨٧٤

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ٦ صفحة ٢١٦ قال : وقد روي من طرق مختلفة أنّ عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة ، قالت : [أبعده الله! ذلك بما قدّمت يداه وما الله بظلاّم للعبيد!!]

حينما تقرءون في التاريخ أنّ أم المؤمنين كانت تتفوّه وتتكلّم بهذه الجمّل على عثمان ، لا تحكمون بكفرها وضلالتها!! ولكن اذا سمعتم من شيعي يتكلّم بأقلّ من هذا في عثمان ، تكفرونه وتأمرون بقتله!!

والجدير بالذكر أن أقوال عائشة في شأن عثمان متناقضة ، فقد ذكر المؤرّخون أنّها لمّا سمعت بأنّ الناس بايعوا عليّا بعد عثمان ، غيّرت كلامها وأظهرت بغضها وحقدها لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام فقالت : [لوددت أنّ السماء انطبقت على الأرض إن تمّ هذا .. قتلوا ابن عفّان مظلوما!!]

بالله عليكم فكّروا في هذا التناقض البيّن ، والتضارب الفاحش في كلام عائشة! أما يدلّ هذا التناقض والتضارب على عدم استقامتها؟ بل هو دليل ظاهر على تلوّنها وميولها مع أهوائها وتلبيتها لأغراضها النفسيّة ، وإنّ النفس لأمّارة بالسوء!

الشيخ عبد السلام : نعم ذكر المؤرخون هذه التناقضات في سيرة أم المؤمنين (رض) ، وهم ذكروا أيضا أنها ندمت وتابت واستغفرت ، والله سبحانه وعد التائبين بقبول التوبة والجنة ، ولذا نحن نعتقد أنّها في أعلى درجات الجنان عند رسول الله (ص).

قلت : إنّ كلامك تكرار لمقالك السابق ، وأنا لا أكرّر كلامي وجوابي لك ، ولكن هل من المعقول أنّ الدماء التي سفكت في الجمل

٨٧٥

بسببها ، والأموال التي نهبت بأمرها ، والحرمات التي هتكت بنظرها .. تذهب أدراج الرياح ، ولا يحاكمها الله على أعمالها؟!

أين إذا قول الله سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١)؟!

صحيح أن الله عزّ وجلّ أرحم الراحمين ، ولكن في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

ولا يخفى أنّ من شروط قبول التوبة ، ردّ حقوق الناس وإرضائهم ، فإنّ الله تعالى ربما يعفو عن حقه ، ولكن لا يعفو عن حقوق الناس. وعائشة تابت بالقول واللسان ، لا بالفعل والجنان ، ولذلك ما كانت مطمئنّة من قبول توبتها وغفران الله سبحانه لها وهي أعرف بنفسها ، ولذا ذكر أكابر علمائكم مثل الحاكم في المستدرك ، وابن قتيبة في المعارف ، والعلاّمة الزرندي في الأعلام بسيرة النبي (ص) ، وكذلك ابن البيّع النيسابوري ، وغيرهم ذكروا أنّ عائشة أوصت إلى عبد الله بن الزبير وسائر محارمها فقالت : [ادفنوني مع أخواتي بالبقيع فإنّي قد أحدثت أمورا بعد النبي (ص)!]

أمّا قولكم بأنّها نسيت بعض أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن الإمام علي عليه‌السلام وفضله ومناقبه ، ونسيت تحذير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها من خروجها على أمير المؤمنين ومحاربتها له عليه‌السلام ، وبعد ما وضعت الحرب أوزارها وانتهت المعركة بانتصار علي عليه‌السلام وجيشه وانكسار عائشة وجيشها ، تذكّرت أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سمعته من فمه المبارك في ذلك فتابت واستغفرت!!

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية ٧ و ٨.

٨٧٦

أم سلمة تذكّر عائشة

فقد روى كثير من أعلام محدثيكم وكبار علمائكم خلاف ذلك ، منهم :

ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٦ / ٢١٧ ، ط دار إحياء التراث العربي روى عن أبي مخنف ـ لوط بن يحيى الأزدي ـ قال : [جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان ....

فقالت أم سلمة : إنك كنت بالأمس تحرّضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول ، وما كان اسمه عندك إلاّ نعثلا ، وإنّك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أفأذكّرك؟

قالت : نعم ، قالت : أتذكرين يوم أقبل عليه‌السلام ونحن معه ؛ حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال ، خلا بعليّ يناجيه فأطال ، فأردت أن تهجمي عليهما ، فنهيتك .. فعصيتني ، فهجمت عليهما ، فما لبثت أن رجعت باكية ، فقلت : ما شأنك؟ فقلت : إنّي هجمت عليهما وهما يتناجيان فقلت لعليّ : ليس لي من رسول الله إلاّ يوم من تسعة أيّام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي!

فأقبل رسول الله (ص) عليّ وهو غضبان محمّر الوجه ، فقال : ارجعي وراءك! والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلاّ وهو خارج من الإيمان!

فرجعت نادمة ساقطة! قالت عائشة : نعم أذكر ذلك.]

ويتابع ابن أبي الحديد رواية أبي مخنف في تذكير أم سلمة لعائشة

٨٧٧

قالت : واذكّرك أيضا .. [كنت أنا وأنت مع رسول الله (ص) ، وأنت تغسلين رأسه ، وأنا أحيس له حيسا ، وكان الحيس يعجبه ، فرفع (ص) رأسه وقال : يا ليت شعري ، أيّتكنّ صاحبة الجمل الأذنب ، تنبحها كلاب الحوأب ، فتكون ناكبة عن الصراط؟! فرفعت يدي من الحيس ، فقلت : أعوذ بالله وبرسوله من ذلك. ثم ضرب (ص) على ظهرك وقال : ايّاك أن تكونيها!! إيّاك أن تكونيها يا حميراء! أمّا أنا فقد انذرتك!

قالت عائشة : نعم أذكر هذا.

قالت : وأذكّرك أيضا .. كنت أنا وأنت مع رسول الله (ص) في سفر له ، وكان عليّ يتعاهد نعلي رسول الله (ص) فيخصفها ، ويتعاهد أثوابه فيغسلها ، فنقبت له نعل ، فأخذها يومئذ يخصفها ، وقعد في ظلّ سمرة. وجاء أبوك ومعه عمر ، فاستأذنا عليه (ص) فقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحادثانه فيما أراد ، ثم قالا : يا رسول الله! إنّا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ، ليكون لنا بعدك مفزعا.

فقال (ص) لهما : أما إنّي قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرّقتم عنه ، كما تفرّقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران.

فسكتا ثم خرجا ، فلمّا خرجنا إلى رسول الله (ص) ، قلت له ، وكنت أجرا عليه (ص) منّا : من كنت يا رسول الله ، مستخلفا عليهم؟

فقال (ص) : خاصف النعل ، فنظرنا فلم نر أحدا إلاّ عليّا ، فقلت : يا رسول الله ، ما أرى إلاّ عليّا. فقال (ص) : هو ذاك. فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك.

٨٧٨

فقالت أم سلمة : فأيّ خروج تخرجين بعد هذا؟!

فقالت : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس ، وأرجو فيه الأجر إن شاء الله.

فقالت : أنت ورأيك ، فانصرفت عائشة عنها.]

أقول : فاعلموا أيها الحاضرون! إنّ عائشة ما كانت ناسية مكانة الإمام عليّ عليه‌السلام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنزلته منه ، بل خرجت عالمة عامدة ، ناكرة للحق ، داعية للباطل ، عازمة على الحرب والفتنة. وهدفها وغرضها إفساد الأمر على أبي الحسن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) ، وهي تعلم أنّه أحقّ الناس بالأمر وأولادهم بالخلافة للنصّ الأخير الذي ذكّرتها به أم سلمة (سلام الله عليها).

فإنّ حديث خاصف النعل الذي رواه كثير من أعلامكم بطرق عديدة صريح في تعيين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا للخلافة والإمامة.

لذلك نحن نعتقد بدليل هذا الحديث وعشرات الأحاديث الصحيحة من نوعه وبأدلّة ثابتة من الكتاب الحكيم ، بأنّ عليا عليه‌السلام هو الإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله ، وهو خليفته بلا فصل ، ولكن مناوئيه وحاسديه غصبوا مقامه وأخّروه بدسائس سياسية ومؤامرة شيطانية وعينوا أبا بكر للخلافة من غير نصّ ولا إجماع ، فإنّ النزاع كان قائما في السقيفة من جراء ذاك الانتصاب ، وكلّنا نعلم بأنّ سيّد الخزرج سعد بن عبادة كان مخالفا لخلافة أبي بكر إلى آخر عمره وتبعه كثير من قومه. وكذلك الهاشميون كانوا مخالفين ، وبعد خلافة أبي بكر جاء عمر بن الخطاب بانتصاب وتعيين من أبي بكر ، فلا إجماع ولا شورى! وقد سبق أن بيّنّا مخالفة طلحة وجمع آخر من الصحابة

٨٧٩

لتعيين عمر وانتصابه للخلافة ، وأما عمر فقد أبدع طريقا آخر لتعيين خليفته ، إذ عيّن ستة نفرا من الصحابة فيهم عليّ عليه‌السلام وعثمان ، وأمر أن يختاروا من بينهم أحدهم ، فاذا لم يتمّ الوفاق على أحد منهم خلال ثلاثة أيّام ، أصدر حكم إعدامهم وقتلهم!! وقد آل الأمر بمكيدة عمر إلى عثمان.

فنحن نعتقد أنّ هذه الطرق المتناقضة في تعيين الخلفاء الثلاثة ، قبل الإمام علي عليه‌السلام ، كلها طرق غير مشروعة ما سنّها الله ولا رسوله لأنّا لو فرضنا بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تجتمع أمتي على خطأ» فلم يلحظ إجماع الأمّة في هذه الطرق الثلاثة ، ولكن خلافة الإمام علي عليه‌السلام امتازت بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنّة.

الشيخ عبد السلام : لا شك أنّ الإجماع حصل على خلافة أبي بكر بالتدريج ، ونحن نقبل بأن الإجماع ما حصل في السقيفة ولكن بعدها دخل الناس كلهم في طاعة أبي بكر (رض) وحتى الهاشميين بما فيهم عليّ والعباس بايعوا بعد وفاة فاطمة الزهراء (رضي الله عنها).

قلت : أوّلا .. فاطمة الزهراء عليها‌السلام وهي سيّدة نساء العالمين والمسلمين بإجماع الأمة ، ما بايعت لأبي بكر بل ماتت وهي ساخطة وناقمة عليه كما مرّ في المجالس السابقة ، كما وقد مرّ أيضا في المجالس السابقة بأن سيد الخزرج سعد بن عبادة ما بايع أبا بكر إلى أن قتل غيلة. وهذا يكفي لبطلان الإجماع الذي تدّعونه.

ثانيا : لقد أثبتنا في المجالس السالفة أنّ بيعة كثير من المسلمين في المدينة كانت بالجبر والإكراه لا عن الطوع والرضا ، وهذا خلاف شرط صحة الاجماع.

٨٨٠