السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «الأئمة بعدي أو خلفائي بعدي اثنا عشر كلهم من قريش» ، وفي بعض الروايات كلهم من بني هاشم ، وحتى في بعضها عيّنهم بذكر أسمائهم.
ولا نجد حتى حديثا واحدا عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حول الأئمة الأربعة الذين تمسكتم بهم. ثم إنّ الفرق بين الأئمة الاثني عشر الذين نتمسك بهم نحن ونأخذ بأقوالهم وبين أئمتكم الأربعة فرق كبير.
وكما أشرنا في الليالي السّالفة أنّ الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام هم أوصياء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد نصّ عليهم بأمر من الله سبحانه فلا يقاس بهم أي فرد من الخلفاء والأئمة الذين تمسكتم بهم ، فإنّ أئمة المذاهب الأربعة شأنهم شأن غيرهم من فقهاء المسلمين وعلماء الدين ، والمسلمون في خيار تام في تقليدهم وتقليد غيرهم من فقهاء الإسلام الذين يملكون قدرة الاستنباط واستخراج الأحكام الدينية من القرآن الحكيم والسّنّة النبويّة الشريفة.
وعلى هذا فنحن الشيعة نقلّد مراجع الدين وهم الفقهاء الذين درسوا وحققوا الأخبار والأحاديث المرويّة عن النبي وأهل بيته الطيبين الراسخين في العلم.
فيحققون ويتقنون أسنادها وطرقها ويميّزون بين صحيحها وسقيمها ويستخرجون منها حكم المسائل المستحدثة والفروع الطارئة في زماننا هذا ، ويبيّنون تكليفنا الشرعي على أساس أصول الفقه والقواعد الإلهيّة ، يردّون الفرع على الأصل ويستخرجون حكمه ويبيّنونه لمقلّديهم ، وهؤلاء الفقهاء يتواجدون في كل زمان وهم متعدّدون ولا ينحصر التقليد في واحد منهم ، لأنّ الكلّ يأخذون من منهل العترة
الهادية ومنبع أهل البيت الطاهرين عليهمالسلام.
ولكن الأئمة وإن تتلمذوا عند بعض أئمة أهل البيت عليهمالسلام إلاّ أنهم خرجوا من إطارهم وتركوا الأصول الفقهية والقواعد المقبولة لديهم ، فعملوا بالقياسات العقلية والاستحسانات النظرية حتى أنّهم ربما اجتهدوا في بعض المسائل وخالفوا النصوص الجليّة فيها ، فضلّوا وأضلّوا (١).
والعجب أنكم تركتم تقليد العترة وأهل بيت الوحي والرسالة الذين عيّنهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتابعتم التلامذة الذين لم يبلغوا عشر معشار علوم أهل البيت عليهمالسلام ولم يغترفوا إلاّ غرفة أو رشحة من بحارهم المتلاطمة بشتى العلوم التي آتاهم الله عز وجلّ من لدنه وجعلهم أئمة يهدون بأمره.
فالأئمّة الأربعة استندوا إلى عقولهم النّاقصة في بيان حكم الله عزّ وجل ولم يستندوا إلى الكتاب المبين وسنّة سيد المرسلين.
وقد قال سبحانه وتعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).
السيد عبد الحي : وهل عندكم دليل على أنّ الأئمة الأربعة تتلمذوا عند أئمتكم؟
__________________
(١) مرّ هذا البحث في أوائل المجلس الرابع.
(٢) سورة يونس ، الآية ٣٥.
الامام الصادق عليهالسلام وموقعه العلمي
قلت : دليلنا هو التاريخ الذي كتبه أعلامكم ، فقد ذكر ابن الصبّاغ المالكي في كتابه الفصول المهمة في معرفة الأئمة عليهمالسلام ـ فصل حياة الإمام الصادق عليهالسلام ـ قال : ...
[كان جعفر الصادق عليهالسلام من بين إخوته خليفة أبيه ووصيه والقائم بالإمامة من بعده ، برز على جماعة بالفضل وكان أنبههم ذكرا وأجلّهم قدرا نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته وذكره في ساير البلدان ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه من الحديث ، وروى عنه جماعة من أعيان الأمّة مثل يحيى بن سعيد وابن جريح ومالك بن أنس والثوري وأبو عينية وأبو حنيفة وشعبة وأبو أيّوب السجستاني وغيرهم ... الخ].
وقال كمال الدين محمد بن طلحة العدوي القرشي الشافعي ، في كتابه مطالب السئول في مناقب آل الرسول ـ الباب السادس في أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام ـ :
[هو من عظماء أهل البيت وساداتهم عليهمالسلام ذو علوم جمّة ، وعبادة موفرة ، وأوراد متواصلة ، وزهادة بيّنة ، وتلاوة كثيرة ، يتّبع معاني القرآن الكريم ويستخرج من بحره جواهره ويستنتج عجايبه ، ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليه نفسه. رؤيته تذكّر الآخرة ، واستماع كلامه يزهد في الدّنيا ، والاقتداء بهداه يورث الجنة ، نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة ، وطهارة أفعاله تصدع أنه من
ذرية الرسالة.
نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من الأئمة وأعلامهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريح ومالك بن أنس والثوري وابن عيينة وشعبة وأبو أيوب السجستاني وغيرهم (رض) ، وعدوّا أخذهم عنه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها ... الخ].
وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السّلمي وهو من أعلامكم ، في كتابه طبقات المشايخ : [إنّ الإمام جعفر الصادق فاق جميع أقرانه ، وهو ذو علم غزير في الدين وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تام عن الشهوات ، وأدب كامل في الحكمة ... الخ] (١).
__________________
(١) أقول : ومما يناسب المقام كلام ابن أبي الحديد المعتزلي في مقدمة شرحه على نهج البلاغة فقد قال : [ومن العلوم علم الفقه وهو عليهالسلام ـ أي الإمام علي ـ أصله وأساسه ، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه ، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة ، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ، وأما احمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة ، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليهالسلام ـ أي الصادق ـ.]
ويقول الآلوسي البغدادي وهو من أعلام العامة ، في كتابه التحفة الاثنا عشرية ص ٨ : [هذا أبو حنيفة وهو من أهل السنّة يفتخر ويقول بأفصح لسان : «لو لا السنّتان لهلك النعمان» يعني السّنتين اللّتين جلس فيهما لأخذ العلم عن الإمام الصادق ... الخ.]
وجاء في كتاب مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج ١ / ١٧٣ وفي جامع أسانيد أبي حنيفة ج ١ / ٢٢٢.
وفي تذكرة الحفاظ للذهبي : ج ١ / ١٥٧.
__________________
قال أبو حنيفة : [ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد ، لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد ، فهيّئ له من المسائل الشّداد.
فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه ، فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر [المنصور] فسلّمت عليه. وأومأ إليّ ، فجلست ثم التفتّ إليه ، فقال : يا أبا عبد الله! هذا أبو حنيفة. قال جعفر : نعم ، ثم أتبعها : قد أتانا ، كأنّه كره ما يقول فيه قوم أنّه إذا رأى الرجل عرفه.
ثم التفت المنصور إليّ فقال : يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله من مسائلك! فجعلت ألقي عليه فيجيبني ، فيقول : أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا ، فربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعا ، حتى أتيت على الأربعين مسألة.]
ثم قال أبو حنيفة : ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟
وقال ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب ج ٢ / ١٠٣ تحت رقم ١٥٦ : [جعفر بن محمد ... وروي عنه شعبة والسفيانان ومالك وابن جريح وابو حنيفة وابنه موسى عليهالسلام ووهيب بن خالد والقطّان وأبو عاصم وخلق كثير ، وروى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو من أقرانه ، ويزيد بن الهاد ... الخ.]
وقال الخطيب التبريزي العمري في إكمال الرجال طبع دمشق / ٦٢٣ :[جعفر الصادق ... سمع منه الأئمة الأعلام نحو يحيى بن سعيد وابن جريح ومالك ابن أنس والثوري وابن عيينة وأبو حنيفة ... الخ.]
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ ج ١ / ١٦٦ ط حيدرآباد :
[جعفر بن محمد ... أحد السادة الأعلام وعنه ـ أخذ ـ مالك والسفيانان وحاتم بن إسماعيل ويحيى القطّان وأبو عاصم النبيل وخلق كثير ...].
__________________
وعن أبي حنيفة قال : [ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد الخ.]
وقال أبو نعيم في حلية الأولياء ج ٣ / ١٩٨ ط مصر :
[روى عن جعفر عليهالسلام عدة من التابعين ، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري وأبو السختياني وأبان بن تغلب وأبو عمر بن العلاء ويزيد بن عبد الله بن الهاد. الخ.]
وقال محمد بن عبد الغفّار في كتابه أئمة الهدى ص ١١٧ ط القاهرة :
[لقد كان الإمام جعفر الصادق عليهالسلام بحرا زاخرا في العلم حيث أخذ عنه أربعة آلاف شيخ ، فرووا عنه الحديث الشريف ومنهم أعلام العلم ، كالإمام الأعظم أبي حنيفة والإمام مالك بن أنس والإمام سفيان الثوري وغيرهم من أجلّة العلماء الخ.]
وقال الشبراوي في كتابه الإتحاف بحبّ الأشراف ص ٥٤ ط مصر :
[السادس من الأئمة جعفر الصادق عليهالسلام ذو المناقب الكثيرة والفضائل الشهيرة ، روى عنه الحديث أئمة كثيرون مثل مالك بن أنس وأبي حنيفة ويحيى بن سعيد وابن جريح والثوري وابن عيينة وشعبة وغيره الخ.]
وقال ابن حجر الهيتمي في كتابه الصواعق المحرقة : ص ١٢٠ ط مصر : [جعفر الصادق عليهالسلام نقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني الخ.]
وجاء في كتاب رسائل الجاحظ ص ١٠٦ قوله : [جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ، ويقال : أن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري ، وحسبك بهما في هذا الباب.]
وقال جمال الدين أبو المحاسن في كتاب النجوم الزاهرة : ج ٢ ص ٨ : [جعفر الصادق بن محمد الباقر ... حدّث عنه أبو حنيفة وابن جريح وشعبة والسفيانان ومالك وغيرهم الخ.]
ولو نقلت لكم ما ذكره علماؤكم وأعلامكم عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهالسلام ومقامه العلمي ، وصفاته الحميدة وأخلاقه المحمودة لطال بنا المقام ، ولتقاصر البيان عن أداء حقّه وتعريفه بما يستحقّه ، وكلّ ما يقال في علمه وخلقه وصفاته الحسنة لا يبلغ به معشار ما هو حقّه.
النوّاب : هل تأذن لي بالسؤال؟
قلت : أرجو أن يكون سؤالك فيما نحن فيه ، وأن لا تخرجنا بسؤالك عن الموضوع.
قال النواب : إنّ مذهبكم يعرف بالمذهب الاثني عشري لأنكم تتّبعون اثني عشر إماما. فلما ذا اشتهر هذا المذهب باسم الإمام جعفر الصادق رضياللهعنه فيطلق عليكم الجعفرية نسبة إليه؟
ظهور المذهب الجعفري
قلت : لقد جرت السنّة الإلهية على أنّ كل نبي يعيّن رجلا وصيّا لنفسه ليقوم بالأمر من بعده ولكي لا تكون أمّته حائرة من بعده ،
__________________
وقال الزّركلي في الأعلام ج ١ / ١٨٦ [جعفر الصادق ... سادس الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية ، كان من أجلّ التابعين وله منزلة رفيعة في العلم ، أخذ عنه جماعة ، منهم أبو حنيفة ومالك وجابر بن حيّان ، ولقّب بالصادق لأنّه لم يعرف عنه الكذب قط الخ.]
وقال محمود بن وهيب البغدادي في كتاب جواهر الكلام ص ١٣ : [جعفر الصادق ... نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان وروى عنه الأئمة الكبار كيحيى ومالك وأبي حنيفة الخ.]. «المترجم»
فيضلوا عن سبيل الله سبحانه ، فقد قال عزّ وجلّ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (١). وبيّنا لكم في المجالس السابقة أنّ النبي محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم عيّن الإمام عليّ عليهالسلام وصيّا وأوصى إليه بأمر من الله سبحانه وعيّنه خليفة من بعده ليهدي أمّته إلى الحق وإلى الصراط المستقيم ، ولكن السياسة اقتضت أن يخالفوا وصية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فعدلوا عنه إلى أبي بكر وعمر وعثمان وقد كانوا يستشيرونه في أكثر الأمور ، فكان يشير عليهم بالحق والصواب ، وهو الذي كان يواجه علماء الأديان المناوئين للإسلام فيردّ شبهاتهم ويجيب على مسائلهم.
ولمّا آل الأمر إلى بني أمية واغتصب معاوية عرش الخلافة ، عاملوه وعاملوا أئمة أهل البيت والعترة الهادية عليهمالسلام بكل قساوة ، فما شاوروهم في أي أمر من الأمور بل خالفوهم وما أذنوا لهم بنشر علومهم وبيان ما أخذوه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فطاردوا شيعتهم ومحبيهم وقتلوهم وسجنوهم وأبعدوهم إلى أن انتهت هذه السياسة الظالمة والسيرة الجائرة الغاشمة بقيام عامّ من المسلمين ضدّ بني أمية فأبادوهم ، وانتقل الحكم إلى بني العباس وكان ذلك في عصر الإمام الصادق عليهالسلام الذي اغتنم هذه الفرصة التي أتيحت له بانشغال الدولتين ففتح باب بيته على مصراعيه ليستقبل من روّاد العلم وطلاّبه ، فوفد نحوه العلماء من كل صوب ومن كل مكان ليرتووا من منهله ويستقوا من منبعه العذب الصّافي ، وقد عدّ بعض المحققين والمؤرّخين تلاميذه فتجاوز الأربعة آلاف ، فالتفّ حوله طلاّب الحق فكشف لهم الحقائق العلمية ، وأوضح لهم المسائل الاعتقادية ، وبيّن لهم المسائل الدينية
__________________
(١) سورة الرعد ، الآية ٧.
مستندا فيها على الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة الشريفة التي وصلته عن طريق آبائه الطيبين والأئمة المعصومين من أهل البيت عليهمالسلام.
وهكذا انتشرت عن طريقه أصول مذهب الشيعة وعقائدهم الحقّة ، وقد ألّف بعض أصحابه وتلامذته المقرّبين رسائل في هذا الأمر اشتهرت بالأصول الأربعمائة.
ولم ينحصر علمه في المسائل الدينية والأحكام الشرعية بل كان بحرا زاخرا في شتى العلوم حتى أنّ جابر بن حيّان أخذ عنه علم الكيمياء وألّف في ذلك رسائل عديدة تدرّس بعضها إلى يومنا هذا في الجامعات العلمية.
وبعد ما تسلّط بنو العباس على الحكم وقويت شوكتهم ، منعوه من نشر العلم وتدريسه ، ودام المنع على أبنائه الأئمة الطاهرين عليهمالسلام من بعده ، فالفرصة التي أتيحت له في فترة قصيرة ما أتيحت لأحد من آبائه ولا لأحد من أبنائه الهداة الطيبين.
فلذلك اشتهر هذا المذهب باسمه وانتسب إليه ، فيقال : مذهب جعفر بن محمد أو المذهب الجعفري.
فالإمام الصادق عليهالسلام كما يعترف أعلامكم وكبار علمائكم هو أفقه وأعلم أهل زمانه ، وكما أشرنا بأنّ الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الفقه أخذوا عنه وتتلمذوا عنده ، وكل واحد منهم استفاد من محضره حسب استعداده. وكان عليهالسلام أفضلهم وأزهدهم وأورعهم وأكملهم ومع ذلك ترك أسلافكم تقليده ومتابعته ، حتى أنّهم أبوا أن يجعلوه في عداد الأئمة الأربعة! لما ذا هذا الجفاء والبغضاء؟ هل لأنّه من آل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن عترته الطاهرة عليهمالسلام؟!
وقد بالغ بعض محدّثيكم وأعلامكم في البغض والجفاء لأهل البيت إلى حدّ العناد ، بحيث أبوا أن ينقلوا عنهم الحديث الذي يروونه عن جدهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (مع ما أوصى به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بهم ، وتحريضه الأمة على إكرامهم واحترامهم ومتابعتهم).
فهذا البخاري ومسلم لم ينقلا روايات الإمام جعفر الصادق عليهالسلام في صحيحيهما ، بل لم ينقلا عن عالم واحد من علماء أهل البيت وفقهائهم ، مثل زيد بن علي الشهيد ويحيى بن زيد ومحمد بن عبد الله ذي النفس الزكية والحسين بن علي الشهيد والمدفون في «فخ» ويحيى ابن عبد الله بن الحسن وأخيه ادريس ، ومحمد بن الإمام الصادق ومحمد بن إبراهيم المعروف بابن طباطبا ومحمد بن محمد بن زيد وعبد الله بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهم من أكابر وسادات بني هاشم من المحدثين والفقهاء ، فلم ينقلا عنهم. والعجيب أنّ البخاري ينقل ويروي عن أناس ضعفاء في الإيمان والعقيدة ، بل ينقل عن عدد من الخوارج والذين نصبوا العداء لآل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أمثال أبي هريرة وعكرمة وعمران بن حطّان الذي يمدح ابن ملجم المرادي قاتل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام.
وقد كتب ابن البيّع أنّ البخاري روى في صحيحه عن ألف ومائتي خارجي وناصبي من قبيل عمران بن حطان (١).
__________________
(١) عمران بن حطّان السدوسي البصري المتوفى سنة ٨٤ ه كان من رءوس الخوارج والمعلنين عداء الإمام علي عليهالسلام ، وهو المادح ابن ملجم المرادي لعنه الله بقوله :
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها |
|
إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا |
وإنّي أتعجّب وأتأسّف من رأي بعض أعلامكم إذ يرون بأنّ أتباع الأئمة الأربعة مسلمين مؤمنين ، ولكنّ شيعة آل محمّد وأتباع الإمام جعفر الصادق عليهالسلام كفرة ومشركين ، فيفترون على طائفة كبيرة من المسلمين وعددا كثيرا بالكفر والشرك. فلو قسنا الشيعة بأتباع كلّ مذهب من المذاهب الأربعة من أهل السنّة لوحدهم فالشيعة هم الأكثر ، فإن أتباع الإمام الصادق عليهالسلام ، أكثر عددا من أتباع مالك بن أنس وشيعة الإمام الصادق عليهالسلام ، أكثر من أتباع محمد بن إدريس وهكذا لو قسناهم مع أتباع أبي حنيفة لوحدهم وأتباع أحمد بن حنبل لوحدهم ، لوجدنا شيعة الإمام الصادق عليهالسلام أكثر عددا ، وإنّي أعلن بأننا نحن الشيعة ندعوا إخواننا السنة إلى التقارب والوحدة ونبرأ إلى
__________________
مع العلم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وصف ابن ملجم بأنه أشقى الأولين والآخرين.
ويروي البخاري عن أبي الأحمر السائب بن فروخ وكان شاعرا فاسقا ومبغضا لآل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو القائل لأبي عامر بن وائلة الصحابي المعروف بأبي الطفيل من شيعة الإمام علي عليهالسلام :
لعمرك إنني وأبا طفيل |
|
لمختلفان والله الشهيد |
لقد ضلّوا بحبّ أبي تراب |
|
كما ضلّت عن الحق اليهود |
مع العلم أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : علي مع الحق والحق مع علي.
ويروي أيضا عن حريز بن عثمان الحمصي ، المشهور بالنّصب والمعلن عداءه لعلي عليهالسلام.
ويروي عن إسحاق بن سويد التميمي وعبد الله بن سالم الأشعري وزياد بن علاقة الكوفي ، وأمثالهم الذين عرفوا واشتهروا بعدائهم للإمام علي عليهالسلام.
«المترجم»
الله تعالى من التّنافر والتفرقة.
الحافظ : إنّي أؤيّد كثيرا من كلامك وأعترف بأنّ هناك بعض العصبيّات حاكمة على كثير من أهل السنة ، ولكن لو تحقّقنا من الأسباب لعرفناها ترجع إليكم ، لأنكم أنتم ـ علماء الشيعة ومبلغيهم ـ لا ترشدون عوام الشيعة إلى الحق ولا تنهونهم عن الباطل ، فهم يتكلمون بكلمات تنتهي إلى الكفر والشرك.
قلت : أرجوك أن توضّح لي كلامك وتبيّن لي مثالا من كلام عوام الشيعة الذي ينتهي إلى الكفر!!
مطاعن الشيعة في الصحابة وزوجات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
الحافظ : مما لا شك فيه أنّ المطاعن التي تروونها على الصحابة المقرّبين لرسول الله وبعض زوجاته الطاهرات رضي الله عنهم كفر صريح ، اذ إنّ هؤلاء الصحابة هم الذين جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا الكفار تحت راية النبي وقد قال سبحانه فيهم : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (١) فالذين يعلن الله تعالى رضاه عنهم ، ورسول الله يكرمهم ويحترمهم ويحدّث عن فضائلهم ، وهو كما قال سبحانه في سورة النجم (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٢).
فالطعن فيهم إنكار للقرآن والنبي ، وهو كفر ، والمنكر كافر.
__________________
(١) سورة الفتح ، الآية ١٨.
(٢) سورة النجم ، الآية ٣ و ٤.
قلت : إنّي لا أحب أن خوض في هكذا مسائل فالرجاء أن تترك هذا السؤال ولا تطالبني بالجواب في حضور هذا الجمع ، بل أجتمع بك وحدك وأعطيك الجواب.
الحافظ : الحقيقة ، إنّ هذا السؤال والموضوع مطروح من قبل الجماعة الذين معي لأنهم ألحّوا عليّ وأكّدوا في الليلة الماضية حينما انتهينا من البحث وخرجنا إلى البيت ، على أن أطرح هذا البحث فكلهم يحبّون أن يسمعوا جوابكم.
النوّاب : صحيح يا مولانا كلنا نحب أن نسمع جواب هذا السؤال قلت : إني أتعجّب من جنابكم وما كنت أتوقّع طرح هذا السؤال ، مع ما بيّناه في الليالي الماضية وأوضحنا لكم معنى الكفر والشرك وأثبتنا بأنّ الشيعة سائرون في طريق أهل البيت عليهمالسلام ، وتابعون لآل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهم المؤمنون حقا.
وأما الموضوع الذي طرحه جناب الحافظ ، فهو ذو جهات ، وليس موضوعا واحدا ، ولا بدّ لي أن أبسطه وأشرحه ، حتى يعرف الحاضرون حقيقة الأمر ويقضوا بالحق ، وحتى تزول الشبهات الواقعة في نفوسهم ضد الشيعة.
سبّ الصحابة لا يوجب الكفر
أمّا قول الحافظ : بأنّ سبّ الصحابة والطعن فيهم ولعنهم ، ولعن بعض زوجات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من قبل الشيعة موجب لكفر الشيعة ، فهو حكم غريب! ولا أدري بأي دليل من القرآن والسنّة النبوية صدّر هذا الحكم؟!!
فإنّ بيان الطعن وكذلك السب واللعن إذا كان مستندا إلى دليل وبرهان فلا إشكال فيه (١).
وإن كان من غير دليل وبرهان فهو فسق ، حتى إذا كان على أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وزوجاته (٢) وهذا رأي بعض أعلامكم كابن حزم
__________________
(١) أنّ الله سبحانه لعن كثيرا من الناس في القرآن الحكيم كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ) البقرة ١٥٩ ، وكقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) الأحزاب ٥٧ ، وكذلك غير اللعن كما في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) القلم ١٠ ـ ١٣.
«المترجم»
(٢) لقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :«سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر» صحيح البخاري ج ٨ / ١٨ من حديث ابن مسعود.
فالشيعة لا يلعنون مؤمنا وإنما يلعنون الذين كفروا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وارتدّوا بعده ، وهم الذين اشار الله سبحانه إليهم في قوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) آل عمران ١٤٤ / ، وهؤلاء هم الذين قاتلوا عليا عليهالسلام وأصحابه المؤمنين ، إذ كان هو عليهالسلام يومئذ خليفة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمير المؤمنين الذي بايعه أهل الحل والعقد وأجمعوا على ولايته وخلافته ، فالذين خرجوا عليه وخالفوه ، شقّوا عصى المسلمين وقاتلوا المؤمنين ، وأصبحوا بعملهم هذا كافرين.
والعجب ... أنّكم تكفّرون الشيعة لسبهم ولعنهم معاوية وعائشة وطلحة وابن العاص وأمثالهم الذين قادوا الناس لقتال المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين عليهالسلام
حيث يقول في كتابه «الفصل ج ٣ / ٢٥٧» :
[وأمّا من سبّ أحدا من الصحابة (رض) ، فإن كان جاهلا فمعذور ، وإن قامت عليه الحجّة فتمادى غير معاند فهو فاسق ، كمن زنى وسرق وإن عاند الله تعالى في ذلك ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو كافر ، وقد قال عمر (رض) بحضرة النبي (ص) عن حاطب ، وحاطب مهاجر بدري : دعني أضرب عنق هذا المنافق!
فما كان عمر بتكفيره حاطبا كافرا ، بل كان مخطئا متأوّلا ... الخ.]
وقد أفرط أبو الحسن الأشعري [وهو إمامكم في مثل هذه المسائل] فإنه يرى : [إنّ من كان في الباطن مؤمنا وتظاهر بالكفر ، فهو غير كافر ، حتى إذا سب الله ورسوله (ص) من غير عذر بل حتى إذا خرج لحرب النبي! [والعياذ بالله].]
ويستدلّ على ذلك بأن الكفر والإيمان محلهما في القلب وهما من الأمور الخفيّة الباطنيّة ، فلا يمكن لأحد أن يطّلع على باطن الإنسان وما في قلبه إلاّ الله سبحانه (١)!!
__________________
ولا تكفرونهم مع وجود هذا النص الصريح والحديث النبوي الصحيح :
سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر / صحيح البخاري ج ٨ / ١٨.
«المترجم»
(١) أقول : لقد ارتأى إمام الأشاعرة هذا الرأي الباطل ليبرّر ساحة معاوية وانصاره ، وعائشة وجنودها الذين حاربوا الله ورسوله بقتالهم أمير المؤمنين عليا عليهالسلام وبسفكهم دماء المؤمنين والمسلمين ، وكذلك بسبهم ولعنهم إمام المتقين وسيد
فكيف يكفر جناب الحافظ وأمثاله ، شيعة آل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم لمجرّد سبهم بعض الصحابة وبعض زوجات النبي؟
مع العلم بأنّ كثيرا من علمائكم وأعلامكم السابقين ردّوا هذا الحكم الجائر ونسبوا قائليه إلى الجهل والتعصب. وحكموا بأنّ الشيعة مسلمون مؤمنون.
منهم القاضي عبد الرحمن الإيجي الشافعي في كتابه المواقف ، ردّ كل الوجوه التي بيّنها بعض المتعصّبين من أهل السنّة في تكفير الشيعة وأثبت بطلانها.
ومنهم الإمام محمد الغزالي ، صرّح بأنّ سب الصحابة لا يوجب الكفر ، حتى سب الشيخين ليس بكفر.
ومنهم سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح العقائد النسفية ، تناول هذا البحث بالتفصيل وخرج إلى أنّ سابّ الصحابة ليس بكافر.
ثم إن أكثر من كتب من أعلامكم في الملل والنحل وكتب في المذاهب الإسلاميّة : [عدّ الشيعة من المسلمين وذكرهم في عداد المذاهب
__________________
الوصيّين عليا عليهالسلام ، وهو نفس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كما في كتاب الله العزيز في آية المباهلة ولذلك حكم العلماء المحقّقون بكفر من سبّه عليهالسلام وقالوا : إنّ سابّ عليّ عليهالسلام سابّ لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد أفرد العلاّمة الكنجي الشافعي في كتابه كفاية الطالب ـ الباب العاشر بعنوان «كفر من سبّ عليا عليهالسلام» ـ روى فيه بسنده عن عبد الله بن عباس :[أشهد على رسول الله (ص) سمعته أذناي ووعاه قلبي ، يقول لعلي بن أبي طالب : من سبّك فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله ومن سبّ الله أكبّه الله على منخريه في النار.] «المترجم»
الإسلامية الأخرى.]
منهم العلاّمة ابن الأثير الجزري في كتابه جامع الأصول ، ومنهم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل.
وممّا يذكر في عدم كفر السابّ لبعض صحابة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ أبا بكر قد سبّه أحد المسلمين وشتمه فما أمر بقتله ، كما جاء في مستدرك الحاكم النيسابوري ج ٤ / ٣٥٥ أخرج بسنده عن أبي برزة الاسلمي (رض) قال : أغلظ رجل لأبي بكر الصديق (رض) فقلت : يا خليفة رسول الله ألا أقتله؟! فقال : ليس هذا إلاّ لمن شتم النبي (ص).
وأخرجه الامام أحمد في المسند ج ١ / ٩ بسنده عن ثوية العنبري قال : سمعت أبا سوار القاضي يقول : عن ابن برزة الأسلمي قال : أغلظ رجل لأبي بكر الصديق (رض) قال : فقال أبو برزة : ألا أضرب عنقه؟
قال : فانتهره وقال : ما هي لأحد بعد رسول الله.
ورواه الذهبي في تلخيص المستدرك ، والقاضي عيّاض في الشفاء ج ٤ / الباب الأول ، والإمام الغزالي في إحياء العلوم ج ٢.
فإذا كان الأمر كذلك ، إذ يسمع الخليفة من رجل السباب والشتم ولا يحكم بكفر ولا بقتله.
فلما ذا أنتم العلماء تغوون أتباعكم العوام وتكفّرون الشيعة عندهم بحجّة أنّهم يسبّون الصحابة ويشتمون الخلفاء ، ثم تبيحون لهم قتل الشيعة المؤمنين!!
وإذا كان سب صحابة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم موجبا للكفر ، فلما ذا لا تحكمون بكفر معاوية وأتباعه الذين كانوا يسبّون ويلعنون أفضل
صحابة رسول الله وأعلمهم وأورعهم ، ألا وهو أمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليهالسلام؟!
وإذا كان سبّ الصحابة يوجب الكفر ، فلما ذا لا تكفّرون عائشة ـ أم المؤمنين ـ إذ كانت تشتم عثمان وتحرّض أبناءها على قتله فتقول : اقتلوا نعثلا فقد كفر؟!
كيف تحكمون في موضوع واحد بحكمين متناقضين؟!
فإذا سبّ أحد الشيعة ولعن عثمان ، تكفّروه وتحكمون بقتله.
ولكن عائشة التي كفّرت عثمان وحرّضت المسلمين على قتله تكون عندكم محترمة ومكرّمة!! فما هذا التّضاد والتّناقض؟!
النوّاب : ما معنى نعثل؟ ولما ذا كانت أم المؤمنين تسمي عثمان بنعثل؟
قلت : معنى نعثل ـ كما قال الفيروزآبادي [وهو من أعلامكم] في القاموس ـ معناه : الشيخ المخرف.
وقال العلامة القزويني في شرحه على القاموس : ذكر ابن حجر في كتابه تبصرة المنتبه : انّ نعثل يهودي كان بالمدينة هو رجل لحياني يشبّه به عثمان.
نرجع إلى بحثنا ، فأقول :
إذا كان سب الصحابة يلزم منه الكفر ، فإنّ أول من بدأ بالسبّ هو أبو بكر لما سبّ الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام على المنبر في المسجد ، وعلي هو أفضل الصحابة وأقربهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأعظمهم قدرا وأكبرهم شأنا عند الله عزّ وجلّ.
ومع ذلك أنتم لا تقبّحون عمل أبي بكر ، بل تكرمونه وتعظّمونه!!
الحافظ : هذا افتراء وكذب منكم على الصدّيق ، فإن أبا بكر أجلّ وأكرم من أن يسبّ عليا كرّم الله وجهه ، وما سمعنا بهذا إلاّ منكم ، وأنا على يقين بأنّ الصدّيق بريء من هكذا أفعال وأعمال قبيحة.
قلت : لا تتسرّع في الحكم ولا تتّهمني بالكذب والافتراء وقد ثبت لديكم بأنّي لا أتكلم بغير دليل وبغير شاهد من كتبكم ولكي تعرف صدق كلامي وتعلم بأنّ أبا بكر ارتكب هذا العمل القبيح فراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٦ / ٢١٤ و ٢١٥ ط إحياء التراث العربي ، قال :
[فلما سمع أبو بكر خطبتها [أي خطبة سيدة النساء فاطمة عليهاالسلام] شقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر وقال : أيها الناس ...
إنما هو ـ أي علي عليهالسلام ـ ثعالة شهيده ذنبه ، مربّ لكل فتنة ، هو الذي يقول كرّوها جذعة بعد ما هرمت ، يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء ، كأمّ طحال أحبّ أهلها إليها البغي (١).]
__________________
(١) قال ابن أبي الحديد : قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري ، وقلت له : بمن يعرّض؟
فقال : بل يصرّح. قلت : لو صرّح لم أسألك ، فضحك وقال : بعلي بن أبي طالب عليهالسلام.
قلت : هذا الكلام كله لعلي يقوله! قال : نعم ، إنّه الملك يا بني! قلت : فما مقالة الأنصار؟
قال : هتفوا بذكر عليّ ، فخاف من اضطراب الأمر عليهم ، فنهاهم. فسألته عن غريبه ، فقال : ... وثعالة : اسم الثعلب علم غير مصروف ... وأمّ طحال :امرأة بغيّ في الجاهلية ، ويضرب بها المثل فيقال : ازنى من أمّ طحال.
«المترجم»
فإذا حكمتم بكفر من يسبّ أحد الصحابة ، فيلزم أن تحكموا بكفر أبي بكر وبنته عائشة ، وكذلك معاوية وأنصاره وتابعيهم ، وإذا لم تحكموا بكفر هؤلاء لسبهم ولعنهم عليّا عليهالسلام فيلزم أن تعمّموا الحكم ولا تكفّروا الشيعة الموالين للعترة الهادية عليهمالسلام لسبّهم بعض الصحابة.
كما أفتى وحكم كثير من فقهائكم وعلمائكم بأنّ السّاب للصحابة غير كافر ولا يجوز قتله وذلك باستناد الخبر الذي رواه أحمد ابن حنبل في مسنده ج ٣ ، والقاضي عياض في كتاب الشفاء ج ٤ الباب الأول ، وابن سعد في كتاب الطبقات ج ٥ / ٢٧٩ أخرج بسنده عن سهيل بن أبي صالح أن عمر بن عبد العزيز قال : لا يقتل أحد في سبّ أحد إلاّ في سبّ نبي.
واستنادا على ما مرّ من الخبر الذي نقلناه عن الحاكم النيسابوري في مستدركه ج ٤ / ٣٥٥ ، وأخرجه أحمد في مسنده ج ١ / ٩ كلاهما عن أبي برزة الأسلمي قال : أغلظ رجل لأبي بكر ، فقال أبو برزة : ألا أضرب عنقه؟ فانتهره ـ أبو بكر ـ وقال : ما هي لأحد بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم .
احترام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لأصحابه
وأما قول الحافظ : بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يحترم أصحابه ويكرمهم.
فلا ننكر ذلك .. ولكن العلماء أجمعوا على أنّ احترام النبي للناس كان بسبب أعمالهم حتى انه كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يقدّر ويحترم عدل كسرى