السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١
الذي ضحّى الإمام الحسين عليهالسلام من أجله ، ويعرفون أهدافه المقدّسة وأسباب نهضته المباركة ، فيهتدون بهداه وهو على هدى جدّه المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبيه المرتضى عليهالسلام.
فالمجالس الحسينية ، ما هي إلاّ مدارس أهل البيت والعترة الهادية عليهالسلام.
الّذين يحبّون عليّا والحسين عليهما السّلام إنّما يحبّونهما من أجل الدين ، لأنّهما استشهدا وقتلا ليبقى الإسلام والقرآن ، ولتحيا رسالة محمّد السماوية ، على صاحبها ألف صلاة وسلام وتحية.
نحن نحبّ الإمام عليا عليهالسلام ونقدّسه ، لأنّه كان عبدا مخلصا لله ، متفانيا في ذات الله سبحانه ، شهيدا في سبيل الله تعالى.
ولمّا نقف عند مرقده الشريف نخاطبه ، نقول : أشهد أنّك عبدت الله مخلصا حتّى أتاك اليقين ـ أي الموت ـ.
وكذلك إذا حضرنا عند مرقد سيّد الشهداء الحسين عليهالسلام ، نشهد له ونقول : أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، وأطعت الله ورسوله حتّى أتاك اليقين.
ثم اعلم أيّها الحافظ ، وليعلم كلّ الحاضرين ، أنّ زيارة الحسين عليهالسلام والبكاء عليه إنما يفيدان ويوجبان الأجر الكثير والثواب العظيم ، إذا كانا ممّن يعرف حقّ الحسين عليهالسلام ، كما صرّحت رواياتنا بذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن أئمّتنا أبناء رسول الله وعترته عليهمالسلام ، قالوا : «من زار الحسين بكربلاء عارفا بحقّه وجبت له الجنّة».
«من بكى على الحسين عارفا بحقّه وجبت له الجنة».
فكما إنّ قبول العبادات كلّها ـ فرضها ونفلها ـ تتوقّف على معرفة الله سبحانه ، لأنّ العبد إذا لم يعرف ربّه كما ينبغي فلا تتحقّق نيّة القربة إليه ، وهي تجب في العبادات.
كذلك البكاء والزيارة للنبيّ والأئمّة عليهمالسلام ، لا تفيد ولا تقبل إذا كان الباكي والزائر لا يعرفهم حق المعرفة ، وإذا عرفهم حق المعرفة وعرف حقّهم ، علم أنّه يجب أن يطيعهم ، ويتمسّك بأقوالهم ، ويسير على نهجهم ، ويلتزم بطريقتهم المثلى.
النوّاب : سيدنا الجليل! نحن نعتقد بأنّ الحسين الشهيد إنّما نهض للحقّ وقتل في سبيل الله عزّ وجلّ ، ولكن بعض أهل مذهبنا ـ وأغلبهم من الشباب الّذين درسوا في المدارس العصرية ـ يقولون : إنّ الحسين نهض وقاتل لأجل الحصول على الحكومة والرئاسة الدنيوية ، وعارض يزيد بن معاوية على ملكه ، ولكنّه خذل من قبل أنصاره ، وتغلّب عليه يزيد وجنوده فقتلوه!! ما هو جوابكم عن هذا الكلام؟
قلت : الجواب حاضر ، لكن الوقت لا يسمح أن نخوض في هذا الموضوع ، لأنه قد طال بنا الجلوس ، والحاضرون قد تعبوا.
النواب : أنا أتكلّم نيابة عن أكثر الحاضرين ، نحن ما تعبنا من مجالستكم والاستماع لحديثكم ، بل نحبّ أن نسمع جوابكم بكلّ لهفة واشتياق.
نهضة حسينية .. لا حكومة دنيوية
قلت : الذين يقولون : بأنّ الحسين عليهالسلام نهض وقاتل للحصول على الحكم وقتل في طلب الرئاسة الدنيوية!! إن كانوا مسلمين فالقرآن يردّ كلامهم ، فإنّ مقالهم يعارض قول الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١). وقد اتّفق أعلامكم من المفسّرين والمحدّثين ، مثل الترمذي ومسلم والثعلبي والسجستاني وأبي نعيم وأبي بكر الشيرازي والسيوطي والحمويني والإمام أحمد والزمخشري والبيضاوي وابن الأثير والبيهقي والطبراني وابن حجر والفخر الرازي والنيسابوري والعسقلاني وابن عساكر ، وغيرهم ، اتّفقوا على أنّ هذه الآية ، وهي آية التطهير ، نزلت في شأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام.
فنقول :
أوّلا : القرآن يشهد بأنّ الله تعالى طهّر الإمام الحسين عليهالسلام من الرجس ، ولا شكّ أن حبّ الدنيا وطلب الرئاسة للهوى ، رجس من عمل الشيطان ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» فنقول : حاشا الحسين عليهالسلام أن يقاتل للدنيا والرئاسة ، وإنّما نهض لإنقاذ الدين وتحرير رقاب المسلمين من براثن يزيد الكفر والإلحاد وقومه الأوغاد.
ثانيا : إذا كانت نهضة الإمام الحسين عليهالسلام لأجل الدنيا لا الدين ، لما كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يأمر المسلمين بنصرة ولده الحسين عليهالسلام إذا نهض وقاتل!
فالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبر بنهضة ولده الحسين ، وأمر المسلمين بنصرته ، وقد نقله كثير من علمائكم في كتبهم ، ولكنّي أكتفي بذكر واحد منهم لضيق الوقت.
قال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في كتابه ينابيع المودّة ٢ / ١ : وفي الإصابة ، أنس بن الحارث بن البيعة ، قال البخاري في تاريخه
__________________
(١) سورة الأحزاب ، الآية ٣٣.
والبغوي وابن السكّين وغيرهما عن أشعث بن سحيم ، عن أبيه ، عن أنس بن الحارث ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «إنّ ابني هذا [يعني الحسين] يقتل بأرض يقال لها كربلاء ، فمن شهد ذلك منكم فلينصره».
فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقتل بها مع الحسين ، رضياللهعنه وعمّن معه.
أمّا إذا كان القائلون لذلك الكلام يرفضون القرآن الحكيم وحديث النبي الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم ويريدون جوابا يوافق المقاييس الماديّة والسياسة الدنيوية :
فأقول أوّلا : إذا كان الحسين عليهالسلام نهض لطلب الحكم ولأجل الوصول إلى الرئاسة ، فما معنى حمله العيال والأطفال معه؟! فإنّ الذي يطلب الدنيا يدع أهله وعياله في مأمن ثمّ يخرج ، فإن نال المقصود ينضمّ أهله إليه ، وإذا قتل فأهله يكونون في أمان من شرّ الأعداء.
ثانيا : الثائر الذي يطلب الدنيا يسعى لجمع الأنصار ، ويكثر من المقاتلين والأعوان ، ويعدهم النصر والوصول إلى الحكومة والرئاسة ، ولكنّ أبا عبد الله الحسين عليهالسلام من حين خروجه من المدينة إلى مكّة ، وبعده من مكّة إلى العراق ، كان يعلن بأنه مقتول لا محالة ، وأنّ أنصاره وأعوانه يقتلون أيضا ، وأنّ أهله وعياله وأطفاله يسبون من بعده ، فقد كتب من مكّة إلى أخيه محمد بن الحنيفة وهو في المدينة :
بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى محمد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم ، أمّا بعد ، فإنّ من لحق بي استشهد! ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح ، والسلام.
[أعلن عليهالسلام أنّ الفتح الذي يطلبه لا يكون إلاّ في شهادته وشهادة أنصاره وأهل بيته!!].
خطبة الحسين عليهالسلام عند الخروج من مكّة
لقد ذكر مؤرخو الفريقين أنّه عليهالسلام لمّا عزم على الخروج الى العراق قام خطيبا فقال :
«الحمد لله وما شاء الله ، ولا قوّة إلاّ بالله ، وصلّى الله على رسوله وسلّم ، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشا جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم.
رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّ بهم عينه ، وينجز بهم وعده.
من كان باذلا فينا مهجته ، وموطّنا على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى».
وفي طريقه إلى كربلاء ، لما وصل إليه خبر مقتل سفيره مسلم بن عقيل أعلن الخبر في أصحابه ولم يكتمه عنهم ، بل وقف يخطب فيهم وينبّئهم قائلا : «بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع ، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج
ليس عليه ذمام».
فتفرّق الناس عنه وأخذوا يمينا وشمالا حتّى بقي من أصحابه الّذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه ، فلو كان عليهالسلام يطلب الحكومة والرئاسة ، لمّا فرّق أصحابه ، بل كان يشدّ عزائمهم ويطمئنهم بالنصر ويغريهم بالمال والولايات ، كما هو شأن كلّ قائد سياسي ومادّي مع جنوده.
وكذلك لمّا التقى عليهالسلام بالحرّ بن يزيد الرياحي وجنوده ، وقد أخذ العطش منهم كلّ مأخذ وقد أشرفوا على الموت ، فسقاهم الحسين عليهالسلام وروّاهم حتّى أنقذهم من الهلاك ، وهو عليهالسلام يعلم أنهم ضدّه وليسوا من أنصاره.
فلو كان الحسين عليهالسلام يطلب الدنيا والحكم لاغتنم الفرصة في الحرّ وأصحابه وتركهم يموتون عطشا ، ثمّ يمضي هو عليهالسلام إلى ما يريد ، وربّما لو كان ذلك لكانت المقاييس تنقلب ، وكان التاريخ غير ما نقرأه اليوم!
وكذلك خطبته عليهالسلام ليلة العاشر من المحرّم ، حينما جمع أصحابه وأذن لهم أن يذهبوا ويتفرّقوا عنه ويتركوه مع الأعداء ، لأنّهم لا يريدون غيره ، ولكنّهم قالوا : إنّهم يحبّون أن يقتلوا دونه ، ولا يريدون العيش بعده ؛ وقد صدقوا.
وفي ظلام الليلة العاشرة من المحرّم التحق به عليهالسلام ثلاثون رجلا من معسكر ابن زياد ، لأنّهم سمعوا صوت القرآن والدعاء يعلو في معسكر الحسين عليهالسلام بينما كان معسكرهم يلهو ويلعب ، فعرفوا أنّ الحقّ مع الحسين فانضمّوا إليه وكانوا من المستشهدين بين يديه.
وفي صبيحة اليوم العاشر ، لمّا سمع الحرّ الرياحي ، ذلك القائد ، كلام الحسين عليهالسلام واحتجاجه على عساكر الكوفة ، عرف أنّ الحقّ مع الحسين عليهالسلام فترك جيشه ـ وهم ألف فارس تحت رايته ـ وجاء نحو الحسين عليهالسلام وتاب على يديه وكان من المستشهدين.
ما هو سبب نهضة الحسين عليهالسلام؟
لا ينكر أحد أنّ يزيد بن معاوية كان رجلا فاسقا ، متجاهرا بالفجور ، مولعا بشرب الخمور ، وكانت آمال بني أميّة معلّقة عليه على أنّه المعدّ واللائق للأخذ بثار قتلاهم ، من آل محمّد وعليّ عليهما السّلام.
ويزيد ابن ميسون النصرانية ، الذي ربّي في حجرها وعند قومها النصارى لاعبا مع الكلاب والفهود والقرود ، شاربا للخمور ، مولعا بالفسق والفجور ، مع هذه الخصائص وغيرها من الرذائل التي اجتمعت فيه ، كان قادرا على أن يجرّد سيف الكفر والإلحاد الذي صنعه أبو سفيان وقومه في عهد خلافة عثمان.
إذ يروي ابن أبي الحديد عن الشعبي ، قال : فلمّا دخل عثمان رحله ـ بعد ما بويع له بالخلافة ـ دخل إليه بنو أميّة حتّى امتلأت بهم الدار ، ثمّ أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب : أعندكم أحد من غيركم؟
قالوا : لا.
قال : يا بني أميّة ؛ تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنّة ولا نار ، ولا بعث
ولا قيامة! (١).
فيزيد هو الذي يقرّ عيون قومه بانتقامه من آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويقبض على مقابض السيف الذي صقله أبو سفيان وحدّه معاوية وأعدّه ليزيد ، حتّى يقضي به على رسالة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم والدين الذي جاء به من عند الله سبحانه وتعالى (٢).
__________________
(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٥٣ ط دار إحياء التراث العربي.
(٢) وفي شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٥ / ١٢٩ قال : وروى الزبير بن بكّار في «الموفّقيّات» ـ وهو غير متّهم على معاوية ، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة ، لما هو معلوم من حاله من مجانبة عليّ عليهالسلام والانحراف عنه ـ :
قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة : دخلت مع أبي على معاوية ، وكان أبي يأتيه ، فيتحدّث معه ، ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، ورأيته مغتمّا فانتظرته ساعة ، وظننت أنه لأمر حدث فينا.
فقلت : ما لي أراك مغتمّا منذ الليلة؟!
فقال : يا بنيّ ، جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم!
قلت : وما ذاك؟!
قال : قلت له وقد خلوت به : إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين! فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فإنّك قد كبرت ؛ ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه.
فقال : هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم فعدل ، وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره ؛ إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر!
ثم ملك أخو عديّ ، فاجتهد وشمّر عشر سنين ؛ فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره ؛ إلاّ أن يقول قائل : عمر!
وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرّات :
ولكنّ يزيد لا يتمكّن من تنفيذ ما خطّطه أسلافه وقومه ، ما دام الحسين ابن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يحظى بالحياة.
والحسين عليهالسلام تربى في حجر جدّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبيه أمير المؤمنين عليهالسلام وهو المعدّ لإحياء الدين وإنقاذ شريعة سيّد المرسلين من التحريف والتغيير ، فنهض ليصدّ طغاة بني أميّة عن التلاعب بالدين والاستخفاف بالشريعة المقدّسة .. فروّى شجرة الإسلام بدمه الزاكي ودماء أهل بيته وأنصاره الطيّبين ، فاخضرّت وأورقت وترعرعت ، بعد ما كانت ذابلة وكأنّها خشبة يابسة تنتظر نيران بني أميّة وأحقادها الجاهلية لتحوّلها إلى رماد تذروه الرياح (١).
__________________
«أشهد أنّ محمّدا رسول الله» فأيّ عمل يبقى؟! وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟!
لا والله إلاّ دفنا دفنا!!
أقول : هذه نيّات معاوية الإلحادية نقلها لابنه يزيد وأمره أن يسعى ويجتهد لتنفيذها. «المترجم»
(١) وللمرحوم السيّد جعفر الحلّي قصيدة عصماء في هذا المجال أذكرها بالمناسبة :
الله أيّ دم في كربلاء سفكا |
|
لم يجر في الأرض حتّى أوقف الفلكا |
وأيّ خيل ضلال بالطفوف عدت |
|
على حريم رسول الله فانتهكا |
يوم بحامية الإسلام قد نهضت |
|
له حميّة دين الله إذ تركا |
رأى بأنّ سبيل الغىّ متّبع |
|
والرشد لم تدر قوم أيّة سلكا |
والناس عادت إليهم جاهليّتهم |
|
كأنّ من شرع الإسلام قد أفكا |
وقد تحكّم بالإسلام طاغية |
|
يمسي ويصبح بالفحشاء منهمكا |
لم أدر أين رجال المسلمين مضوا |
|
وكيف صار يزيد بينهم ملكا |
وبعض الغافلين يقولون : بأنّ بقاء الحسين عليهالسلام في المدينة المنوّرة كان أسلم له وأحفظ لعياله! لما ذا خرج إلى العراق حتّى يرى تلك المصيبة الفادحة والنكبة القادحة؟!
ولكن كلّ من له أدنى معرفة بهكذا قضايا يعلم أن الحسين عليهالسلام لو كان يقتل في المدينة المنوّرة ، ما كان لقتله ذلك الصدى والأثر الذي كان لقتله في كربلاء ، فخروجه من المدينة إلى مكّة وإقامته فيها من شهر شعبان حتّى موسم الحجّ ، واجتماع المسلمين الوافدين من كلّ صوب وبلد عند الكعبة المكرّمة ، والتفافهم حول الإمام أبي عبد الله الحسين عليهالسلام واستماعهم لحديثه وهو يشرح لهم ويوضّح أنّه لما ذا لا يبايع يزيد ، لأنّ يزيد رجل فاسق شارب الخمور ، وراكب الفجور ، واللاعب بالكلاب
__________________
العاصر الخمر من لؤم بعنصره |
|
ومن خساسة طبع يعصر الودكا |
لئن جرت لفظة التوحيد في فمه |
|
فسيفه بسوى التوحيد ما فتكا |
قد أصبح الدين منه يشتكي سقما |
|
وما إلى أحد غير الحسين شكا |
فما رأى السبط للدين الحنيف شفا |
|
إلاّ إذا دمه في كربلاء سفكا |
وما سمعنا عليلا لا علاج له |
|
إلاّ بنفس مداويه إذا هلكا |
بقتله فاح للإسلام نشر هدى |
|
فكلّما ذكرته المسلمون ذكا |
نفسي الفداء لفاد شرع والده |
|
بنفسه وبأهليه وما ملكا |
وشبّها بذبال السيف نائرة |
|
شعواء قد أوردت أعداءه الدركا |
إلى آخر قصيدته العصماء وهو يتطرّق فيها إلى شجاعة بني هاشم وأنصار الحسين عليهالسلام ومصارعهم بالطفوف ، وإلى سبي العيال والأطفال من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام.
إنا لله وإنا إليه راجعون. «المترجم»
والقردة ، وقاتل النفوس المحرّمة المحترمة البريئة ، فإذا لا يلق للخلافة والإمامة.
فكان عليهالسلام يبعث الوعي في النفوس وفي المجتمع بهذا الإعلام الصريح وأخيرا أعلن أنّه خارج إلى العراق ، وهو لا يخضع لحكم يزيد حتى إذا آل الأمر إلى قتله وقتل أهل بيته وأنصاره ـ فخطب تلك الخطبة التي ذكرناها لكم قبل دقائق ـ وأعلن في الناس أنّه مقتول مسلوب ، وأنّ عياله وأطفاله يسبون بعده ويؤخذون أسارى إلى الشام!
بهذا الإعلان ، غدا المسلمون يترصّدون أخباره ، والأمّة كانت لابثة في سبات ونوم عميق ، لا يستيقظ منه إلاّ بحركة عنيفة واعية ، ونهضة مقدّسة دامية تهزها ، وهذه الحركة والنهضة ما كانت تتحقّق إلاّ بواسطة آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيت الوحي ، وكان الإمام الحسين عليهالسلام ذلك اليوم زعيم أهل البيت والإمام المسئول من عند الله سبحانه وتعالى لحفظ دينه وكتابه ، وقد أدّى ما عليه على أكمل وجه ، وسار بخطوات حكيمة نحو الهدف المقدّس ، وانتصر على يزيد وبني أميّة بشهادته وسفك دمه.
فإن النصر تارة يتحقّق بقتل العدوّ وهزيمته ، وتارة يتحقّق بأن يكون المنتصر يكون مظلوما قتيلا شهيدا ؛ فالحسين عليهالسلام ما كان طالبا للحكم والرئاسة في نهضته ، حتى يكون خاسرا بعدم وصوله إليها ، وإنّما كان يريد يقظة الأمّة وتحرّكها ضد الظالمين ، وكان يريد أن يفضح بني أميّة ويكشف فساد واقعهم للمسلمين ، وقد تحقّق كلّ ما أراده ، فهو قد انتصر في كربلاء وعدوه خسر وانكسر (١).
__________________
(١) وأذكر لكم بعض أبيات من قصيدة رائعة بالمناسبة لعبد الحسين الأزري :
وقدم الحسين عليهالسلام إلى كربلاء وسار إلى ميدان الجهاد على بصيرة كاملة فقد روى المؤرّخون أنّه لمّا عارضه بعض أقرباؤه ـ ليمنعوه من الخروج إلى العراق واقترحوا عليه أن يخرج إلى اليمن لأنّ أهلها شيعة مخلصون له ولأبيه وليسوا كأهل الكوفة مذبذبين وانتهازيّين ـ أجابهم قائلا :
إنّ جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أتاني فقال : يا حسين أخرج إلى العراق ، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا!
قالوا : إذا ما معنى حملك هؤلاء النسوة معك؟!
فقال : إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا!!
نعم ، كلّ من أمعن النظر في تاريخ النهضة الحسينية المباركة ودرس أبعادها وجوانبها ، عرف أهمّيّة دور النساء والأطفال ، وأهمّيّة دور السبايا من أهل البيت عليهمالسلام في نشر أهداف الحسين وأسباب ثورته
__________________
عش في زمانك ما استطعت نبيلا |
|
وأترك حديثك للرواة جميلا |
العزّ مقياس الحياة وضلّ من |
|
قد عدّ مقياس الحياة الطّولا |
قل : كيف عاش؟ ولا تقل كم عاش |
|
من جعل الحياة إلى العلى سبيلا |
ما كان للأحرار إلاّ قدوة |
|
بطل توسّد في الطفوف قتيلا |
خشيت أميّة أن يزعزع عرشها |
|
والعرش لولاه استقام طويلا |
قتلوه للدنيا ولكن لم تدم |
|
لبني أميّة بعد ذلك جيلا |
ولربّ نصر عاد شرّ هزيمة |
|
تركت بيوت الظالمين طلولا |
إلى آخر القصيدة العصماء ، وينطلق الشاعر بها إلى شرح جانب من واقعة عاشوراء وآثار تلك النهضة المباركة الدامية. «المترجم»
المقدّسة ونقل المصائب الأليمة والفجائع العظيمة التي وقعت لأهل البيت في كربلاء.
وكان لهذا الدور أثر بالغ في فضح بني أميّة وتعريتهم وكشفهم للأمّة الإسلامية.
فالخطب التي ألقتها الفواطم أو الفاطمات في الكوفة كانت سبب ثورة التوّابين ومن بعدهم ثورة المختار وانتقامه من قتلة الحسين عليهالسلام.
وكذلك خطبة الحوراء زينب في مجلس يزيد ، وخطبة الإمام زين العابدين عليهالسلام في الجامع الأموي بالشام ، قلبت كلّ المعادلات ، بحيث اضطرّ يزيد بن معاوية أن يلعن ابن زياد ، وتنصّل هو عن مسئولية واقعة كربلاء وألقى كلّ تبعاتها على عاتق ابن زياد.
وعلى أثر تلك الحادثة الأليمة ، لا نجد إلى يومنا هذا لبني أميّة وخلفائهم ، حتّى في الشام التي كانت عاصمة حكمهم وسلطانهم لا نجد ذكرا حسنا ولا أثرا ظاهرا ، حتّى قبورهم مجهولة مهجورة.
نتيجة البحث
فثبت أنّ نهضة الإمام الحسين عليهالسلام كانت نهضة دينية ، وقد استشهد هو في سبيل الله ولنصرة دين الله عزّ وجلّ ؛ فلمّا يحضر الشيعي والمحبّ في مجلس عزائه عليهالسلام ويستمع إلى الخطيب وهو يشرح أسباب ثورة الحسين وأهدافها ويسمع بأنّ الحسين عليهالسلام خالف يزيد وقاتله ، لأنّه كان يعمل المنكرات ويرتكب المحرّمات.
ويسمع المسلم خطيب المجلس الحسيني ، وهو ينقل كلام الحسين قائلا : «إنّي ما خرجت أشرا ولا بطرا ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي وأن آمر
بالمعروف وأنهى عن المنكر».
أو يسمع بأنّ الحسين عليهالسلام يوم عاشوراء أقام صلاته في ساحة القتال مع أصحابه جماعة.
أو يقرأ في زيارته : أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ...
فيلتزم بأنّ يعمل كما عمل الحسين عليهالسلام لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ، لذلك كلّ عام في محرّم حين تكثر المجالس الحسينية نجد كثيرا من الناس ـ وخاصّة الشباب ـ على أثر حضورهم في تلك المجالس واستماعهم لمواعظ الخطيب ونصائحه وتفسيره للنهضة الحسينية وشرحه حديث «من بكى على الحسين وجبت له الجنة» كما مرّ ، وغير ذلك ، يؤثّر فيهم تأثيرا بالغا ، فنجد أنهم يهتدون إلى الصراط المستقيم ، فتتحسّن سيرتهم ويعتدل سلوكهم ، فيتركون السيّئات ويتوبون إلى الله تعالى ببركات الحسين عليهالسلام ومجالس عزائه.
وهذا جانب من معنى الحديث النبوي الشريف : «إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة».
ـ لمّا وصل كلامنا إلى هنا ، دمعت عيون كثير من الحاضرين ، وكانوا مطرقين برءوسهم ، يتفكّرون في عظمة الحسين عليهالسلام وعظمة ثورته المقدّسة ، وعزمت على أن أختم الحديث ....
النوّاب : سيدنا الجليل! وإن كان قد انقضى وقت المجلس ، وطال بالحاضرين الجلوس ، ولكن أودّ أن أقول بأنّنا بفضل حديثك قد تعرّفنا على عظمة الحسين وفضله ، وعرفنا شخصيّته المقدّسة أكثر من ذي قبل ، فجزاك الله خيرا ، إذ علّمتنا معنى الحبّ وفلسفة البكاء والزيارة.
وإنّي آسف جدّا على ما فاتني من الأجر والثواب لعدم حضوري في مجالس عزاء آل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم التي يعقدها إخواننا الشيعة في بلدنا هذا ، لأنّي اتّبعت بعض أهل مذهبي وأطعتهم عن جهل وتعصّب ، إذ كانوا يقولون : إنّ الحضور في مجالس عزاء الحسين بدعة ، وزيارته بدعة ، والبكاء عليه بدعة ؛ ولكنّي الآن عرفت أنّ هذه المجالس حتّى إذا كانت بدعة ، فهي حسنة ، لأنّها تكون مدارس جامعة!
لذلك نرى أنّ ثقافة أبناء الشيعة الدينية هي أعلى ممّا هي عليه عند أبنائنا ، وهم أعلم منّا بأمور المذهب وأحكام الدين.
فوائد زيارة مشاهد آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قلت : سمعت منك بأنّ بعض أهل مذهبك يقولون : إنّ مجالس الحسين والبكاء عليه بدعة ، وزيارته بدعة ، وأنا بيّنت لكم فوائد مجالس الحسين وفلسفة البكاء عليه ، وأبيّن لكم الآن فوائد زيارته وزيارة مشاهد آل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومراقدهم.
إضافة إلى الثواب والأجر الأخروي ، فإنّ فيها فوائد جمّة :
أوّلا : زيارة القبور ليست بدعة ، بل هي سنّة ، فقد كان رسول الله يزور القبور ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم زار قبر أمّه آمنة (١) بالقرب من المدينة المنوّرة ، وزار البقيع واستغفر للمدفونين فيه (٢) فعندنا أنّ زيارة قبور آل البيت من علائم الإيمان وليس كلّ مسلم بمؤمن.
__________________
(١) أخرج مسلم في صحيحه ١ / ٣٥٩ قال : زار صلىاللهعليهوآلهوسلم قبر أمّه آمنة فبكى وأبكى من حوله.
(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٠ / ١٨٣ ط دار إحياء التراث العربي.
ثانيا : إذا ذهبتم أنتم إلى قباب الأئمّة ومشاهد آل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم التي يزورها الشيعة ، فستشاهدون بأعينكم أنّها مراكز عبادة الله ، وهي (بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (١).
فالمؤمنون يسألون حوائجهم من الله تعالى ويبتهلون إليه خاشعين ، والمشاهد لا تغلق أبوابها ليل نهار إلاّ سويعات في الأسبوع لأجل التنظيف.
فالشيعي حينما يسافر إلى تلك المزارات الشريفة يلتزم غالبا بالحضور فيها كلّ يوم ساعات عديدة ، وأكثرهم يفضّلون الحضور فيها وقت السحر إلى ما بعد طلوع الفجر ، وقبل الظهر إلى ما بعده ، وقبل المغرب إلى ما بعد العشاء ، فيصلّون النوافل ، ثمّ يقيمون الفرائض جماعة ، ويشتغلون بتلاوة القرآن والدعاء بكلّ لهفة ورغبة ، وبكلّ خضوع وخشوع. فأيّ هذه الأعمال بدعة؟!!
إنّ المشاهد التي يزورها الشيعة إنّما هي أماكن عبادة الله سبحانه ، منوّرة بنور أهل البيت عليهمالسلام ومجلّلة بهالة قدسية من شجرة النبوّة والعترة الهادية.
فلو لم تكن لهذه المشاهد أيّة فائدة إلاّ التوفيق الذي يناله الزائر عند حضوره فيها لكفت ، فيقضي ساعات من عمره بعبادة ربّه متقرّبا إليه بتلاوة القرآن والدعاء والتضرّع إليه وإظهار فقره وحوائجه إلى ربّه ، مستغرقا في الأمور العبادية ، متوجّها إلى المراتب الأخروية ، ومنصرفا عن الأمور المادّية والمسائل الدّنيوية.
فهل تعرفون في بلادكم وسائر البلاد التي يسكنها أهل السنّة
__________________
(١) سورة النور ، الآية ٣٦.
محلا مقدّسا يحضره الناس على مختلف طبقاتهم في كلّ ساعات الليل والنهار ، يشتغلون بالعبادة ويتقرّبون فيه إلى الله تعالى لنيل السعادة ، كهذه الروضات المقدّسة؟!
أمّا مساجدكم فلا تفتح إلاّ أوقات الفرائض ثمّ تغلق أبوابها ، وإنّي شاهدت في بغداد مرقدي الشيخ عبد القادر الجيلاني وأبي حنيفة ، كانت أبوابها مغلقة وما فتحت إلاّ وقت الصلاة ، فحضر بعض أصحاب المهن والأعمال ودكاكين السوق المجاورين وصلّوا مع الإمام الموظّف لمديرية الأوقاف ، ثمّ خرجوا وأغلقت الأبواب.
ولكنّ مرقد الإمامين العسكريّين ـ علي بن محمد الهادي وهو عاشر الأئمّة ، وابنه الحسن الزكي ، وهو الإمام الحادي عشر للشيعة ـ الذي يقع في مدينة سامراء في العراق ، وسكّان هذه المدينة من أهل السنّة والجماعة ، وتوجد جالية شيعية مستضعفة فيها ، وأمّا السّادن وخدّام الروضة المقدّسة فكلهم من السنة الموظفين لمديرية الأوقاف ، وقد يصعب عليهم فتح أبواب الروضة قبل الفجر. ولكن بإلحاح وإصرار من الشيعة والزائرين يفتحون أبوابها قبل الفجر ويدخل الزائرون والمجاورون من كلّ باب ، ويشتغلون بالنوافل والعبادات ، ولا يوجد أحد من أهل السنّة بين تلك الجموع ، حتّى خدّام الروضة والمسئولين عليها ، بعد أن يفتحوا الأبواب ، يذهبون ليناموا.
وإنّي أسأل الله سبحانه أن يوفّقكم لتسافروا إلى العراق لتقارنوا بين مدينتين متقاربتين ـ المسافة بينهما تقل عن العشرة كيلومترات ـ.
إحداهما مدينة الكاظمية ، وهي تضمّ مرقد الإمامين الجوادين الكاظمين عليهما السّلام ـ الإمام السابع موسى بن جعفر ، والإمام التاسع محمد
ابن عليّ ـ وهي من مراكز الشيعة.
والأخرى مدينة بغداد ، وهي عاصمة العراق ومركز أهل السنة والجماعة ، وفيها مرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني ، وإمامكم الأعظم أبي حنيفة.
سافروا إلى هاتين المدينتين وقارنوا بينهما حتّى تنظروا بأعينكم إلى آثار تعاليم أهل البيت عليهمالسلام وانطباع الشيعة عنهم! فتحسّوا ببركات تلك القباب المنيرة ، وتدركوا بركاتها الشاملة على الزائرين والمجاورين لها ، فإن كثيرا منهم ينامون أوّل الليل حتى يستيقظوا وقت السحر ، ساعتين قبل الفجر ، ليحضروا في روضة الإمامين الجوادين عليهما السّلام برغبة واشتياق ، فيقيموا نافلة الليل ويشتغلوا بالدعاء والعبادة ، وكثير منهم أصحاب متاجر كبيرة ومهمّة في بغداد إلاّ أنّ دور سكنهم في الكاظمية ، فيقضون ساعة أو أكثر في الروضة المقدّسة بالعبادة والدعاء ، ثمّ يذهبون إلى متاجرهم وأشغالهم واكتساب معايشهم.
ولكن إذا نظرتم إلى أكثر أهالي بغداد ، وهم مع الأسف منهمكون في المعاصي ، ومنغمسون في الفسوق والملاهي ، فالمقامر ودور البغاء والفجور وحانات الخمور ، تعمل ليل نهار!!
النوّاب : سيدنا الجليل! إنّي أصدّقك وأقبل كلامك ، ويحقّ أن ألعن نفسي ، إذ كنت جاهلا بمقام آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وشأنهم ، فتبعت أناسا ما كان لي أن أتبعهم.
قبل سنين سافرت من هذا البلد مع قافلة كبيرة من أهل بلدتي ونحلتي إلى بغداد وقصدنا قبر الإمام الأعظم أبي حنيفة ، والشيخ عبد القادر «رض» وكنا نبغي زيارتهما ، راجين بها الأجر والثواب ،
فانفردت يوما عن أصحابي وذهبت إلى روضة الإمامين الجوادين ، فرأيت الوضع كما وصفتم ، ولكن لمّا رجعت إلى أصحابي وعرفوا بأنّي ذهبت إلى تلك الروضة المقدّسة ، تحاملوا عليّ وعاتبوني عتابا شديدا! فاعتذرت إليهم بأنّي ما ذهبت بقصد الزيارة والتقرّب إلى الله عزّ وجلّ ، وإنّما ذهبت للتفرّج والاستطلاع ؛ فسكتوا عنّي!!
وأنا الآن أراجع نفسي وأتعجّب كثيرا ، فأقول : لما ذا تكون زيارة الإمام الأعظم والشيخ عبد القادر في بغداد جائزة ، وزيارة الخواجة نظام الدين في الهند جائزة ، وزيارة الشيخ الأكبر مقبل الدين في مصر جائزة ، وموجبة للأجر والثواب ، حتّى إنّ جماعة كثيرة ـ كلّ عام ـ يشدّون الرحال إليهم من هذه البلاد ويقطعون مسافات بعيدة ، ويصرفون أموالا كثيرة ، وهم يقصدون التقرّب إلى الله سبحانه ، ويعتقدون أنّهم يحسنون صنعا ويكتسبون ثوابا وأجرا!!
عجبا هذه الزيارات موجبة للأجر والثواب ، مع علمنا بأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يذكر فيهم خبرا ، ولم يذكرهم بمدح وثناء ، ولكن زيارة الحسين ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي جاهد في سبيل الله وضحّى بنفسه للدين ، وقد وردت في شأنه وفي فضله الأحاديث النبوية الشريفة الكثيرة المرويّة في كتب كبار علمائنا ، تكون بدعة؟!!
ولقد نويت الآن وعزمت على أن أذهب هذا العام إن شاء الله ، وأتشرّف لزيارة سيّدنا الحسين ، وأحضر عند مرقده المقدّس ، قربة إلى الله تعالى ، وطالبا لمرضاته ، وراجيا منه سبحانه أن يعفو عمّا سلف منّي.
ثمّ قاموا وانصرفوا جميعا ، وودّعناهم وشايعناهم إلى باب البيت.