ليالي بيشاور

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي

ليالي بيشاور

المؤلف:

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي


المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١

أحدا من المؤرّخين ذكرها.

قلت : أسأل الله تعالى أن يهديك إلى الحقّ ويكشف لك الحقيقة ، إنّك نسبتنا إلى الكذب ، وافتريت علينا جعل الأخبار غير مرّة ، وفي كلّ ذلك اتّضح للحاضرين زيف كلامك وبطلان رأيك ، وفي هذه المرّة أيضا ، أذكر مصادر هذه الأخبار التي تنكرها ، من كتبكم المعتبرة ومصادركم المشتهرة ، حتّى يعرف الحاضرون صدقنا ، وتعترف أنت بأنّ الحقّ معنا.

فاجعة سقط الجنين

١ ـ ذكر المسعودي صاحب تاريخ «مروج الذهب» المتوفّى سنة ٣٤٦ هجرية ، وهو مؤرّخ مشهور ينقل عنه كلّ مؤرّخ جاء بعده ، قال في كتابه «إثبات الوصيّة» عند شرحه قضايا السقيفة والخلافة : فهجموا عليه [عليّ عليه‌السلام] وأحرقوا بابه ، واستخرجوه كرها وضغطوا سيّدة النساء بالباب حتّى أسقطت محسّنا!!

نعم ، إنّ إسقاط جنين فاطمة عليها‌السلام وقتل ولدها «محسّن» عند هجوم القوم لأخذ البيعة من الإمام عليّ عليه‌السلام ، أمر ثابت ، إلاّ أنّ أكثر مؤرّخيكم سكتوا عنه ولم ينقلوه ، لحبّهم للشيخين ، وسترا على سوء فعلهما وهتكهما لبيت الرسالة وحريم العترة ، ومع ذلك فقد جرت أقلام بعضهم وسجّلت ما حدث وجرى ، لأنّ الله سبحانه يريد أن يتمّ الحجّة عليكم وعلى كلّ المسلمين ، ويريد أن يكشف الحقائق للجاهلين والغافلين ، فاستمعوا أيّها الحاضرون!

٢ ـ قال الصفدي في كتاب «الوافي بالوفيات ٦ / ٧٦» في حرف

٥٦١

الألف ، عند ذكر إبراهيم بن سيّار ، المعروف بالنظام ، ونقل كلماته وعقائده ، يقول : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت المحسّن من بطنها!

٣ ـ ونقل أبو الفتح الشهرستاني في كتابه الملل والنحل ١ / ٥٧ : وقال النظّام (١) : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت الجنين من بطنها. وكان يصيح [عمر] : أحرقوا دارها بمن فيها!!

وما كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين.

انتهى كلام الشهرستاني.

٤ ـ ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٤ / ١٩٣ ط دار أحياء الكتب العربية ، بعد ما ينقل خبر هبّار بن الأسود وترويعه زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أسقطت جنينها ، فأباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دم هبّار لذلك.

قال :

وهذا الخبر أيضا قرأته على النقيب أبي جعفر رحمه‌الله ، فقال : إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أباح دم هبّار بن الأسود لأنّه روّع زينب فألقت ذا بطنها ، فظهر الحال أنّه لو كان حيّا لأباح دم من روّع فاطمة حتّى ألقت ذا بطنها ... إلى آخره.

هذه بعض المصادر التي ظفرنا بها في نقل الأخبار التي تنكرونها وتتّهمون الشيعة المؤمنين بجعلها!

الحافظ : في نظرنا أنّ نقل هذه الأخبار لا فائدة فيها سوى التفرقة وتشتّت المسلمين.

__________________

(١) توفّي النظّام سنة ٢٣١ هجرية. «المترجم»

٥٦٢

يلزم الدفاع عن المظلوم وإثبات حقّه

قلت :

أوّلا : قولوا لعلمائكم ومؤرّخيكم لما ذا ذكروا هذه الأخبار! ثمّ ردّوا على شاعر النيل قصيدته العمريّة وعاتبوه عليها وحاكموه على تلك الأبيات التي يتفاخر فيها ويتباهى بتلك الوقائع الأليمة والفجائع العظيمة ويعدّها من فضائل القوم!!

ثانيا : وأمّا نحن فنقلها عنكم لإقامة الحجّة عليكم و (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (١) ولكي لا ينحرف التاريخ ، فنعرف الحقّ حقّا والباطل باطلا ، والمظلوم مظلوما والظالم ظالما.

ثالثا : نحن ننقل هذه الأخبار عند ما نواجه هجماتكم وحملات بعض المنسوبين إليكم من أصحاب الأقلام التي ما هي إلاّ أجيرة للأعداء لتبثّ البغضاء والشحناء بين المسلمين ، فتتّهم الشيعة الأبرياء والمؤمنين الأوفياء بالكفر والشرك! وتحرّك علينا مشاعر العامة وخاصة الجاهلين الغافلين.

ونحن دفاعا عن مذهبنا ومعتقدنا ، نبيّن الوقائع ، ونكشف عن الحقائق ، حتّى يعرف الجميع أنّ عليّا عليه‌السلام مع الحقّ والحقّ معه ، ونحن أتباعه وشيعته ، نشهد أنّ لا إله إلاّ الله جلّ جلاله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقول في عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك نقلا من كتبكم المعتبرة ومصادركم المشهورة ، فنشهد بأنّ عليا عليه‌السلام عبد الله ، ووليّه ، وأخو رسول الله ، ووصيّه ، وهو خليفته الذي نصّ عليه بأمر الله تعالى.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١٤٩.

٥٦٣

أمّا في جواب قولكم بأن هذه الأخبار لا فائدة فيها سوى التفرقة وتشتّت المسلمين ..

فأقول : أنتم البادئون والعادون والمهاجمون ونحن مدافعون ، فانتهوا وامنعوا أصحابكم عن التعرّض وعن الكذب والافتراء علينا ، حتّى نسكت عن نقل هذه الأخبار.

الحافظ : أنا لا أوافق الّذين يرمون الشيعة بالكفر والشرك ، ولكنّي لا أسكت أيضا على بعض الأخبار المرويّة في كتبكم ، والتي تنسبونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تفسح مجال العصيان للعباد ، فيعملون بالذنوب اتّكالا على تلك الأخبار والأحاديث.

قلت : رجاء! بيّن تلك الأخبار ، فربّما نصل معكم إلى حلّ وتفاهم.

شبهات وردود

الحافظ : ذكر العلاّمة المجلسي وهو واحد من أكبر علمائكم ومحدّثيكم ، في كتابه «بحار الأنوار» راويا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة.

وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من بكى على الحسين وجبت له الجنّة.

هذه الأخبار ونظائرها كثيرة في كتبكم ، وهي تسبّب فساد الأمّة وانتشار الذنوب والمعاصي.

قلت : لو كان الأمر كذلك للزم أن نرى أهل السنّة والجماعة مبرّئين من الذنوب ، وبعيدين عن الحوب ، بينما نرى البلاد التي يسكنها أهل السنّة قد انتشرت فيها الذنوب الكبيرة ، وشاعت فيها

٥٦٤

معاصي كثيرة ، وكثير منهم يتجاهرون بالفسوق والفجور! فهذه عواصمكم مثل بغداد والقاهرة ودمشق وبيروت وعمّان والجزيرة وغيرها ، تتسابق في تأسيس مراكز المعاصي والفجور ، ومحلاّت القمار وحانات الخمور.

فهل ترضون أن ننسب هذه المخازي والفسوق إلى مذهبكم وضعف مباديكم؟!

هل تقبلون منّا لو قلنا : إن السبب في انتشار الفحشاء والفجور ، وعدم التحرّج في شرب النبيذ والخمور ، هو فتاوى علمائكم؟!!

لأن بعضهم أفتى بطهارة الكلب وأحلّ أكله.

وبعضهم أفتى بطهارة المنيّ والخمر وعرق الجنب من الحرام.

وبعضهم أفتى بجواز اللواط في السفر!

وبعضهم أفتى بنكاح المحارم ، الأمّ ومن دونها ؛ بشرط أن يلفّ القضيب بالحرير!!

هذه الفتاوى وأمثالها تسبّب تجرّء العوامّ والجاهلين على ارتكاب المعاصي وعمل الفسق والفجور.

ولذلك فإن علماءنا يحرّمون تلك الأعمال القبيحة ولا يجيزونها بأيّ حال من الأحوال.

الحافظ : هذه المسائل التي ذكرتها ، كلّها أكاذيب ، وللأسطورة أقرب منها إلى الحقيقة ، وهي من مفتريات الشيعة!

أبيات شعر للعلاّمة الزمخشري

قلت : أنت أعرف بحقيقة مقالي ، والعلماء الحاضرون أيضا

٥٦٥

يعلمون صدقي ، ولكن يصعب عليكم الإقرار ، والخجل يدعوكم إلى الإنكار ، وإلاّ كيف يمكن لعالم دينيّ ـ مثلكم ـ يجهل هذه المسائل التي ذكرها وأفتى بها بعض علمائكم ثم نقلها عنهم بعض أعلامكم وانتقدوها؟!

وأذكر لك نموذجا من كتبكم ليكون دليلا على كلامنا ؛ راجع تفسير الكشّاف ٣ / ٣٠١ للعلاّمة الكبير جار الله الزمخشري ، فإنّه يقول :

إذا سألوا عن مذهبي لم أبح به

وأكتمه ، كتمانه لي أسلم

فإن حنفيا قلت ، قالوا بأنّني

أبيح الطّلا وهو الشراب المحرّم

وإن مالكيا قلت ، قالوا بأنّني

أبيح لهم أكل الكلاب وهم هم

وإن شافعيا قلت ، قالوا بأنّني

أبيح نكاح البنت والبنت تحرم

وإن حنبليا قلت ، قالوا بأنّني

ثقيل حلولي بغيض مجسّم

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يقولون : تيس ليس يدري ويفهم

تعجّبت من هذا الزمان وأهله

فما أحد من ألسن الناس يسلم

وأخّرني دهري وقدّم معشرا

على أنّهم لا يعلمون وأعلم

فنرى هذا العالم والمفسّر يخجل أن ينسب نفسه إلى أحد المذاهب الأربعة! لوجود تلك الآراء الفاسدة والفتاوى الباطلة فيها ، ثمّ إنّكم تريدون منّا أن نتّبع تلك المذاهب ونترك مذهب أهل بيت النبوة والعترة والصفوة الطاهرة!

فلنخرج من هذا الإطار ونتابع موضوع الحوار ..

فأقول : أمّا الخبر الذي ذكرته من «بحار الأنوار» لم تنفرد الشيعة

٥٦٦

بنقله ، فإنّ علماءكم وأعلامكم نقلوه أيضا ونقلوا أمثاله في كتبهم المعتبرة.

إسناد حديث حبّ عليّ حسنة

لقد ذكر هذا الحديث كثير من أعلامكم وأيّدوه ، منهم :

الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، والخطيب الخوارزمي في آخر الفصل السادس من كتابه «المناقب» والشيخ القندوزي الحنفي في الباب ٤٣ من كتابه «ينابيع المودّة» وأيضا في الباب ٥٦ نقله عن الديلمي ، قال : حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة ، حب عليّ براءة من النار ، حبّ عليّ يأكل الذنب كما تأكل النار الحطب ، حبّ عليّ براءة من النفاق.

وفي المناقب السبعين (١) خرّجه عن ابن عبّاس في الحديث رقم ٣٣ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حبّ عليّ بن أبي طالب يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب».

وفي الحديث رقم ٥٩ ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حبّ عليّ بن أبي طالب حسنة لا تضرّ معها سيّئة ، وبغضه سيّئة لا تنفع معها حسنة».

رواهما صاحب «الفردوس».

ورواه المحدّث والفقيه الشافعي المير السيّد علي الهمداني في كتابه

__________________

(١) كتاب «السبعين في مناقب أمير المؤمنين» نقله القندوزي بكامله في كتابه «ينابيع المودّة». «المترجم»

٥٦٧

«مودّة القربى» في المودّة السادسة عن ابن عبّاس ، قال : حبّ عليّ يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب.

وعنه أيضا : حبّ عليّ براءة من النار.

ورواه محبّ الدين الطبري في «ذخائر العقبى» الحديث رقم ٥٩ من الأحاديث السبعين التي رواها في فضائل أهل البيت عليهم‌السلام.

ورواه محمد بن طلحة في مطالب السئول.

والعلاّمة الكنجي الشافعي في كتاب «كفاية الطالب في مناقب مولانا علي بن أبي طالب».

ثمّ إن كان عقلكم وعلمكم لا يصل إلى حلّ معنى حديث كهذا وأمثاله ، فأنصحكم بأن لا تطعنوا فيه ولا تردّوه ، بل يجب أن تسألوا

عن حلّه ومعناه وتفسيره ممّن هو أعلم ، قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١).

وطالما أنّ هذا الحديث وأمثاله لا يعارض كتاب الله سبحانه فليس لأحد من المسلمين إنكاره.

الحافظ : كيف لا يعارض كتاب الله وهو سبب تجرّء الناس على المعاصي!

قلت : لا تعجل حتّى أبيّن لك كيف لا يعارض الكتاب الكريم ، فإن الله تعالى يقسّم الذنوب في القرآن إلى قسمين ، صغائر ، وكبائر.

وهو يعبّر في بعض الآيات عن الصغائر بالسيّئة ، في حين يعبّر عن الكبائر بالذنوب ، كما في سورة النساء ، الآية ٣١ ، قال تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ٧.

٥٦٨

مُدْخَلاً كَرِيماً).

فالآية الكريمة تصرّح بأنّ عبدا لو اجتنب الكبائر وارتكب الصغائر ، فإنّ الله عزّ وجلّ يعفو عنه ويدخله الجنّة ، والحديث الذي تنكروه ، لا يصرّح بأكثر من هذا.

فإنّ حبّ عليّ عليه‌السلام حسنة عظيمة عند الله سبحانه بحيث لا تضرّ معها السيّئات ، يعني الصغائر.

الحافظ : إنّ هذا التفسير والتقسيم لا يكون على أساس علمي (١).

لأنّ الله تعالى يقول : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٢) فالعبد العاصي إذا تاب واستغفر الله سبحانه فإنّه يغفر كلّ ذنوبه سواء أكانت من الكبائر أم الصغائر.

قلت : أظنّك ما دقّقت النظر في الآية الكريمة التي تلوتها عليك ، وإلاّ ما كنت تورد إشكالا على كلامي ، لأنّ الذي قسّم المعاصي إلى كبائر وصغائر وفرّق بينهما هو الله تعالى ، لا أنا.

ثمّ اعلم بأنّنا نعتقد ـ مثلكم ـ بأنّ الله تعالى يغفر الذنوب جميعا ، فكلّ عبد عاص إذا تاب وندم وعمل بشرائط التوبة ، فإنّ الله سبحانه

__________________

(١) إنّ بيان «الحافظ» كليل ، وليس له دليل ، ولا يصدر إلاّ من ذي عقل عليل ، لأنّه يعارض كلام الربّ الجليل ، فقد قال سبحانه :(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى* الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) سورة النجم : ٣٠ ـ ٣١.

فاللمم هي المعاصي الصغائر تقابلها كبائر الأثم ، كما تجد في الآية الكريمة.

«المترجم»

(٢) سورة الزمر ، الآية ٥٣.

٥٦٩

يغفر ذنوبه ويعفو عنه ، ولكن إذا لم يتب فيعاقبه الله تعالى بعد الموت في عالم البرزخ ، فإذا لاقى عقاب ذنوبه قبل يوم الحساب ، يساق إلى الجنّة في يوم المعاد ، وإلاّ فيقضى عليه فيلقى في جهنّم ليرى جزاء عمله هناك.

والعبد المؤمن إذا ارتكب الصغائر ومات من غير توبة فإن كان يحبّ الإمام عليّا عليه‌السلام يغفر الله تعالى له ويعفو عنه ويدخله الجنّة ، قال سبحانه : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (١).

فلا أدري لما ذا تعتقد بأنّ هذا الحديث الشريف «حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة» يسبّب تجرّء الشيعة على المعاصي!!

هل الحديث يأمر بارتكاب الذنوب؟! لا ...

فأثر هذا الحديث في المسلمين كأثر آيات القرآن الحكيم التي تعد العباد المذنبين بقبول التوبة وغفران ذنوبهم.

فكما إنّ آيات التوبة والمغفرة تبعث الرجاء برحمة الله تعالى في قلوب العباد وتزيل اليأس عن نفوس العصاة ، كذلك هذا الحديث الشريف وأمثاله ، فإنّه يوقف المحبّ عند السيّئات ويصدّه عن الكبائر الموبقات ، لأنّ إطاعة الحبيب من لوازم الحبّ.

قال الإمام الصادق ، وهو إمامنا جعفر بن محمد عليه‌السلام : إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ؛ فالشيعي يعرف هذا فلذلك لا يرتكب الذنوب والمعاصي اتّكالا على حبّه للإمام عليّ عليه‌السلام بل يجتهد في طاعة إمامه ومتابعته ، لإثبات صدقه في الحبّ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

نعم ، هناك بعض المحبّين الّذين يحسبون أنفسهم من الشيعة يرتكبون بعض الذنوب مثل كثير من أهل السنّة والجماعة فلا يكون

__________________

(١) سورة النساء ، الآية ٣١.

٥٧٠

عملهم السيّئ بسبب حبّهم أو بسبب حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ الإنسان بطبعه يكون مطيعا لهواه ومجيبا لنفسه الأمّارة كما قال سبحانه وتعالى حكاية عن يوسف الصدّيق : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

وأمّا الشيعي هو الذي يعزم على أن يخطو ويسير في الطريق الذي سار فيه الأئمّة الهداة من أهل البيت عليهم‌السلام ويلتزم بنهجهم ويعمل برأيهم.

وقد ذكرنا في الليالي السالفة بعض الأحاديث النبوية في حقّهم ، حيث بشّرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنّة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عليّ! أنت وشيعتك الفائزون بالجنّة» وذكرنا مصادر هذا الحديث الشريف وأمثاله من كتبكم المعتبرة وطرقكم المتواترة ، وبشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشيعة عليّ عليه‌السلام بالجنّة أمر ثابت لا ينكره إلاّ الجاهل المعاند والمتعصّب الجاحد.

وإنّ إشكالك على حديث «حبّ عليّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة» يردّ على تبشير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيعة عليّ عليه‌السلام بالجنّة أيضا.

لأنّ الشيعي إذا عرف أنّه من أهل الجنّة يرتكب الذنوب ولا يبالي ، فإشكالك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجب للكفر ، وهو مردود بالأدلّة التي أقمناها.

ولبّ الكلام : إنّ الشيعي هو الذي يسير على أثر مسير أهل البيت عليهم‌السلام ، فيعمل بما عملوا ، ويجتنب عمّا اجتنبوا ، ولمّا لم يكن معصوما ، ربّما ارتكب ذنبا وعمل إثما ولم يوفّق للتوبة فمات ، فإنّ الله عزّ وجلّ يعفو عن ذنبه ويغفر له كرامة لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وحبّه

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ٥٣.

٥٧١

إيّاه ، والله غفور رحيم.

البكاء على الحسين عليه‌السلام سنّة نبويّة

وأمّا الحديث الشريف «من بكى على الحسين وجبت له الجنّة» ... كلّنا نعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى على مصائب ولده الحسين عليه‌السلام قبل أن تقع ، فأخبر بها أصحابه وهو يبكي ، وقد تواترت بذلك الأخبار الكثيرة المرويّة عن طرقكم والتي نقرأها في كتبكم (١).

__________________

(١) لقد تواترت الروايات وصرّحت الأخبار بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكى على ولده الحسين عليه‌السلام في أوان ولادته وأخبر بمقتله ، وتكرّر منه البكاء في خواصّ أصحابه تارة وفي الملأ العامّ أخرى ، وحدّث عن مصائب الحسين وما يلاقيه من بني أميّة الطلقاء ، وإليكم بعض تلك الأخبار التي وصلت إلينا من طرق علماء السنّة وأيّدها أعلامهم :

١ ـ روى الخوارزمي في كتابه «مقتل الحسين عليه‌السلام» بسنده عن أسماء بنت عميس خبرا طويلا .. جاء في آخره ، قالت أسماء : فلمّا كان بعد حول من مولد الحسن.

ولدت [أي فاطمة عليها‌السلام] الحسين فجاءني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يا أسماء هاتي ابني».

فدفعته إليه في خرقة بيضاء ، فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثمّ وضعه في حجره وبكى!!

قالت أسماء : فقلت فداك أبي وأمّي ممّ بكاؤك؟!

قال : على ابني هذا!

قلت : إنّه ولد الساعة!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أسماء! تقتله الفئة الباغية ، لا أنالهم الله شفاعتي.

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أسماء! لا تخبري فاطمة بهذا ، فإنّها قريبة عهد بولادته.

رواه الحمويني في فرائد السمطين ٢ / ١٠٣ ، ورواه ابن عساكر أيضا في تاريخ دمشق ، الحديثين ١٣ و ١٤ من ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، ورواه السمهودي في «جواهر العقدين» ورواه آخرون منهم لا مجال لذكرهم.

٥٧٢

__________________

٢ ـ روى الحاكم النيسابوري في المستدرك ٣ / ١٧٦ في الحديث الأوّل من فضائل الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، روى بسنده عن أمّ الفضل بنت الحارث خبرا جاء في آخره :

فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري ... فدخلت يوما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في حجره ، ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تهريقان من الدموع.

قالت : فقلت : يا نبي الله! بأبي أنت وأمّي مالك؟!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني جبرئيل فأخبرني أنّ أمّتي ستقتل ابني هذا!!

فقلت : هذا؟!

قال : نعم ؛ وأتاني بتربة من تربته حمراء!

أقول : ورواه البيهقي أيضا في كتابه دلائل النبوّة ٦ / ٤٦٨ ط بيروت ، ورواه ابن كثير في البداية والنهاية ٦ / ٢٣٠ ، ورواه جمع آخر من أعلام السنة لا مجال لذكر أسمائهم.

٣ ـ روى ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى ٨ / ٤٥ الحديث رقم ٨١ من ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ، عن عائشة ، قالت : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راقد إذ جاء الحسين يحبو إليه فنحّيته عنه ، ثمّ قمت لبعض أمري ، فدنا منه ، فاستيقظ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبكي! فقلت : ما يبكيك؟!

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ جبرئيل أراني التربة التي يقتل عليها الحسين ؛ فاشتدّ غضب الله على من يسفك دمه ...

ورواه ابن عساكر أيضا في تاريخ دمشق في الحديث رقم ٢٢٩ من ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

ورواه أيضا ابن حجر في «الصواعق المحرقة» كما حكى عنه القندوزي في أوائل الجزء الثاني من «ينابيع المودة».

٥٧٣

__________________

ورواه ابن العديم في كتابه بغية الطلب في تاريخ حلب ٧ / ٧٨ في ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

ورواه الدارقطني في كتاب العلل ٥ / ٨٣.

وحديث التربة رواه جمع كثير من أعلام السنّة بألفاظ متعدّدة ، ويبدو أنّ إتيان جبرئيل بتربة كربلاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرّة ، والأشهر ما روي عن أمّ سلمة أمّ المؤمنين رضي الله عنها.

روى عمر بن خضر المعروف ب «ملاّ» وهو من علماء القرن السادس الهجري ، في كتابه «وسيلة المتعبّدين» ـ في أواسط باب معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : وعن أمّ سلمة قالت : سمعت بكاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي فاطّلعت ، فإذا الحسين بن عليّ رضي الله عنهما في حجره أو إلى جنبه وهو يمسح رأسه ويبكي!!

قالت : فقلت : يا رسول الله! على م بكاؤك؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ جبرئيل أخبرني أنّ ابني هذا يقتل بأرض من العراق يقال لها :كربلاء.

قالت : ثمّ ناولني كفّا من تراب أحمر وقال : إنّ هذه تربة الأرض التي يقتل بها ، فمتى صارت دما فاعلمي أنّه قد قتل.

قالت أمّ سلمة : فوضعت التراب في قارورة عندي وكنت أقول : إنّ يوما تتحوّلين فيه دما ليوم عظيم.

وروى قريبا من هذا المعنى جماعة كبيرة عن أمّ سلمة رضي الله عنها منهم : ابن سعد في طبقاته في حديث رقم ٧٩ من ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام في الجزء الثامن والمحبّ الطبري في ذخائر العقبى ١٤٧.

وأبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الفتن من كتاب المصنّف ١٥ / ١٤ حديث رقم ١٩٢١٣.

وابن حجر في كتاب المطالب العالية ٤ / ٧٣ ط دار المعرفة ـ بيروت.

٥٧٤

فالبكاء على الإمام الحسين عليه‌السلام سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والالتزام بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوجب دخول الجنّة ، بشرطها وشروطها.

فكما إنّ الله تعالى وعد التائبين بالعفو والمغفرة والجنّة ولكن مع شرائط ، فلا تقبل توبة كلّ من قال : أستغفر الله وأتوب إليه إلاّ أن يردّ حقوق الناس إليهم ، ويقضي ما فاته من الفرائض ومن حقوق الله سبحانه ، ويندم على ما ارتكب من المعاصي ، ويعزم على أن

__________________

والطبراني في المعجم الكبير ٣ / ١١٤ ط بغداد ، ورواه بطريق آخر في صفحة ١١٥.

وابن عساكر في تاريخه في الحديث رقم ٢٢٣ من ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام بمناسبة.

ورواه المزّي في كتاب تهذيب الكمال ٦ / ٤٠٨.

ورواه ابن العديم عمر بن أحمد في كتابه تاريخ حلب ٧ / ٥٦ حديث رقم ٨٨ وما بعده من ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٩٢.

ورواه الحاكم في المستدرك ٤ / ٣٨٩ في آخر كتاب تعبير الرؤيا ، قال الحاكم ـ وأقرّه الذهبي ـ : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه.

ورواه البيهقي في كتابه دلائل النبوّة ٦ / ٤٦٨ ط بيروت.

ورواه ابن كثير في كتابه البداية والنهاية ٣ / ٢٣٠ ط دار الفكر.

ورواه جمع كثير من محدّثي العامة وأعلامهم ولا مجال لذكر أسمائهم.

وإنّ بكاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مصاب ولده الحسين عليه‌السلام قبل أن يقتل أمر ثابت مسجّل في المصادر والمسانيد المعتبرة ، غير قابل للإنكار ، ولا ينكره إلاّ معاند جاحد أو شيطان مارد.

أعاذنا الله من الجهل والعناد. «المترجم»

٥٧٥

لا يعصي .. إلى آخر الشرائط اللازمة المذكورة في الأخبار والروايات.

كذلك : من بكى على الحسين عليه‌السلام ـ مع الشرائط ـ وجبت له الجنّة ، ومن الشرائط السعي لتحقيق أهداف الحسين عليه‌السلام وتطبيقها في نفسه وفي المجتمع ، وإلاّ فإنّ المؤرّخين ذكروا أنّ سكينة بنت الحسين عليه‌السلام حينما جلست عند نعش أبيها ، تكلّمت بكلمات أبكت والله كلّ عدوّ وصديق.

وقالوا : إنّ الحوراء زينب لمّا خاطبت عمر بن سعد وقالت له : يا ابن سعد! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟!! ترقرقت دموعه وسألت على لحيته!

فهل ابن سعد والأعداء الّذين بكوا يوم عاشوراء ، وجبت لهم الجنّة؟!

لا ، لأنّ الشرائط ما كانت متوفّرة فيهم (١).

__________________

(١) من البديهي أنّ البكاء على الحسين عليه‌السلام الذي يوجب دخول الجنّة إنّما هو البكاء الذي يكون عن شعور ومعرفة بالحسين عليه‌السلام وتأييدا لأهدافه المقدّسة ، ويكون رمزا وشعارا في نصرة الحقّ وانتصار المظلوم ، لا مطلق البكاء.

إنّ الباكي الممدوح عندنا والذي وعده النبيّ والأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام بالجنّة ، هو الباكي الذي جدّ وجاهد ، ويسعى ويجتهد بكلّ قدراته وإمكاناته ، لتحقيق أهداف أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام وتطبيقها ، لأنّها ما هي إلاّ أهداف الله سبحانه وتعالى وغرضه من رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعثة الأنبياء عليهم‌السلام جميعا.

فالبكاء على الحسين عليه‌السلام الذي يوجب لصاحبه دخول الجنّة ، إنّما هو البكاء الذي ينبثق من قلب ممتلئ حقدا على الظالمين ، فيتحوّل صرخة في وجه الباطل وثورة على الظالم.

٥٧٦

الحافظ : إذا كان المسلم ملتزما بأصول الإسلام وعاملا بأحكام الدين فهو من أهل الجنّة ، سواء أبكى على الحسين أم لم يبك ، فلا أرى فائدة للمجالس التي تنعقد في بلاد الشيعة ، وهم يصرفون أموالا طائلة ليجتمعوا ويبكوا على الحسين! إنّه عمل مخالف للعقل!!

فوائد المجالس الحسينية

قلت : أوّلا : الإنسان مهما كان ملتزما بأصول الإسلام ، وعاملا بالأحكام ، فلا يكون معصوما من الذنوب والآثام ، فربّما زلّت به الأقدام ، وسقط في مهاوي النفس والشيطان ، وخالف أمر الله العزيز المنّان.

فلكي لا ييأس من الله الكريم الرحمن ، ويرجو منه اللطف والإحسان ، ويسأل منه العفو والغفران ، فتح له باب التوبة والإنابة ليشعر بالأمان.

__________________

هذا النوع من البكاء ـ لا مطلق البكاء ـ يكون استمرارا لحركة الإمام أبي عبد الله السبط الشهيد عليه‌السلام واستمرارا لحركة الحوراء زينب وأهل البيت عليهم‌السلام من كربلاء إلى الشام سبايا.

فكما إنّ هاتين الحركتين تركتا أثرا عظيما في تحريك الإحساس الديني وإيقاظ الشعور الإنساني في المجتمع الإسلامي ، بحيث أدّت إلى ثورات ، وأسقطت عروش الظلم ، وقضت على الظالمين كذلك الأثر في البكاء الذي يكون استمرارا لحركة الإمام الحسين والحوراء زينب عليها‌السلام. «المترجم»

٥٧٧

وأمر الله عزّ وجلّ عباده أن يتوسّلوا إليه في التوبة والاستغفار وقضاء حوائجهم ، بقوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (١) ويصف أنبياءه فيقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٢).

ثم بيّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوسائل التي يتوسّل بها إلى الله سبحانه ، منها حبّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ومنها البكاء على الحسين عليه‌السلام ومنها خدمة الوالدين ، ومنها الجهاد في سبيل الله ، ومنها العطف على الأيتام ، وغير ذلك.

فالمؤمن إن كان بريئا من الذنب ، فهذه الوسائل تسبّب رفع درجاته في الجنّة ، وإن كان مرتكبا بعض السيّئات والذنوب فهذه الوسائل تسبّب له المغفرة وتجلب له رضا ربّه عزّ وجلّ.

ثانيا : وأمّا فوائد المجالس الحسينية فهي كثيرة جدّا ، ولكنّك حيث لم تحضرها ولم تكن من المباشرين والعاقدين لها ، فلا ترى فوائدها ولا تدرك بركاتها.

ولمّا كنت بعيدا عنها وجاهلا بفلسفتها ، فليس لك أن تقول : إنّه عمل مخالف للعقل! بل العقل السليم يخالف كلامك ، والوجدان القويم ينقض بيانك ، فقد تسرّعت في الحكم على شيء ما عرفت مغزاه ، وما أدركت منتهاه.

فلو كنت تحضر هذه المجالس مع الشيعة ، وتستمع إلى كلام

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٣٥.

(٢) سورة الإسراء ، الآية ٥٧.

٥٧٨

خطبائها الكرام ، لعرفت فوائدها الجمّة التي منها :

١ ـ هذه المجالس تكون كالمدارس ، فإنّ الخطيب يلقي على الحاضرين فيها أحكام الدين ، والتاريخ الإسلامي ، وتاريخ الأنبياء وأممهم ، ويتناول تفسير القرآن الحكيم ، ويتكلّم حول التوحيد والعدل الإلهي والنبوّة والإمامة والمعاد ، وأخلاق المسلم وما يجب أن يتّصف به المؤمن ، ويبيّن للمستمعين فلسفة الأحكام وعلل الشرائع ومضارّ الذنوب ، ويقايس الإسلام بسائر الأديان ويثبت بالدليل والبرهان تفوّقه وامتيازه على المذاهب والأديان.

٢ ـ يشرح الخطيب سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتاريخ حياته وسيرة أهل بيته والعترة الهادية والصحابة الصالحين ، فيلفت الخطيب أنظار مستمعيه إلى النقاط المشرقة الهامّة من ذلك التاريخ ، فيأخذ الحاضرون دروسا وعبرا منه يطبقونها في حياتهم الشخصية وسيرتهم الاجتماعية.

٣ ـ يتناول الخطيب تاريخ النهضة الحسينية ، ويبيّن أسبابها وأهدافها. ويشرح آثارها والدروس التي يجب على المسلم أن يأخذها من تلك النهضة المقدّسة ، ويدعو الخطيب المستمعين إلى تطبيق أهداف الحسين عليه‌السلام وإحياء ثورته وتكرارها ضدّ الظلم والظالمين في كلّ زمان ومكان.

٤ ـ في كلّ عام يهتدي كثير من الضالّين والعاصين ، فيتوبون إلى الله تعالى ، ويسلكون الصراط المستقيم ، ويصبحون من الصالحين المهتدين ، حتّى إنّ في بعض البلاد التي تسكنها الشيعة والكفّار مثل بلاد الهند والبلاد الإفريقية ، أسلم كثير منهم بعد ما حضروا في المجالس الحسينية وعرفوا تاريخ الإسلام وأحكامه وسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٧٩

وأخلاقه الحميدة.

وهذا جانب من معنى الحديث النبوي الذي نقله علماؤكم أيضا في الكتب المعتبرة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حسين منّي وأنا من حسين ، أحبّ الله من أحبّ حسينا ، حسين سبط من الأسباط (١)».

فمعنى : «وأنا من حسين» لعلّه يكون : إنّ الحسين والمجالس التي تنعقد باسمه ولأجله هو السب في إحياء ديني وإبقائه ، فالحسين عليه‌السلام بنهضته المباركة فضح بني أميّة وكشف واقعهم الإلحادي ، وحال بينهم وبين الوصول إلى أهدافهم العدوانيّة ونياتهم الشيطانية التي كانت ستقضي على الدين الحنيف ورسالة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

واليوم يمرّ أكثر من ألف عام على إقامة مجالس عظيمة ومحافل كريمة باسم الحسين عليه‌السلام علانية وسرّا ، والناس يحضرون على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم ، فيقتبسون النور ويتعرّفون على الإسلام الحقيقي

__________________

(١) خرّجه الإمام أحمد في مسنده ٤ / ١٧٢ بسنده عن يعلى بن مرة الثقفي.

ورواه ابن سعد في طبقاته الكبرى ج ٨ حديث رقم ١٨ من ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام.

ورواه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٧٧ باب فضائل الحسين عليه‌السلام ، وأقرّ صحّته.

ورواه الذهبي في تلخيصه ، وقال : هذا حديث صحيح.

ورواه الخطيب الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين ١ / ١٤٦ الفصل السابع.

ورواه شيخ الاسلام الحمويني في كتابه «فرائد السمطين» في الباب ٣٠.

ورواه البخاري في «الأدب المفرد» صفحة ١٠٠ ط مصر.

ورواه الترمذي في سننه ١٣ / ١٩٥ باب مناقب الحسن والحسين عليهم‌السلام.

ورواه ابن ماجة في مقدّمة سننه ١ / ٦٤.

ورواه جمع كثير من أعلام العامّة لا مجال لذكر أسمائهم جميعا. «المترجم»

٥٨٠