ليالي بيشاور

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي

ليالي بيشاور

المؤلف:

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي


المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١

قال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي بن أبي طالب عليه‌السلام خصالا لو كانت واحدة منها في رجل كانت تكفي في شرفه وفضله ، وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : [«من كنت مولاه فعليّ مولاه.

وقوله : علي منّي كهارون من موسى.

وقوله : عليّ منّي وأنا منه.

وقوله : عليّ منّي كنفسي ، طاعته طاعتي ، ومعصيته معصيتي.

وقوله : حرب عليّ حرب الله ، وسلم علي سلم الله.

وقوله : وليّ عليّ وليّ الله ، وعدوّ عليّ عدوّ الله.

وقوله : عليّ حجة الله على عباده.

وقوله : حبّ عليّ إيمان ، وبغضه كفر.

وقوله : حزب عليّ حزب الله ، وحزب أعدائه حزب الشيطان.

وقوله : عليّ مع الحقّ والحق معه لا يفترقان.

وقوله : عليّ قسيم الجنّة والنار.

وقوله : من فارق عليّا فقد فارقني ، ومن فارقني فقد فارق الله.

وقوله : شيعة عليّ هم الفائزون يوم القيامة»].

ويختم الباب بحديث آخر رواه عن المناقب أيضا ، جاء في آخره ، : «أقسم بالله الذي بعثني بالنبوّة ، وجعلني خير البريّة ، إنّك لحجّة الله على خلقه ، وأمينه على سرّه وخليفة الله على عباده».

أمثال هذه الأحاديث الشريفة كثيرة في صحاحكم ومسانيدكم المعتبرة ، ولو نظرتم فيها بنظر الإنصاف لأذعنتم أنّها قرائن على المجاز الذي نقوله في اتّحاد نفس المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ المرتضى عليه‌السلام وهي

٥٠١

تؤيّد نظرنا أنّ كلمة (أَنْفُسَنا) في آية المباهلة دليل واضح على تقارب نفسي النبيّ والوصي إلى حدّ التساوي في الكمالات الروحية والتماثل في الصفات النفسية.

فإذا ثبت هذا الأمر ، فقد ثبت اعتقادنا بأفضليّة عليّ عليه‌السلام وتقدّمه على الرسل والأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا خاتم النبيّين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

استدلال آخر

جاء في الحديث النبويّ الشريف : «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل».

أخرجه جماعة من أعلامكم ، منهم :

الإمام الغزالي في إحياء العلوم ، وابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» والفخر الرازي في تفسيره ، وجار الله الزمخشري ، والبيضاوي ، والنيسابوري ، في تفاسيرهم.

وجاء في رواية أخرى :

«علماء أمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل».

فإذا كان علماء المسلمين الّذين أخذوا علمهم من منبع النبوّة ومدرسة الرسالة والقرآن الحكيم كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل ، فكيف بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي نصّ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها (١) ، وأنا مدينة الحكمة وعليّ بابها؟!»

__________________

(١) ألّف ابن الصدّيق المغربي ـ وهو من علماء العامة ـ كتابا حول هذا الحديث وأسماه ب «فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي» قال في مقدّمته : ...

٥٠٢

__________________

وأمّا حديث باب العلم فلم أر من أفرده بالتأليف ، ولا وجّه العناية إليه بالتصنيف ، فأفردت هذا الجزء لجمع طرقه ، وترجيح قول من حكم بصحّته ...

ورواه جمع غفير من أعلام القوم ، منهم :

١ ـ تاريخ بغداد : ٢ / ٣٧٧ و ٤ / ٣٤٨ و ١١ / ٤٨ و ٤٩ و ٤٨٠.

٢ ـ المعجم الكبير ـ للطبراني ـ : ١١ / ٦٥ / ح ١١٠٦١.

٣ ـ التدوين بذكر أهل العلم بقزوين : ٣ / ٣.

٤ ـ أحسن التقاسيم : ١٢٧.

٥ ـ تاريخ ابن عساكر : في ترجمة أمير المؤمنين عليه‌السلام : ح رقم ٩٩٤ و ٩٩٥.

٦ ـ تاريخ جرجان : ٢٤ ط حيدرآباد.

٧ ـ شواهد التنزيل : ٨١.

٨ ـ المفردات ـ للراغب ـ : ٦٤.

٩ ـ أسد الغابة : ٤ / ٢٢.

١٠ ـ الفائق في غريب الحديث : ١ / ٢٨.

١١ ـ خصائص العشرة : ٩٨ ط بغداد.

١٢ ـ فرائد السمطين : ١ / ٩٨.

١٣ ـ تذكرة الحفاظ : ٤ / ٢٨ ط حيدرآباد.

١٤ ـ البداية والنهاية : ٧ / ٣٥٨.

١٥ ـ لباب الألباب في فضائل الخلفاء والأصحاب : فصل الأخبار المسندة في علي عليه‌السلام.

١٦ ـ وسيلة المتعبّدين : ٢ / ١٦٤.

١٧ ـ بهجة النفوس : ٢ / ١٧٥ و ٤ / ٢٤٣.

١٨ ـ لمع الأدلّة ـ لابن الأنباري ـ : ٤٦.

١٩ ـ نهاية الأرب : ٢٠ / ٦.

٢٠ ـ مجمع الزوائد : ٩ / ١١٤.

٥٠٣

__________________

٢١ ـ صبح الأعشى : ١٠ / ٤٢٥.

٢٢ ـ عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٦٣١.

٢٣ ـ تمييز الطيّب من الخبيث : ٤١.

٢٤ ـ مناقب الخلفاء ـ لمقدسي الحنفي ـ.

٢٥ ـ جمع الفوائد : ٣ / ٢٢١.

٢٦ ـ سمط النجوم العوالي : ٤٩١.

٢٧ ـ كشف الخفاء : ح رقم ٦١٨.

٢٨ ـ إتحاف السادة المتّقين ٦ / ٢٤٤.

٢٩ ـ الفتوحات الإسلامية ٢ / ٥١٠.

٣٠ ـ تاريخ آل محمّد : ٥٦.

٣١ ـ مقاصد الطالب ـ للبرزنجي ـ.

٣٢ ـ الفتح الكبير ٢ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

٣٣ ـ شجرة النور الزكية ٢ / ٧١.

٣٤ ـ جامع الأحاديث ٣ / ٢٣٧.

٣٥ ـ المستدرك ـ للحاكم ـ : ٣ / ١٢٦ و ١٢٧ و ١٢٩.

٣٦ ـ ميزان الاعتدال : ١ / ح رقم ١٥٢٥.

٣٧ ـ الجامع الصغير ـ للسيوطي ـ : ١ / ٣٦٤ بالرقم ٢٧٠٥.

٣٨ ـ منتخب كنز العمّال : ٥ / ٣٠.

٣٩ ـ ينابيع المودّة : الباب الرابع عشر.

٤٠ ـ مناقب ابن المغازلي : ح رقم ١٢٠ الى ١٢٩.

٤١ ـ وقد خصّص العلاّمة الكنجي الشافعي في كتابه «كفاية الطالب» الباب الثامن والخمسين ، بعنوان (في تخصيص عليّ عليه‌السلام بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها)». فذكر الحديث بإسناده من طرق شتّى بعبارات متعدّدة إلاّ أنّها متّحدة المعنى.

٥٠٤

وحلّ وقت العشاء ، وبعد ما صلّوا صلاة العشاء وانعقد المجلس ، بدأت بالكلام قائلا :

الإمام عليّ عليه‌السلام جامع فضائل الأنبياء

لا شكّ أنّ أنبياء الله سبحانه وهم من أرسلهم وبعثهم لهداية عباده كانوا يتخلّفون بأجمل الأخلاق ، وكانوا يتّصفون بأحمد الصفات ، وكانوا يتزيّنون بأحسن الفضائل والخصال ، إلاّ أنّ كلا منهم امتاز بصفة واشتهر بفضيلة حتّى امتاز بها عن الآخرين.

وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام جمع كلّ الفضائل التي امتاز بها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد شهد بذلك سيّد الرسل وخاتم النبيّين محمّد الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما جاء في مناقب الخوارزمي : ٤٩ و ٢٤٥ ، والرياض النضرة ٢ / ٢١٧ ، وذخائر العقبى : ٩٣ وغيرها ، أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع بعض الاختلافات اللفظية ـ : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى يحيى بن زكريّا في زهده وإلى موسى بن عمران

__________________

وبعده علّق عليه في آخر الباب تعليقا قيّما ، وختم تعليقه بالسطور التالية :

فقد قال العلماء من الصحابة والتابعين وأهل بيته بتفضيل عليّ ٧ ، وزيادة علمه وغزارته ، وحدّة فهمه ، ووفور حكمته ، وحسن قضاياه وصحّة فتواه ؛ وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام ، ويأخذون بقوله في النقض والإبرام ، اعترافا منهم بعلمه ووفور فضله ورجاعة عقله وصحّة حكمه ، وليس هذا الحديث في حقّه بكثير ؛ لأنّ رتبته عند الله وعند رسوله ٦ وعند المؤمنين من عباده أجلّ وأعلى من ذلك. انتهى. «المترجم»

٥٠٥

في بطشه ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب».

ونقل الشيخ سليمان القندوزي في كتابه «ينابيع المودّة» الباب الأربعين ، قال : أخرج أحمد بن حنبل في مسنده وأحمد البيهقي في صحيحه عن ابن الحمراء ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في عزمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب».

قال القندوزي : وقد نقل هذا الحديث في «شرح المواقف» و «الطريقة المحمّدية».

ونقله ابن الصبّاغ المالكي في كتابه الفصول المهمّة : ١٢١ عن البيهقي أيضا.

ونقله ـ مع بعض الاختلافات اللفظية ـ الامام الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، ذيل آية المباهلة.

ومحيي الدين ابن العربي في كتابه اليواقيت والجواهر ، المبحث ٣٢ : ١٧٢.

ونقله العلاّمة الكنجي الشافعي في كتابه «كفاية الطالب» وخصّص له الباب الثالث والعشرين ، ثمّ شرحه وعلّق عليه ، وإليك ذلك : روى بإسناده عن ابن عبّاس ، قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس في جماعة من اصحابه إذ أقبل علي عليه‌السلام فلما بصر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أراد منكم أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في حكمته ، وإلى إبراهيم في حلمه ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب».

وعلّق العلاّمة الكنجي بقوله :

قلت : تشبيهه لعليّ عليه‌السلام بآدم في علمه ، لأنّ الله علّم آدم صفة

٥٠٦

كلّ شيء كما قال عزّ وجلّ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (١) فما من شيء ولا حادثة ولا واقعة إلاّ وعند عليّ عليه‌السلام فيها علم ، وله في استنباط معناها فهم.

وشبّهه بنوح في حكمته ـ أو في رواية : في حكمه ، وكأنّه أصحّ ـ لأنّ عليّا عليه‌السلام كان شديدا على الكافرين رءوفا بالمؤمنين كما وصفه الله تعالى في القرآن بقوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٢) وأخبر عزّ وجلّ عن شدّة نوح عليه‌السلام على الكافرين بقوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٣).

وشبّهه في الحلم بإبراهيم عليه‌السلام خليل الرحمن كما وصفه الله عزّ وجلّ بقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٤) فكان عليه‌السلام متخلّقا بأخلاق الأنبياء ، متّصفا بصفات الأصفياء. انتهى.

وروى في الرياض النضرة ٢ / ٢١٨ عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه ، وإلى نوح في حكمه ، وإلى يوسف في جماله ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب».

قال : أخرجه الملاّ في سيرته.

والملاّ هو عمر بن خضر من كبار علمائكم ، توفّي عام ٥٧٠.

وفي الرياض النضرة ٢ / ٢٠٢ قال : أخرج الملاّ في سيرته ، قيل : يا رسول الله! كيف يستطيع عليّ عليه‌السلام أن يحمل لواء الحمد؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) : «وكيف لا يستطيع ذلك وقد أعطي خصالا شتّى : صبرا كصبري ، وحسنا كحسن يوسف ، وقوّة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٣١.

(٢) سورة الفتح ، الآية ٢٩.

(٣) سورة نوح ، الآية ٢٦.

(٤) سورة التوبة ، الآية ١١٤.

٥٠٧

كقوّة جبريل عليه‌السلام».

وروى السيّد مير علي الهمداني في كتابه «مودّة القربى» المودّة الثامنة ، قال : عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أراد أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته ، وإلى ميكائيل في رتبته ، وإلى جبرائيل في جلالته ، وإلى آدم في علمه ، وإلى نوح في خشيته ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى يعقوب في حزنه ، وإلى يوسف في جماله ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى أيّوب في صبره ، وإلى يحيى في زهده ، وإلى عيسى في عبادته ، وإلى يونس في ورعه ، وإلى محمد في حسبه وخلقه ، فلينظر إلى عليّ ، فإنّ فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء ، جمعها الله فيه ولم يجمعها في أحد غيره».

نقله الشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودّة ١ / ٣٠٤ الطبعة السابعة ، سنة ١٣٨٤ هجرية ١٩٦٥ ميلادية.

قال : وعدّ ذلك في كتاب «جواهر الأخبار».

وإليك ما رواه كمال الدين القرشي محمد بن طلحة ، في كتابه القيّم «مطالب السئول في مناقب آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الفصل السادس ، ج ١ / ٦١ ، ط دار الكتب ، قال :

ومن ذلك ما رواه الإمام البيهقي «رض» في كتابه المصنّف في فضائل الصحابة ، يرفعه بسنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب».

فقد أثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام بهذا الحديث ، علما يشبه علم

٥٠٨

آدم ، وتقوى تشبه تقوى نوح ، وحلما يشبه حلم إبراهيم ، وهيبة تشبه هيبة موسى ، وعبادة تشبه عبادة عيسى ، وفي هذا تصريح لعليّ عليه‌السلام بعلمه وتقواه وحلمه وهيبته وعبادته ، وتعلو هذه الصفات إلى أوج العلى حيث شبّهها بهؤلاء الأنبياء المرسلين عليهم‌السلام من الصفات المذكورة والمناقب المعدودة.

مقارنته بالأنبياء عليهم‌السلام

لقد حدّثنا المؤرّخون والمحدّثون أنّه عليه‌السلام في آخر يوم من حياته الكريمة ، حينما كان على فراش الشهادة ، حضر عنده جماعة من أصحابه لعيادته ، وكان ممّن حضر صعصعة بن صوحان ، وهو من كبار الشيعة في الكوفة ، وكان خطيبا بارعا ، ومتكلّما لامعا ، وهو من الرواة الثقات حتّى عند أصحاب الصحاح الستّة وأصحاب المسانيد عندكم ، فإنّهم يروون عنه ما ينقله من الإمام عليّ عليه‌السلام ، وقد ترجم له كثير من أعلامكم مثل ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» وابن سعد في «الطبقات الكبرى» وابن قتيبة في «المعارف» وغيرهم ، فكتبوا أنّه كان عالما صادقا ، وملتزما بالدين ، ومن خاصّة أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

في ذلك اليوم سأل صعصعة الإمام عليّا عليه‌السلام قائلا :

[يا أمير المؤمنين! أخبرني أنت أفضل أم آدم عليه‌السلام؟

فقال الإمام عليه‌السلام : يا صعصعة! تزكية المرء نفسه قبيح ، ولو لا قول الله عزّ وجلّ : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١) ما أجبت.

يا صعصعة! أنا أفضل من آدم ؛ لأن الله تعالى أباح لآدم كلّ

__________________

(١) سورة الضحى ، الآية ١١.

٥٠٩

الطيّبات المتوفّرة في الجنّة ونهاه عن أكل الحنطة فحسب ، ولكنّه عصى ربّه وأكل منها!

وأنا لم يمنعني ربّي من الطيّبات ، وما نهاني عن أكل الحنطة ، فأعرضت عنها رغبة وطوعا].

[كلامه عليه‌السلام كناية عن أنّ فضل الإنسان وكرامته عند الله عزّ وجلّ بالزهد في الدنيا وبالورع والتقوى ، وأعلى مراتبه أن يجتنب الماندات ويعرض عن الشهوات والطيّبات المباحة ـ من باب رياضة النفس ـ حتّى يتمكّن منها ، ويمسك زمامها ، فيسوقها في طريق الورع والتقوى (١)].

فقال صعصعة : أنت أفضل أم نوح؟

فقال عليه‌السلام : أنا أفضل من نوح ؛ لأنّه تحمّل ما تحمّل من قومه ، ولما رأى منهم العناد دعا عليهم وما صبر على أذاهم ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (٢).

ولكنّي بعد حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمّلت أذى قومي وعنادهم ، فظلموني كثيرا فصبرت وما دعوت عليهم (٣).

__________________

(١) قال عليه‌السلام في كتابه لعثمان بن حنيف واليه على البصرة : [.... وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق.

ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ...] إلى آخر مقاله القيم الثمين.

(٢) سورة نوح ، الآية ٢٦.

(٣) في الخطبة المعروفة بالشقشقية والمذكورة في «نهج البلاغة» يصف سلام الله عليه جانبا من الوضع الذي قاساه فصبر ، قال : ...

٥١٠

[كلامه عليه‌السلام كناية عن أنّ أقرب الخلق إلى الله سبحانه أصبرهم على بلائه وأكثرهم تحمّلا من جهال زمانه سوء تصرفهم ، وهو يقابلهم بالحكمة والموعظة الحسنة وبحسن سلوكه وأخلاقه ، قربة إلى الله تعالى].

فقال صعصعة : أنت أفضل أم إبراهيم؟

فقال عليه‌السلام : أنا أفضل ؛ لأنّ إبراهيم قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١).

ولكنّي قلت وأقول : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا (٢).

__________________

[وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا ... إلى آخر خطبته البليغة]. «المترجم»

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٦٠.

(٢) جاء في كتاب «مطالب السئول» لمحمد بن طلحة القرشي الشافعي ١ / ٨٩ ط دار الكتب ، قال : [وقد كان عليّ عليه‌السلام منطويا على يقين لا غاية لمداه ، ولا نهاية لمنتهاه ، وقد صرّح بذلك تصريحا مبينا ، فقال عليه‌السلام : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ...] إلى آخره.

أقول : اعلم يرحمك الله سبحانه ، أنّ اليقين على مراتب : علم اليقين ، وحقّ اليقين ، وعين اليقين.

فلو شاهد إنسان دخانا ولم يشاهد النار ، علم يقينا بوجود النار ، فلو شاهد النار بعينه حصل له حقّ اليقين ، وليس هذا كالذي يمسّ النار بيده فيحس بحرارتها ، فهو في عين اليقين. وكان عليّ عليه‌السلام في هذه المرتبة من اليقين بالغيب ، قال تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ). سورة البقرة ، الآية ١ ـ ٣. «المترجم»

٥١١

[كلامه عليه‌السلام كناية عن أنّ مرتبة العبد عند الله سبحانه تكون بمرتبة يقينه ، فكلّما ازداد العبد يقينا بالله عزّ وجلّ وبالمعتقدات الدينية ، ازداد قربا من الله سبحانه وتعالى].

قال صعصعة : أنت أفضل أم موسى؟

قال عليه‌السلام : أنا أفضل من موسى ؛ لأنّ الله تعالى لمّا أمره أن يذهب إلى فرعون ويبلّغه رسالته (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) (١).

ولكنّي حين أمرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر الله عزّ وجلّ حتّى أبلّغ أهل مكّة المشركين سورة براءة ، وأنا قاتل كثير من رجالهم وأعيانهم! مع ذلك أسرعت غير مكترث ، وذهبت وحدي بلا خوف ولا وجل ، فوقفت في جمعهم رافعا صوتي ، وتلوت الآيات من سورة براءة ، وهم يسمعون!!

[كلامه كناية عن أنّ فضل الإنسان عند الله سبحانه بالتوكّل عليه عزّ وجلّ والإقدام في سبيل الله وأن لا يخشى العبد أحدا إلاّ ربّه تعالى شأنه].

قال صعصعة : أنت أفضل أم عيسى؟

قال عليه‌السلام : [أنا أفضل ؛ لأنّ مريم بنت عمران لمّا أرادت أن تضع عيسى ، كانت في البيت المقدّس ، جاءها النداء يا مريم اخرجي من البيت! هاهنا محلّ عبادة لا محل ولادة ، فخرجت (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (٢) ولكن أمّي فاطمة بنت أسد لمّا قرب مولدي جاءت

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٣٣.

(٢) سورة مريم ، الآية ٢٣.

٥١٢

إلى بيت الله الحرام والتجأت إلى الكعبة ، وسألت ربّها أن يسهّل عليها الولادة ، فانشقّ لها جدار البيت الحرام وسمعت النداء : يا فاطمة ادخلي! فدخلت وردّ الجدار على حاله فولدتني في حرم الله وبيته (١)].

__________________

(١) اتّفق العلماء على أنّه عليه‌السلام ولد في الكعبة حتّى أنّ الشعراء ذكروا له هذه الفضيلة ، منهم : إسماعيل الحميري ، سيّد الشعراء في القرن الثاني ، قال :

[ولدته في حرم الإله وأمنه

والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد]

وقال محمد بن منصور السرخسي ، من شعراء القرن السادس ، في قصيدة منها :

[ولدته منجبة وكان ولادها

في جوف كعبة أفضل الأكنان]

وللمرحوم السيّد ميرزا إسماعيل الشيرازي قصيدة موشّحة في ميلاد الإمام عليّ عليه‌السلام فيها :

[هذه فاطمة بنت أسد

أقبلت تحمل لاهوت الأبد

فاسجدوا ذلا له فيمن سجد

فله الأملاك خرّت سجّدا

إذ تجلّى نوره في آدم إن يكن يجعل لله البنون وتعالى الله عمّا يصفون

فوليد البيت أحرى أن يكون

لوليّ البيت حقّا ولدا

لا عزيز لا ولا ابن مريم سيّد فاق علا كلّ الانام كان إذ لا كائن وهو إمام

شرّف الله به البيت الحرام

حين أضحى لعلاه مولدا

فوطى تربته بالقدم]

والقصيدة جميلة جدّا ، تحتوي على نكات لطيفة ، وهي طويلة اكتفينا منها بما نقلنا.

وإنّ خبر ولادته عليه‌السلام في الكعبة أمر مشهور ، لا ينكره إلاّ المعاند المتعصّب.

قال الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٨٣ : وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة.

وقال الشيخ أحمد الدهلوي الشهير بشاه ولي ، وهو والد عبد العزيز الدهلوي ، مصنّف «التحفة الاثنا عشرية في الردّ على الشيعة» قال في كتابه «إزالة الخفاء» :

٥١٣

[لا أدري هل هذه المقارنة تنبئ عن أفضلية فاطمة بنت أسد على مريم بنت عمران كما أنّ ابنها عليّا عليه‌السلام كان أفضل وأشرف عند الله تعالى من عيسى بن مريم عليها‌السلام؟! ربّما].

بالله عليكم فكّروا قليلا وأنصفوا ، مع وجود هذه الروايات والأحاديث المنقولة في كتبكم ، والمرويّة بطرقكم ، هل يجوز أن تقدّموا أحدا على الإمام عليّ عليه‌السلام في الخلافة؟!!

وهل يجوز عند العقلاء والنبلاء تقديم المفضول على الفاضل؟! كما يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٠ / ٢٢٦ : أمّا الذي استقرّ عليه رأي المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم في التفضيل؟؟؟ يره ، أنّ عليا عليه‌السلام أفضل الجماعة ، وأنّهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها!

ويقول في صفحة ٢٢٧ : وبالجملة أصحابنا يقولون : [إن الأمر

__________________

تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّا في جوف الكعبة ، فإنّه ولد يوم الجمعة ثالث عشر من شهر رجب ، بعد عام الفيل بثلاثين سنة في الكعبة ، ولم يولد فيها أحد سواه قبله ولا بعده.

وقال شهاب الدين الآلوسي ، صاحب التفسير الكبير «روح المعاني» في شرح القصيدة العينية لعبد الباقي العمري الموصلي ، عند قوله :

[أنت العليّ الذي فوق العلى رفعا

ببطن مكّة وسط البيت إذ وضعا]

قال : وكون الأمير كرّم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا ، وذكر في كتب الفريقين السنّة والشيعة ـ إلى أن قال : ـ وما أحرى بإمام الأئمة أن يكون وضعه في ما هو قبلة للمؤمنين! وسبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين. «المترجم»

٥١٤

كان له [لعليّ] عليه‌السلام ، وكان هو المستحق والمتعيّن!]

ويقول في شرح الخطبة الشقشقية في شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٧ ط دار إحياء التراث العربي : لمّا كان أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الأفضل والأحقّ وعدل عنه إلى من لا يساويه في فضل ولا يوازيه في جهاد وعلم ، ولا يماثله في سؤدد وشرف ، ساغ إطلاق هذه الألفاظ ... إلى آخره.

فلا ينكر أحد تفضيل الإمام عليّ عليه‌السلام على غيره إلاّ عن تعصّب وعناد ، وإلا فإنّ أعلامكم المنصفين ذهبوا أيضا مذهب المعتزلة في ذلك :

فقد روى العلاّمة الكنجي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الثاني والستّين ، بسنده عن ابن التيمي ، عن أبيه ، قال : فضّل عليّ بن أبي طالب على سائر الصحابة بمائة منقبة وشاركهم في مناقبهم.

وقال العلاّمة الكنجي. وابن التيمي هو موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي ، ثقة وابن ثقة ، أسند عنه العلماء والأثبات .. ثم ذكر المائة منقبة بالتفصيل (١).

__________________

(١) منها ما رواه في صفحة ١٢٤ ـ ١٢٥ ط مطبعة الغري سنة ١٣٥٦ هجرية بإسناده عن عيسى بن عبد الله ، عن أبيه ، قال : قال رجل لابن عباس : سبحان الله ما أكثر مناقب عليّ وفضائله!! إنّي لاحسبها ثلاثة آلاف ، فقال ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه :أولا تقول إنّها إلى ثلاثين ألفا أقرب؟!

ثمّ قال العلاّمة الكنجي : خرّج هذا الأثر جماعة من الحفّاظ في كتبهم.

وروى بعدها بإسناده عن محمد بن منصور الطوسي ، قال : سمعت الإمام أحمد

٥١٥

ونقل الشيخ سليمان القندوزي في كتابه «ينابيع المودة» الباب الأربعين ، قال : أخرج موفّق بن أحمد ، عن محمد بن منصور ، قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما جاء لأحد من الصحابة من الفضائل مثل ما لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وقال أحمد : قال رجل لابن عبّاس سبحان الله! ما أكثر فضائل عليّ بن أبي طالب ومناقبه! إنّي لأحسبها ثلاثة آلاف منقبة. فقال ابن عبّاس : أو لا تقول إنّها إلى ثلاثين ألفا أقرب؟! (١).

__________________

ابن حنبل يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل ما جاء لعليّ بن أبي طالب.

ثمّ قال العلاّمة الكنجي : قال الحافظ البيهقي : وهو [عليّ عليه‌السلام] أهل كلّ فضيلة ومنقبة ، ومستحقّ لكلّ سابقة ومرتبة ، ولم يكن أحد في وقته أحقّ بالخلافة منه.

«المترجم»

(١) أرى من المناسب نقل الرواية التالية التي رواها جماعة من أعلام السنة ، منهم : القندوزي في ينابيع المودّة ١ / ١٤٣ رواها عن الخوارزمي عن ابن عبّاس.

ورواها المير السيّد علي الهمداني الحنفي في المودّة الخامسة من كتابه «مودّة القربى» عن عمر بن الخطّاب.

ورواه موفّق ابن أحمد في المناقب : ١٨.

والعلاّمة الكنجي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الثاني والستّين : ١٢٣.

كلاهما عن مجاهد ، عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ الغياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب.

وعن عمر : لو أنّ البحر مداد ، والرياض أقلام ، والإنس كتّاب ، والجنّ حسّاب ، ما أحصوا فضائلك يا أبا الحسن. قالها النبيّ لعليّ. «المترجم»

٥١٦

وقال ابن أبي الحديد في مقدّمة شرح نهج البلاغة ١ / ١٧ ط دار إحياء التراث العربي : وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟! ... وما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة ، وتنتهي إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة؟! فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ومجلّي حلبتها. كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى.

ويقول في خاتمة المقدّمة : ٣٠ : وجب أن نختصر ونقتصر ، فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا ، بل يزيد عليه. وبالله التوفيق.

فلا أدري بأيّ عذر أخّروا هذا الرجل الفذّ ، والإنسان العبقري ، العملاق العظيم ، العليّ على البشر بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولما ذا لم يستشيروه في أمر الخلافة؟!

وهل لهم دليل على تقديم الآخرين عليه؟!

فأنصفوا ولا تتّبعوا التعصّب والعناد!

الحافظ : وأنتم أيضا أنصفوا وانظروا هل يجوز لكم أن تنسبوا لأصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقرّبين ، غصب الخلافة ومخالفة أمر الله والرسول؟!

وكيف تعتقدون بأنّ أمّة الإسلام اجتمعت على الباطل والضلال؟!!

أما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمّتي على الخطأ؟!»

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجتمع أمّتي على ضلالة».

٥١٧

فلذلك نحن لا نقلّد أسلافنا تقليد الأعمى ، ولا نسير خلفهم سير الحمقى ، بل قلّدناهم وأخذنا مذهبهم إطاعة لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث صحّح إجماع المسلمين وأيّد كلّ ما أجمعت عليه الصحابة المهتدون.

دعوى : إجماع الأمة على خلافة أبي بكر

قلت : أرجو أن تبيّنوا لنا أدلّتكم على صحّة خلافة أبي بكر؟

الحافظ : إنّ أقوى دليل على إثبات خلافة أبي بكر وصحّتها هو إجماع الأمّة على خلافته.

وأضف على هذا كبر السنّ والشيخوخة ، فإن عليّا (كرّم الله وجه) مع فضله وسوابقه المشرّفة وقربه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن المسلمين أخّروه لصغر سنّه.

وأنتم لو فكّرتم قليلا وأنصفتم لأعطيتم الحقّ للمسلمين ، فلا يجوز عقلا أن يتقدّم في هذا الأمر العظيم شابّ حدث السنّ مع وجود شيوخ قومه وكبراء أهله ... وإنّ تأخر سيّدنا عليّ لا يكون نقصا له بل كماله ، وإن أفضليّته على أقرانه ثابتة ولا ننكرها.

ثمّ إنّ المسلمين سمعوا حديثا رواه عمر بن الخطّاب ، قال : لا تجتمع النبوّة والملك في أهل بيت واحد.

ولمّا كان عليّ من أهل بيت النبوّة ما بايعوه ...

هذه أسباب تقدّم أبي بكر وتأخّر عليّ في أمر الخلافة.

قلت : إنّ أدلّتكم هذه تضحك الثّكلى ، وإنّ مثلكم كمثل الذي يغمض عينيه فيصبح كالأعمى ، فلا يرى الشمس الطالعة في الضّحى ، وينكر ضوء النهار إذا تجلّى ؛ فافتحوا أعينكم ، وانظروا إلى منار

٥١٨

الهدى ، واسلكوا طريق الحقّ والتقى ، ولا تتّبعوا الهوى ، وتجنّبوا المزلق والمهوى ، ولا تغرّنّكم الدنيا ، فإنّ الآخرة خير وأبقى.

وإنّي أرجوكم أن تقرءوا كتبنا وتدقّقوا النظر في أدلتنا وتعمّقوا الفكر في عقائدنا.

أقول هذا ، لأنّي فتّشت أسواق الشام والقاهرة والحجاز والأردن ، وغيرها من البلاد الاسلامية التي غالب سكّانها أهل السنّة أو حكّامها من أهل السنّة والجماعة ، فما وجدت كتب الشيعة في مكتباتها فكأنّكم ـ مع الأسف ـ آليتم أن لا تطالعوا كتب الشيعة ، فلا أدري هل حكمتم عليها بأنّها كتب الضلال فحرّمتم قراءتها؟!!

وإنّي دخلت بيوت كثير من إخواننا أهل السنّة والجماعة ، علمائهم وغير علمائهم ، الّذين يهوون مطالعة الكتب ويملكون مكتبات شخصيّة في بيوتهم ، فوجدت فيها كتب مختلفة حتّى كتب غير المسلمين من الشرقيّين والغربيّين ، ولم أجد كتابا واحدا من كتب الشيعة!!

بينما نحن في بلادنا نطبع كتبكم وننشرها ، وندعو أهل العلم والمثقفين لمطالعتها.

فهذه مدينة النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة في العراق ، وهذه مدينة قم ومشهد الإمام الرضا عليه‌السلام في إيران ، وهي مراكز الشيعة التي فيها حوزاتنا العلمية ومراجعنا الكرام ، وكذلك طهران وشيراز واصفهان ، وغيرها من البلاد التي تسكنها الشيعة ، فتحت أبواب مكتباتها لعرض كتبكم وبيعها بدون أيّ مانع ورادع.

ولا أجد مكتبة واحدة من مكتباتنا العامّة أو الشخصية تخلو من

٥١٩

كتبكم وصحاحكم ومسانيدكم وتواريخكم وتفاسيركم ، لا لحاجة منّا إليها ، لأنّ مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام غنيّة ، والأخبار المرويّة عن العترة الطاهرة الهادية تناولت جميع جوانب الحياة وكلّ ما يحتاجه الإنسان في أمر الدين والدنيا.

ولكن نريد أن نحاجكم بكتبكم ، ونلزمكم بأقوال علمائكم وآراء أعلامكم ، وننقدها نقدا بنّاء حتّى نصل معكم إلى التفاهم ، وكما تجدونني في هذه المحاورات والمناقشات لا أنقل إلاّ عن كتبكم ومسانيدكم وصحاحكم وتفاسيركم.

إجماع أم مؤامرة!!

لقد ادّعيتم أنّ إجماع الصحابة هو أقوى دليل على إثبات خلافة أبي بكر وصحّتها. واستدللتم بحديث : لا تجتمع أمّتي على خطأ ، أو : لا تجتمع أمّتي على ضلال.

فالأمّة أضيفت إلى ياء المتكلّم ، فتفيد العموم كما قال النحويّون ، فعلى فرض صحّة الحديث يكون معناه : إنّ أمّتي كلّهم من غير استثناء إذا أجمعوا على أمر فذاك الأمر لا يكون خطأ أو ضلالا.

وهذا هو الإجماع الذي يتضمّن رأي حجّة الله تعالى في خلقه ؛ لأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله عزّ وجلّ ـ كما جاء في روايات الفريقين ـ.

ثم إنّ هذا الحديث ـ على فرض صحّته ـ لا ينسخ الأحاديث النبوية والنصوص الجلية في تعريف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خليفته في البريّة.

ولو تنزّلنا وسلّمنا برأيكم والتزمنا بهذا المقال ، بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم

٥٢٠