ليالي بيشاور

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي

ليالي بيشاور

المؤلف:

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي


المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١

طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم بن أبي العاص وابنه مروان ويقرّبهم ويمنحهم الأموال الكثيرة من بيت مال المسلمين ، ويسند إليهم وإلى أبنائهم الولايات والإمارات ، وهم الّذين لعنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الملأ العامّ ، وقد سمعه المسلمون وهو يفسّر الشجرة الملعونة في القرآن ببني اميّة؟!

لما ذا كان عثمان يتّخذ مروان وأمثاله ونظراءه أولياء من دون الله تعالى ويركن إليهم ويعمل برأيهم ، بل أسند إليهم إدارة الدولة حتّى تكون آلة لهم ومطيّة لأغراضهم الإلحادية وأهدافهم الجاهلية؟!

فلقائل أن يقول : إنّما كان عثمان يقصد من وراء أعماله التي ذكرنا طرفا منها تمهيد السبيل للانقلاب الذي أخبر الله سبحانه في كتابه بقوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ...) (١).

موقف عليّ عليه‌السلام من عثمان

لقد كان موقف الإمام عليّ عليه‌السلام في الفتنة موقف الناصح المصلح ، والتاريخ يشكر له مواقفه السليمة ، وأنا أنقل لكم الآن بعض كلامه في هذا الشأن من «نهج البلاغة» حتّى تعرفوا نيّاته الطيّبة ومساعيه الخيّرة.

قالوا : لمّا اجتمع الناس إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وشكوا إليه ما نقموه على عثمان ، وسألوه مخاطبته واستعتابه لهم ؛

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٤٤.

٤٤١

فدخل عليه‌السلام على عثمان فقال :

إنّ الناس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم ، وو الله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه!

إنّك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وقد رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما صحبنا ، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب بأولى بعمل الخير منك ، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيجة رحم منهما ، وقد نلت من صهره ما لم ينالا ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تبصّر من عمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطرق لواضحة ، وإنّ أعلام الدين لقائمة.

فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هدي وهدى ، فأقام سنّة معلومة ، وأمات بدعة مجهولة ، وإنّ السنن لنيّرة لها أعلام ، وإنّ البدع لظاهرة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ، ضلّ وضلّ به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيى بدعة متروكة! وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر ، وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في نار جهنّم ، فيدور فيها كما تدور الرّحى ، ثمّ يرتبط في قعرها».

وإنّي أنشدك الله أن تكون إمام هذه الامّة المقتول!

فإنّه كان يقال : يقتل في هذه الامّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبس امورها عليها ، ويبثّ الفتن فيها ، فلا يبصرون الحقّ من الباطل ، يموجون فيها موجا ، ويمرجون فيها مرجا.

فلا تكوننّ لمروان سيّقة حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي

٤٤٢

العمر (١).

فقال له عثمان : كلّم الناس في أن يؤجّلوني ، حتّى أخرج إليهم من مظالمهم.

فقال عليه‌السلام : ما كان بالمدينة فلا أجل فيه ، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه.

ولكنّ عثمان شاور مروان في ما طلبه عليّ عليه‌السلام من قبل الناس ، فأشار عليه بالمخالفة ، فخرج عثمان وخطب الناس وقال في ما قال : ... فاجترأتم عليّ ، أما والله لأنا أقرب ناصرا ، وأعزّ نفرا ، وأكثر عودا ، وأحرى إن قلت : «هلمّ» أن يجاب صوتي.

ولقد أعددت لكم أقرانا ، وكشّرت لكم عن نابي ، وأخرجتم منّي خلقا لم أكن أحسنه ، ومنطقا لم أكن أنطق به ... إلى آخره.

فهاج الناس ولم يرضوا من كلامه ، فاشتدّ البلاء حتّى وقع ما وقع.

موقف الصحابة من عثمان

وأمّا صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكثرهم تألّبوا على عثمان وقاموا في

__________________

(١) ذكره الطبري أيضا في تاريخه ٤ / ٣٣٧.

أقول : ونقل ابن أبي الحديد في شرح النهج ٩ / ٢٣ ، قال : وروى أبو سعد الآبي في كتابه «نثر الدرر في المحاضرات» أنّ عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا ، قام متوكّئا على مروان فخطب الناس ...

فذكر بعض ما ذكره الطبري ، وزاد :

إنّى لاقرب ناصرا ، وأعزّ نفرا ، فمالي لا أفعل في فضول الأموال ما أشاء؟!

«المترجم»

٤٤٣

وجهه ينهونه عن أعماله التعسّفية ، وتصرّفه بغير حقّ في الأمور المالية وانحيازه لبني اميّة.

وقد ذكر الطبري (١) : أنّ نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكاتبوا ، فكتب بعضهم إلى بعض : أن أقدموا ، فإنّ الجهاد بالمدينة لا بالروم.

واستطال الناس على عثمان ، ونالوا منه ؛ وذلك في سنة أربع وثلاثين ، ولم يكن أحد من الصحابة يذبّ عنه ولا ينهى ؛ إلاّ نفر منهم : زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسّان بن ثابت.

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ١٣٤ ط دار إحياء التراث العربي :

قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه‌الله تعالى : ثمّ إنّ سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلافته ، فلمّا دخل المدينة ، اجتمع قوم من الصحابة ، فذكروا سعيدا وأعماله ، وذكروا قرابات عثمان وما سوغهم من مال المسلمين ، وعابوا أفعال عثمان.

فأرسلوا إليه عامر بن عبد القيس ـ وكان متألّها ، واسم أبيه عبد الله ، وهو من تميم ، ثمّ من بني العنبر ـ فدخل على عثمان ، فقال له : إنّ ناسا من الصحابة اجتمعوا ونظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت أمورا عظيمة ، فاتّق الله وتب إليه.

فقال عثمان : أنظروا إلى هذا ، تزعم الناس أنّه قارئ ثمّ هو يجيء إليّ فيكلّمني في ما لا يعلمه! والله ما تدري أين الله!

__________________

(١) نفس المصدر.

٤٤٤

فقال عامر : بلى والله! إنّي لأدري أنّ الله لبالمرصاد!

فأخرجه عثمان.

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ١٤٤ : وروى أبو جعفر [الطبري] قال : كان عمرو بن العاص شديد التحريض والتأليب على عثمان.

وقال في صفحة ١٤٩ : قال أبو جعفر [الطبري] : إنّ عثمان مرّ بجبلة بن عمرو الساعدي ، وهو في نادي قومه ، وفي يده جامعة فسلّم فردّ القوم عليه ، فقال جبلة : لم تردّون على رجل فعل كذا وفعل كذا؟! ثمّ قال لعثمان : والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنّ بطانتك هذه الخبيثة ، مروان وابن عامر وابن أبي السّرح ، فمنهم من نزل القرآن بذمّه ، ومنهم من أباح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دمه.

وقال : قيل : إنّه خطب يوما وبيده عصا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر وعمر يخطبون عليها ، فأخذها جهجاه الغفاريّ من يده ، وكسرها على ركبته ، فلمّا تكاثرت أحداثه ، وتكاثر طمع الناس فيه ، كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق : إن كنتم تريدون الجهاد ، فهلمّوا إلينا ، فإنّ دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أفسده خليفتكم فاخلعوه ؛ فاختلفت عليه القلوب ، وجاء المصريون وغيرهم إلى المدينة حتّى حدث ما حدث.

ونقل ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ١٦١ : قال أبو جعفر [الطبري] : وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفا ، فقال طلحة له يوما : قد تهيأ مالك فاقبضه ، فقال : هو لك معونة على مروءتك.

٤٤٥

فلمّا حصر عثمان ، قال عليّ عليه‌السلام لطلحة : أنشدك الله ألا كففت عن عثمان!

فقال : لا والله حتّى تعطي بنو اميّة الحقّ من أنفسها.

فكان عليّ عليه‌السلام يقول : لحا الله ابن الصعبة! اعطاه عثمان ما أعطاه ، وفعل به ما فعل!

ونقل ابن أبي الحديد في شرح النهج ٩ / ٣ عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب «أخبار السقيفة» بسنده عن أبي كعب الحارثيّ ، في رواية مفصّلة ، إلى أن قال في صفحة ٥ : فتبعته [أي : عثمان] حتّى دخل المسجد ، فإذا عمّار جالس إلى سارية ، وحوله نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكون ، فقال عثمان : يا وثّاب! عليّ بالشرط ؛ فجاءوا ، فقال : فرّقوا بين هؤلاء ؛ ففرّقوا بينهم.

ثمّ اقيمت الصلاة ، فتقدّم عثمان فصلّى بهم ، فلمّا كبّر قالت امرأة من حجرتها : يا أيّها الناس ؛ ثمّ تكلّمت ، وذكرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما بعثه الله به ، ثمّ قالت : تركتم أمر الله ، وخالفتم عهده ... ونحو هذا ، ثمّ صمتت ، وتكلّمت امرأة اخرى بمثل ذلك ، فإذا هما عائشة وحفصة.

قال : فسلّم عثمان ، ثمّ أقبل على الناس وقال : إنّ هاتين لفتّانتان ، يحلّ لي سبّهما ، وأنا بأصلهما عالم.

فقال له سعد بن أبي وقّاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! فقال : وفيم أنت وما هاهنا؟!

ثمّ أقبل نحو سعد عامدا ليضربه فانسلّ سعد فخرج من المسجد ، فاتّبعه عثمان ، فلقي عليّا عليه‌السلام بباب المسجد ، فقال له عليه‌السلام : أين تريد؟ قال : أريد هذا الذي كذا وكذا ـ يعني سعدا يشتمه ـ فقال له عليّ عليه‌السلام : أيّها الرجل ، دع عنك هذا.

٤٤٦

قال : فلم يزل بينهما كلام ، حتى غضبا ، فقال عثمان : ألست الذي خلّفك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم تبوك؟!

فقال عليّ عليه‌السلام : ألست الفارّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد؟!

فقال : ثمّ حجز الناس بينهما.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٩ / ٣٥ و ٣٦ : وروى الناس الّذين صنّفوا في واقعة الدار أنّ طلحة كان يوم قتل عثمان مقنّعا بثوب قد استتر به عن أعين الناس ، يرمي الدار بالسهام.

ورووا أيضا انه لما امتنع على الذين حصروه الدخول من باب الدار ، حملهم طلحة الى دار لبعض الأنصار ، فأصعدهم الى سطحها وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه.

ورووا أيضا : أنّ الزبير كان يقول : اقتلوه! فقد بدّل دينكم.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٢٧ و ٢٨ : وروى شعبة بن الحجّاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عثمان؟!

فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال : وروي عن أبي سعيد الخدري ، أنّه سئل عن مقتل عثمان : هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فقال : نعم ، شهده ثمانمائة!

قال : وهذا عبد الرحمن بن عوف ، وهو عاقد الأمر لعثمان ، وجالبه إليه ومصيّره في يده ، يقول ـ على ما رواه الواقدي ، وقد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه ـ : عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه ؛ فبلغ ذلك عثمان ، فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه ، فمنع منها ، ووصّى عبد الرحمن ألاّ يصلّي عليه عثمان ؛ فصلّى عليه

٤٤٧

الزبير ـ أو سعد بن أبي وقّاص ـ وقد كان حلف لمّا تتابعت أحداث عثمان ألاّ يكلّمه أبدا.

قال : وروى الواقدي ، قال : لمّا توفّي أبو ذرّ بالربذة ، تذاكر أمير المؤمنين عليه‌السلام وعبد الرحمن فعل عثمان ، فقال أمير المؤمنين له : هذا عملك! فقال عبد الرحمن : فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي ، إنّه خالف ما أعطاني.

وقال في شرح النهج ٣ / ٥٠ و ٥١ : وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة أنّ عمارا كان يقول : ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر وأنا الرابع ، وأنا شرّ الأربعة (... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١) ، وأنا أشهد أنّه قد حكم بغير ما أنزل الله.

قال : وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنّه قيل له : بأيّ شيء كفّرتم عثمان؟

فقال : بثلاث : جعل المال دولة بين الأغنياء ، وجعل المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة من حارب الله ورسوله ، وعمل بغير كتاب الله.

موقف عثمان من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقرّبين

ومن أسباب ثورة المسلمين على عثمان وقتله ، إيذاؤه بعض الصحابة المقرّبين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمكرّمين لديه ، وما كان لهم جرم سوى إنّهم كانوا ينهونه عن المنكر ويأمرونه بالمعروف ، منهم :

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٤٤.

٤٤٨

عبد الله بن مسعود ، وهو الحافظ لكتاب الله ، والكاتب الضابط للقرآن الكريم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يحظى عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعند الشيخين باحترام وافر.

وذكر ابن خلدون في تاريخه أنّ عمر بن الخطّاب في أيّام خلافته وحكومته كان يقرّب عبد الله بن مسعود ولا يفارقه أبدا ، لأنّه كان ذا اطّلاع كامل على القرآن ، وقد روى المحدّثون أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّه ، ذكرها ابن أبي الحديد أيضا في شرح النهج.

وذكر المؤرّخون : أنّ عثمان لمّا أراد أن يجمع المصاحف أمر بأخذ النسخ الموجودة عند الأصحاب ، ومنها النسخة التي كانت عند عبد الله ابن مسعود ، إذ كان من كتّاب الوحي ومحلّ ثقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ ابن مسعود أبا أن يعطيه نسخته ، فذهب عثمان بنفسه إلى بيت ابن مسعود وأخذ نسخته قهرا ، فلمّا سمع ابن مسعود أنّ نسخته احرقت مع سائر النسخ ، حزن حزنا شديدا وكان حينذاك بالكوفة ، فبدأ يطعن في عثمان ، ويكشف الستّار عن أعماله المخالفة لسنّة النبيّ والقرآن وسيرة الشيخين.

وكان الجواسيس يخبرون الوليد بن عقبة والي الكوفة ، فكتب فيه الوليد إلى عثمان ، فأمره أن يبعثه إلى المدينة.

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٤٣ ـ عن الواقدي وغيره ـ : إنّ ابن مسعود دخل المدينة ليلة الجمعة ، فلمّا علم عثمان بدخوله قال : أيّها الناس ، إنّه قد طرقكم الليلة دويبة ، من تمشي على طعامه يقيء ويسلح.

فقال ابن مسعود : لست بدويبة ، ولكنّي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٤٤٩

يوم بدر ، وصاحبه يوم أحد ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم حنين.

وصاحت عائشة : يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فقال عثمان : اسكتي ؛ ثمّ قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود : أخرجه إخراجا عنيفا!

فأخذه ابن زمعة ، فاحتمله حتّى جاء به باب المسجد ، فضرب به الأرض ، فكسر ضلعا من أضلاعه.

فقال ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.

وفي رواية : أنّ ابن زمعة كان مولى لعثمان ، أسود مسدما طوّالا.

وقال ابن أبي الحديد في صفحة ٤٤ : وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظيّ : أنّ عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا ، لأنّه قام بتجهيز أبي ذرّ الغفاري ودفنه.

قال : وهذه قصّة اخرى ، ثمّ يذكرها بالتفصيل.

أقول : الله أكبر! وهل دفن مؤمن كأبي ذرّ ، يستوجب التعزيز والتعذيب؟!

وقال ابن أبي الحديد في صفحة ٤٢ و ٤٣ : ولمّا مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه ، أتاه عثمان عائدا.

فقال : ما تشتكي؟

فقال : ذنوبي.

قال : ما تشتهي؟

قال : رحمة ربّي.

قال : ألا أدعو لك طبيبا؟

٤٥٠

قال : الطبيب أمرضني.

قال : أفلا آمر لك بعطائك؟

قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطنيه وأنا مستغن عنه!

قال : يكون لولدك.

قال : رزقهم على الله تعالى.

قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن.

قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك حقّي!

وقال ابن أبي الحديد في صفحة ٤٢ : وقد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة ، أنّه كان يقول : ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب.

قال ابن أبي الحديد : وتعاطي ما روي عنه في هذا الباب يطول ، وهو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه ، وإنّه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة ، أن قال لما حضره الموت : من يتقبّل منّي وصيّة اوصيه بها على ما فيه!

فسكت القوم ، وعرفوا الذي يريد.

فأعادها ، فقال عمار بن ياسر رحمه‌الله تعالى : أنا أقبلها.

فقال ابن مسعود : ألاّ يصلّي عليّ عثمان.

قال : ذلك لك.

فيقال : إنّه لمّا دفن ، جاء عثمان منكرا لذلك ، فقال له قائل : إنّ عمارا ولي الأمر.

فقال لعمار : ما حملك على أن لم تؤذنّي؟!

فقال : عهد إليّ ألاّ أؤذنك.

٤٥١

فوقف على قبره وأثنى عليه. ثمّ انصرف وهو يقول : رفعتم والله أيديكم عن خير من بقي.

فتمثل الزبير بقول الشاعر :

لا ألفينّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي

إيذاؤه عمّار بن ياسر

ومن أعمال عثمان الثابتة عليه ، ولم ينكره أحد من المؤرّخين ، وهو خلاف العدل والرحمة ، وظلم ظاهر ، لم يرض به المؤمنون ، ولو كان أبو بكر وعمر حيّين لأنكرا عليه وانتقما منه :

ضربه وإيذاؤه عمّار بن ياسر ، الصحابي الجليل الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عمّار ملئ إيمانا من قرنه إلى قدميه». وشهد له ولأبويه بالجنّة ، بل قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ الجنّة تشتاق إليه».

وكان السبب في ضربه امورا ، منها كما نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٥٠ قال : وروى آخرون ، أنّ السبب في ذلك ، أنّ عثمان مرّ بقبر جديد ، فسأل عنه. فقيل : عبد الله بن مسعود. فغضب على عمّار لكتمانه إيّاه موته ، إذ كان المتولّي للصلاة عليه والقيام بشأنه ، فعندها وطئ عثمان عمّارا حتّى أصابه الفتق.

قال ابن أبي الحديد في صفحة ٥٠ : وروى آخرون ، أنّ المقداد وعمّارا وطلحة والزبير وعدّة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتبوا كتابا ، عدّدوا فيه أحداث عثمان ، وخوّفوه به ، وأعلموه أنّهم مواثبوه إن لم يقلع.

٤٥٢

فأخذ عمّار الكتاب فأتاه به ، فقرأ منه صدرا ثمّ قال له : أعليّ تقدم من بينهم!

فقال : لأنّي أنصحهم لك.

قال : كذبت يا ابن سميّة!

فقال : أنا والله ابن سميّة وابن ياسر!

فأمر عثمان غلمانا له ، فمدّوا بيديه ورجليه ، ثمّ ضربه عثمان برجليه ـ وهي في الخفين ـ على مذاكيره ، فأصابه الفتق ، وكان ضعيفا كبيرا فغشي عليه.

قال ابن أبي الحديد في صفحة ٤٩ : ثمّ أخرج فحمل حتّى أتي به منزل أمّ سلمة (رضي الله عنها) ، فلم يصلّ الظهر والعصر والمغرب ، فلمّا أفاق توضّأ وصلّى.

ومن أحبّ التفصيل ، فليراجع مروج الذهب ١ / ٤٣٧ ، وشرح النهج ـ لابن أبي الحديد ـ الجزء الثالث ، طبع دار إحياء التراث العربي.

إيذاؤه أبا ذرّ الغفاري

ومن أسباب ثورة المسلمين على عثمان ، إيذاؤه أبا ذرّ ونفيه إلى الشام ، لكنّ أبا ذر لم يسكت ، بل كان يتكلّم في مظالم عثمان ومآثم معاوية بن أبي سفيان ، عامله على الشام ، فكتب معاوية إلى عثمان يخبره عن كلام أبي ذرّ ، فطلبه عثمان واستردّه إلى المدينة ، فلما وصل إليها ، نفاه إلى الرّبذة مع عياله ، فبقي هناك حتّى وافاه الأجل ، فمات مقهورا ، مغلوبا على أمره ، وخلّف ابنته وحيدة فريدة من غير وال

٤٥٣

وحام في ذلك المكان الموحش.

وذكر إساءة عثمان وإيذاءه لأبي ذرّ ، صحابي رسول الله كثير من أعلامكم ، منهم : ابن سعد في طبقاته ٤ / ١٦٨ ، والبخاري في صحيحه في كتاب الزكاة ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٥٤ ـ ٥٨ ، واليعقوبي في تاريخه ٢ / ١٤٨ ، والمسعودي في مروج الذهب ١ / ٤٣٨ ، وغيرهم من المؤرّخين فقد ذكروا تفصيل معاملة عثمان السيّئة ، وكذلك عمّاله المجرمين وإساءتهم لأبي ذرّ الطيّب الصادق ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

حتّى إنّ عثمان أهان الإمام عليّا عليه‌السلام لأنّه شايع أبا ذرّ حين تبعيده إلى الربذة ، فخرج لتوديعه مع الحسنين عليهما السّلام ، وذكروا كذلك أنّ عثمان ضرب عبد الله بن مسعود أربعين سوطا لأنّه تولّى دفن أبي ذرّ عليه الرحمة (١).

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٤٤ ط بيروت دار إحياء التراث العربي :

وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي ، أنّ عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذرّ! وهذه قصّة أخرى ؛ وذلك أنّ أبا ذرّ رحمه‌الله تعالى ، لمّا حضرته الوفاة بالرّبذة ، وليس معه إلاّ امرأته وغلامه ، عهد إليهما أن غسّلاني ثمّ كفّناني ، ثمّ ضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمرّون بكم قولوا لهم : هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعينونا على دفنه ؛ فلمّا مات فعلوا ذلك.

وأقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين ، فلم يرعهم إلاّ الجنازة على قارعة الطريق ، قد كادت الإبل تطؤها ، فقام إليهم العبد فقال : هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعينونا على دفنه.

فانهلّ ابن مسعود باكيا ، وقال : صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له «تمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك».

ثمّ نزل هو وأصحابه ، فواروه. «المترجم»

٤٥٤

الحافظ : إيذاء أبي ذرّ عليه الرحمة ونفيه لم يصدر من عثمان ، وإنّما كان بأمر بعض عمّاله ومن غير علمه ، وإلاّ فإنّ عثمان أجلّ من هذه الأعمال ، والمشهور أنّه كان رحيما شفيقا يحمل بين جنبيه قلبا رقيقا.

قلت : إنّ كلامك هذا خلاف الواقع ، وقد صدر من غير تحقيق ، فإنّ التاريخ يؤكّد أنّ الأوامر الصادرة في تبعيد أبي ذر إنّما كانت من نفس عثمان إلى عماله ، وهم قاموا بكلّ ما فعلوا ، تنفيذا لأوامره!

وإذا أردت أن تعرف حقيقة الأمر ، فراجع تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٤١ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٥٥ ، وغيرهما ، فقد سجّلوا كتاب عثمان إلى معاوية ـ وهو عامله على الشام ـ فقد كتب فيه : أمّا بعد ، فاحمل جندبا إليّ على أغلظ مركب وأوعره.

فوجّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف ليس عليها إلاّ قتب ، حتّى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.

فبالله عليكم أنصفوا! هل هذا معنى الرحمة الرّأفة مع شيخ كبير طاعن في السنّ كأبي ذرّ رحمه‌الله تعالى!! (١).

__________________

(١) كان أبو ذرّ عليه الرحمة رجلا صريحا يجهر بالحقّ ولا يسكت على الباطل. فكان ينكر على عثمان تصرّفه في بيت المال وإعطاءه أموال المسلمين لمن لا يستحقّ ، فكان يتلو قول الله تعالى : (... وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (سورة التوبة ، الآية ٣٤) فأرسل عثمان نائلا مولاه إلى أبي ذرّ : أن انته عمّا يبلغني عنك!

فقال : أينهاني عثمان عن تلاوة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله! فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه.

٤٥٥

ولا أدري لم استحقّ هذا الرجل الكريم ذلك الظلم العظيم؟!

وكيف نسي عثمان منزلة أبي ذرّ ورتبته السامية عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وكيف نسي حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّه حين أعلم المسلمين فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ الله أمرني بحبّ أربعة ، وأخبرني أنّه يحبّهم».

قالوا : يا رسول الله! ومن هم؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عليّ منهم ـ ثلاثا ـ ثمّ قال : وأبو ذرّ ومقداد وسلمان».

ذكر هذا الحديث كثير من أعلامكم ، منهم : الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ١ / ١٧٢ ، وابن ماجة في السنن ١ / ٦٦ ، والحافظ سليمان القندوزي في ينابيع المودّة : الباب ٥٩ ، وابن حجر المكّي في «الصواعق المحرقة» الحديث الخامس من الأربعين حديثا في فضل الإمام عليّ عليه‌السلام عن الترمذي والحاكم ، وابن حجر العسقلاني في الإصابة ٣ / ٤٥٥ ،

__________________

فأغضب عثمان ذلك ، ونفاه إلى الشام ، فكان أبو ذرّ في الشام ، ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار ، فقال أبو ذرّ : إن كانت هذه من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها ، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها ؛ وردّها عليه.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال أبو ذرّ : يا معاوية ، إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهو الإسراف.

قال ابن أبي الحديد في ٣ / ٥٥ : وكان أبو ذرّ رحمه‌الله تعالى يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّا يطفأ ، وباطلا يحيا ؛ وصادقا مكذّبا ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه ... إلى آخره.

«المترجم»

٤٥٦

والترمذي في صحيحه ٢ / ٢١٣ ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ٢ / ٥٥٧ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ ، والسيوطي في «الجامع الصغير» وغير هؤلاء من علمائكم الموثوقين لديكم.

فهل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعذر عثمان؟! هل يعذره في تلك المعاملات السيّئة التي عامل بها حبيبه وصاحبه أبا ذرّ الذي أمره الله تعالى بحبّه؟!!

هل هذه الأعمال البربرية ، تصدر من ذي رحمة ورأفة ، أم من ذي صلابة وقسوة؟!!

الحافظ : إنّما لاقى أبو ذر عقاب أعماله! لأنّه كان في الشام يدعو الناس لعليّ كرّم الله وجهه ، وكان يقول علانية : بأنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عليّ خليفتي فيكم» فكان يعرّض بعثمان والشيخين ، بأنّهم غصبوا الخلافة من عليّ بن أبي طالب ، فكان بهذه الكلمات يوقع الخلاف بين المسلمين في الشام ، فيشتّت آراءهم بعد أن كانوا على رأي واحد ؛ والخليفة مسئول على حفظ الدين ووحدة الكلمة واتّحاد المسلمين ، ولم يكن بدّ لعثمان من طلب إرجاعه إلى المدينة ، ليجعله تحت نظره ويراقب أمره.

قلت :

أوّلا : كان في المدينة تحت نظره ولكن أبعده إلى الشام ثمّ استردّه إلى المدينة!

ثانيا : وهل الإسلام يخالف بيان الحقّ؟!

وهل من العدل والدين أنّ من صدع بالحقّ يجب أن ينفى ويعذّب حتّى يموت صبرا؟!!

٤٥٧

ثالثا : وعلى فرض أن يكون من حقّ الخليفة أن يجعل من يحبّ تحت نظره ويراقب أموره ، فهل من حقّه أيضا أن يصدر حكما قاسيا في حقّ المتّهم ، قبل أن يراه ويحاكمه ويسمع كلامه ودفاعه عن نفسه؟!

وهل يسمح الدين القويم والعقل السليم للخليفة ، أو لأيّ حاكم ، أن يحكم على متّهم ـ قبل ثبوت الجرم ـ وهو شيخ كبير مسنّ ضعيف نحيف ، بحكم لا يطيقه ولا يتحمّله؟! كما حكم عثمان وأمر في كتابه لمعاوية : أن احمل جندبا ـ يعني : أبا ذرّ ـ على أغلظ مركب وأوعره من غير قتب!! فلما وصل المدينة تساقط لحم فخذيه من الجهد.

فهل هذا بحكم العدل والرحمة؟! وهل هذا من المروءة والرأفة؟!!

وإذا كان عثمان يريد وحدة الكلمة واتّحاد المسلمين فقام بتبعيد أبي ذرّ رحمه‌الله تعالى لكي لا تشقّ عصا المسلمين ، فلما ذا اختلف المسلمون على عهده وانشقّت عصاهم ، وثاروا على عثمان وقتلوه؟!!

فالمنصف المحقّق يعرف إنّما اختلف المسلمون وثاروا على عثمان وخلعوه ، بسبب ارتكابه تلك الأعمال المخالفة للإسلام والعرف!

وإذا كان الخليفة كما تزعمون ، حريصا على وحدة الكلمة واتّحاد المسلمين ، فكان يجب عليه أن يلبّي طلبات الثائرين ، وكلّها كانت أمورا شرعية وعرفية ، ومن أهمّها أنّهم كانوا يطالبوه بعزل بعض عمّاله المفسدين الظالمين ، وإبعاد حاشيته ، أمثال : مروان طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوليد بن عقبة الفاسق ، ومعاوية الفاجر ، الّذين لعنوا في القرآن الكريم وعلى لسان النبيّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الحافظ : من أين نعرف أنّ أبا ذر كان صادقا ، وبالحقّ ناطقا ،

٤٥٨

فنحن نقول : إنّه كان يجعل الأحاديث على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كما أنتم تقولون في أبي هريرة!

أبو ذر أصدق الناس

إنّي أستغرب كلامك ، فكأنّك لم تطالع تاريخ أبي ذر رحمه‌الله ولو لمرّة واحدة ، وإلاّ ما كنت تتكلّم بهذا الكلام الواهي ، فإنّ كلامك هذا يناقض كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويخالف حديثه الشريف في حقّ أبي ذرّ إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما أقلّت الغبراء وما أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر».

وهذا حديث مشهور ، نقله أعلامكم ومحدّثوكم ، منهم : محمد ابن سعد في طبقاته ٤ / ١٦٧ و ١٦٨ ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ١ / ٨٤ باب جندب ، والترمذي في صحيحه ٢ / ٢٢١ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٣٤٢ ، وابن حجر العسقلاني في الإصابة ٣ / ٦٢٢ ، والمتّقي الهندي في كنز العمّال ٦ / ١٦٩ ، والإمام أحمد في المسند ٢ / ١٦٣ و ١٧٥ ، وابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ / ٥٦ ط بيروت ـ دار إحياء التراث العربي ، والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ، وفي كتاب «لسان العرب» وكتاب «ينابيع المودّة» فقد رووه بأسانيد كثيرة وطرق عديدة.

بناء على هذا الحديث الشريف ، لا يحقّ لكم أن تنسبوا الكذب لأبي ذرّ رحمه‌الله تعالى ، لأنّ تكذيبه يكون تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو كفر!

ولذلك ، فنحن نعتقد أنّ كلّ ما أعلنه أبو ذر صدق محض ، وحقّ

٤٥٩

بحت ، وليس لنا ولكم إلاّ التصديق والقبول.

وبناء على الحديث الآخر الذي رويته لكم قبل هذا ، عن أعلامكم وطرقكم ، بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ الله تعالى أمرني بحبّ أربعة ... كان أبو ذر أحدهم ، ومن الواضح أنّ الله سبحانه لا يأمر نبيّه بحبّ رجل كاذب يجعل الحديث وينسبه الى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعياذ بالله!

ثمّ أقول : لو كان لبان ، أي : لو كان أبو ذرّ كاذبا لكان علماؤكم بيّنوا أكاذيبه وأعلنوا كذبه ، كما بيّنوا أباطيل أبي هريرة وأكاذيبه.

بالله عليكم فكّروا في هذه الحقائق وأنصفوا!

هل من الحقّ والعدل ومن الرحمة والرأفة : أنّ رجلا من خواصّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن المقرّبين لديه ، والذي حبّه فرض من الله عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أصدق الامّة ، بل أصدق إنسان على وجه الغبراء وتحت السماء ، يعامل تلك المعاملات السيّئة ، فيعذّب وينفى إلى صحراء قاحلة ، فيموت فيها جوعا وعطشا!! لأنّه عمل بواجبه فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وصدع بالحق وأعلن الحقيقة؟!!

والجدير بالذكر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بابتلائه ومصابه في الله تعالى ، فقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء ١ / ١٦٢ بإسناده عن أبي ذرّ الغفاري أنّه قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال «أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي.

قلت : في الله؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في الله.

قلت : مرحبا بأمر الله».

٤٦٠