ليالي بيشاور

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي

ليالي بيشاور

المؤلف:

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي


المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١

وإذا كان إيمانه في الصغر لا يعدّ فضيلة ، فلما ذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينوّه به ويشير إليه؟! وما ذلك إلاّ ليسجل له فضيلة اخرى ، تضاف إلى فضائله الجمّة؟!

فقد روى الحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودّة» الباب السادس والخمسين ، عن محبّ الدين الطبري المكّي في كتابه «ذخائر العقبى» بسنده عن عمر بن الخطّاب ، أنّه قال :

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة وجماعة إذ ضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكب عليّ فقال «يا عليّ! أنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى».

وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عبّاس ، أنّه قال :

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح وجماعة من الصحابة عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ ضرب على منكب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال «أنت أوّل المسلمين إسلاما ، وأنت أوّل المؤمنين إيمانا ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، كذب يا عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك».

ورواه ابن الصبّاغ المالكي عن ابن عبّاس أيضا في الفصول المهمّة : ١٢٥ :

وروى الإمام أحمد بن شعيب بن سنان النسائي في «الخصائص» وموفّق بن أحمد الخطيب الخوارزمي في (المناقب) مختصرا ، وابن عساكر في تاريخه مختصرا ، وأخرجه المتّقي الهندي في كنز العمال : ٦ / ٣٩٥ ، وهذا نصّه :

من مسند عمر ، عن ابن عبّاس [قال :] قال عمر بن الخطّاب : كفّوا عن ذكر عليّ بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول

٣٨١

في عليّ ثلاث خصال ، لأن يكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح ونفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبيّ متّكئ على عليّ بن أبي طالب ، حتّى ضرب بيده على منكبه ثم قال «أنت يا عليّ أوّل المؤمنين إيمانا ، وأوّلهم إسلاما ، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، وكذب عليّ من زعم أنّه يحبّني ويبغضك».

وفي رواية ابن الصبّاغ المالكي أضاف «من أحبك فقد أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنّة ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله تعالى وأدخله النار (١)».

وروى الطبري في تاريخه عن محمد بن سعد بن أبي وقّاص ، قال : سألت أبي : هل إنّ أبا بكر أوّل من آمن بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

فقال : لا ، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلا ، ولكنّه كان أفضل منّا في الإسلام.

وذكر الطبري أيضا فقال : ولقد أسلم قبل عمر بن الخطّاب خمسة وأربعون رجلا وإحدى وعشرون امرأة ، ولكن أسبق الناس إسلاما وإيمانا فهو عليّ بن أبي طالب.

__________________

(١) روى الحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودّة» الباب الثاني عشر ، عن الحمويني بسنده عن أبي رافع ، عن أبي ذرّ ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي «أنت أوّل من آمن بي ، وأنت أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وأنت الصدّيق الأكبر ، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحقّ والباطل ، وأنت يعسوب المسلمين ، والمال يعسوب الكفّار».

«المترجم»

٣٨٢

ميزة إيمان عليّ عليه‌السلام

ثمّ إنّ لإيمان عليّ عليه‌السلام ميزة على إيمان غيره ، وهي أنّ إيمانه عليه‌السلام كان عن فطرة غير مسبوق بكفر أو شرك ، فإنّه بدأ حياته التكليفيّة بالإيمان ولم يشرك بالله سبحانه طرفة عين ، بينما الآخرون بدءوا بالكفر والشرك ثمّ آمنوا ، فكان إيمانهم مسبوقا بالكفر والشرك ، وإيمان الإمام علي عليه‌السلام كان عن فطرة ، وهو فضيلة عظيمة وميزة كريمة امتاز بها عن غيره.

لذا قال الحافظ أبو نعيم في كتابه «ما نزل من القرآن في عليّ عليه‌السلام» والمير السيّد عليّ الهمداني في كتابه «مودّة القربى» نقلا عن ابن عبّاس أنّه قال : والله ما من عبد آمن بالله إلاّ وقد عبد الصنم ، إلاّ عليّ بن أبي طالب ، فإنّه آمن بالله من غير أن يعبد صنما.

وروى محمد بن يوسف الكنجي القرشي في «كفاية الطالب» الباب الرابع والعشرين ، بإسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال «سبّاق الامم ثلاثة لم يشركوا بالله طرفة عين : عليّ بن أبي طالب ، وصاحب ياسين ، ومؤمن آل فرعون ؛ فهم الصدّيقون ، حبيب النجّار «مؤمن» أو صاحب ياسين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم (١)».

__________________

(١) وذكر ابن أبي الحديد رواية أبي جعفر الإسكافي بسنده عن ابن عبّاس ، قال :«السبّاق ثلاثة : سبق يوشع بن نون إلى موسى ، وسبق صاحب يس إلى عيسى ، وسبق عليّ بن أبي طالب الى محمّد عليه و:».

٣٨٣

وفي «نهج البلاغة» قال علي عليه‌السلام «فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة».

وروى الحافظ أبو نعيم وابن أبي الحديد وغيرهما ، أنّ عليا عليه‌السلام لم يكفر بالله طرفة عين.

وروى الإمام أحمد في المسند ، والحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودّة» عن ابن عبّاس ، أنّه قال لزمعة بن خارجة : إنّه [عليّا] لم يعبد صنما ، ولم يشرب خمرا ، وكان أوّل الناس إسلاما.

وأخيرا أتوجّه إلى من يقول بأنّ إيمان الشيخين أفضل من إيمان عليّ عليه‌السلام فأسأله : أما سمع الحديث النبوي الشريف الذي رواه كبار علماء العامّة ، منهم : ابن المغازلي في المناقب ، والإمام أحمد في المسند ، والخطيب الخوارزمي في المناقب ، والحافظ سليمان الحنفي في «ينابيع المودة» وغيرهم ، رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال «لو وزن إيمان علي وإيمان أمّتي لرجح إيمان علي على إيمان أمّتي إلى يوم القيامة».

وروى الإمام الثعلبي في تفسيره ، والخوارزمي في المناقب ، والمير السيّد عليّ الهمداني في المودّة السابعة من كتابه «مودّة القربى» عن عمر بن الخطّاب ، قال : أشهد أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول «لو أنّ السموات السبع والأرضين السبع وضعن في كفّة ميزان ووضع إيمان

__________________

ثمّ يروي عن الشعبي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام «هذا أوّل من آمن بي وصدّقني وصلّى معي».

شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٥ ط دار إحياء التراث العربي.

«المترجم»

٣٨٤

عليّ في كفّة ميزان لرجح إيمان علي (١)».

وفي ذلك يقول سفيان بن مصعب الكوفي :

«أشهد بالله لقد قال لنا

محمد والقول منه ما خفى

لو أن إيمان جميع الخلق ممّن

سكن الأرض ومن حلّ السما

يجعل في كفّة ميزان لكي

يوفي بإيمان عليّ ما وفى»

عليّ عليه‌السلام أفضل الأمّة

روى المير السيد عليّ الهمداني ، الفقيه الشافعي ، في كتابه «مودّة القربى» أخبارا متظافرة في أفضلية الإمام عليّ عليه‌السلام على جميع الصحابة ، بل على جميع الأمّة.

قال في المودّة السابعة : عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

__________________

(١) لقد روى هذا الخبر والحديث عن عمر بن الخطّاب ، جمع من العلماء والمحدّثين من أهل السنّة ، منهم :

محب الدين الطبري في الرياض النضرة ٢ / ٢٢٦ ، وذكره في ذخائر العقبى ص ١٠٠ أيضا ، والمتّقي الحنفي في كنز العمّال ٦ / ١٥٦ نقله من «فردوس الأخبار» للديلمي ، عن ابن عمر.

ومنهم العلاّمة الكنجي القرشي الشافعي في كتابه «كفاية الطالب» الباب الثاني والستين في تخصيص عليّ عليه‌السلام بمائة منقبة دون سائر الصحابة ، روى بسنده عن عمر بن الخطّاب ، وفي تعليقه قال : هذا حديث حسن ثابت ، رواه الجوهري في كتاب «فضائل علي عليه‌السلام» عن شيخ أهل الحديث الدارقطني ، وأخرجه محدّث الشام في تاريخه في ترجمة عليّ عليه‌السلام ، كما أخرجناه سواء.

ومنهم العلاّمة الصفوري الشافعي ، رواه في كتابه نزهة المجالس ٢ / ٢٤٠ ط مصر سنة ١٣٢٠ هجرية. «المترجم»

٣٨٥

«أفضل رجال العالمين في زماني هذا عليّ عليه‌السلام (١)».

__________________

(١) وفي المصدر نفسه ، في المودّة السابعة أيضا في الخبر الأوّل ، رواه عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام عن ابن عمر ، في خبر طويل عن سلمان ، قال في آخره : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له :. «. وإنّي أوصيت إلى عليّ عليه‌السلام ، وهو أفضل من أتركه بعدي».

وروى أيضا في المودّة السابعة عن أنس ، قل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّ أخي ، ووزيري ، وخليفتي في أهلي ، وخير من أترك بعدي ، يقضي ديني ، وينجز موعدي ، عليّ بن أبي طالب».

وروى كثير من أعلام العامة خبرا بهذا المعنى ، منهم : العلامة الكنجي القرشي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الثاني والستين ، ص ١١٩ ، ط الغري سنة ١٣٥٦ ه‍ بسنده عن عطاء ، قال : سألت عائشة عن عليّ عليه‌السلام ، فقالت : ذلك خير البشر ، لا يشكّ فيه إلاّ كافر.

قال : هكذا ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة عليّ عليه‌السلام في تاريخه في المجلّد الخمسين.

وخرّجه الكنجي الشافعي عن طرق عديدة في نفس الصفحة ؛ منهم : الإمام عليّ عليه‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من لم يقل عليّ خير البشر فقد كفر».

وعن حذيفة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «عليّ خير البشر ، من أبى فقد كفر».

وعن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر.

وخرّجه بهذا اللفظ ، الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» في ترجمة الإمام علي عليه‌السلام.

وخرّجه المناوي في «كنوز الحقائق» المطبوع بهامش «الجامع الصغير» للسيوطي ، ج ٢ / ٢٠ ـ ٢١ ، من سنن أبي يعلى ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ خير البشر من شكّ فيه كفر.

وخرّجه المتّقي في كنز العمال ٦ / ١٥٩ عن الإمام عليّ عليه‌السلام ، وعن ابن عبّاس ، وابن مسعود ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، فراجع.

والخير هنا بمعنى الأفضل.

«المترجم».

٣٨٦

وقال ابن أبي الحديد في مقدّمة شرح نهج البلاغة : ١ / ٩ : وأمّا نحن فنذهب إلى ما ذهب إليه شيوخنا البغداديّون ، من تفضيله عليه‌السلام ـ أي : عليّ ـ وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الفضل ، وهل المراد به الأكثر ثوابا ، أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة ، وبيّنا أنّه عليه‌السلام أفضل على التفسيرين معا.

وقال في ١١ / ١١٩ : وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبي جعفر الإسكافي ، ذكر فيه أنّ مذهب بشر بن المعتمر ، وأبي موسى ، وجعفر بن مبشّر ، وسائر قدماء البغداديين ، أنّ أفضل المسلمين عليّ بن أبي طالب ، ثمّ ابنه الحسن ، ثمّ ابنه الحسين ، ثمّ حمزة بن عبد المطّلب ، ثمّ جعفر بن أبي طالب ... إلخ.

وبعد نقله هذا القول ، وعدّه عقيدة المعتزلة ، ينظم فيه شعرا ، فيقول :

وخير خلق الله بعد المصطفى

أعظمهم يوم الفخار شرفا

السيّد المعظّم الوصي

بعد البتول المرتضى علي

وابناه ثمّ حمزة وجعفر

ثمّ عتيق بعدهم لا ينكر

الشيخ عبد السّلام : لو كنت تطالع أقوال العلماء في أفضلية أبي بكر (رض) ما كنت تتمسّك بغيره.

قلت : وأنتم إذا كنتم تتركون أقوال المتعصّبين وتأخذون بأقوال المنصفين من علمائكم الأعلام ، لرأيتم رأينا وتمسّكتم بقولنا في تفضيل الإمام عليّ عليه‌السلام.

ولكي تعرف دلائل وبراهين الطرفين أدلّك على مصدر واحد كنموذج ... راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٣ / ٢١٥ ـ

٣٨٧

٢٩٥ ، فإنّه ذكر في هذا الفصل من الكتاب كلام الجاحظ ، ودلائله على أفضلية صاحبكم ، أبي بكر ، وذكر ردّ أبي جعفر الإسكافي وهو من أفاضل علماء السنّة وكبار أعلام الأمّة وشيخ المعتزلة ، وذكر دلائله وبراهينه العقلية والنقلية في تفضيل الإمام عليّ عليه‌السلام على غيره من الامّة.

ومن جملة كلامه ـ في صفحة ٢٧٥ ـ يقول أبو جعفر الإسكافي : إنّنا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم ، ولسنا كالإمامية الّذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة (لقد أصدر علينا حكما غيابيا ولو كنّا لأجبناه) .. قال : ولكنّنا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام انتهى.

فنستفيد من مجموع الأخبار والأحاديث وأقوال العلماء والمحدّثين ، أنّ عليا عليه‌السلام لا يقاس به أحد من المسلمين. وأنّ مقامه أسمى وشأنه أعلى من الآخرين بمراتب ، فلا يمكن أن تقدّموهم عليه بنقل بعض الأحاديث الضعيفة السند أو الدلالة.

ثمّ لا ينكر أنّ عليا عليه‌السلام هو أبو العترة وسيّد أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا يقاس بأهل البيت أحد من الأمّة في الشأن والمرتبة ، فكيف بسيّدهم وعلمهم؟!

لقد روى المير السيد عليّ الهمداني الشافعي ، في المودّة السابعة من كتابه «مودّة القربى» عن أحمد بن محمد الكرزي البغدادي ، أنّه قال : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سألت أبي عن التفضيل.

فقال : أبو بكر وعمر وعثمان. ثمّ سكت.

٣٨٨

فقلت : يا أبة أين عليّ بن أبي طالب؟!

قال : هو من أهل البيت ، لا يقاس به هؤلاء!

وإذا نريد أن نفسّر كلام الإمام أحمد فنقول : يعني : أنّ عليا عليه‌السلام لا يذكر في عداد الصحابة ، بل هو في مقام النبوّة والإمامة.

ونجد خبرا آخر في المودّة السابعة أيضا بهذا المعنى ، رواه عن أبي وائل ، عن ابن عمر ، قال : كنّا إذا عددنا أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلنا : أبو بكر وعمر وعثمان.

فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن! فعليّ ما هو؟!

قال : عليّ من أهل البيت لا يقاس به أحد ، هو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في درجته ، إنّ الله تعالى يقول : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ...) (١).

ففاطمة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في درجته وعليّ معهما (٢).

__________________

(١) سورة الطور ، الآية ٢١.

(٢) لقد وردت أخبار كثيرة في أنّ أهل البيت عليهم‌السلام لا يقاس بهم أحد ، منها ما في «ذخائر العقبى» لمحبّ الدين الطبري ، ص ١٧ ، فإنّه قال تحت عنوان (إنّهم لا يقاس بهم أحد) قال : وعن أنص ، قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد».

وأخرج هذا الحديث أيضا عبيد الله الحنفي في كتاب «أرجح المطالب» ص ٣٣٠ ، غير إنّه قال : أخرجه ابن مردويه في «المناقب».

وفي نفس الصفحة قال : قال عليّ عليه‌السلام على المنبر :

«نحن أهل بيت رسول الله لا يقاس بنا أحد».

أخرجه الديلمي أيضا في «فردوس الأخبار» وأخرجه عن الديلمي علي المتّقي الحنفي في كنز العمّال ٦ / ٢١٨.

وفي نهج البلاغة في آخر الخطبة التي تقع قبل الخطبة الشقشقية ، قال الإمام

٣٨٩

وكان هذا الأمر واضحا وضوح الشمس في الضحى ، وكان من المسلّمات ، ولذا نرى في المودّة السابعة أيضا خبرا بهذا المعنى ، رواه عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم يحضر المهاجرون والأنصار ـ كذا ـ «يا عليّ! لو أنّ أحدا عبد الله حق عبادته ، ثمّ شكّ فيك وأهل بيتك ، أنّكم أفضل الناس ، كان في النار!!» انتهى.

لمّا سمع أهل المجلس هذا الخبر استغفر أكثرهم الله ، وبالخصوص الحافظ محمد رشيد. استغفروا الله ، لأنّهم كانوا يظنّون أفضليّة الآخرين!

هذه نماذج من الأخبار الكثيرة في تفضيل الإمام علي عليه‌السلام على الصحابة والمسلمين عامة ، وأضف عليها الحديث النبوي الشريف الذي رواه علماء الفريقين في يوم الخندق ومعركة الأحزاب ، حينما قتل الإمام عليّ عليه‌السلام بطل الأحزاب وقائدهم وحامل لوائهم عمرو بن عبد ود العامري وانهزم المشركون وانتصر المسلمون ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

فاذا كان عمل واحد من مولانا الإمام عليّ عليه‌السلام هو أفضل من عبادة الجنّ والإنس ، فكيف بأعماله كلّها ، من الجهاد في سبيل الله ، وتحمّل الأذى في جنب الله ، وصلاته ، وصومه ، وإنفاقه الصدقات ،

__________________

عليّ عليه‌السلام «لا يقاس بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء القالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ...».

«المترجم»

٣٩٠

ورعايته الأرامل والأيتام في طول حياته المباركة؟!

فلا أرى أحدا مع ما ذكرناه ، ينكر تفضيل الإمام عليّ عليه‌السلام على غيره ، إلاّ المعاند.

عليّ عليه‌السلام أفضل بدليل المباهلة

قال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (١).

اتّفق المفسّرون ، وأجمع المحدّثون ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثل أمر الله عزّ وجلّ في الآية الكريمة فأخذ معه الحسن والحسين عليهم‌السلام تطبيقا لأبنائنا ، وأخذ فاطمة الزّهراء عليها‌السلام تطبيقا لكلمة نسائنا ، وأخذ الإمام عليّا عليه‌السلام ، تطبيقا لكلمة أنفسنا.

ومن الواضح الذي لا يشكّ فيه إلاّ كافر ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الأوّلين والآخرين ، وخير الخلق ، وأفضل الخلائق ، وبحكم كلمة (أَنْفُسَنا) حيث جعل الله تعالى عليّا عليه‌السلام في درجة نفس النبيّ ، فصار هو كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفضل ، وأصبح خير الخلق ، وأفضل الخلائق (٢).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦١.

(٢) لقد وردت أحاديث كثيرة عن طرق الشيعة والسنّة في أنّ عليا عليه‌السلام كنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونكتفي هنا بنماذج ممّا رواه علماء العامة ..

نقل الحافظ سليمان الحنفي في كتابه «ينابيع المودة» في الباب السابع ، قال : أخرج أحمد بن حنبل في المسند وفي المناقب ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «لتنتهينّ يا بني وليعة

٣٩١

__________________

أو لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي ، يمضي فيكم بأمري ، يقتل المقاتلة ، ويسبي الذرّيّة. فالتفت إلى علي عليه‌السلام فأخذ بيده وقال : هو هذا. مرّتين».

قال الحافظ سليمان : أيضا أخرجه موفّق بن أحمد الخوارزمي المكّي بلفظه.

أقول : وأخرجه العلاّمة الكنجي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الحادي والسبعين ، وقال : نقله عن «خصائص عليّ عليه‌السلام» لإمام أهل الجرح والتعديل الحافظ : النسائي ، وهو بسنده عن أبي ذرّ ... إلى آخره.

ونقل الحافظ سليمان أيضا في نفس الباب والمصدر ، قال : أخرج أحمد في «المسند» عن عبد الله بن حنطب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد ثقيف حين جاءوه : «لتسلمنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا كنفسي ليضربنّ أعناقكم ، وليسبينّ ذراريكم ، وليأخذنّ أموالكم ؛ فالتفت إلى عليّ وأخذ بيده فقال : هو هذا مرتين».

وذكر الحافظ سليمان في آخر الباب خبرا ننقله بعينه إتماما للفائدة ، قال :

وفي «المناقب» عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في عليّ خصالا لو كانت واحدة منها في رجل اكتفى بها فضلا وشرفا :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [«من كنت مولاه فعليّ مولاه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ منّي كهارون من موسى.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ منّي وأنا منه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي منّي كنفسي ، طاعته طاعتي ، ومعصيته معصيتي.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حرب عليّ حرب الله ، وسلم عليّ سلم الله.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وليّ عليّ وليّ الله ، وعدوّ عليّ عدوّ الله.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ حجة الله على عباده.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حبّ عليّ إيمان ، وبغضه كفر.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حزب عليّ حزب الله ، وحزب أعدائه حزب الشيطان.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ مع الحقّ ، والحقّ معه ، لا يفترقان.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي قسيم الجنّة والنار.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من فارق عليّا فقد فارقني ، ومن فارقني فقد فارق الله.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شيعة عليّ هم الفائزون يوم القيامة».]

انتهى كلامه ، رفع في الخلد مقامه.

«المترجم»

٣٩٢

فأذعنوا واعتقدوا أنّ مصداق (وَالَّذِينَ مَعَهُ) هو سيّدنا ومولانا عليّ عليه‌السلام الذي كان من أوّل عمره ، ومن أوّل البعثة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدعه في الملمّات ، وما تركه في الهجمات والطامّات ، بل كان ناصره وحاميه ، يقيه بنفسه ، ويدافع عنه بسيفه ، ويفديه بروحه.

حتّى إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارقت روحه الدنيا ورأسه في حجر الإمام عليّ عليه‌السلام كما قال في خطبة له في «نهج البلاغة» :

ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّي لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قطّ ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وتتأخّر الأقدام ، نجدة أكرمني الله بها.

ولقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي ، ولقد ولّيت غسله والملائكة أعواني ... حتّى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّي حيّا وميّتا؟!

ولمّا وصلنا إلى نهاية خطبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام صار وقت صلاة العشاء ... فقطعنا كلامنا .. وبعد ما أدّوا الصلاة شربوا الشاي وتناولوا الفواكه والحلوى ، ولمّا انتهوا بدأت أنا بالكلام فقلت : لقائل أن يقول : إذا كان علي عليه‌السلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ مواقفه ، فلما ذا لم يرافقه في الهجرة من مكّة إلى المدينة؟!

أقول : لأنّ عليا عليه‌السلام قام في مكّة بأعمال مهمّة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد ألقاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عاتقه وأمره أن ينفّذها ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعتمد على أحد يقوم مقامه ويقضي مهامّه غير الإمام عليّ عليه‌السلام ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما نعلم ـ كان أمين أهل مكّة ، حتّى إنّ الكفار والمشركين كانوا يستودعون عنده أموالهم ولا يعتمدون على غيره في استيداع

٣٩٣

أماناتهم وحفظها ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف بالصادق الأمين.

فخلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخاه وابن عمّه عليّا عليه‌السلام في مكّة ليردّ الودائع والأمانات إلى أهلها ، وبعد ذلك حمل معه بنت رسول الله وحبيبته فاطمة الزهراء التي كان يعزّ فراقها على أبيها ، وأخذ معه أمّه فاطمة بنت أسد وابنة عمّه فاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب وغيرهن فأوصلهنّ بسلام إلى المدينة المنوّرة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فضيلة المبيت على فراش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وإضافة إلى ما ذكرنا ، فإنّ عليّا عليه‌السلام إذا لم يدرك فضيلة مرافقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الهجرة ، فإنّه عليه‌السلام أدرك مقاما أسمى بالاستقلال لا بالتبع ، وهو مبيته على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلتبس الأمر على الأعداء ، فيخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بينهم بسلام.

فإذا كانت آية الغار تعدّ فضيلة لأبي بكر بأنّ حسبته ثاني اثنين ، فقد جعلته تابعا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير مستقلّ في كسب الفضيلة ، وإنّما حصّلها تبعا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بينما الإمام علي عليه‌السلام حينما بات على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزلت في شأنه آية كريمة سجّلت له فضيلة مستقلّة تعدّ من أعظم مناقبه ، وهي قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (١).

وقد ذكر جمع كثير من كبار علمائكم الأعلام والمحدّثين الكرام ،

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٠٧.

٣٩٤

خبرا هامّا بهذه المناسبة ، وإن كانت ألفاظهم مختلفة ولكنّها متقاربة والمعنى واحد ، ونحن ننقله من كتاب «ينابيع المودة» للحافظ سليمان الحنفي ، الباب الحادي والعشرين ، وهو ينقله عن الثعلبي وغيره.

قال الحافظ سليمان : عن الثعلبي في تفسيره ، وابن عقبة في ملحمته ، وأبو السعادات في فضائل العترة الطاهرة ، والغزّالي في إحياء العلوم ، بأسانيدهم ، عن ابن عبّاس وعن أبي رافع وعن هند بن أبي هالة ربيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أمّه خديجة أمّ المؤمنين رضي الله عنها ـ أنّهم قالوا :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل : إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ، فأيّكما يؤثر أخاه عمره ، فكلاهما كرها الموت ، فأوحى الله إليهما : إنّي آخيت بين عليّ وليّي وبين محمّد نبيّي ، فآثر عليّ حياته للنبيّ ، فرقد على فراش النبيّ يقيه بمهجته. اهبطا إلى الأرض واحفظاه من عدوّه.

فهبطا ، فجلس جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ، وجعل جبرائيل يقول : بخ بخ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، والله عزّ وجلّ يباهي بك الملائكة!»

فأنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي ...).

أقول : الّذين نقلوا هذا الخبر بألفاظ متقاربة وبمعنى واحد ، جمع كبير من أعلام العامة ، منهم : ابن سبع المغربي في كتابه «شفاء الصدور» والطبراني في الجامع الأوسط والكبير ، وابن الأثير في أسد الغابة ٤ / ٢٥ ، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة : ٣٣ ، والفاضل النيسابوري ، والإمام الفخر الرازي ، وجلال الدين السيوطي ، في

٣٩٥

تفاسيرهم للآية الكريمة ، والحافظ أبو نعيم في كتابه «ما نزل من القرآن في عليّ» والخطيب الخوارزمي في «المناقب». وشيخ الإسلام الحمويني في (الفرائد) والعلاّمة الكنجي القرشي الشافعي في «كفاية الطالب» الباب الثاني والستّين ، والإمام أحمد في «المسند» ومحمد بن جرير بطرق متعدّدة ، وابن هشام في «السيرة النبوية» والحافظ محدّث الشام في «الأربعين الطوال» والإمام الغزالي في إحياء العلوم ٣ / ٢٢٣ ، وأبو السعادات في «فضائل العترة الطاهرة» وسبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص : ٢١ ، وغير هؤلاء الأعلام.

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦٢ ـ ط دار إحياء التراث العربي ـ قول الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، قال : وقد روى المفسّرون كلّهم أن قول الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أنزلت في عليّ عليه‌السلام ليلة المبيت على الفراش.

فأرجو من الحاضرين ، وخاصّة العلماء الأفاضل ، أن يفكّروا في الآيتين بعيدا عن الانحياز إلى إحدى الجهتين ، فتدبّروا واستدلّوا ، وأنصفوا ، أيّهما أفضل وأكمل ، صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومرافقته أيّاما قليلة في سفر الهجرة ، أم مبيت الإمام علي عليه‌السلام على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقتحامه خطر الموت ، وتحمّله أذى المشركين ، ورميه بالحجارة طيلة الليل ، وهو يتضوّر ولا يكشف عن وجهه ، ليسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كيد الأعداء وهجومهم ، ومباهاة الله سبحانه ملائكته بمفاداة عليّ عليه‌السلام وإيثاره ، ثمّ نزول آية مستقلّة في شأنه ، أنصفوا أيّهما أفضل؟؟

ولا يخفى أنّ بعض علمائكم الأعلام أنصفوا فأعلنوا تفضيل الإمام عليّ عليه‌السلام على غيره ، وفضّلوا مبيته على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٩٦

على صحبة أبي بكر ومرافقته إيّاه في الهجرة ، منهم : الإمام أبو جعفر الإسكافي ـ وهو من أبرز وأكبر علماء ومشايخ أهل السنّة المعتزلة ـ في ردّه على أبي عثمان الجاحظ وكتابه المعروف بالعثمانية.

لقد تصدّى الإسكافي لنقضه بالبراهين العقلية والأدلّة النقلية ، وأثبت تفضيل الإمام عليّ عليه‌السلام على أبي بكر ، وفضّل المبيت على الصحبة ، ونقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢١٥ ـ ٢٩٥ ، فراجعه ، فإنّه مفيد جدّا.

وممّا يذكره الشيخ أبو جعفر في مقاله ، قال :

قال علماء المسلمين : «إنّ فضيلة عليّ عليه‌السلام تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها» شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٢٦٠.

وبعد كلام طويل ـ وكلّه مفيد ـ قال في صفحة ٢٦٦ و ٢٦٧ : قد بيّنا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة في الغار بما هو واضح لمن أنصف ، ونزيد هاهنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدّم فنقول : إنّ فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين :

أحدهما : إنّ عليا عليه‌السلام قد كان أنس بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم ، وإلف شديد ، فلمّا فارقه عدم ذلك الأنس ، وحصل به أبو بكر ، فكان ما يجده عليّ عليه‌السلام من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه ، لأنّ الثواب على قدر المشقّة.

وثانيهما : إنّ أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكّة ، وقد كان خرج من قبل فردا فازداد كراهيّته للمقام ، فلمّا خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وافق ذلك هوى قلبه ومحبوب نفسه ، فلم يكن له من الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقّة العظيمة وعرّض نفسه لوقع السيوف ورأسه

٣٩٧

لرضخ الحجارة ، لأنّه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب.

وعالم آخر من علمائكم وهو ابن سبع المغربي ، صاحب كتاب «شفاء الصدور» يقول فيه وهو يبيّن شجاعة سيّدنا الإمام علي عليه‌السلام : إنّ علماء العرب أجمعوا على أنّ نوم عليّ عليه‌السلام على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من خروجه معه ، وذلك أنّه وطّن نفسه على مفاداته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثر حياته ، وأظهر شجاعته بين أقرانه. انتهى.

فالموضوع واضح جدّا بحيث لا ينكره إلاّ من فقد عقله بالتعصّب الذي يعمي ويصمّ عن فهم الحقّ وإدراك الحقيقة!

أكتفي بهذا المقدار في إطار البحث حول جملة (وَالَّذِينَ مَعَهُ) وأمّا جملة (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) فقد قال الشيخ عبد السّلام : إنّ المراد منها والمقصود بها هو الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب.

فأقول : نحن لا نقبل الكلام بمجرّد الادّعاء ، من غير دليل. والأولى أن نطبّق العبارة على الشخص المشار إليه ، فندرس سيرته وحالاته ونعرف صفاته وأخلاقه ، فإذا تطابقت مع الآية الكريمة ، فحينئذ نسلّم ، وإذا لم تتطابق ، فنردّ ادّعاءكم وكلامكم ، ونثبت قولنا ورأينا بالدليل والبرهان.

فلنضع الجملة على طاولة التحليل والتحقيق فنقول : الشّدة تظهر في مجالين :

١ ـ مجال المناظرات العلمية والبحوث الدينيّة مع الخصوم.

٢ ـ مجال الجهاد الحربي والمناورات القتالية مع الأعداء.

أمّا في المجال العلمي فلم يذكر التاريخ لعمر بن الخطّاب مناظرة علمية ومحاورة دينية تغلّب فيها على الخصوم ومناوئي الإسلام.

٣٩٨

وإذا كنتم تعرفون له تاريخا وموقفا مشرّفا في هذا المجال فبيّنوه حتى نعرف!

ولكنّ عليا عليه‌السلام يعترف له جميع العلماء وكلّ المؤرخين بأنّه كان حلال المشكلات الدينية والمعضلات العلمية.

وهو الوحيد في عصره الذي كان قادرا على ردّ شبهات اليهود والنصارى مع كلّ التحريفات التي جرت على أيدي الامويّين والبكريّين الخونة على تاريخ الإسلام ـ كما يصرّح بها علماؤكم في كتب الجرح والتعديل ـ مع ذلك ما تمكّنوا من إخفاء هذه الحقائق الناصعة ، والمناقب السّاطعة ، والأنوار العلمية اللامعة ، التي أضاءت تاريخ الإسلام مدى الزمان ...

وخاصة في عصر الخلفاء الّذين سبقوا الإمام عليّا عليه‌السلام ، فقد كان علماء اليهود والنصارى وسائر الأديان ، يأتون إلى المدينة ويسألونهم مسائل مشكلة ويوردون شبهات مضلّة ، ولم يكن لهم بدّ من أن يرجعوا إلى مولانا وسيّدنا عليّ عليه‌السلام لأنّه باب علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيردّ شبهاتهم ويجيب عن مسائلهم ، وقد أسلم كثير من أولئك العلماء كما نجده مسطورا في التاريخ.

والجدير بالذكر ، أنّ الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوا الامام عليّا عليه‌السلام كلّهم اعترفوا وأقرّوا له بتفوّقه العلمي وعجزهم وجهلهم أمام علماء الأديان.

وقد ذكر بعض المحقّقين من أعلامكم عن أبي بكر أنّه قال :

أقيلوني أقيلوني! فلست بخيركم وعليّ فيكم!

وأمّا عمر بن الخطّاب فقد قال أكثر من سبعين مرّة : لو لا عليّ

٣٩٩

لهلك عمر. وقال : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

وذلك لمّا كان يرى من عليّ عليه‌السلام حلّ المعضلات والحكم في القضايا المشتبهات التي كان يحار في حلّها وحكمها ، عمر وحاشيته وكلّ الصحابة ، وقد ذكر التاريخ كثيرا منها في كتبكم ولكن لا مجال لذكرها ، ولا منكر لها!! فالأفضل أن يدور بحثنا حول الأهمّ فالأهمّ.

النّواب : لا أرى موضوعا أهمّ من هذا ، فلو سمحتم ... أرجو أن تذكروا لنا بعض الكتب المعتبرة عندنا التي نقلت وذكرت ما نقلتم من قول الخليفة عمر الفاروق ، حتى نعرف الحقّ والواقع.

قلت : نعم ، إنّ أكثر علمائكم نقلوا هذه العبارات أو ما بمعناها وإن اختلف اللفظ ، وسأذكر لكم بعضهم حسب ما يحضر في ذهني وذاكرتي.

مصادر قول عمر

١ ـ ابن حجر العسقلاني ، في تهذيب التهذيب / ٣٣٧ ط حيدرآباد ـ الدّكن.

٢ ـ ابن حجر العسقلاني ـ أيضا ـ في الإصابة ٢ / ٥٠٩ ط مصر.

٣ ـ ابن قتيبة ـ المتوفى سنة ٢٧٦ هجرية ـ في تأويل مختلف الحديث : ٢٠١ و ٢٠٢.

٤ ـ ابن حجر المكي الهيتمي ، في الصواعق : ٧٨.

٥ ـ أحمد أفندي ، في هداية المرتاب : ١٤٦ و ١٥٢.

٤٠٠