السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١
ثمّ إنّ هارون كان شريك أخيه في تبليغ الرسالة السماوية ، هذا ما يظهر من الآيات الكريمة التي تحكي كلام موسى ودعاءه في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً).
ولكنّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام هو الرجل الوحيد الذي كان شريكا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في جميع صفاته الخاصة ومراحل الكمال إلاّ النبوّة الخاصّة.
الحافظ : ما زلنا نزداد تعجّبا وحيرة منكم ، لأنّكم تغالون في عليّ كرّم الله وجهه غلوّا يأباه العقل السليم! أليس قولكم هذا إنّ عليا كان يشارك النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) في جميع صفاته الخاصة مغالاة صريحة في حقّ عليّ كرم الله وجهه؟!
قلت : إنّ كلامي هذا ليس غلوّا ولا يأباه العقل ، بل هو الحقّ الصريح ويحكم به العقل السليم الصحيح ، فإنّ خليفة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يجب أن يكون ـ على القاعدة العقلية ـ مثله في جميع صفاته الكمالية حتّى يصحّ أن يكون بديله وقائما مقامه وممثّله.
لذلك ، فإنّ كثير من علمائكم الكبار ذهبوا مذهبنا وقالوا مقالنا.
منهم : الإمام الثعلبي في تفسيره ، والعالم الفاضل السيّد أحمد شهاب الدين في كتاب «توضيح الدلائل على ترجيح الفضائل» قال : ولا يخفى أنّ مولانا أمير المؤمنين قد شابه النبيّ في كثير ، بل أكثر الخصال الرضيّة والفعال الزكيّة وعاداته وعباداته وأحواله العليّة ، وقد صحّ ذلك له بالأخبار الصحيحة والآثار الصريحة ، ولا يحتاج إلى إقامة الدليل والبرهان ، ولا يفتقر إلى إيضاح حجّة وبيان ، وقد عدّ بعض العلماء بعض الخصال لأمير المؤمنين عليّ التي هو فيها نظير سيّدنا النبي الامّيّ ، فهو نظيره في النسب ، ونظيره في الطهارة بدليل قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١).
ونظيره في آية وليّ الامّة ، بدليل قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢).
ونظيره في الأداء والتبليغ ، بدليل الوحي الوارد عليه يوم إعطاء سورة براءة لغيره ، فنزل جبرئيل قال : لا يؤدّيها إلاّ أنت أو من هو منك ، فاستعادها منه فأدّاها عليّ رضي الله تعالى عنه في الموسم.
ونظيره في كونه مولى الامة بدليل قوله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه».
ونظيره في مماثلة نفسيهما ، وأنّ نفسه قامت مقام نفسه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ، والله تعالى أجرى نفس عليّ مجرى نفس النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فقال : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ
__________________
(١) سورة الأحزاب ، الآية ٣٣.
(٢) سورة المائدة ، الآية ٥٥.
وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١).
ونظيره في فتح بابه في المسجد كفتح باب رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وجواز دخوله المسجد جنبا كحال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) على السواء.
لمّا وصل الحديث إلى هذا الموضوع ، وإذا بهمهمة قامت بين الحاضرين من أهل السنّة والجماعة. فسألت عن سبب ذلك ، فأجاب النوّاب قائلا :
في خطبة يوم الجمعة في المسجد ، نسب الحافظ هذه الفضيلة لسيّدنا أبي بكر (رض) ، والآن جنابكم تنسبوه للإمام عليّ رضياللهعنه ، لذلك تحيّر الحاضرون من هذا التناقض!
قلت ـ مخاطبا للحافظ ـ : أصحيح أنّك نسبت هذه الفضيلة للخليفة أبي بكر؟!
الحافظ : نعم .. لقد ورد عن الصحابي الجليل والثقة العدل أبي هريرة (رض) : أنّ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أمر بسدّ أبواب بيوت الأصحاب التي تنفتح في المسجد إلاّ باب بيت أبي بكر (رض) وقال (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) : أبو بكر منّي وأنا منه.
قلت : لا يخفى على كلّ من طالع التاريخ بدقّة وتحقيق ، أنّ بني أميّة سعوا في خلق الفضائل والمناقب للصحابة الّذين كانوا مناوئين لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، ولا سيّما المناقب التي تعدّ من خصائص أمير المؤمنين علي عليهالسلام فنسبوها إلى الآخرين.
فكان معاوية يدعو أبا هريرة والمغيرة وعمرو بن العاص
__________________
(١) سورة آل عمران ، الآية ٦١.
ونظراءهم ، فيشبع بطونهم بألوان الطعام ، ويغريهم بالأموال والحطام ، ويأمرهم بنقل الروايات المجعولة والأخبار المعلولة لأهل الشام ، وكان المناوئون البكريّون والعمريّون والعثمانيّون ينشرون تلك الأباطيل والأكاذيب بين الأنام.
ولكن ظهر أمام هؤلاء المفترين الوضّاعين ، جماعة من علمائكم المحقّقين ، وفضحوا بعض تلك الأخبار المجعولة وكشفوا الستار عنها.
منهم : العلاّمة الكبير والعالم النحرير ، ابن أبي الحديد ، قال : فلمّا رأت البكرية ما صنعت الشيعة ، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث ، نحو : «لو كنت متّخذا خليلا» فإنّهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، ونحو «سدّ الأبواب» فإنّه كان لعليّ عليهالسلام فقلبته البكرية إلى أبي بكر ... (١).
والعجب منك أيّها الحافظ إذ تنقل هذا الخبر المجعول لأصحابك وتترك الخبر الصحيح المتواتر والمجمع عليه ، وقد أثبته كبار علمائكم وأصحاب الصحاح كلّهم رووا : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بسدّ جميع الأبواب التي كانت تنفتح على مسجده إلاّ باب بيته وباب بيت الإمام علي عليهالسلام.
النوّاب : لقد صار هذا الخبر موضع اختلاف ، فالحافظ يقول : إنّه من مناقب أبي بكر (رض) ، وأنتم تقولون : إنّه من فضائل سيّدنا عليّ كرّم الله وجهه ومن خصائصه دون الصحابة ، فهل عندكم مدارك وأسناد معتبرة عندنا أي : تكون من كتبنا المشهورة؟!
قلت : نعم.
__________________
(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٤٩ ط دار إحياء التراث العربي.
روى الإمام أحمد في مسنده ١ / ١٧٥ و ٢ / ٢٦ و ٤ / ٣٦٩.
والنسائي في سننه ، وأيضا في خصائصه : ١٣ و ١٤.
والحاكم في المستدرك ٣ / ١١٧ و ١٢٥.
وسبط ابن الجوزي في التذكرة ٢٤ و ٢٥.
وابن الأثير الجزري في أسنى المطالب ١٢.
وابن حجر في الصواعق المحرقة ٧٦.
وابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٧ / ١٢.
والخطيب البغدادي في تاريخه ٧ / ٢٠٥.
وابن كثير في تاريخه ٧ / ٣٤٢.
والمتّقي الهندي في كنز العمّال ٦ / ٤٠٨.
والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١١٥.
ومحبّ الدين الطبري في الرياض ٢ / ١٩٢.
والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ٤ / ١٥٣.
والسيوطي في تاريخ الخلفاء ١١٦ ، وفي بعض كتبه الاخرى.
مثل : جمع الجوامع والخصائص الكبرى واللآلي المصنوعة ج ١.
ورواه الخطيب الخوارزمي في المناقب.
والحمويني في فرائد السمطين.
وابن المغازلي في المناقب.
والمناوي في كنوز الدقائق.
وشهاب الدين القسطلاني في إرشاد الساري ٦ / ٨١.
والقندوزي في ينابيع المودّة ، أفرد الباب ١٧ لهذا الحديث.
والحلبي في السيرة الحلبية ٣ / ٣٧٤.
ومحمد بن طلحة في مطالب السئول ١٧.
هؤلاء وغيرهم من كبار علمائكم ومحدّثيكم رووا عن كبار الصحابة المعتبرين عندكم ، كالخليفة الثاني ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن أرقم ، وبراء بن عازب ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي حازم ، والأشجعي ، وسعد بن أبي وقّاص ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وغيرهم ، قالوا : إنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بسدّ جميع الأبواب التي كانت تفتح من بيوت الصحابة في المسجد إلاّ باب بيت عليّ بن أبي طالب عليهالسلام.
وبيّن بعض علمائكم المحقّقين توضيحات كاملة وكافية لتوجيه وهداية المغترّين والمغرورين بالدعايات الاموية فضلّوا عن الحقّ وعن الصراط المستقيم.
لقد خصّص العلاّمة محمد بن يوسف الشافعي في كتابه «كفاية الطالب» بابا ، وهو الخمسون خصّصه في هذا الموضوع ، وبعد أن يروي الأخبار وينقل الروايات المعتبرة والمقبولة بسنده يقول : هذا حديث حسن عال.
ثمّ يقول : وإنّما أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بسدّ الأبواب وذلك لأنّ أبواب مساكنهم كانت شارعة إلى المسجد فنهى الله تعالى عن دخول المساجد مع وجود الحيض والجنابة ، فعمّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالنهي عن الدخول في المسجد والمكث فيه للجنب والحائض وخصّ عليّا بالإباحة في هذا الموضع.
وما ذاك دليل على إباحته المكروه له ، وإنّما خصّ بذلك لعلم المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّه يتحرّى من النجاسة هو وزوجته فاطمة وأولاده
صلوات الله عليهم ، وقد نطق القرآن بتطهيرهم في قوله عزّ وجلّ : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) إلى آخر ما رواه وعلّقه العلاّمة الكنجي.
فمع هذا التوضيح من العلاّمة الكنجي الشافعي فليقايس جناب الحافظ : مع الخبر الذي نقله إلى المصلّين في يوم الجمعة عن أبي هريرة ، ثمّ لينظر هل يكون عنده دليل على طهارة أبي بكر؟! مع غضّ النظر عن كل الأسناد والمدارك التي ذكرتها في تأييد الخبر وصحّته في الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام لا غيره.
فلينظر الحافظ هل يكون عنده دليل على طهارة أبي بكر حتّى يسمح له فتح بابه في المسجد وتردّده فيه؟!
فلمّا لم يدّع أحد من المسلمين طهارة أبي بكر ، لم يكن خبر فتح بابه على المسجد صحيحا ، بل هو كذب افتراه الجعّالون ، وقد تذكّرت الآن حديثا بالمناسبة ، رواه كبار علمائكم عن الخليفة عمر بن الخطّاب.
ورواه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٥ ، والحافظ سليمان القندوزي في «ينابيع المودّة» باب ٥٦ ص ٢١٠ ، نقلا عن «ذخائر العقبى» ومسند الإمام أحمد ، ورواه الخطيب الخوارزمي في المناقب : ٢٦١ ، وابن حجر في الصواعق المحرقة : ٧٦ ، وجلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء ، وغير هؤلاء ، كلّهم رووا ـ باختلاف يسير في الألفاظ ـ أنّ عمر بن الخطّاب قال : «لقد أوتي عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال ، لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النّعم :
زوّجه النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بنته.
__________________
(١) سورة الأحزاب ، الآية ٣٣.
وسدّ الأبواب إلاّ بابه ، وسكناه المسجد مع رسول الله ، يحلّ له فيه ما يحلّ له.
وأعطاه الراية يوم خيبر».
فأكتفي بهذا المقدار في هذا الإطار ، وأظنّ أنّ الحقّ قد انكشف ، والسحاب قد انقشع ، وظهر الواقع لحضرة النوّاب وجناب الحافظ وجميع الحاضرين.
والآن نرجع إلى محور حديثنا من قبل ، وهو كلام السيّد شهاب الدين ، حول الإمام عليّ عليهالسلام :
فبعد مقايسته لبعض خصال الإمام عليّ عليهالسلام المشابهة لخصال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يقول في آخر حديثه : ومن تتبّع أحواله في الفضائل المخصوصة ، وتفحّص أحواله في الشمائل المنصوصة ، يعلم أنّه كرّم الله تعالى وجهه بلغ الغاية في اقتفاء آثار سيّدنا المصطفى ، وأتى النهاية في اقتباس أنواره حيث لم يجد فيه غيره مقتضى.
هذا نموذج من مقالات واعترافات كبار علمائكم في حقّ الإمام عليّ عليهالسلام ومقاماته العالية وفضائله السامية ، نقلتها لكم حتّى تعرفوا ، أنّي لم اغال في حقّ الإمام عليّ عليهالسلام ، ولم أدّع شيئا بغير مستند في حقّه.
بل كلّ ما أقوله إنّما هو عن دليل وبرهان ، وتدقيق وإتقان.
وعلماء الشيعة كلّهم كذلك ، كلّ ما نقلوه من فضائل الإمام عليّ عليهالسلام ومناقبه إنّما هي مستندة إلى كتب كبار علمائكم ومحقّقيكم.
ولكن من دواعي الأسف أنّ بعض علمائكم ، وخاصة في زماننا ، إذا واجهوا عوامّ الناس والجهلاء من أتباعهم ، ينكرون تلك
الفضائل والمناقب المرويّة في الكتب المعتبرة عندهم في حقّ الإمام عليّ عليهالسلام ، بل يكذّب بعضهم بكلّ صلافة الشيعة وغيرهم إذا نقلوا تلك الأخبار والروايات المعتبرة.
وحاصل الكلام ، فقد ثبت أنّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام هو نظير رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وشريكه ، كما كان هارون بالنسبة لموسى بن عمران عليهمالسلام ولمّا وجد موسى أخاه هارون أولى وأفضل من جميع بني إسرائيل ، وهو اللائق بهذا المقام ، سأل ربّه عزّ وجلّ فيه وقال : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ...) (١) إلى آخره.
وكذلك محمّد المصطفى ، خاتم الأنبياء صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لمّا وجد أخاه عليّ ابن أبي طالب عليهالسلام أفضل أمّته ، وأرجحهم علما وعقلا ، فهو أليقهم بأمر الخلاقة ، وأولاهم بمقام الإمامة ، سأل ربّه سبحانه وتعالى فيه ما سأله النبي موسى عليهالسلام في حقّ أخيه.
النوّاب : هل وردت روايات في هذا الباب؟
قلت : أمّا الشيعة فقد أجمعوا على هذا الموضوع من غير إنكار ، وأمّا علماؤكم فقد نقلوا أيضا في كتبهم المعتبرة روايات صحيحة وأحاديث صريحة في ذلك ، منهم :
ابن المغازلي الفقيه الشافعي ، في «مناقبه».
وجلال الدين السيوطي ، في تفسيره «الدرّ المنثور».
والإمام الثعلبي ، في تفسيره «كشف البيان».
وسبط ابن الجوزي ، في كتابه «تذكرة الخواصّ» في ذيل آية
__________________
(١) سورة طه ، الآيات ٢٩ ـ ٣٢.
الولاية ، وروى في صفحه ١٤ ، عن أبي ذرّ الغفاري وأسماء بنت عميس ـ إحدى زوجات أبي بكر ـ ، قالا :
صلّينا يوما الظهر في المسجد مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإذا برجل قام يسأل الناس شيئا فما أعطاه أحد ، وكان علي عليهالسلام في الركوع فأشار إليه بإصبعه ، فأخرج السائل خاتمه من إصبعه ، فرأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك ، فنظر نحو السماء وقال : اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما).
اللهمّ وأنا محمّد صفيّك ونبيّك ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي ، عليا اشدد به أزري.
فو الله ما انتهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الدعاء ، إلاّ ونزل جبرئيل بالآية الكريمة : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).
والعلاّمة محمد بن طلحة نقل هذا الخبر مع اختلاف يسير في الالفاظ ، في كتابه «مطالب السئول ١٩».
وهناك خبر آخر ، نقله الحافظ أبو نعيم في «منقبة المطهّرين» والشيخ علي الجعفري في «كنز البراهين» والإمام أحمد بن حنبل في «المسند» والسيّد شهاب الدين في «توضيح الدلائل» والسيوطي في «الدرّ المنثور» وآخرون من كبار علمائكم ، لا يسع الوقت لذكر أسمائهم
__________________
(١) سورة المائدة ، الآية ٥٥.
لكثرتهم ، فقد ذكروا في كتبهم بطرق مختلفة عن : أسماء بنت عميس وغيرها من الصحابة ، ورووا عن ابن عبّاس ـ حبر الامّة ـ ، أنّه قال :
أخذ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بيدي وبيد عليّ ابن أبي طالب ، فصلّى أربع ركعات ، ثمّ رفع يده نحو السماء وقال : اللهمّ سألك موسى بن عمران ، وأنا محمد أسألك : أن تشرح لي صدري ، وتيسّر لي أمري ، وتحلّ عقدة من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري.
فقال ابن عبّاس : سمعت صوتا يقول : يا أحمد! قد اوتيت ما سألت.
وقال ابن عبّاس : فأخذ النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بيد عليّ ورفعها نحو السماء وقال : يا علي! ارفع يدك واسأل ربّك ليعطيك شيئا.
فرفع عليّ يده وقال : اللهمّ اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي عندك ودّا.
فنزل جبرئيل بالآية الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (١).
فتعجّب الأصحاب من هذا الموضوع ، فقال النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) : ممّا تعجبون؟! إنّ القرآن أربعة أرباع ، فربع فينا أهل البيت خاصة ، وربع حلال ، وربع حرام ، وربع فرائض وأحكام ، والله أنزل في عليّ عليهالسلام كرائم القرآن.
__________________
(١) سورة مريم ، الآية ٩٦.
الشيخ عبد السّلام : على فرض صحّة كلامكم ، فإنّ حديث المنزلة لا يخصّ عليّ بن أبي طالب ، بل ورد مثله في حقّ الشيخين أبي بكر وعمر (رض).
فقد روى قزعة بن سويد ، عن أبي مليكة ، عن ابن عبّاس ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى.
قلت : لو كنتم تعرفون رأي علمائكم في رواة هذا الحديث لما تمسّكتم به!
فإنّ قزعة كالآمدي ، كذّاب جعّال ، وإنّ كبار علمائكم الرجاليّين ، ردّوا عليه وقالوا : إنّ رواياته غير مقبولة.
منهم : العلاّمة الذهبي في كتابه «ميزان الاعتدال» قال في ترجمة قزعة بن سويد : نقل هذا الحديث ـ منزلة الشيخين ـ عمّار بن هارون وأنكره فقال : هذا كذب.
لذا فنحن نتعجّب منكم إذ تتركون الحديث المجمع عليه ، والمرويّ في كتب الفريقين ، وهو مؤيّد بأحاديث صحيحة اخرى ، وتتمسّكون بحديث ضعيف ، مردود عند الفريقين ، وغير مقبول عند كبار علمائكم الأعلام!!
ولمّا وصلنا إلى هنا نظر بعض الحضور إلى الساعة وقالوا : لقد طال بنا الحديث ، ومضى من الليل نصفه ، فلنترك الحوار حول الموضوع إلى الليلة القابلة.
فوافق جميع الحاضرين ، وتوادعوا ، وذهبوا إلى بيوتهم.
المجلس الخامس
ليلة الثلاثاء ٢٧ رجب ١٣٤٥
أقبل الحافظ وسائر العلماء من أوّل الليل مع جماعة كبيرة من أتباعهم ، وبعد تناول الشاي والحلوى ، بدأ الحافظ قائلا :
لقد فكّرت كثيرا في حديثكم وكلامكم حول حديث المنزلة ، وراجعت كتبنا فرأيته كما ذكرتم أنّه من الأحاديث الصحيحة المتواترة بإجماع علمائنا وأهل الحديث الموثّقين عندنا ...
ولكنّه لا يدلّ على خلافة سيّدنا عليّ كرم الله وجهه بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) مباشرة من غير فاصل كما تقولون ، بل صدر حديث المنزلة عند خروج النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) من المدينة إلى غزوة تبوك وخلّف عليّا في المدينة.
فهو يدلّ على خلافة سيّدنا عليّ رضياللهعنه لرسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) في ذلك المورد فحسب ، وذلك في حياة النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ، فلا يتعدّى إلى موارد اخرى ، وخاصة بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)!
قلت : لو كان أحد الحاضرين من غير العلماء يطرح هذا الإشكال ما كنت أتعجّب ، ولكن هذا البيان من رجل فاضل يعلم قواعد اللغة العربية ... مثلكم غريب!
لأنّ الاستثناء الذي جاء في آخر حديث المنزلة يفيد العموم ، وهو : «إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».
ثمّ هناك أصل مقبول عند أشهر علماء اللغة العربية وهو : إنّ اسم الجنس إذ ذكر في الكلام وكان مضافا إلى اسم علم فهو يفيد العموم وكلمة «المنزلة» التي اضيفت الى اسم «هارون» يفهم منها معناها العام.
وجملة : «لا نبيّ بعدي» يؤول على المصدر ، أي : «لا نبوّة بعدي» وهو أيضا على القاعدة المشهورة بين اللغويّين العرب.
الحافظ : إذا ننظر إلى جملة : «لا نبيّ بعدي» بنظر الدقّة ، لوجدناها جملة إخبارية. فلا يمكن استثناؤها من منازل هارون ومراتبه ، ثمّ ما الداعي لنصرف ظاهر الكلمة على المصدر؟!
قلت : إنّك تعرف الحقّ وتحرفه جدلا! لأنّ كلامي غير شاذّ ، بل هو على القواعد المسلّمة عند علماء اللغويّين والاصوليّين ، وهناك كثير من علمائكم قالوا به وصرّحوا بما فهمناه من حديث المنزلة.
وعندنا دليل أقوى من كلّ ذلك ، وهو أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صرّح أيضا بهذا المعنى كما في بعض الروايات الصحيحة المعتبرة عند علمائكم ، منهم :
١ ـ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي ، في كتابه «كفاية الطالب في مناقب مولانا علي بن أبي طالب» الباب السبعين.
٢ ـ الشيخ سليمان الحنفي القندوزي ، في كتابه «ينابيع المودّة»
بسنده عن عامر بن سعد ، عن أبيه.
ومن طريق آخر بسنده عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، عن النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) قال لعليّ عليهالسلام : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي؟!
قال القندوزي في الباب السادس من كتابه : هذا حديث متّفق على صحّته ، رواه الأئمّة الحفّاظ كأبي عبد الله البخاري ومسلم بن الحجّاج في صحيحيهما.
٣ ـ ابن كثير ، في تاريخه ، عن عائشة بنت سعد عن أبيها عن النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم).
٤ ـ سبط ابن الجوزي ، في تذكرة الخواصّ : ١٢ ، نقلا عن مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم.
٥ ـ الإمام أحمد ، في المناقب.
٦ ـ أحمد بن شعيب النسائي ، في كتابه «خصائص عليّ بن أبي طالب» بسنده عن سعد بن أبي وقّاص عن رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم).
٧ ـ الخطيب الخوارزمي ، في المناقب ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
... هؤلاء وغيرهم رووا عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة؟!
٨ ـ المير سيد علي الهمداني ، في كتابه «مودّة القربى» ـ المودّة السادسة ، عن أنس بن مالك ـ وقد نقلت لكم الحديث في الليلة
الماضية ـ يقول في آخره : ولو كان بعدي نبيّا لكان عليّ نبيّا ، ولكن لا نبوّة بعدي.
فثبت بحديث المنزلة ، أنّ موسى بن عمران عليهالسلام كما خلّف أخاه هارون عليهالسلام مكانه حينما ذهب لميقات ربّه سبحانه ، وفوّض أمر النبوّة إليه ، لأنّه كان أفضل أمّته وأحفظهم للدين ، فجعله يقوم مقامه ، كي لا يضيع شرعه ولا تذهب أتعابه سدى كذلك خاتم النبيّين صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وشريعته المقدّسة أفضل الشرائع السماوية ، ودينه المبين أكمل الأديان الإلهيّة.
فمن الأولى أن لا يترك أمّته من غير خليفة ، ولا بدّ له أن يعيّن من يقوم مقامه في أمر النبوّة ، كي لا تختلف أمّته في أحكام الدين ، ولا يضيع شرعه المقدّس بين الجاهلين والمغرضين ، فيتحكمون فيه ويفتون بالرأي والقياس ، وما استحسنته عقولهم المتحجّرة ، فيذهبون إلى الدروشة والتصوّف ... وما إلى ذلك.
حتّى انقسمت الامّة الإسلامية الواحدة التي قال تعالى في وصفها : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (١) فتفرّقت إلى ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة ناجية والباقون في النار ، لأنّهم ضالون ومضلّون.
فأعلن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ عليّا منه بمنزلة هارون من موسى ، وبقي على المسلمين أن يفهموا من الحديث الشريف ، بأنّ جميع منازل هارون تكون لعليّ عليهالسلام ، ومنها تفضيله على الآخرين ، وخلافته للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته وبعدها.
__________________
(١) سورة الأنبياء ، الآية ٩٢.
الحافظ : كلّ ما بيّنتموه حول حديث المنزلة نقبله ، إلاّ هذا الموضوع الأخير. فإنّ كلّ منازل ومراتب هارون تكون لعليّ كرّم الله وجهه في حياة النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ، وأمّا بعد حياته فلا!
لأنّه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) عيّن عليّا خليفته في المدينة حينما أراد الخروج لغزوة تبوك ـ وهي قضية في واقعة ـ فلمّا رجع (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) من الغزو تسلّم الأمر من عليّ كرّم الله وجهه ، وانتهى التعيين لأنّه كان خاصّا بذلك الزمان.
فلا نفهم من حديث المنزلة خلافة سيّدنا عليّ رضياللهعنه لسيّدنا محمد المصطفى (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ما بعد وفاته (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ، وهذا الأمر يحتاج إلى دليل آخر.
قلت : لم ينحصر صدور حديث المنزلة في غزوة تبوك فحسب ، بل نجد في الأخبار المعتبرة والروايات الصحيحة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أعلن حديث المنزلة في مناسبات اخر.
منها : حينما آخى بين أصحابه في مكّة واخرى في المدينة واتّخذ عليّا عليهالسلام أخا لنفسه ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.
الحافظ : هذا خبر غريب! لأنّي كلّ ما سمعت وقرأت عن حديث المنزلة ، أنّه صدر من النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) حين ذهابه إلى تبوك ، وذلك لمّا خلّف عليّا رضياللهعنه في المدينة ، فحزن عليّ لعدم مشاركته في الحرب والجهاد ، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ...؟! إلى آخره.
لذلك فإنّي أظن أنّ سماحة السيّد قد وهم في كلامه ، واشتبه الأمر عليه.
قلت : إنّي لست متوهّما ، بل على يقين من كلامي ، وهو قول جميع علماء الشيعة وكثير من علمائكم أيضا ، منهم :
١ ـ المسعودي ، في مروج الذهب ٢ / ٤٩.
٢ ـ السيرة الحلبية ٢ / ٢٦ و ١٢٠.
٣ ـ الإمام النسائي ، في خصائص عليّ بن أبي طالب : ١٩.
٤ ـ سبط ابن الجوزي ، في التذكرة : ١٣ و ١٤.
٥ ـ الشيخ سليمان الحنفي القندوزي ، في «ينابيع المودّة» الباب التاسع والسابع عشر ، نقلا عن مسند الإمام أحمد ، وعن زوائد المسند لعبد الله بن أحمد ، وعن مناقب الخوارزمي.
كلّ هؤلاء ذكروا حديث المنزلة ضمن خبر المؤاخاة ، والمستفاد من الأخبار والروايات ، أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كرّر حديث المنزلة في حضور أصحابه وفي مناسبات كثيرة منها : عند المؤاخاة ، وعند استخلافه صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا على المدينة حين خروجه صلىاللهعليهوآلهوسلم منها إلى تبوك وغيرها.
فكأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يريد إعلان خلافة أخيه وابن عمّه الإمام عليّ عليهالسلام في كلّ وقت ومكان ، لا في زمان ومكان معيّن.
الحافظ : كيف تفهمون من حديث المنزلة هذا الموضوع المهمّ ، ولم يفهمه الصحابة الكرام ما فهمتموه؟!
أم تقولون إنّهم فهموا من حديث المنزلة ما فهمتموه ومع ذلك خالفوا نبيّهم وبايعوا غير سيّدنا عليّ رضياللهعنه؟!
قلت : في جواب سؤالك الثاني ، الذي هو قولنا ، عندي قضايا
مشابهة كثيرة ، ولكن أكتفي بنقل قضية واحدة وهي قضية هارون الذي نحن في ذكره والكلام يدور حوله.
وعليّ عليهالسلام في الإسلام يشبه هارون في بني إسرائيل ، والقضية كما ذكرها المفسّرون عند تفسير قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١).
قال المفسّرون : إنّ موسى بن عمران لمّا أراد أن يذهب إلى ميقات ربّه تعالى ، جمع بني إسرائيل ـ والحاضرون على بعض الروايات سبعون ألف نفر ـ فأكّد عليهم أن يطيعوا أمر هارون ولا يخالفوه في شيء ، فإنّه خليفته فيهم.
ثمّ لمّا ذهب إلى الميقات وطال مكثه ، انقلب بنو إسرائيل على هارون فخالفوه وأطاعوا السامريّ ، وسجدوا للعجل الذي صنعه السامري من حليّهم وذهبهم!
ولمّا منعهم هارون ونهاهم من ذلك ودعاهم لعبادة الله سبحانه تألّبوا عليه وكادوا يقتلونه ، كما حكى الله تعالى عن قول هارون : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) (٢).
بالله عليكم ، أيّها الحاضرون ، أنصفوا!! هل إنّ اجتماع أمّة موسى حول السامريّ وعجلهم ، وتركهم هارون خليفة موسى بن عمران ، المؤيّد من عند الله ، والمنصوص عليه بالخلافة ، دليل على أحقّيّة السامريّ وبطلان خلافة هارون؟!
__________________
(١) سورة الأعراف ، الآية ١٤٢.
(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٥٠.
هل إنّ عمل بني إسرائيل صحيح عند الله سبحانه وتعالى؟!
هل لعاقل أن يقول : إنّ بني إسرائيل إذا كانوا يسمعون من لسان نبيّهم نصّا في خلافة هارون ما كانوا يتركوه ، ويجتمعون حول السامريّ وعجله؟!
وهل اجتماعهم حول السامريّ وعجله ، دليل على انهم ما سمعوا نصّا من موسى بن عمران في خلافة أخيه هارون؟!!
كلّنا يعلم أنّ هذا كلام تافه وواه ، لأنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ موسى عليهالسلام نصب هارون في مقامه ، وعيّنه خليفته في قومه ، ثمّ ذهب إلى ميقات ربّه ؛ ولكنّ بني إسرائيل مع كلّ ذلك ضلّوا عن الحقّ بإغواء السامريّ وتدليس إبليس لعنه الله.
فهم مع علمهم بخلافة هارون ووجوب إطاعتهم أمره ، خالفوه وكادوا يقتلونه ، بل أطاعوا السامريّ وسجدوا لعجله وعبدوه!!
كذلك بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، إنّ اولئك الّذين سمعوا من فم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مرارا وتكرارا ، بالصراحة والكناية ، يقول : إنّ عليّ بن أبي طالب خليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا .. فكما أنّ أمّة موسى تركوا هارون ، كذلك أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم تركوا عليّا ، وتبعوا أهواءهم.
بعضهم للرئاسة والدنيا كما قال أمير المؤمنين الإمام عليّ عليهالسلام : حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها (١).
وبعضهم للحقد الذي كان مكنونا في صدورهم ، لأنّ عليّا عليهالسلام قتل أبطالهم وجندل ذؤبانهم ، وضربهم بسيفه حتّى استسلموا وقالوا :
__________________
(١) نهج البلاغة ـ تحقيق د. صبحي الصالح ـ : ٥٠ الخطبة الشقشقية ، لسان العرب :٦ / ١٣ مادّة «زبر».