ليالي بيشاور

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي

ليالي بيشاور

المؤلف:

السيّد محمّد الموسوي الشيرازي


المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الناشر

الحمدلله وحده ...

والصلاة على من لا نبي بعده ...

وآله الأطهار.

بين مفردتين :

بين يدي هذا الكتاب ... لا بدأ أن نلقي بصيصاً من الضوء على قضية ربما خفيت على البعض ... وسببت الكثير من الخلط والإبهام في الأذهان ..

وهذه القضية هي : أنّ هنالك مفردتين :

«المفردة الأولى» : «الوحدة السياسية» في مواجهة العدو المشترك.

و «المفردة الأولى» : الوحدة الثانية : «الحوار الفكري الحر» في محاولة الوصول الى «الحق».

فهل يوجد هنالك تناقض بين هاتين المفردتين؟

وهل تلغي الوحدة السياسية : الحوار الفكري الحرّ؟

أم هل يفجر الحوار الفكري الحرّ : الوحدة السياسية؟

الجواب على هذه الأسئلة الثلاثة : كلا!

إذا لا يوجد هنالك أي تناقض بين الوحدة السياسية ... والحوار الفكري.

إن الوحدة السياسية بين أبناء الأمة الواحدة ضرروية .. في مواجهة العدو المشترك .. ولكن «الوصول الى الحق» هو الآخر أيضاً ..

فالحق هو محور الكون .. وبالحق قامت السموات والأرض .. وهدف كل إنسان ينبغي أن يكون هو «الوصول الى الحق».

وهل يمكن الوصول إلى الحق إلا عبر «الحوار الفكري الحر» و «النقاش العلمي البناء»؟

١

القرآن الكريم يدعو إلى الحوار :

ولعله من هنا نجد أن القرآن الكريم : يفتح جميع المناطق الفكرية للحوار الحرّ .. فلا توجد هنالك «منطقة محرمة» .. أمام الحوار والمناقشة.

وحتى مسألة «الألوهية» ـ وهي القاعدة التي يبتني علهيا الدين كله ـ يدعها القرآن الكريم مفتوحة للحوار والبحث والمناقشة.

فالقرآن الكريم يحاور «الرأي الآخر» في الألوهية ..

وفي التوحيد ..

وفي النبوة ..

وفي المعاد ..

وفي مسائل أخرى كثيرة .. كما يظهر لمن راجع آيات القرآن الكريم ... ويؤسس القرآن الكريم قاعدة الحوار في جميع المسائل بقوله : (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)

وهذا الكتاب ـ الذي يرقد بين يديك أيها القاري الكريم ـ يتناول مسائل «الامامة» ومتفرعها و «شطراً من الأحكام الفقيه الخلافية» في حوار موضوعي بنّاء.

ونسأل الله تعالى : أن يكون هذا الكتاب خطوة في طريق اكتشاف الحق ... والعمل به .. والدعوة إليه .. والله ولي التوفيق .. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الناشر ..

٢

مقدمة المترجم

جدير بنا أن نسمي عصرنا بعصر التفاهم والحوار الحرّ والتفاهم.

لقد حان الوقت ليتصارح المسلمون بأمورهم العقائدية حتى يظهر الحق وتتوحّد كلمتهم عليه فإن الوحدة الإسلامية، أمنية جميع المسلمين.

ولأننا لمسنا أن التفرقة هي بغية أعدائهم، وهي الوسيلة التي استعملها أعداء الدين والمستعمرون لفرض سيطرتهم على البلاد الإسلامية، ونهب خيراتها وبث مبادي الكفر والإلحاد والضلال والفساد بين أبناء الإسلام الحنيف.

وبما أن الوحدة الاسلامية ضرورة ملحّة، وهي لا تتم إلاّ بالصدق والحوار الايجابي البنّاء بلا تعصّب ولا عناد مع تحكيم القرآن والعقل والوجدان الحر، في اختيار أحسن القول، كما أمر بذلك ربّ العباد في قوله العزيز: فَبَشِّرْ عِبٰادِ اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (الزمر آية ١٨).

فيلزم على المسلم الكامل والإنسان العاقل، أن يكون بصيرا في أمر دينه، عالما بقضايا مذهبه، لا يقبل قولا ولا يتمسّك به إلاّ عن دليل وبرهان، حتى يصبح في أمره على يقين وإيمان.

لأنّه إذا سلك طريقا وتمسّك بعقائد ومبادي بغير علم يسنده ولا دليل يعضده وبرهان يرشده، فسيكون كمن أغمض عينيه ولزم طريقا طويلا يمشي فيه على أمل أن يوصله إلى مقصده ومنزله، حتى إذا أصاب رأسه الحائط، فأبصر وفتح عينيه، فإنه سوف يرى نفسه بعيدا عن مقصده، تائها ضالا عن سواء الصراط.

فمن لم يحقق في الأمور الدينية ولم يدقّق في القضايا المذهبية، بل ذهب إلى مذهب آبائه ولزم سبيل أسلافه، فربما فتح عينيه بعد جهد طويل، فيرى نفسه تائها قد ضلّ السبيل.

٣

ولذا عبّر اللّه العزيز الحكيم سبحانه عن هكذا إنسان بالأعمى فقال:

(وَمَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (الإسراء ٧٢)

ولإنقاذ المسلمين من العناد والتعامي أقدمت على تعريب هذا الكتاب القيّم من اللغة الفارسية إلى العربية، لعلّه يحقّق شيئا من هذا الهدف السامي. راجيا أن يترك في المسلمين أثرا ايجابيا، فيقرّب قلوبهم ويوحّد صفوفهم وكلمتهم، ويجمعهم على كلمة اللّه سبحانه بالحق والصلاح، والسعادة والفلاح. ولقد أدركت مؤلّف هذا الكتاب المرحوم آية اللّه السيد محمد (سلطان الواعظين) وحضرت مجلسه وسمعت حديثه ومواعظه.

فلقد كان رحمة اللّه عليه رجلا ضخما في العلم والجسم، ذا شيبة وهيبة، وكان جسيما وسيما ذا وجه منير، قلّ أن رأيت مثله، وكان آنذاك يناهز التسعين عاما من عمره الشريف، ولقد شاركت في تشييع جثمانه الطاهر في مدينة طهران، حيث عطّلت أسواق عاصمة ايران لوفاته وخرجت حشود عظيمة في مواكب عزاء حزينة وكئيبة، ورفعت الرايات والأعلام السوداء معلنة ولائها وحبّها لذلك العالم الجليل والسيّد النبيل.

ولا أذكر تاريخ وفاته بالضبط، ولكن كان في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، وأشهد اللّه العزيز أني لما بدأت بتعريب هذا الكتاب رأيت ذلك السيد العظيم مرتين في الرؤيا، وكان مقبلا عليّ متبسّما ضاحكا في وجهي، وكأنه كان يشكرني على هذا العمل.

فأسأل اللّه تبارك وتعالى أن يتغمّده برحمته الواسعة وأن يتقبّل هذا المجهود منه ومنّا ويجعله ذخيرة لآخرتنا ولكل من ساعد وسعى في نشر هذا الكتاب، إنه سميع الدعاء.

قم المقدسة .... حسين الموسوي

٢٨ شوال ١٤١٩ ه‍ الموافق ١٤ فبراير ١٩٩٩

٤

بسم اللّه الرحمن الرحيم

المقدّمة

الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد رسوله المصطفى، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

وبعد:

إنّ هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم، هو الكتاب القيّم: «ليالي بيشاور» لمؤلّفه الكبير: سماحة آية اللّه السيّد محمد الموسوي، الملقّب ب‍: (سلطان الواعظين الشيرازي).

وقد كتب مقدّمة طويلة لكتابه استغرقت ما يقرب من مائة صفحة من كتابه القيّم هذا، تطرّق فيها إلى أهميّة التقارب بين المسلمين، وإلغاء الخلافات والخصومات التي بثّها الأعداء في أوساطهم.

وحثّ فيها على الوحدة الإسلامية والاخوّة الدينية التي ندب اللّه المسلمين إليها، وحرّض على الاعتصام بحبل اللّه الذي دعاهم القرآن للتمسّك به والالتفاف حوله.

وحذّرهم عواقب التشتّت والتفرّق، وذكّرهم اللّه من الوقوف بعيدا والاكتفاء بالتفرّج، أو الابتعاد والاشتغال ـ لا سمح اللّه ـ بقذف

٥

بعضهم بعضا بما يسخط الرحمن ويؤذي حبيبه المصطفى، الذي بعثه تعالى رحمة للعالمين، وأرسله ليتمّ به مكارم الأخلاق، ومعالي الشّيم والفضائل الإنسانية، وجمع الناس على التوحيد.

وندبهم إلى ما ندب إليه القرآن من التعارف فيما بينهم، قال تعالى: (لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ)١ مرتئيا أنّ أفضل الطرق للتعارف هو: الحوار الحرّ، والنقاش العلمي البحت، والمناظرة المنطقية البعيدة عن كلّ تعصّب، والمجرّدة عن التقاليد والأهواء، ومن الخلفيات الشائنة.

وقد اشترك هو (قدّس سرّه) ـ بدعوة من أصدقائه ومعارفه في بيشاور ٢ ـ في مجالس المناظرة التي عقدت له بهذا الشأن، والتي اشترك فيها كبار علماء السّنّة المعاصرين له آنذاك، وقد استمرّت المناظرة ليالي عديدة استغرقت عشرة مجالس، نشرتها في حينها جرائد الهند وصحفها، وتلقّاها الناس بالقبول والترحيب.

ثمّ وفّق المؤلّف ـ رحمه اللّه ـ إلى جمعها في هذا الكتاب: «ليالي بيشاور» وعرضها على الطالبين لتكميل الإفادة والاستفادة، كما وحرّض القرّاء الكرام على قراءة الكتاب بدقّة، وطلب منهم مواصلة قراءته من الصفحة الاولى حتّى الصفحة الأخيرة، وذلك لترابط البحث وتسلسله، حيث يؤدّي قطعه إلى ضياع الموضوع، وعدم الاستفادة الكاملة من البحث.

ولمّا كان الكتاب قد كتب باللغة الفارسية، وقد أجاز ـ قدّس سرّه ـ في

______________

(١) سورة الحجرات، الآية ١٣.

(٢) وهي على الحدود الباكستانية الأفغانية.

٦

المقدمة ترجمة الكتاب ـ ترجمة أمينة ـ إلى سائر اللغات، حاولنا ترجمته إلى اللّغة العربية، مساهمة منّا في هذه الخدمة الإنسانية النبيلة، بغية التوصّل إلى الحقّ، والتعرّف على الواقع والحقيقة، ومشاركة منّا في ما دعانا إليه كتاب اللّه وسنّة رسوله الكريم وسيرة أهل بيته الطاهرين، من: التعارف والتقارب، والتوحيد والتآخي، وأخيرا نيل العزّة والسعادة في الدنيا، والنجاة والفوز بالجنّة في الآخرة، إن شاء اللّه تعالى.

قال السيّد المؤلّف:

سافرت إلى العتبات المقدّسة في شهر ربيع الأوّل عام ١٣٤٥ ه‍، وكان لي من العمر ثلاثون سنة، فتشرّفت بزيارة مراقد الأئمّة الأطهار من آل النبي المختار (صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم) في العراق، ومنها عزمت على السفر إلى الهند وباكستان بغية السفر منهما إلى خراسان والتشرّف بزيارة الإمام الرضا عليه السّلام، فوصلت ـ كراتشي ـ وهي مدينة ساحلية تعدّ من أهمّ الموانئ في المنطقة ـ.

وما إن وصلت إليها حتّى انتشر خبر وصولي في أهمّ الصحف هناك، فجاءتني دعوات كثيرة من الإخوة المؤمنين الّذين كانت بيني وبينهم معرفة سابقة ومودّة قديمة، وكان لا بدّ لي من إجابة تلك الدعوات الكريمة، وإن كانت تستوجب منّي قطع مسافات بعيدة، وشدّ الرحال من مدينة إلى اخرى، ومن بلد إلى آخر.

فواصلت سفري إلى مدينة بومبي، وهي ـ أيضا ـ من أكبر مدن الهند وأعظم الموانئ فيها، فاستقبلني المؤمنون الّذين دعوني إليها

٧

ومكثت فيها ضيفا معزّزا بين أهلها ليالي وأيّاما.

ثمّ تابعت السفر إلى مدينة (دهلي) ومنها إلى (آگره) و (لاهور) و (بنجاب) و (سيالكوت) و (كشمير) و (حيدرآباد) و (كويته) وغيرها ...

وقد استقبلني كثير من الناس وعامة المؤمنين في هذه المدن بحرارة فائقة، فكانوا يرحّبون بقدومي ويحيّوني بهتافات وتحيّات على العادات والرسوم الشعبية المتعارفة هناك.

وفي أيّام وجودي في تلك المدن المهمّة التي سافرت إليها، كان العلماء من مختلف المذاهب والأديان يزورونني في منزلي، وكنت أردّ لهم الزيارة في بيوتهم، وكان غالبا ما يدور بيني وبينهم محاورات دينية ومناظرات علمية مفيدة، كنت أتعرّف من خلالها على عقائدهم، وهم يتعرّفون على عقائدي.

ومن أهمّ تلك المناقشات والمحاورات، حوار ونقاش دار بيني وبين البراهمة والعلماء الهندوس في مدينة (دهلي) ، وكان ذلك بحضور قائد الهند ومحرّرها من الاستعمار الزعيم الوطني غاندي.

وكانت الصحف والمجلاّت تنشر ـ عبر مراسليها ـ كلّ ما يدور في المجلس من الحوار بالتفصيل، وبكلّ أمانة وصدق.

وكانت نتيجة تلك المناظرات أن ثبت الحقّ وزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقا، فقد خرجت من الحوار منتصرا على المناظرين، وذلك بالأدلّة العلمية والبراهين العقلية، حتّى ثبت للحاضرين في المجلس أنّ مذهب أهل البيت ـ الذي هو مذهب الشيعة الجعفرية الاثني عشرية ـ هو المذهب الحقّ، وأنّه أحقّ أن يتّبع، وأنا أقول مردّدا:

٨

(اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا وَمٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاٰ أَنْ هَدٰانَا اَللّٰهُ) (١).

السفر إلى سيالكوت

ثمّ سافرت إلى مدينة (سيالكوت) بدعوة خاصّة من «الجمعية الاثني عشرية» التي كان يرأسها صديقي الوفي الاستاذ أبو بشير السيّد علي شاه النقوي، مدير مجلّة «درّ النجف» الاسبوعية.

وعند ما دخلت هذه المدينة لقيت استقبالا حافلا وتجمّعا من مختلف الطبقات، ومن حسن الحظّ أنّي وجدت ضمن المستقبلين زميلا آخرا لي، كان وفيّا مشفقا، وهو الزعيم (محمّد سرورخان رسالدار) ابن المرحوم (رسالدار محمد أكرم خان) وأخ الكولونيل (محمد أفضل خان) وهو من كبار شخصيّات اسرة (قزلباش) في ولاية (البنجاب).

وتعود معرفتي بهذه الاسرة الكريمة إلى عام ١٣٣٩ ه‍ في مدينة كربلاء المقدّسة، حيث كانوا قد تشرّفوا آنذاك بزيارة مراقد الأئمّة الأطهار من آل النبي المختار (صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين) وسكنوا فيها، كما كانت لهم مناصب حكومية مرموقة في ولاية البنجاب.

وكان (محمد سرور خان) هذا رئيس شرطة (سيالكوت) وكان أهل البلد يحبّونه ويحترمونه لشجاعته وحسن سيرته وديانته.

فما أن رآني حتّى ضمّني إلى صدره، ورحّب بقدومي، وطلب منّي أن أحلّ ضيفا عنده وأنزل مدّة إقامتي ـ هناك ـ في بيته، فقبلت

____________

(١) سورة الاعراف، الآية ٤٣.

٩

دعوته وذهبت معه، وشيّعني المستقبلون إلى ذلك البيت الرفيع.

وفور نزولي ضيفا هناك نشرت صحف ولاية (البنجاب) خبر وصولي إلى (سيالكوت) فكانت الوفود والرسائل ـ رغم عزمي على السفر إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السّلام ـ تتسابق في دعوتي إلى زيارة بلادهم ومدنهم.

وأخصّ بالذكر سماحة حجّة الإسلام السيّد علي الرضوي اللاهوري، العالم الجليل، والمفسّر النبيل، صاحب تفسير «لوامع التنزيل» ذي الثلاثين مجلّدا، وكان يسكن مدينة لاهور، فدعاني بإلحاح منه وإصرار إلى هناك، فاستجبت لدعوته، وذهبت ملبّيا طلبه.

كما وتلقّيت فيها أيضا دعوة كريمة من إخواني المؤمنين من اسرة قزلباش، الّذين كانوا من شخصيّات ورجال الشيعة المعروفين في ولاية (البنجاب) ، وكانت دعوتهم لي لزيارة مدينة (بيشاور) وهي آخر مدينة حدودية مهمّة تربط ولاية البنجاب بأفغانستان.

ولمّا تلقّيت تلك الدعوة، ألحّ عليّ الزعيم (محمد سرور خان) ـ مضيّفي الكريم ـ بأن لا أردّ دعوة أفراد اسرته ورجال قومه من (بيشاور) ورجاني أن ألبّي دعوتهم وأذهب إليهم.

في بيشاور

ثمّ إنّي عزمت على الذهاب إلى بيشاور، فسافرت إليها في اليوم الرابع عشر من شهر رجب الحرام، وحين وردتها استقبلني أهلها استقبالا حافلا قلّ نظيره في تلك المدينة، وكان على رأس المستقبلين رجالات ووجهاء اسرة قزلباش.

١٠

ولمّا استقرّ بي المكان طلبوا منّي بإصرار أن أرتقي المنبر وأخطب فيهم ، ولمّا لم أكن اجيد اللّغة الهندية ، لم اوافق على ارتقاء المنبر ، ولم أخطب طول سفري في الهند ، رغم طلباتهم المتكرّرة.

ولكن لمّا كان أهالي مدينة بيشاور يجيدون اللغة الفارسية ، وكان أكثرهم يتكلّم بها ، حتّى كادت اللغة الفارسية أن تكون هي اللغة الدارجة فيها ، لبّيت طلبهم وقبلت أن أخطب فيهم بالفارسية.

فكنت أرتقي المنبر وقت العصر في الحسينية التي أسّسها المرحوم (عادل بيك رسالدار) وكانت مؤسّسة ضخمة تتّسع لضم الجماهير الغفيرة من الناس ، وكانت تمتلئ بالحاضرين ، وهم ليسوا من الشيعة فحسب ، بل فيهم كثير من أصحاب الأديان والمذاهب المختلفة ـ الإسلامية وغيرها ـ.

موضوع البحث

ولمّا كان أكثر أهالي بيشاور مسلمين ، ومن العامّة ، وكانوا يحضرون في المجلس مع كثير من علمائهم ومشايخهم ، جعلت موضوع البحث هو : الإمامة ، فكنت أتكلم حول : «عقائد الشيعة» وابيّن دلائل الشيعة العقلية والنقلية لإثباتها ، وأذكر النقاشات ، في المسائل الخلافية مع العامّة.

وعلى أثرها طلب منّي علماء السنّة وكبار شخصيّاتهم الّذين كانوا يحضرون البحث أن اجتمع بهم في لقاء خاصّ للإجابة عن إشكالاتهم ، فرحّبت بهم ولبّيت طلبهم.

فكانوا يأتون في كلّ ليلة إلى البيت ، ويدور البحث بيننا ساعات

١١

طويلة حول المواضيع الخلافية من بحث الإمامة وغيرها.

من بركات المنبر

وفي يوم من الأيّام عند نزولي من المنبر أخبرني بعض الحاضرين من أصدقائي بأنّ عالمين كبيرين من مشايخ العامة وهما : الحافظ محمد رشيد ، والشيخ عبد السّلام ، وكانا من أشهر علماء الدين في (كابل) (١) ـ ومن منطقة تدعى ضلع ملتان ـ قد قدما إلى بيشاور ليلتقيا بي ويشتركا مع بقية الحاضرين في الحوار الدائر فيما بيننا كلّ ليلة ، وطلبوا مني السماح لهما.

فأبديت سروري ورضاي بهذا النبأ ، واستقبلتهما بصدر منشرح وقلب منفتح ، ورحّبت بقدومهما وجالستهما مع جماعة كبيرة من أصحابهما في ساعات كثيرة.

فكانوا يأتون بعد صلاة المغرب إلى المنزل الذي نزلت فيه للمناظرة ، وذلك لمدة عشر ليال متتالية ، وكان الحوار والنقاش يدور حول المسائل الخلافية بيننا ، ويطول إلى ستّ أو سبع ساعات ، وربّما كان البحث والحوار يستمرّ بنا أحيانا إلى طلوع الفجر ، كلّ ذلك بحضور شخصيات ورجال الفريقين في بيشاور.

ولمّا انتهينا من المحاورة والمناظرة في آخر ليلة من المجلس ، أعلن ستّة من الحاضرين ـ من العامّة ـ تشيّعهم ، وكانوا من الأعيان والشخصيات المعروفة في المدينة.

ومن حسن التقدير أنّه كان يحضر مجلسنا ما يقرب من مائتي

__________________

(١) عاصمة أفغانستان.

١٢

كاتب من الفريقين ، إذ كانوا يشتركون مع الحاضرين في مجلس المناظرة للكتابة ، فكانوا يكتبون المواضيع المطروحة ، ويسجّلون الحوار والنقاش وما يجري من مسائل وأجوبة وردود وشبهات ، بأقلام أمينة وعبارات وافية وجميلة.

وكان بالإضافة إلى أولئك الكتّاب ، أربعة من الصحفيّين يكتبون أيضا ما يدور في المجلس بكلّ جزئيّاته ، ثمّ ينشرون ما يدوّنونه من المناظرات والمناقشات في اليوم الثاني في الصحف والمجلاّت الصادرة هناك.

ويضيف المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ بعد ذلك : بأنّه سيعرض على القارئ الكريم في هذا الكتاب الذي سمّاه : «ليالي بيشاور» ما نقلته تلك الصحف الرصينة ، وسجّلته تلك الأقلام الأمينة ، وما سجّله هو بنفسه من نقاط مهمّة عن تلك الليالي والمجالس التاريخية القيّمة.

ثمّ يدعو الله العليّ القدير أن ينفع به المسلمين ، ويجعله ذخيرة له في يوم الدين ، وكان قد كتبه وفرغ من تأليفه في طهران.

العبد الفاني

محمّد الموسوي

«سلطان الواعظين الشيرازي»

١٣
١٤

المجلس الأول

ليلة الجمعة ٢٣ / رجب / ١٣٤٥ هج

المكان : بيت المحسن الوجيه الميرزا يعقوب علي خان قزلباش (١) ، من الشخصيّات البارزة في بيشاور.

الابتداء : أوّل ساعة من الليل بعد صلاة المغرب.

افتتاحية المجلس : حضر المشايخ والعلماء ، وهم :

__________________

(١) كان البيت واسعا بحيث يسع للكثير من الناس ، وكان صاحبه قد استعدّ لاستضافة الوافدين ، ولذا كان المجلس ينعقد في كلّ ليلة وباستمرار في ذلك المكان ، وكان صاحب البيت أيضا يقوم بواجبه تجاه الضيوف من : حسن الضيافة ، وتكريم الحاضرين لترحيب بقدومهم ، وتقديم الشاي والفواكه والحلوى لهم ، وذلك على أحسن وجه.

وقزلباش يعني : أحمر الرأس ، ولقب «حمر الرءوس» كان يطلق على فوج خاصّ من جيش نادرشاه ، سكنوا أفغانستان لمّا فتحها نادرشاه ، ولمّا ضاقت الامور على الشيعة هناك هاجروا إلى الهند وانتشروا فيها ، وهم من الشيعة الأقوياء في تشيّعهم حتّى اليوم.

١٥

الحافظ (١) محمد رشيد ، والشيخ عبد السلام ، والسيّد عبد الحيّ ، وغيرهم من العلماء ، وعدد كبير من الشخصيّات والرجال من مختلف الطبقات والأصناف.

فرحّبت بهم واستقبلتهم بصدر منشرح ووجه منبسط ، كما ورحّب بهم صاحب البيت واستقبلهم استقبالا حارّا ، ثمّ أمر خدمه فقدّموا الشاي والفواكه والحلوى لجميع من حضر.

هذا ، ولكنّ مشايخ القوم كانوا على عكس ما كنّا معهم ، فقد رأينا الغضب في وجوههم ، إذ إنّهم واجهونا في البداية بوجوه مقطّبة مكفهرّة ، وكأنّهم جاءونا للمعاتبة لا للتفاهم والمناظرة.

أمّا أنا فكنت لا أبالي بهذه الامور ، لأنّي لم أبتغ من وراء هذا اللّقاء هدفا شخصيا ، ولم أحمل في نفسي عنادا ولا في صدري تعصّبا أعمى ضدّ أحد ، وإنّما كان هدفي أن أوضّح الحقّ وأبيّن الحقيقة.

ولذلك لم أتجاوز عما كان يجب عليّ من المعاملة الحسنة ، فقابلتهم بالبشر والابتسامة ، والترحيب والتكريم ، وطلبت منهم أن يبدءوا بالكلام بشرط أن يكون المتكلّم شخصا معيّنا عن الجماعة حتّى لا يضيع الوقت ، ولا يفوت الغرض الذي اجتمعنا من أجله.

فوافقني القوم على ذلك وعيّنوا من بينهم الحافظ محمد رشيد ليتكلّم نيابة عنهم ، وربّما خاض الآخرون ـ أحيانا ـ في البحث ولكن مع إذن مسبق.

__________________

(١) الحافظ : يطلق على من حفظ القرآن وحفظ سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علماء العامة ، أو الخاصة ، أو على من حفظ مائة ألف حديث متنا وإسنادا.

١٦

بدء المناظرة

بهذا أخذ المجلس طابعه الرسمي ، وبدأت المناظرات بيني وبينهم بكلّ جدّ وموضوعيّة ، فبدأ الحافظ محمد رشيد وخاطبني بلقب : (قبله صاحب) (١) قائلا :

منذ نزولكم هذا البلد ، شرّفتم مسامع الناس بمحاضراتكم ، وخطبكم ، ولكن بدل أن تكون محاضراتكم منشأ الالفة والإخاء فقد سبّبت الفرقة والعداء ، ونشرت الاختلاف بين أهالي البلد ، وبما أنّه يلزم علينا إصلاح المجتمع ورفع الاختلاف منه ، عزمت على السفر ، وقطعت مسافة بعيدة مع الشيخ عبد السّلام وجئنا إلى بيشاور لدفع الشبهات التي أثرتموها بين الناس.

وقد حضرت اليوم محاضرتكم في الحسينية ، واستمعت لحديثكم ، فوجدت في كلامكم سحر البيان وفصل الخطاب أكثر ممّا كنت أتوقّعه ، وقد اجتمعنا ـ الآن ـ بكم لننال من محضركم الشريف ما يكون مفيدا لعامة الناس إن شاء الله تعالى.

فإن كنتم موافقين على ذلك ، فإنّا نبدأ معكم الكلام بجدّ ، ونتحدّث حول المواضيع الأساسية التي تهمّنا وتهمّكم؟

قلت : على الرحب والسعة ، قولوا ما بدا لكم ، فاني استمع لكم

__________________

(١) هذه الكلمة من أهم الألقاب التي يخاطب بها المسلمون في الهند وباكستان ، علماء دينهم ومشايخهم ، وتعني عندهم : «الإمام والمقتدى» لذلك كانت الصحف التي تنشر تلك المناظرات تعبّر عن السيّد «سلطان الواعظين» بلقب : «قبله صاحب» «المترجم».

١٧

بلهفة ، وأصغي لكلامكم بكلّ شوق ورغبة ، ولكن أرجو من السادة الحاضرين جميعا ـ وأنا معكم ـ أن نترك التعصّب والتأثّر بعادات محيطنا وتقاليد آبائنا ، وأن لا تأخذنا حميّة الجاهلية ، فنرفض الحقّ بعد ما ظهر لنا ، ونقول ـ لا سمح الله ـ مثل ما قاله الجاهلون : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (١) أو نقول : (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) (٢).

فالرجاء هو أن ننظر نحن وأنتم إلى المواضيع والمسائل التي نناقشها نظر الإنصاف والتحقيق ، حتّى نسير معا على طريق واحد ونصل إلى الحقّ والصّواب ، فنكون كما أراد الله تعالى لنا : إخوانا متعاضدين ومتحابّين في الله تبارك وتعالى.

فأجاب الحافظ : إنّ كلامكم مقبول على شرط أن يكون حديثكم مستندا إلى القرآن الكريم فقط.

قلت : إن شرطكم هذا غير مقبول في عرف العلماء والعقلاء ، بل يرفضه العقل والشرع معا ، وذلك لأنّ القرآن الكريم كتاب سماويّ مقدّس ، فيه تشريع كلّ الأحكام بإيجاز واختصار ممّا يحتاج في فهمه إلى من يبيّنه ، والسنّة الشريفة هي المبيّنة ، فلا بدّ لنا أن نرجع في فهم ذلك إلى الأخبار والأحاديث المعتبرة من السنّة الشريفة ونستدلّ بها على الموضوع المقصود.

الحافظ : كلامكم صحيح ومتين ، ولكن أرجو أن تستندوا في حديثكم إلى الأخبار الصحيحة المجمع عليها ، والأحاديث المقبولة عندنا وعندكم ، ولا تستندوا بكلام العوامّ والغثّ من عقائدهم.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١٠٣.

(٢) سورة البقرة ، الآية ١٧٠.

١٨

وأرجو أيضا أن يكون الحوار هادئا ، بعيدا عن الضوضاء والتهريج حتّى لا نكون موضع سخرية الآخرين ومورد استهزائهم.

قلت : هذا كلام مقبول ، وأنا ملتزم بذلك من قبل أن ترجوه منّي ، فإنّه لا ينبغي لرجل الدين والعالم الروحي إثارة المشاعر والتهريج في الحوار العلمي والتفاهم الديني ، وبالأخصّ لمن كان مثلي ، إذ إنّ لي العزّ والفخر وشرف الانتساب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو صاحب الصفات الحسنة والخصال الحميدة والخلق العظيم ، الذي أنزل الله تعالى فيه : (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١).

ومن المعلوم أنّي أولى بالالتزام بسنّة جدّي ، وأحرى بأن لا أخالف أمر الله (عزّ وجلّ) حيث يقول : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢).

الحافظ : ذكرت أنّك منتسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المشهور أيضا بين الناس ـ فهل يمكنكم أن تبيّنوا لنا طريق انتسابكم إلى النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشجرة التي تنتهي بكم إليه؟

قلت : نعم ، إنّ نسبي يصل عن طريق الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك على النحو التالي :

شجرة المؤلّف

أنا محمد بن علي أكبر «أشرف الواعظين» بن قاسم «بحر العلوم»

__________________

(١) سورة القلم ، الآية ٤.

(٢) سورة النحل ، الآية ١٢٥.

١٩

ابن حسن بن إسماعيل «المجتهد الواعظ» بن إبراهيم بن صالح بن أبي علي محمد بن علي «المعروف بالمردان» بن أبي القاسم محمد تقي بن «مقبول الدين» حسين بن أبي علي حسن بن محمد بن فتح الله بن إسحاق بن هاشم بن أبي محمد بن إبراهيم بن أبي الفتيان بن عبد الله ابن الحسن بن أحمد «أبي الطيّب» بن أبي علي حسن بن أبي جعفر محمد الحائري «نزيل كرمان» بن إبراهيم الضرير المعروف ب «المجاب» ابن الأمير محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام عليّ السجّاد «زين العابدين» ابن الإمام أبي عبد الله الحسين «السبط الشهيد» بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (سلام الله عليهم أجمعين).

الحافظ : جيّد ، لقد انتهى نسبك ـ حسب بيانك هذا ـ إلى عليّ بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) ، وهذا الانتساب يثبت أنّك من أقرباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا من أولاده ، لأنّ الأولاد إنّما هم من ذريّة الإنسان ونسله ، لا من ختنه وصهره ، فكيف ادّعيت مع ذلك بأنّك من أولاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

قلت : إنّ انتسابنا إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما يكون عن طريق فاطمة الزهراء عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّها أمّ الإمام الحسين الشهيد عليه‌السلام.

الحافظ : العجب كلّ العجب منك ومن كلامك! إذ كيف تتفوّه بهذا الكلام وأنت من أهل العلم والأدب؟!

ألست تعلم أنّ نسل الإنسان وعقبه إنّما يكون عن طريق الأولاد الذكور لا الإناث؟! ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له عقب من أولاده

٢٠