السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١
فصرّح ابن أبي الحديد وغيره من كبار علمائكم ممن شرح نهج البلاغة ، أنّه عليهالسلام عنى بهذه الأوصاف معاوية عليه اللعنة ، فهو الذي لما غلب على الشيعة وأصحاب الإمام عليّ عليهالسلام أمرهم بسبّه ولعنه والتبرّي منه صلوات الله عليه وقتل من أبى منهم وامتنع مثل حجر بن عدي وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
ولقد دامت هذه السنّة السيئة والبدعة المشئومة ثمانين سنة على المنابر والصلوات وفي خطب الجمعات.
إخباره عليهالسلام عن مقتل ذي الثدية
ومن إخبار الإمام علي عليهالسلام بالمغيّبات ، خبر مقتل ذي الثدية في معركة النهروان وكان رأس الخوارج (١). ولقد أخبر عليهالسلام أيضا في حرب
__________________
(١) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ٢ / ٢٦٥ ، ط دار إحياء الكتب العربية ، تحت عنوان : أخبار الخوارج ... وفي الصحاح المتفق عليها أنّ رسول الله (ص) بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بني تميم ، يدعى ذا الخويصرة ، فقال : اعدل يا محمد! فقال (ص) «قد عدلت. فقال له ثانية : اعدل يا محمد! فإنّك لم تعدل! فقال (ص) : ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل! ...... ثم أخبر (ص) عنه وقال : فسيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ... وبعد ما وصفهم قال (ص) : آيتهم رجل أسود مخدج اليد ، إحدى يديه كأنّها ثدي امرأة».
وقال ابن أبي الحديد في صفحة ٢٧٧ من نفس الجزء : وروى العوّام بن حوشب عن أبيه ، عن جدّه يزيد بن رويم ، قال : قال عليّ عليهالسلام «يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج ، أحدهم ذو الثدية».
النهروان وقال قبل أن تقع «لا يفلت منهم عشرة ، ولا يهلك منكم عشرة». وكان كما أخبر ولقد روى هذا الخبر أكثر علمائكم وكبار أعلامكم وهو من عبارات نهج البلاغة. وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج ٥ / ص ٣ ، ط دار إحياء التراث العربي / قال في ذيل العبارة وفي شرحها : هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة ، اشتهاره ونقل الناس كافّة له. وهو من معجزاته وأخباره المفصّلة عن الغيوب (١).
__________________
فلمّا طحن القوم ورام استخراج ذي الثدية فاتبعه ، أمرني أن أقطع له أربعة آلاف قصبة ، وركب بغلة رسول الله (ص) وقال «اطرح على كلّ قتيل منهم قصبة». فلم أزل كذلك وأنا بين يديه ، وهو راكب خلفي والناس يتبعونه حتى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه وإذا وجهه أربد ، وإذا هو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، فإذا خرير ماء عند موضع دالية ، فقال : فتّش هذا ففتّشته ، فإذا قتيل قد صار في الماء ، وإذا رجله في يدي فجذبتها وقلت : هذه رجل انسان ، فنزل عن البغلة مسرعا ، فجذب الرجل الأخرى وجررناه حتى صار على التراب فإذا هو المخدج «ذو الثدية». فكبّر علي عليهالسلام بأعلى صوته ، ثم سجد ، فكبّر الناس كلهم. «المترجم»
(١) أقول : وعقّب ابن أبي الحديد كلامه في شرح العبارة قائلا : والأخبار على قسمين :[أحدهما الأخبار المجملة ، ولا إعجاز فيها : نحو أن يقول الرجل لأصحابه : إنكم ستنصرون على هذه الفئة التي تلقونها غدا : فإن نصر جعل ذلك حجّة له عند أصحابه وسمّاها معجزة ، وإن لم ينصر ، قال لهم : تغيّرت نيّاتكم وشككتم في قولي ، فمنعكم الله نصره ، ونحو ذلك من القول ، ولأنّه قد جرت العادة أنّ الملوك والرؤساء يعدون أصحابهم بالظّفر والنصر ، ويمنّونهم الدّول ، فلا يدلّ وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمّن إعجازا.
والقسم الثاني : في الأخبار المفصّلة عن الغيوب ، مثل هذا الخبر ، فإنّه لا يحتمل التلبيس ، لتقييده بالعدد المعيّن في أصحابه وفي الخوارج ، ووقوع الأمر بعد الحرب
__________________
بموجبه ومن غير زيادة ولا نقصان ، وذلك الامر إلهيّ عرفه من جهة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعرفه رسول الله (ص) من جهة الله سبحانه. والقوّة البشريّة تقصر عن إدراك مثل هذا ، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره.]
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ج ٧ / ٤٧ ، ط دار إحياء الكتب العربية : تحت عنوان : فصل في ذكر أمور غيبيّة ، أخبر بها الإمام ثم تحققت قال [واعلم أنه عليهالسلام قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلاّ أخبرهم به ، وأنّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدي بها مائة وتضلّ بها مائة إلاّ وهو مخبر لهم ـ ان سألوه ـ برعاتها وقائدها وسائقها ومواضع نزول ركابها وخيولها ، ومن يقتل منها قتلا ، ومن يموت منها موتا ، وهذه الدعوى ليست منه عليهالسلام ادّعاء الربوبيّة ، ولا ادّعاء النبوّة ، ولكنه كان يقول : إنّ رسول الله (ص) أخبره بذلك. ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقا ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة ، كإخباره عن الضربة يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته ، وإخباره عن قتل الحسين ـ ابنه ـ عليهما السّلام ، وما قاله في كربلاء حيث مرّ بها ، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده ، وإخباره عن الحجّاج ، وعن يوسف بن عمر ، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان ، وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم ، وصلب من يصلب ، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وإخباره بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليهالسلام إلى البصرة لحرب أهلها ، وإخباره عن عبد الله بن الزبير ، وقوله فيه : «خبّ ضبّ ، يروم أمرا ولا يدركه ، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا ، وهو بعد مصلوب قريش» وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق ، وهلاكها تارة أخرى بالزّنج ، وكاخباره عن ظهور الرايات السّود من خراسان ، وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم ،
__________________
وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسيّة ، وكإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما ، وكإخباره عن مقتل النفس الزكيّة بالمدينة وقوله : إنّه يقتل عند أحجار الزيت ، وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة ـ الصحيح باخمرى ـ : يقتل بعد أن يظهر ، ويقهر بعد أن يقهر ، وكإخباره عن قتلى وجّ ـ وأظن هم قتلى فخّ الذين استشهدوا في عهد الهادي العباسي ، وهم من أبناء الحسن المجتبى سبط رسول الله (ص) ـ وقوله فيهم «هم خير أهل الأرض».
وكإخباره عن المملكة العلويّة بالمغرب ، وتصريحه بذكر كتامة وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلّم ، وكقوله وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدي «وهو أوّلهم ثم يظهر صاحب القيروان الغضّ البضّ ، ذو النسب المحض ، المنتجب من سلالة ذي البداء ، المسجّى بالرداء». وكان عبيد الله المهدي أبيض مترفا مشربا بحمرة : رخص البدن ، تار الأطراف. وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السّلام ، وهو المسجّى بالرداء لأنّ أباه أبا عبد الله الصادق عليهالسلام سجّاه بردائه لما مات ، وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته وتزول عنهم الشبهة في أمره.
وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم «ويخرج من ديلمان بنو الصيّاد». إشارة إليهم ، وكان أبوهم صيّاد السمك يصيد منه بيده ما يتقوّت هو وعياله بثمنه ، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة ، ونشر ذريّتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم.
وكقوله عليهالسلام فيهم : ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزّوراء ، ويخلعوا الخلفاء ، فقال قائل : فكم مدّتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال : مائة أو تزيد قليلا.
فأمّا خلعهم للخلفاء فإنّ معز الدولة خلع المستكفي ، ورتّب عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتّب عوضه القادر ، وكانت مدة ملكهم كما أخبر عليهالسلام.
وكإخباره عليهالسلام لعبد الله بن العباس رحمهالله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده «فإنّ
أليس هذا إخبارا بالغيب والعلم بالمستقبل والأمور التي لم تقع بعد؟ ولو أنصفتم لعرفتم أنّ مقام الولاية الإلهية والخلافة الربّانيّة التي تجلّت في هذا العبد الصالح والوليّ الفالح يميّزه عن سائر الخلفاء ، أين الثرى من الثريّا؟ وأين مدّعي الخلافة ممن رفعه الله مقاما عليّا؟!
فإذا لم يكن الإمام عليّ عليهالسلام متصلا بالعالم الأعلى ومنبع العلم الربّاني والعلم اللّدنّي ، كيف أخبر عن المغيّبات وأخبر عن الحوادث التي تقع في المستقبل البعيد أو القريب مثل إخباره عن مقتل ميثم التمّار ـ رحمهالله تعالى ـ وأخبر أنّ قاتله عبيد الله بن زياد وهو يصلبه على جذوع النخل ، وأخبر عن مقتل جويرية ورشيد الهجري وعمرو ابن الحمق الخزاعي على يد عمال معاوية وأعوانه ، وأخبر عن كيفيّة قتلهم واستشهادهم ، ولقد أخبر عن مقتل ولده الحسين عليهالسلام واستشهاده مع أهل بيته وأنصاره في أرض كربلاء. وهذه الأخبار مذكورة في تاريخ الطبري ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ، ومقتل الحسين أو مناقب الخوارزمي
__________________
علي بن عبد الله لمّا ولد ، أخرجه أبوه عبد الله إلى عليّ عليهالسلام ، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بثمرة قد لاكها ، ودفعه إليه وقال : خذ إليك أبا الأملاك».
هكذا الرواية الصحيحة ، وهي التي ذكرها أبو العباس المبرّد في كتاب الكامل.
[وبعد نقل ابن أبي الحديد كل هذا الكلام قال] : وكم له من الإخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ، مما لو أردنا باستقصائه لكرّسنا له كراريس كثيرة ، وكتب السّير تشتمل عليها مشروحة. انتهى كلام ابن أبي الحديد.]
«المترجم»
وغيرهم ، فإنهم ذكروا هذه القضايا بالتفصيل.
إخباره عليهالسلام بأنّ ابن ملجم قاتله
لقد ذكر أكثر أعلامكم وكبار علمائكم منهم العلاّمة ابن الأثير في كتابه أسد الغابة : ج ٤ / ٢٥ ، قال : لمّا حضر عبد الرحمن بن ملجم المرادي عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنشد قائلا :
أنت المهيمن والمهذّب ذو النّدى |
|
وابن الضراغم في الطراز الأوّل |
الله خصّك يا وصيّ محمد |
|
وحباك فضلا في الكتاب المنزل |
إلى آخر أبياته. فعجب الحاضرون من طلاقة لسانه وفرط علاقته بالإمام عليّ عليهالسلام.
وذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة ٨٠ ، ط الميمنية بمصر قال : وروي أنّ عليا جاءه ابن ملجم يستحمله فحمله ثم قال رضياللهعنه :
«أريد حياته ويريد قتلي |
|
عذيري من خليلي من مرادي |
ثم قال : هذا والله قاتلي.
فقيل له : ألا تقتله؟ فقال : فمن يقتلني». «انتهى».
فلا يقال : إذا كان يعلم أنّ ابن ملجم قاتله فلما ذا تركه ولم يحبسه؟!
لأنّه سلام الله عليه كان مأمورا بالظاهر ومقيّدا بالشرع ، فليس لحاكم أن يعاقب أحدا إلاّ إذا ارتكب جرما ، فلذا لمّا قال الأصحاب لعليّ عليهالسلام : إذا كنت تعلم أنّه قاتلك فاقتله. فقال عليهالسلام : لا يجوز
القصاص قبل الجناية.
يقول الكاتب الإنجليزي ـ كارليل ـ في كتابه الأبطال : إنّ علي بن أبي طالب قتل لعدله.]
اي إذا كان ظالما مثل كثير من الملوك والحكّام ، وما كان مقيّدا بالدين والقانون لقتل ابن ملجم ، كما يقتل الملوك كلّ من أساءوا الظنّ فيه حتى إذا كان المظنون أخوهم وابنهم أو أعزّ وأقرب الناس إليهم.
ولكنّ الامام عليّ سلام الله عليه هو الوحيد في التاريخ الذي كان يعرف قاتله ويعرّفه الناس ، ولا يقضي عليه وتركه حرّا وما حبسه ولا نفاه ، ولمّا ضربه ابن ملجم بسيفه أوصى وقال صلوات الله وسلامه عليه : انظروا إذا أنا قتلت من ضربته ، فاضربوه ضربة بضربة ، ولا تمثّلوا به ...!
ونستنتج من هذه الأخبار أنّ من ارتضاه الله تعالى ومنحه علم الغيب يلزم أن يكون معصوما عادلا ، وألاّ يقوم بالتعدّي والظلم استنادا على علمه ، قبل حدوث الجناية وقبل أن يقع شيء مما علمه ، وبذلك يبطل التقدير الإلهي ، وهذا محال. لذا جاء في رواية الصواعق المحرقة آنفا [أنّ عليا عليهالسلام لمّا قال : هذا والله قاتلي ـ وأشار إلى ابن ملجم ـ فقيل له عليهالسلام : ألا تقتله؟ فقال عليهالسلام : فمن يقتلني؟]
فأسألكم أيها الحاضرون والمستمعون! أما تدلّ هذه الأخبار والروايات في كتب كبار علمائكم ، على علم الامام عليّ عليهالسلام بالمغيّبات وأنّه كان يمتاز عن سائر الناس وسائر الصحابة ، بهذه الميزة العظمى والفضيلة الكبرى؟
يجب تقديم الأعلم والأفضل
فإنّ العقلاء في كل زمان ومكان لا يسمحون بتقديم الجاهل على العالم ولا يجوز عندهم متابعة الأفضل للمفضول بل يجب انقياد الجاهل للعالم والمفضول للفاضل.
وإنّ أفضليّة الإمام عليّ عليهالسلام وأعلميّته أمر ثابت لجميع الأمة من الصحابة والتابعين والمتقدمين والمتأخرين حتى أنّ ابن أبي الحديد في مقدّمته على شرح نهج البلاغة قال : الحمد لله الذي .... قدم المفضول على الأفضل.
وهذا التعبير والبيان يثير التعجّب في كل إنسان ولا سيّما من عالم مثل ابن أبي الحديد ، لأنّ فيه نسبة عمل خلاف العقل والحكمة إلى الله العليم الحكيم سبحانه وتعالى عما يصفون! فإنّ تقديم المفضول على الأفضل مخالف للحكمة والعقل ويأباه كل إنسان ذي فهم وإدراك فكيف بالله عزّ وجلّ؟ وهو يقول في كتابه الكريم : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١)؟.
ويقول : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢)؟.
والجدير بالذّكر أنّ ابن أبي الحديد صاحب التعبير الآنف يقول أيضا في شرح نهج البلاغة : ج ١ / ص ٤ ، طبع مصر [أنّه عليهالسلام أفضل البشر بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأحقّ بالخلافة من جميع المسلمين.]
__________________
(١) سورة الزمر ، الآية ٩.
(٢) سورة يونس ، الآية ٣٥.
ولقد أمر النبي (ص) المسلمين أن يأخذوا العلم من عليّ عليهالسلام ويرجعوا إليه من بعده بقوله (ص) «ومن أراد العلم فعليه بالباب ، أو فليأت الباب».
فالذي أمر النبي (ص) الأمة أن يرجعوا إليه ويتعلّموا منه أحق بالخلافة والإمامة ، أم غيره؟!
الشيخ عبد السلام : إذا كان علي كرم الله وجهه هو المقدّم كما تزعمون ، لأنّه أعلم وأفضل الناس بعد رسول الله (ص) ، فلما ذا لم نجد نصّا من النبي (ص) يلزم فيه المسلمين على متابعة سيدنا عليّ كرم الله وجهه؟
قلت : لا أدري هل الشيخ عبد السلام ـ سلّمه الله ـ مبتلى بالنسيان أم يتناسى أحاديثنا السالفة في الليالي الماضية ، فإنّ أكثر الحاضرين يذكرون ، وكذلك الصحف والمجلاّت الناشرة للمحاورات السابقة موجودة والكل شاهد على أنّي ذكرت عشرات الأحاديث النبويّة الشريفة من كتبكم ومصادركم الموثوقة ، تتضمّن النصوص الخفيّة والجليّة في وجوب متابعة الإمام عليّ عليهالسلام وإطاعته وعدم مخالفته ، وبعد كل ذلك كأنّ الشيخ يفتح الموضوع من جديد ويرجع إلى بداية المناقشات فيطالب بالنصّ الصادر من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على وجوب ولزوم متابعة الامام علي عليهالسلام!!
ومع غضّ النظر عن المناقشات السالفة ، لو أردنا أن نعرف ما الذي ألزم الناس أن يتبعوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ لكان الجواب : لأنّه كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلم من الله ما لا يعلمون. فأسأل فضيلة الشيخ : هل علوم
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت خاصّة لهداية البشر في زمان حياته المباركة ، أم كانت كذلك لجميع البشر إلى يوم القيامة؟
الشيخ عبد السلام : من الواضح أنّه كان هديا لجميع البشر إلى يوم القيامة.
قلت : بارك الله فيك .. فإذا لم يكن من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيّ نصّ في تعيين الخليفة والإمام إلاّ حديثه الشريف المتواتر : أنا مدينة العلم وعلي بابها ومن أراد العلم فليأت الباب ، لكفى في إثبات خلافة الإمام عليّ عليهالسلام وأنّه المعيّن بالنصّ الجليّ.
ولقد أجمع علماء الإسلام على أنّ علي بن أبي طالب كان أعلم الأمة وأعلم الصحابة لحديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي رواه جمع من كبار علمائكم وأعلام محدثيكم مثل أحمد في مسنده ، والخوارزمي في المناقب ، وأبي نعيم الحافظ في كتابه نزول القرآن في عليّ ، والعلاّمة القندوزي في ينابيع المودّة ، والعلاّمة الهمداني في مودّة القربى وحتى ابن حجر المتعصّب في صواعقه وغيرهم بأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال «أعلم أمتي علي بن أبي طالب فلا يقاس به أحد من الصحابة في العلم والفضيلة».
كما روى ابن المغازلي في المناقب ، ومحمد بن طلحة العدوي في مطالب السّئول ، وشيخ الاسلام الحمويني في فرائد السمطين ، والعلاّمة القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة / الباب الرابع عشر ، في غزارة علمه عليهالسلام ، روى عن الكلبي عن عبد الله بن عباس قال [علم النبي (ص) من علم الله ، وعلم عليّ من علم النبي (ص) ، وعلمي من علم عليّ عليهالسلام ، وما علمي وعلم الصحابة في علم عليّ إلاّ
كقطرة بحر في سبعة أبحر (١).]
وقال عليهالسلام في آخر الخطبة المرقمة ١٠٨ من نهج البلاغة «نحن شجرة النبوّة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكم».
قال ابن أبي الحديد في شرحه ج ٧ / ٢١٩ ، ط دار إحياء الكتب العربية : فأما قوله [ومعادن العلم وينابيع الحكم : يعني الحكمة أو الحكم الشرعيّ ، فإنّه وإن عنى بها نفسه وذريّته ، فإنّ الأمر فيها ظاهر جدا ، قال رسول الله (ص) : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب ، وقال (ص) : أقضاكم عليّ. والقضاء أمر يستلزم علوما كثيرة ـ وبعد نقله روايات أخرى ـ يقول :
وبالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جدا لم يلحقه أحد فيها ولا قاربه ، وحقّ له أن يصف نفسه بأنّه معادن العلم وينابيع الحكم ، فلا أحد أحقّ بها منه بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم]. انتهى.
وأخرج ابن عبد البر في الاستيعاب : ج ٣ / ٣٨ ، ومحمد بن طلحة العدوي في مطالب السّئول ، والقاضي الإيجي في المواقف ص ٢٧٦ عن النبي (ص) أنه قال «أقضاكم عليّ».
__________________
(١) وقال ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة [ومن العلوم علم تفسير القرآن وعنه أخذ ومنه فرّع ، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك لأنّ أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس ، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنّه تلميذه ، وقيل له : أين علمك من علم ابن عمك؟
فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.]
«المترجم»
وأخرج السيوطي في تاريخ الخلفاء : ص ١١٥ ، وأبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء : ج ١ / ٦٥ ، ومحمد الجزري في أسنى المطالب : ص ١٤ ، وابن سعد في الطبقات ، وابن كثير في تاريخه ج ٧ / ٣٥٩ ، وابن عبد البر في الاستيعاب : ج ٤ / ٣٨ ، وابن حجر في صواعقه في الفصل الذي يذكر فيه ثناء الصحابة لعلي عليهالسلام ، وغيرهم أخرجوا عن عمر بن الخطاب أنه قال [عليّ أقضانا] ولقد نقل العلاّمة القندوزي الحنفي في كتاب ينابيع المودّة / الباب الرابع عشر / عن كتاب الدرّ المنظم لابن طلحة الحلبي الشافعي قال : اعلم أنّ جميع أسرار الكتب السماويّة في القرآن وجميع ما في القرآن في الفاتحة وجميع ما في الفاتحة في البسملة وجميع ما في البسملة في باء البسملة وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي هي تحت الباء ، وقال الإمام عليّ كرم الله وجهه «أنا النقطة التي تحت الباء». انتهى وأخرج العلاّمة القندوزي أيضا في الباب ، عن ابن عباس أنّه قال : أخذ بيدي الإمام عليّ ليلة مقمرة فخرج بي إلى البقيع بعد العشاء وقال «اقرأ يا عبد الله. فقرأت : بسم الله الرحمن الرحيم ، فتكلم لي في أسرار الباء إلى بزوغ الفجر».
وروى القندوزي في الباب عن الدّر المنظّم ، وروى الخوارزمي في المناقب ، وابن طلحة العدوي في المطالب : أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام قال «سلوني عن أسرار الغيوب فإنّي وارث علوم الأنبياء والمرسلين».
وروى القندوزي في الباب أيضا ، وأحمد في المسند ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة «أنّ عليا عليهالسلام قال على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن طرق السماوات فإنّي أعلم بها من طرق الأرض».
لا يخفى أنّ هذا الكلام منه عليهالسلام ـ ولا سيما في ذلك الزمان الذي ما كان البشر بعد يتصوّر ويفكّر في طرق السماوات ، ولا كان يعقل ويصدّق بأن للسماوات طرقا كطرق الأرض ـ أكبر دليل على أنّ علمه كان لدنيّا ونازلا إليه من ربّ السماء بواسطة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم .
والجدير بالذكر ، أنّهم لما سألوه عن الكرات السماويّة والأسرار الفلكيّة ، أجابهم بموجب الاكتشافات العلميّة الحديثة وعلى خلاف ما كانوا يعتقدون آنذاك من نظريّة بطلميوس وغيرها.
جوابه عليهالسلام عن الكرات السماوية
روى العالم الفاضل والمحدّث الجليل الثقة العدل الشيخ علي بن إبراهيم القمي ـ من أعلام القرن الثالث الهجري ـ في كتابه المعروف بتفسير القمي. ضمن تفسيره سورة الصافّات ، وكذلك العلاّمة اللغوي والعالم الديني الورع الزاهد التقي فخر الدين الطريحي في كتابه مجمع البحرين ، وكان يعيش قبل ثلاثمائة سنة تقريبا ، روى في مادة كوكب.
وروى العلاّمة الجليل والمحدّث النبيل المولى محمد باقر المجلسي رحمهالله في بحار الأنوار مجلّد السماء والعالم ، قالوا بأنّه عليهالسلام سئل عن الكواكب في السماء فقال في جوابهم «هذه الكواكب مدائن مثل المدائن التي في الأرض. تربطها أعمدة من نور».
هذا الكلام ـ في ذلك الزمان الذي ما كانت فيه هذه الوسائل والآلات الكاشفة للكرات والسّيّارات الفلكيّة ـ يعدّ من المعاجز العلميّة التي تدلّ على أنّ قائلها إنّما كان يستوحي علمه من السماء ومن الخالق
العظيم. لأنّ هذا الكلام على خلاف ما كان يعتقده العلماء والفلكيّون في ذلك العصر. وبعد مضيّ أكثر من ألف سنّة انكشف صحة كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام. ولقد كان لأولاده الأئمة المعصومين سلام الله عليهم كلام من هذا القبيل أيضا وهو كثير وقد جمعه أحد علمائنا الكبار في كتاب سمّاه ـ الهيئة والإسلام ـ.
حديث مع المستشرق الفرنسي مسيو جوئن
من المناسب أن أحدّثكم بحديث حدث في سفري هذا من العراق إلى بلادكم وهو : أنّي لمّا ركبت السفينة والباخرة من ميناء البصرة وتوجّهت إلى الهند ، صادف أن رافقني في الغرفة التي كنت فيها المستشرق الفرنسي مسيو جوئن وكان يجيد العربية والفارسية الى جانب لغته الفرنسية فتصادقنا مدّة سفرنا الذي طال أيّاما كثيرة وكنت وإيّاه في طول الطريق نتحادث عن الأمور العلميّة والدينية وكنت مهتما بإرشاد الرجل إلى الإسلام من خلال حديثي عن اعتقاداتنا الحقة وتعاليم ديننا السامية الواصلة إلينا من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته وعترته والتي تشكّل مذهب الشيعة الإمامية.
وفي يوم من الأيّام أقرّ الرجل وقال : إنّي أعترف بأنّ دين الاسلام يشتمل على تعاليم سامية ، وعقائد عالية ، ومعنويات عظيمة ، بحيث لا توجد مثلها في سائر الأديان وحتى المسيحية ولكنّ أتباع الديانة المسيحية توصّلوا في الاكتشافات العلميّة والاختراعات الصناعيّة.
وتقدّموا في الأمور الماديّة إلى أبعد الغايات وسبقوا المسلمين وأتباع الديانات الأخرى في توفير وسائل الراحة والسعادة في الحياة.
قلت له : كلامك صحيح ولا ننكر ذلك ، ولكن أساس هذه العلوم التي أدّت إلى تلك الاكتشافات العلميّة والاختراعات الصناعية بيد الغربيين كان منبعها وأساسها من الإسلام والمسلمين ، والتاريخ يشهد بأنّ الغربيين إلى القرن الثامن الميلادي كانوا يعيشون في بربريّة وهمجيّة ، في حين كان المسلمون يحملون راية العلم وكانوا آنذاك دعاة التمدّن والتقدّم والصلاح. كما يعترف بذلك كبار أعلامكم مثل ارنست رنان الفرنسي ، وكارليل الإنجليزي ، وندرمال الألماني وغيرهم.
وقبل أيّام وجدت كتابا عند أحد زملائي الكرام وهو النواب محمد حسين خان قزلباش ، من شخصيات الهند ، يقيم في كربلاء والكاظمية ، ناولني ذلك الكتاب وقال إنّه كتاب قيّم كتبه أحد المستشرقين الفرنسيين وترجمه من الفرنسيّة إلى الهنديّة السيد الفاضل والعالم الكامل السيد علي بلجرامي الهندي ، واسمه : تاريخ تمدّن العرب لمؤلفه جوستاف لوبون الحائز على شهادات الدكتوراه في الطب والحقوق والاقتصاد.
قال النوّاب محمد حسين خان : ولقد أثبت فيه المؤلف بالدلائل والبراهين بأنّ كل ما عند الغربيين من العلم والتمدّن والصناعات وحتى التعاليم الأخلاقيّة وآداب المعاشرة والإدارة وسياسة البلاد وتدبير الجيوش والعساكر والمهام الاجتماعيّة والفرديّة وغيرها ، إنما اكتسبوها وتعلّموها من العرب ، فإنّ العرب سبقوا كل الشعوب والملل إلى هذه لأمور الحسنة.
ومن الواضح أنّ المقصود من العرب ، هم المسلمون لأنّ العرب قبل ظهور الإسلام ، كانوا يعيشون في جاهلية وبربريّة بحيث سمّاهم
المؤرّخون بعرب الجاهليّة ولكنّهم بفضل الاسلام أصبحوا روّاد العلم والتمدّن والصلاح والنظام في العالم.
فقال المسيو جوئن : نعم إنّي طالعت وقرأت هذا الكتاب في باريس.
فانّ المؤلف الدكتور جوستاف لوبون زميلي ولقد أهدى لي كتابه بيده ، وهو كتاب علمي تحقيقي تاريخي استدلالي.
مقال جوستاف لوبون في تأثر الغرب بالتمدن الإسلامي
ولقد ترجم لي الأستاذ صادق خان قزلباش وهو يسكن مدينة الكاظمية أيضا. بعض أوراق ذلك الكتاب ، منها الفصل الثاني من الباب العاشر تحت عنوان : تأثير الغرب بالتمدن الإسلامي ، وأنا أشكره كثيرا. وأقدّم إليكم هذا المقال بالمناسبة يقول جوستاف لوبون : إنّ أثر التمدن الإسلامي في الغرب لا يقلّ عن الأثر الذي أوجده في الشرق ، وبالإسلام تمدّنت أوربا. وإذا أردنا أن نعرف مدى هذا التأثير ، يلزم أن نطالع تاريخ أوربا قبل ظهور الإسلام.
ففي القرن التاسع والعاشر الميلادي أي في الزمن الذي وصل التمدّن الإسلامي إلى القمّة في بلاد إسپانيا ـ الأندلس سابقا ـ وحصل التقدّم العلمي والحضاري والاجتماعي والتجاري في تأسيس مراكز ، لم يكن في كل بلاد الغرب مركز واحد للعلم والحضارة ، أو تعليم الآداب الاجتماعيّة والتجاريّة. وكان كلّ شيء منحصرا في الكنائس وفي يد القساوسة والرهبان الجاهلين الذين كانوا يدّعون العلم والمعرفة ويجبرون الناس على الالتزام والتمسّك بالانحرافات والخزعبلات التي
كانوا ينسبونها إلى الدين!
ومن القرن الثاني عشر الميلادي توجّه بعض الغربيين إلى الأندلس ودخلوا المراكز العلميّة التي أسسها المسلمون هناك وتلمّذوا عند العلماء المسلمين ، وأصبحوا علماء فاهمين وعادوا إلى بلاد أوربا ، وعملوا لإنقاذ شعوبهم من جهل القساوسة والخرافات المنتسبة إلى الدين.
فكل علماء العالم يجب أن يعرفوا حق المسلمين وتأثير التعاليم الإسلاميّة في انتشار العلم وترغيب الناس في تحصيل العلوم ، ولا سيما علمائنا في الغرب يجب أن يعرفوا أنّ للمسلمين حق الحياة عليهم ، ولو سمّينا تمدّن الغرب بتمدّن الإسلام والعرب كان صحيحا.
هذا رأي أحد المستشرقين وأحد علمائكم المحققين ، وأنت مثل كثير من الأوربيين تفتخر وتتباها بالاكتشافات والاختراعات الحديثة في الغرب وتنسون ذلك الماضي المظلم ولا تتفكّرون في النور الذي أزاح عنكم ذلك الجهل والظلام المطبق والنور هو نور الاسلام والعلم الذي أوصلكم بفضل الإسلام ولو طالعتم وقرأتم تاريخ الجزيرة العربيّة قبل الإسلام أيضا ، لرأيتهم أسوأ حالا من الغربي آنذاك ، فلا علم ولا نظام ولا دولة ولا قانون و...
ولمّا جاءهم الإسلام ، فبفضل خاتم الأنبياء والتعاليم السامية التي جاء بها من عند الله عزّ وجلّ صارت الجزيرة من أرقى بلاد العالم ، وانطلق منها المسلمون ينشرون تلك التعاليم الراقية والأحكام العالية ، في حين كانت پاريس التي هي اليوم مهد التمدّن والحضارة الحديثة ، كانت يوم ذاك تعاني من البربرية والوحشية الحاكمة بين أهلها بكل
ضراوة وقساوة.
قلت لمسيو جوئن : إنكم تعلمون أنّ أوربا في القرن السابع والثامن الميلادي في عهد الإمبراطور شارلمان ملك فرنسا ، حصلت على شيء من النظام والتقدّم الحضاري والاجتماعي ولكن لا تقاس مع البلاد الاسلامية حينذاك ، ولقد كانت الروابط والعلاقات الدبلوماسيّة حسنة بين شارلمان وبين هارون الرشيد ولتوثيق العلاقات تبودلت بينهما هدايا وتحف ، بدأ بها الإمبراطور شارلمان وأجابه هارون بإرسال جملة من الهدايا مثل المجوهرات الثمينة والملابس الفاخرة التي كانت من صنع وحياكة المسلمين ، وكان منها فيل كبير لم ير الأوربيون مثله في بلادهم ، وبعث ساعة كبيرة صنعها المسلمون العرب وكانت تبيّن ساعات الليل والنهار بدقّات منظّمة رنّانة بصوت يحدث على أثر سقوط أثقال حديدية في طاسة كبيرة برنزية وقد نصبها الفرنسيّون على المدخل الرئيسي لعمارة الحكومة والتي كان الامبراطور يسكنها ، هذا ما أثبته ونقله الدكتور جوستاف لوبون في كتابه ونقله أيضا غيره من المستشرقين والعلماء الغربيين. وإن أحببتم أن تعرفوا التمدنين الإسلامي والغربي في ذلك الزمان فراجعوا تواريخكم وطالعوا قضيّة إرسال هدايا الرشيد إلى الإمبراطور شارلمان وتلك الساعة التي تعدّ أول ساعة من نوعها في أوربا ، والجدير بالذكر أن المؤرخين الغربيين يكتبون أنّه لما نصبت هذه الساعة على المدخل الرئيسي لبيت الإمبراطور ، اجتمع الناس ينظرون إليها متعجبين فلمّا رأوا حركات المؤشّرات وسمعوا تلك الدقّات الرنّانة التي كانت تحدث على أثر سقوط كريّات حديديّة في الطاسة البرنزية ، قالوا فيما بينهم إنّ
الشيطان الذي كان الرهبان والقساوسة يحذّروننا منها وأنّها أكبر عدوّ للإنسان قد اختفى في هذا الشيء وهو الذي يحرّك المؤشّرات ويلقى الكريّات في الطاسة ، فأخذوا المعاول والفئوس وهجموا نحو دار الحكومة وبيت الإمبراطور ، فلما عرف الملك كلامهم وعرف أنّ مقصدهم هدم الساعة وتحطيمها دخل معهم من باب المفاوضة والتفاهم ، فاختاروا من بينهم كبارهم فصعدوا عند الساعة ونظروا إلى كيفية عملها ومحرّكاتها ، وفتّشوها فلم يجدوا فيها غير قطعات خشبية وحديدية وبرنزيّة ، فتنازلوا عن رأيهم واعتذروا إلى الإمبراطور!!
فالمسلمون كانوا متقدمين وسابقين على الغربيين في هذه العلوم والفنون والصناعات والاكتشافات بل هم المؤسسون لأكثر هذه الأشياء والعلوم والفنون إلاّ أنّهم تكاسلوا بعد حين واغترّوا فسبقهم الغربيون وتقدّموا عليهم بما تعلّموه منهم.
ثم إنّ تقدّم الغربيين لا يرتبط بالسيد المسيح عليهالسلام وبدينه حتى تقولوا بأن أتباع المسيح تقدّموا على المسلمين ، فإذا كان هذا الكلام صحيحا ، فلما ذا عاش أتباع المسيح عليهالسلام في وحشيّة وبربريّة وجاهلية جهلاء قريب الألف عام بعد صلب السيد المسيح على حدّ زعمكم ولم يتحوّلوا ولم ينتظموا ولم يتأدّبوا بالآداب ولم يتقيّدوا بالقانون والأحكام إلاّ بعد انتشار الإسلام في العالم ..
وقد طال الحديث حول الموضوع في ذلك.
الإمام علي عليهالسلام والاكتشافات الحديثة
ثم قلت له : أنّ الفرق بين أئمة الإسلام وبين علماء العالم غير
الأنبياء ، أنّ العلماء توصّلوا إلى ما توصّلوا من الاكتشافات بالأسباب والوسائل ، ولكنّ أئمتنا كشفوا عن كثير من الأسرار بغير وسائل وآلات. ثم قرأت عليه بعض الأخبار المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام في تعريف وتوصيف بعض الحشرات الصغيرة التي لا ترى بالعين المجرّدة ، وقد وصفوها في زمن لم تكن المكرسكوبات وأمثالها مخترعة بعد واليوم بعد مضيّ أكثر من ألف سنّة توصّل علماؤكم الغربيّون إلى تلك الأوصاف بالآلات الحديثة والأجهزة الدقيقة. وكذلك كلامهم عليهمالسلام في الكرات السماويّة والسيّارات الفلكية ، فأنتم اليوم تتباهون وتفتخرون ببعض مكتشفاتكم الفلكيّة والمجرّات والأقمار والسيّارات الفضائيّة وقد توصّلتم إليها بالأجهزة الاكتشافية والآلات العظيمة بينما توصّل إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام بدون أجهزة وآلات ، ومثال ذلك أنّه لمّا سئل عن الكواكب والنجوم ، قال : «إنها مدائن مثل المدائن التي في الأرض». فلمّا قرأت عليه هذا الخبر ـ أطرق مسيو جوئن إلى الأرض متفكرا ـ.
ثم قال : أرجوك أن تذكر لي الكتب التي نقلت هذا الخبر قبل اختراع التلسكوب والاكتشافات الحديثة.
فذكرت له أسماء المصادر القديمة فسجّلها وكتب نصّ الخبر ، وقال : أنا الآن في طريقي إلى باريس وسأنزل في لندن وأراجع مكتباتها العامّة لغرض الحصول على هذه المصادر التي سجّلتها. وإن لم أجد هذه المصادر في لندن فسوف أفتّش عنها في باريس وفي سائر بلاد أوربا ، فإذا كان الخبر كما نقلتم وذكرتم في تلك المصادر القديمة ـ التي كتبت قبل اختراع هذه الآلات والأجهزة ـ عن الكرات السماوية