السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الثقلين الثقافيّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٩١
هذا حديث حسن عال ، وقد فسّرت الحكمة بالسنّة لقوله عزّ وجلّ : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (١) ، الآية ، يدل على صحة هذا التأويل ، وقد قال رسول الله (ص) : «إنّ الله تعالى أنزل عليّ الكتاب ومثله معه». أراد بالكتاب القرآن ، ومثله معه ما علّمه الله تعالى من الحكمة وبيّن له من الأمر والنهي والحلال والحرام ، فالحكمة هي السنّة فلهذا قال «أنا دار الحكمة وعلي بابها».
ولقد روى ابن عساكر في تاريخه مع ذكر السند ، والخطيب الخوارزمي في المناقب ، وشيخ الاسلام الحمويني في فرائد السمطين ، والديلمي في فردوس الأخبار والكنجي الشافعي في كفاية الطالب الباب الثامن والخمسون ، والعلامة القندوزي في ينابيع المودة / الباب الرابع عشر ، وابن المغازلي الشافعي في المناقب حديث رقم ١٢٠ وغيرهم من كبار علمائكم رووا عن ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري أنّ النبي (ص) أخذ بيد عليّ عليهالسلام فقال «هذا أمير البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره ، مخذول من خذله ، ثم مدّ بها صوته. فقال : أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب».
وروى صاحب المناقب الفاخرة عن ابن عباس أنّ النبي (ص) قال «أنا مدينة العلم وعلي بابها ومن أراد علم الدين فليأت الباب. ثم قال لعليّ عليهالسلام : يا عليّ أنا مدينة العلم وأنت الباب ، كذب من زعم أنّه يصل إلى المدينة ، إلاّ من الباب».
وأخرج الحديث ابن أبي الحديد في مواضع عديدة من شرح نهج البلاغة ، وشيخ الإسلام الحمويني عن ابن عباس ، وأخرجه الموفق الخوارزمي في المناقب عن عمرو بن العاص ، وأخرجه محب الدين
__________________
(١) سورة النساء ، الآية ١١٣.
الطبري في ذخائر العقبى ، وأحمد في المسند والعلاّمة علي بن شهاب الهمداني في مودّة القربى ، وحتى ابن حجر ـ مع كثرة تعصّبه ـ في الصواعق المحرقة ضمن الفصل الثاني من الباب التاسع / الحديث التاسع من الأربعين حديثا في فضائل الإمام علي أخرجه عن البزار والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله ، وأخرجه عن ابن عدي عن عبد الله ابن عمر وعن الحاكم والترمذي عن عليّ عليهالسلام كلهم رووا عن رسول الله (ص) قال «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب». فالحديث مشهور ومنشور في كتب كبار علمائكم ، وهو بحكم العقل والعقلاء دليل على إمامة الإمام عليّ وخلافته وأنّه مقدّم على غيره ، لأنّ العلماء في كل أمة وملّة مقدّمون على الجاهلين ، وخاصة تأكيد النبي (ص) في الحديث ، بأنّ من أراد العلم فليأت الباب ، أو كذب من زعم أنه يصل الى المدينة إلاّ من الباب ، وإضافة على كل هذا قول الله سبحانه : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١).
ومن الواضح أنّ الألف واللام في كلمة العلم تفيد الجنس أي كل علم كان عند الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من علم الدين والدنيا وعلم الظاهر والباطن وأسرار الكون والخلقة لا يمكن الوصول إليها إلاّ عن طريق الإمام عليّ عليهالسلام.
بالله عليكم أنصفوا! هل كان للناس بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يغلقوا هذا الباب الذي فتحه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأمّته كي يتوصّلوا منه إلى الحقائق الدينية والدقائق العلميّة التي أودعها الله سبحانه نبيّه المصطفى ورسوله
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية ١٨٩.
المرتضى الذي هو من أجلى مصاديق الآية الشريفة : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١) فلقد ارتضاه الله سبحانه وأعطاه من غيبه أكثر مما أعطى لسائر الأنبياء والمرسلين؟
الشيخ عبد السلام : نحن لا ننكر حديث رسول الله (ص) : «أنا مدينة العلم وعلي بابها» وإن ناقش بعض العلماء في سند الرواية وضعّفه ، وبعض ادّعى فيه التواتر وصحّحه ، وبعض ناقش في مدلول الحديث ، ولكن مع غضّ النظر عن كل المناقشات المطروحة حول الحديث ، فلا يدلّ على أنّ سيدنا عليا كرم الله وجهه كان عنده علم الغيب والباطن.
علي عليهالسلام عالم بظاهر القرآن وباطنه
قلت : لا شك ولا ريب أنّ أساس علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم هو كتاب الله العزيز ، وكما ورد في الأحاديث المرويّة عن طرقكم والمذكورة في مصادركم ، أنّ الإمام أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام كان أعلم الناس ـ بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بعلوم القرآن ظاهره وباطنه ، ولقد روى أبو نعيم الحافظ في الحلية : ج ١ / ٦٥ ، والعلاّمة الكنجي الشافعي في كفاية الطالب / الباب الرابع والسبعون ، والعلاّمة القندوزي في ينابيع المودّة / الباب الرابع عشر نقلا من كتاب فصل الخطاب عن عبد الله بن مسعود قال : [إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ له ظهر وبطن ، وان عليّ بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن.]
كما ويحصل من جملة من الروايات المشهورة عندكم والمنشورة
__________________
(١) سورة الجن ، الآية ٢٥ و ٢٦.
في كتبكم ، أنّ عليا عليهالسلام كان علمه لدنيّا لأنّه كان المرتضى من بين الخلق بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولقد ارتضاه الله واصطفاه وجعله وليّا.
ولقد روى أبو حامد الغزالي في كتابه في بيان العلم اللدنيّ عن عليّ عليهالسلام أنه قال «ولقد وضع رسول الله (ص) لسانه في فمي وزقّني من لعابه ، ففتح لي ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب».
وروى العلاّمة القندوزي في ينابيع المودّة / الباب الرابع عشر في غزارة علمه ، عن الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليهالسلام يقول «إنّ رسول الله (ص) علّمني ألف باب وكل باب منها يفتح ألف باب ، حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب».
وروى في الباب عن ابن المغازلي بسنده عن عليّ عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «يا علي أنا مدينة العلم وأنت بابها كذب من زعم أنّه يدخل المدينة بغير الباب قال الله عزّ وجلّ : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وقال علي : علمني رسول الله (ص) ألف باب من العلم فانفتح من كل واحد منها ألف باب».
وروى القندوزي أيضا في الباب الرابع عشر ، عن ابن المغازلي بسنده عن أبي الصباح عن ابن عباس (رض) قال : قال رسول الله (ص) «لما صرت بين يدي ربّي كلّمني وناجاني فما علمت شيئا إلاّ علّمته عليّا فهو باب علمي».
وكذلك نقل في الباب من الموفق بن أحمد الخوارزمي أيضا عن أبي الصباح عن ابن عباس عن النبي (ص) قال «أتاني جبرئيل بدر نوك من الجنّة فجلست عليه ، فلمّا صرت بين يدي ربّي كلّمني وناجاني فما
علمت شيئا إلاّ علّمته عليا فهو باب علمي ، ثم دعاه إليه فقال : يا علي! سلمك سلمي وحربك حربي وأنت العلم فيما بيني وبين أمّتي».
وأما الخبر المروي عن عليّ عليهالسلام «علّمني رسول الله ألف باب من العلم.». فمروي في كثير من مصادركم وأخرجه كبار أعلامكم مثل : أحمد في المسند وفي المناقب ، ومحمد بن طلحة العدوي في مطالب السئول ، والموفق الخوارزمي في المناقب وأبي حامد الغزالي ، وجلال الدين السيوطي والثعلبي والمير سيد علي بن شهاب الهمداني بألفاظ مختلفة ومن طرق شتى نقلوه في كتبهم. ولقد روى الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ، والمولى علي المتقي في كنز العمال : ج ٦ / ٣٩٢ وأبو يعلى وغيرهم ، بإسنادهم إلى عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله (ص) في مرض موته «ادعوا إليّ أخي ، فجاء أبو بكر فأعرض عنه.
ثم قال : ادعوا إليّ أخي. فجاء عثمان ، فأعرض عنه ، ثم دعي له علي فستره بثوبه وأكبّ عليه. فلمّا خرج من عنده قيل له : ما قال لك؟ قال : علّمني ألف باب كل باب يفتح ألف باب».
وأخرج الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء : ج ١ / ٦٥ ، ومحمد الجزري في أسنى المطالب / ص ١٤ ، والعلاّمة الكنجي في كفاية الطالب / الباب الثامن والأربعون ، رووا بإسنادهم عن أحمد بن عمران ابن سلمة عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : كنت عند النبي (ص) فسئل عن عليّ عليهالسلام فقال (ص) : «قسمت الحكمة عشرة أجزاء ، فأعطي عليّ تسعة أجزاء والناس جزءا واحدا». ثم قال العلامة الكنجي : هذا حديث حسن عال تفرّد به أحمد
بن عمران بن سلمة وكان ثقة عدلا مرضيّا.
وكذلك رواه جماعة من أعلامكم بالإسناد إلى علقمة عن عبد الله وفيه زيادة ونصّه «قسمت الحكمة على عشرة أجزاء ، فأعطي عليّ تسعة أجزاء والناس جزءا واحدا وهو أعلم بالعشر الباقي». أخرجه الموفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب والمتقي في الكنز : ج ٥ / ١٥٦ و ٤٠١ وابن المغازلي في الفضائل والقندوزي في الينابيع / الباب الرابع عشر بنفس الطريق عن ابن مسعود ، وأخرجه محمد بن طلحة العدوي في مطالب السّئول عن حلية الأولياء.
ونقل العلامة القندوزي في الينابيع في الباب الرابع عشر عن محمد بن علي الحكيم الترمذي في شرح الرسالة الموسومة بالفتح المبين عن ابن عباس قال «العلم عشرة أجزاء ، لعليّ تسعة أجزاء وللناس عشر الباقي وهو أعلمهم به».
وأخرج القندوزي في الباب ، والمتقي في كنز العمال : ج ٦ / ١٥٣ والموفق الخوارزمي في المناقب / ٤٩ ، وفي مقتل الحسين : ج ١ / ٤٣ ، والديلمي في فردوس الأخبار ، أنّ النبي (ص) قال : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب».
علي تلميذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
نستنتج من الروايات السابقة أنّ علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وما تلقّاه من الوحي قد علّم به الإمام عليّ عليهالسلام.
ونحن الشيعة لا نقول بأنّ الإمام عليّ والأئمة الأحد عشر من ولده سلام الله عليهم أجمعين ، كانوا مثل رسول الله (ص) في تلقّي
العلوم من الله عزّ وجلّ مباشرة أبو بواسطة الوحي. بل نعتقد بأنّ رسول الله (ص) الذي ارتضاه الله جلّ وعلا وأعطاه من العلوم ما لم يعطه لأحد من العالمين وأطلعه على الغيب أكثر مما أطلع عليه جميع الأنبياء والمرسلين ، اتّخذ عليا أخا له ووارثا لعلومه وموضعا لأسراره إذ وجده أهلا لذلك ، فما بقي عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيء من ودائع النبوة وعلوم الوحي والرسالة من الظاهر والباطن والغيب والشهود إلاّ وأودعه في علي بن أبي طالب وعلّمه إيّاه (١). وعليّ عليهالسلام أودع تلك العلوم في بنيه الأئمة الأحد عشر ، توارثوها بإرادة الله تعالى واحدا تلو الآخر ، واليوم ودائع النبوة وأعلام الرسالة وعلوم الوحي كلّها مودعة عند الإمام المهدي المنتظر ، الحجة الثاني عشر وآخر أئمة أهل البيت عليهمالسلام.
ولقد روى القندوزي في الينابيع في الباب الرابع عشر ، أنّ عليا عليهالسلام كان يقول «سلوني عن أسرار الغيوب فإنّي وارث علوم
__________________
(١) وترى في نهج البلاغة عبارات كثيرة في مواضع عديدة صرح فيها علي سلام الله عليه على ما أطلعه عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من علم الغيب الذي منحه الله عزّ وجلّ ، فقال في الخطبة المرقمة ١٧٦ أوّلها «أيّها الناس غير المغفول عنهم ... إلى أن قال عليهالسلام : والله لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم . ألا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ، ما أنطق إلاّ صادقا ، ولقد عهد إليّ بذلك كلّه وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو ، ومآل هذا الأمر وما أبقى شيئا يمرّ على رأسي إلاّ أفرغه في أذنيّ ، وأفضى به إليّ».
ولقد أثبت عليهالسلام كلما ادّعاه واختصّ به ، وما ادّعاه أحد غيره.
«المترجم»
الأنبياء والمرسلين. ونقل عنه قبل هذا في نفس الباب ، قال «سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض.». الخ.
ونقل القندوزي في الباب أيضا قال : وفي مسند أحمد بسنده عن ابن عباس : ... وقال علي على المنبر «سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، وما من آية إلاّ وأنا أعلم حيث أنزلت ، بحضيض جبل أو سهل أرض ، سلوني عن الفتن ، فما من فتنة إلاّ وقد علمت من كسبها ومن يقتل فيها». وقال أحمد روى عنه نحو هذا كثيرا.
وكذلك نقل القندوزي في الباب من الموفق بن أحمد الخوارزمي وعن الحمويني بسنديهما عن أبي سعيد البحتري قال : رأيت عليا جلس على المنبر فكشف عن بطنه وقال «سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّما بين الجوانح منّي علم جمّ ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله (ص) ، هذا ما زقّني رسول الله (ص) زقّا زقّا».
ونقل القندوزي في الباب عن مسند الإمام أحمد ومناقب موفق ابن أحمد الخوارزمي بسنديهما عن سعيد بن المسيّب قال : لم يكن أحد من الصحابة يقول : سلوني إلاّ عليّ بن أبي طالب. ورواه عنه ابن حجر في الصواعق أيضا.
ولا يخفى أن معتقدنا نحن الشيعة أنّ كلّ ما كان عند الإمام عليّ سلام الله عليه من أنواع العلوم فإنّه اكتسبها وتعلّمها من سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد (ص). ولقد أملى عليه النبي (ص) من علومه الباطنية وأسراره الغيبية بكل ما يحدث في العالم ويقع في المستقبل ، وكتب عليّ عليهالسلام كل ذلك بالرموز والحروف المقطّعة وقد اشتهر بين
العلماء بعلم الجفر الجامع ، وهذا العالم مما خصّ به علي عليهالسلام وأبنائه الأئمة المعصومون سلام الله عليهم أجمعين.
كما ذكر ذلك الغزالي في بعض تصانيفه وقال [إنّ عند علي بن أبي طالب كتاب يسمّى بالجفر الجامع لشئون الدنيا والآخرة وهو يشتمل على كل العلوم والحقائق ويحوي على دقائق الأسرار وخواصّ الأشياء وآثار الحروف والأسماء وتأثيرات العوالم العلويّة والسفليّة وكل ما في الأرض والسماء ولا يطلع على ذلك الكتاب أحد غير علي بن أبي طالب وأولاده الأحد عشر وهم الذين حازوا درجة الولاية وتوصّلوا إلى مقام الإمامة ، وقد وصلهم الكتاب وعلومه بالوراثة.]
ولقد أشار وصرّح باختصاص هذا العلم وذلك الكتاب بالإمام عليّ وأبنائه المعصومين ، العلاّمة القندوزي في كتابه ينابيع المودة / الباب الثامن والستون / وفيه قد نقل في الموضوع شرحا مبسوطا من كتاب الدرّ المنظّم للشيخ كمال الدين محمد بن طلحة الحلبي الشافعي.
وكذلك ذكر صاحب شرح المواقف وهو من علماء العامّة قال : إنّ الجفر والجامعة كتابان لعليّ بن أبي طالب قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف ، الحوادث إلى انقراض العالم ، وأولاده يحكمون بهما.
النواب : ما هو منشأ هذا الكتاب المسمّى بالجفر الجامع؟ وكيف وصل ليد سيّدنا عليّ كرم الله وجهه؟
قلت : في العام العاشر الهجري ، بعد ما رجع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من حجة الوداع هبط جبرئيل وأخبره صلىاللهعليهوآلهوسلم باقتراب أجله ودنوّ منيّته. فدعا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ربّه ورفع يديه وقال «اللهم وعدك الذي وعدتني ، إنّك لا تخلف الميعاد».
فطلب من الله عزّ وجلّ وفاء الوعد المعهود بينهما.
فأوحى الله تعالى إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم «أن خذ عليا معك واذهبا إلى جبل أحد فإذا صعدتما الجبل فاجلس مستدبر القبلة وناد الوحوش وحيوانات الصحراء ، فتجتمع الحيوانات أمامك ، وتجد بينها معزا وحشيا أحمر اللون قصير القرن ، فأمر عليا فليأخذه ويذبحه ويسلخ جلده من طرف رقبته ، ثم يدبغه ، ولمّا فعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما أمره ربّه ، نزل جبرئيل ومعه دوات وقلم أعطاهما للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ليعطيهما للامام عليّ عليهالسلام حتى يكتب ما يقوله جبرئيل وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يملي ما يسمعه على الإمام عليّ عليهالسلام فيكتبه على ذلك الجلد المدبوغ ، وهذا الجلد لا يندرس ولا يبيد وهو الآن موجود عند الإمام المنتظر المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، ويوجد في ذلك الجلد كل ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وهذا الجلد هو الكتاب الذي عبّر عنه الغزالي بالجفر الجامع وقال فيه من علوم المنايا والبلايا والقضايا وفصل الخطاب».
النواب : كيف يسع جلد ماعز ليحتوي على كل ما يحدث إلى يوم القيامة ، ويحتوي على العلوم التي أشرتم إليها وذكرها الغزالي؟
قلت : لقد ذكرنا أنها مذكورة بطريقة الرمز والحروف وأنّ مفتاح تلك الرموز ومعاني تلك الحروف هو علم خاص بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وعلّمه عليا عليهالسلام ثم ورثه أولاده الائمة الأحد عشر ، ولا يقدر على حل رموزه وفهم علومه غيرهم ، وقد جاء في الخبر : «أنّ عليا عليهالسلام فتح ذلك الجلد مرة أمام ولده محمد بن الحنفيّة فما فهم شيئا منه».
وأمّا الأئمة المعصومون عليهمالسلام فكانوا في أكثر الأحيان يستخرجون من ذلك الكتاب القضايا والحوادث التي كانوا يخبرون بها قبل وقوعها.
الإمام الرضا عليهالسلام يخبر عن موته من الجفر والجامعة
ولقد روى كثير من علمائكم أنّ المأمون لمّا عرض ولاية العهد على الإمام الرضا وأخذ له البيعة وكتب كتابا له بذلك بخطه وأعطاه إلى الإمام عليهالسلام ليوقّع أدناه ويختمه بإمضائه وختمه الشريف ، فكتب هذه العبارات خلف الكتاب كما في كتاب شرح المواقف «أقول وأنا عليّ بن موسى بن جعفر : إنّ أمير المؤمنين عضّده الله بالسداد ووفّقه للرشاد عرف من حقنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاما قطعت ، وآمن نفوسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغيا رضى ربّ العالمين وسيجزي الله الشاكرين. ولا يضيع أجر المحسنين ، وإنّه جعل إليّ عهده والإمرة الكبرى إن بقيت بعده ... إلى أن كتب في آخره : ولكنّ الجفر والجامعة يدلاّن على ضدّ ذلك (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (١) (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٢)». وهكذا رواه العلامة سعد بن مسعود بن عمر التفتازاني في كتاب شرح مقاصد الطالبيين في علم أصول الدين (٣).
__________________
(١) سورة الأحقاف ، الآية ٩.
(٢) سورة الأنعام ، الآية ٥٧.
(٣) وروى العلاّمة الشهير بابن الطقطقي البغدادي في كتابه «الفخري» ص ١٦١ طبع بغداد ، إنّ الإمام الرضا عليهالسلام كتب فيما كتب خلف كتاب العهد : «.. إنّي قد أجبت امتثالا للأمر وإن كان الجفر والجامعة يدلاّن على ضدّ ذلك». وروى الحافظ عبد الكريم الرافعي في كتابه التدوين : ج ٤ / ٥١ ط طهران : «... والجفر والجامعة يدلاّن على الضدّ من ذلك (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ
الصحيفة السماويّة
ولقد ورد في روايات أهل البيت عليهمالسلام خبر صحيفة نزلت على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قبيل وفاته فأعطاها لعلي بن أبي طالب عليهالسلام وفيها علوم كثيرة مما يجري في العالم ولا سيما ما يجري عليهم وما يجب عليهم من مقابلة الأحداث والوقائع ، ولقد أوصاهم الله سبحانه فيها بوصايا مهمّة ، ولذلك نقل هذا الخبر تحت عنوان (الوصيّة) المؤرخ الجليل والحبر النبيل الشهير بالمسعودي المتوفى عام ٣٤٦ من الهجرة النبويّة ، قال في كتابه إثبات الوصيّة [فلمّا قرب أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنزل الله جلّ وعلا إليه من السماء كتابا مسجّلا نزل به جبرئيل عليهالسلام مع أمناء الملائكة فقال جبرئيل : يا رسول الله! مر من عندك بالخروج من مجلسك إلاّ وصيّك ليقبض منّا كتاب الوصيّة ويشهدنا عليه.
فأمر رسول الله (ص) من كان عنده في البيت بالخروج ما خلا أمير المؤمنين عليهالسلام وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام.
فقال جبرئيل : يا رسول الله إنّ الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : هذا كتاب بما كنت عهدت وشرطت عليك واشهدت عليك ملائكتي وكفى بي شهيدا.
فارتعدت مفاصل سيدنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : هو السلام ومنه
__________________
يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) ، لكنّي امتثلت أمر أمير المؤمنين وآثرت رضاه والله يعصمني وإيّاه وهو حسبي وحسبه ونعم الوكيل». وكذلك أخرجه بنصّه العلاّمة محمد مبين الهندي في كتابه وسيلة النجاة ص ٣٧٨ طبع لكهنو. ورواه آخرون باختلاف يسير في الألفاظ. «المترجم»
السلام وإليه يعود السلام ، صدق الله ، هات الكتاب. فدفعه إليه ، فدفعه من يده إلى عليّ عليهالسلام وأمره بقراءته وقال : هذا عهد ربّي إليّ وأمانته وقد بلّغت وأدّيت.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : وأنا أشهد لك بأبي أنت وأمي بالتبليغ والنصيحة والصدق على ما قلت ، ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي. فقال له النبي (ص) : أخذت وصيّتي وقبلتها منّي وضمنت لله تبارك وتعالى ولي الوفاء بها؟ قال : نعم عليّ ضمانها وعلى الله عزّ وجلّ عوني.
وكان فيما شرطه فيها على أمير المؤمنين عليهالسلام : الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء الله والبراءة منهم ، والصبر على الظلم وكظم الغيظ وأخذ حقك منك وذهاب خمسك وانتهاك حرمتك ، وعلى أن تخضب لحيتك من رأسك بدم عبيط.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة وعطّلت السنن ومزّق الكتاب وهدمت الكعبة وخضبت لحيتي من [دم] رأسي صابرا محتسبا.
فأشهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جبرئيل وميكائيل والملائكة المقرّبين على أمير المؤمنين عليهالسلام.
ثم دعا رسول الله (ص) فاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام فأعلمهم من الأمر مثل ما أعلمه أمير المؤمنين وشرح لهم ما شرح له. فقالوا مثل قوله. وختمت الوصيّة بخواتيم من ذهب لم تصبه النار ودفعت إلى أمير المؤمنين.]
وفي الوصيّة سنن الله جلّ وعلا وسنن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخلاف
من يخالف ويغيّر ويبدّل ، وشيء من شيء من جميع الأمور والحوادث بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو قول الله عزّ وجلّ في سورة يس ، الآية ١٢ : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ). «انتهى».
فأوصياء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وخلفائه يمثّلونه في أخلاقه وصفاته وهم ورثوا علومه وفضائله ، ولقد أعلن صلىاللهعليهوآلهوسلم وعرّف عليا عليهالسلام باب علمه لأمّته وأمر من أراد العلم بإتيانه عليهالسلام. ومما يؤكّد بأنّ عليّا عليهالسلام وارث علوم النبوة وأنّه عيبة علوم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قوله عليهالسلام «سلوني قبل أن تفقدوني». ولا يمكن لأحد أن يعلن بهذا الكلام إلاّ إذا كان محيطا بجميع العلوم ، وهذا الأمر لا يتسنّى إلا لمن كان متّصلا بمنبع العلوم وبالعالم الأعلى ، ويحضى بالعلم اللّدنّي الذي يتلقّاه من الله تعالى.
ولقد اتفق العلماء والمحدّثون على أنّه ، انفرد عليّ عليهالسلام من بين الخلق بهذا الإعلان ، وما قاله أحد سواه (١).
__________________
(١) قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ج ١٣ / ١٩٦ ، ط دار إحياء الكتب العربية في شرح كلام الإمام علي عليهالسلام : «أيها الناس. سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض». قال [أجمع الناس كلّهم على أنّه لم يقل أحد من الصحابة ولا أحد من العلماء : «سلوني» غير علي بن أبي طالب عليهالسلام ، ذكر ذلك ابن عبد البر المحدّث في كتاب «الاستيعاب» والمراد بقوله :«فلأنا أعلم بطرق السماء منّي بطرق الأرض» ما اختصّ به من العلم بمستقبل الأمور ، ولا سيّما في الملاحم والدول.
وقد صدّق هذا القول عنه (ع) ما تواتر عنه من الإخبار بالغيوب المتكرّرة ، لا مرّة ولا مائة مرّة ، حتى زال الشك والريب في أنّه إخبار عن علم ، وأنّه ليس على طريق الاتفاق ، قال : وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما تقدّم من هذا الكتاب.] «انتهى كلام ابن أبي الحديد». «المترجم».
قال الحافظ ابن عبد البر الأندلسي في كتابه الاستيعاب في معرفة الأصحاب : انّ كلمة سلوني قبل أن تفقدوني ، ما قالها أحد غير علي ابن أبي طالب إلاّ كان كاذبا.
ولقد روى العلاّمة أبو العباس أحمد بن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد : ج ١٣ / ١٦٣ ، بأنّ مقاتل بن سليمان ـ وكان من أعلام العلماء عندكم وكان سريعا جدّا في جواب المسائل ـ أعلن يوما على المنبر وبين حشد من الناس فقال : سلوني عما دون العرش!
فقام شخص وسأله : من حلق رأس آدم عليهالسلام في الحج؟ فحاد عن الجواب ، فسأله آخر : كيف تهضم النملة أكلها؟ ألها معدة ومصران؟ فنكّس مقاتل بن سليمان رأسه خجلا ، ولم يجبه! ثم قال : إنّ الله فضحني بهذه الأسئلة التي ألقاها على ألسنتكم ، لأنّي أعجبت بكثرة علمي فجاوزت حدّي.
مصادر قوله عليهالسلام : سلوني قبل أن تفقدوني
نعم ذكر العلماء قضايا من هذا القبيل عن الذين ادّعوا هذا الأمر ولكن أخزاهم الله على رءوس الأشهاد.
وكما بيّن كثير من كبار علمائكم : أنّه ما ادّعى أحد من الصحابة غير علي بن أبي طالب هذا المدّعى.
روى أحمد في المسند ، وموفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب ، والخواجه كلان الحنفي كما في الينابيع ، والعلاّمة البغوي في المعجم ومحبّ الدين الطبري في الرياض النضرة : ج ٢ / ١٩٨ ، وابن حجر في
الصواعق تحت عنوان : ٧٦ الفصل الثالث في ثناء الصحابة والسلف عليه. كلهم رووا عن سعيد بن المسيّب قال : لم يكن من الصحابة يقول : سلوني ، إلاّ عليّ بن أبي طالب.
والجدير أنّه عليهالسلام أعلن ذلك مرارا وتكرارا لا مرّة واحدة ، فلقد روى العلاّمة ابن كثير في تفسيره : ج ٤ وابن عبد البر في الاستيعاب ، والقندوزي في ينابيع المودّة ، مؤيّد الدين الخوارزمي في المناقب ، وأحمد في المسند ، والحمويني في الفرائد ، وابن طلحة الحلبي في الدرّ المنظوم ، والعلاّمة الهمداني في مودّة القربى ، وأبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء ، ومحمد بن طلحة العدوي في مطالب السّئول ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، وغيرهم من محققيكم ومحدثيكم ، رووا عن طرق شتى وبألفاظ عديدة عن عامر بن وائلة وعبد الله بن عباس وأبي سعيد البحتري وأنس بن مالك وعبد الله بن مسعود وغيرهم [بأنّهم سمعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام على المنبر يقول : أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّ بين جوانحي لعلما جمّا ، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين.]
وفي سنن أبي داود ص ٣٥٦ ، ومسند أحمد ج ١ / ٢٧٨ ، وصحيح البخاري : ج ١ / ٤٦ وج ١٠ / ٢٤١ ، رووا بأسانيدهم : أنّ عليا عليهالسلام قال «سلوني عما شئتم ، ولا تسألوني عن شيء إلاّ أنبأكم به».
ونقل العلاّمة القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودّة في الباب الرابع عشر ، عن موفق بن أحمد الخوارزمي وشيخ الإسلام الحمويني بإسنادهما عن أبي سعيد البحتري قال : رأيت عليا رضياللهعنه على منبر الكوفة وعليه مدرعة رسول الله (ص) وهو متقلّد بسيفه ومتعمم
بعمامته (ص) ، فجلس على المنبر فكشف عن بطنه وقال «سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّما بين الجوانح مني علم جمّ هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله (ص) ، هذا ما زقّني رسول الله زقّا زقّا ، فو الله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فيقولان ، صدق عليّ قد أفتاكم بما انزل فيّ وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون».
وكذلك أخرج شيخ الإسلام الحمويني في فرائد السمطين ، ومؤيد الدين الخوارزمي في المناقب ، بأنّ عليا عليهالسلام قال فوق المنبر : «سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي فلق الحبة وبرء النسمة لا تسألوني عن آية من كتاب الله إلاّ حدّثتكم عنها متى نزلت بليل أو نهار ، في مقام أو مسير في سهل أم في جبل ، وفي من نزلت في مؤمن أو منافق وما عنى الله بها ، أم عام أم خاص.
فقام ابن الكوّاء ـ وهو من الخوارج ـ فقال :
أخبرني عن قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (١)؟ فقال عليهالسلام : أولئك نحن وأتباعنا في يوم القيامة ، غرّاء محجّلين رواء مرويين يعرفون بسيماهم».
وروى أحمد في المسند ، والعلاّمة القندوزي في الينابيع في الباب الرابع عشر ، عن ابن عباس ، أنّ عليا قال على المنبر «سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ومن آية إلاّ وأنا أعلم حيث أنزلت بحضيض جبل أو سهل أرض ، وسلوني عن الفتن فما من فتنة إلاّ وقد علمت من كسبها ومن يقتل فيها».
__________________
(١) سورة البيّنة ، الآية ٧.
وأخرج ابن سعد في الطبقات والعلاّمة الكنجي في كفاية الطالب الباب الثاني والخمسون ، وأبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء : ج ١ / ٦٨ ، بإسنادهم عن علي بن أبي طالب عليهالسلام أنه قال «والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيمن نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت ، إنّ ربّي وهب لي قلبا عقولا ولسانا طلقا. وفي نفس الكتب أيضا : سلوني عن كتاب الله فإنّه ليس من آية إلاّ وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل».
وكذلك روى الموفق الخوارزمي في المناقب عن الأعمش عن عباية ابن ربعي أنّه قال : كان علي (رض) كثيرا يقول «سلوني قبل أن تفقدوني! فو الله ما من أرض مخصبة ولا مجدبة ولا فئة تضل مائة أو تهدي مائة إلاّ وأنا أعلم قائدها وسائقها وناعقها إلى يوم القيامة».
وروى جلال الدين السيوطي في تاريخ الخلفاء : ص ١٢٤ وبدر الدين الحنفي في عمدة القارئ ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة : ج ٢ / ١٩٨ ، والسيوطي أيضا في تفسير الإتقان : ج ٢ / ٣١٩ ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري : ج ٨ / ٤٨٥ ، وفي تهذيب التهذيب : ج ٧ / ٣٣٨ رووا أنّ عليا عليهالسلام قال «سلوني! والله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلاّ أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل».
أما تدل هذه الكلمات والعبارات على اطلاع قائلها على المغيّبات وعلمه بالمستقبل وما سوف يحدث في العالم. ولقد أثبت ذلك فيما أخبر عن حال بعض الأشخاص ، وإليك نماذج من ذلك :
الإمام علي عليهالسلام يخبر عن قاتل ولده الحسين عليهالسلام
روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة روايات كثيرة تحكي عن إخبار عليّ عليهالسلام عن الأمور الغيبيّة فقال في الجزء الثاني : ٢٨٦ ، ط دار إحياء الكتب العربيّة : روى ابن هلال الثقفي في كتاب «الغارات» عن زكريّا بن يحيى العطّار عن فضيل عن محمد بن عليّ قال : لمّا قال عليّ عليهالسلام «سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألونني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها ، قام إليه رجل فقال : أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ، فقال له عليّ عليهالسلام : والله لقد حدّثني خليلي أنّ على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك ، وأنّ على كلّ طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك ، وأنّ في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله (ص) ـ وكان ابنه ـ قاتل الحسين عليهالسلام ـ يومئذ طفلا يحبو وهو سنان بن أنس النخعيّ ـ».
اخباره عليهالسلام عن عاقبة خالد بن عرفطة
ونقل ابن أبي الحديد في نفس الصفحة التي ذكرتها آنفا قال : وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي عن سويد بن غفلة أنّ عليا عليهالسلام خطب ذات يوم ، فقام رجل من تحت منبره فقال [يا أمير المؤمنين! إنّي مررت بوادي القرى ، فوجدت خالد بن عرفطة قد مات ، فاستغفر له ، فقال عليهالسلام «والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة ، صاحب لوائه حبيب بن عمار ـ حمار ـ».
فقام رجل آخر من تحت المنبر ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا حبيب
بن عمار ـ حمار ـ وإنّي لك شيعة ومحب ، فقال : أنت حبيب بن حمار ـ عمار ـ؟ قال : نعم ، فقال له ثانية : والله إنّك لحبيب بن حمار ـ عمار ـ؟ فقال : إي والله! قال : أما والله إنّك لحاملها ولتحملنّها ، ولتدخلنّ بها من هذا الباب». ـ وأشار إلى باب الفيل بمسجد الكوفة ـ قال ثابت : فو الله ما متّ حتى رأيت ابن زياد ، وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن علي عليهالسلام ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته وحبيب ابن حمار ـ عمار ـ صاحب رايته ، فدخل بها من باب الفيل.]
إخباره عليهالسلام عن حكومة معاوية وظلمه للشيعة
وأنّ من يطالع نهج البلاغة يجد فيه عبارات كثيرة في إخبار عليّ عليهالسلام عن الملاحم والفتن وظهور بعض السلاطين وخروج صاحب الزنج واستيلائه على البصرة وهجوم المغول وچنگيز على بلاد الإسلام وحكومتهم بها وإخباره عليهالسلام عن سيرة بعض من يدّعون الخلافة وظلمهم الفضيع وعملهم الفجيع للناس عامّة وللشيعة خاصّة ، ولا سيما إذا راجعتم شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٩٦ وج ١٠ / ١٣ ـ ١٥ ط دار إحياء الكتب العربية ، وقد نقل في ج ٤ / ٥٤ من نفس الطبعة قال «ومن كلام له عليهالسلام لأصحابه : أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه. ألا وإنّه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي ، فأمّا السبّ فسبّوني ، فإنّه لي زكاة ولكم نجاة ، وأمّا البراءة فلا تتبرّءوا منّي ، فإنّي ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة».