الحسين في طريقه إلى الشهادة

علي بن الحسين الهاشمي

الحسين في طريقه إلى الشهادة

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٠

فَقُلتُ لَها كِلانا نِضوُ

أَينٍ أَخو سَفَرٍ فَخَلّي لي مَكاني

فشدّت شدّة نحوي فأهوى

لها كفّي بمصقولٍ يمانِ

فأضربها بلا دهشٍ فخرّتْ

صريعاً لليدينِ وللجرانِ

فقالت عُد فقلتُ لها رويداً

مكانكِ إنّني ثبتُ الجنانِ

فلم أنفكُّ متّكياً لديها

لأنظرَ مصبحاً ماذا أتاني

إذا عينانِ في رأسٍ قبيح

كرأس الهرِّ مسترقِ اللسانِ

وَساقا مُخدَجٍ وَشَواةُ كَلبٍ

وَثَوبٌ مِن عَباءٍ أَو شَنانِ

وفي المخطوط : حدّث عبد الله بن عمرو بن بشر ، عن إبراهيم بن عطارد الأسدي قال : سمعت تميم بن نبهان الياسري يخبر عن جدّه أرطاة الياسري : أنّ بطاناً إنّما سُمّيت بطاناً لأنّها بأسفل الهبير الذي يُسمّى بُطين. والهبير : وادٍ بنجد ، وفيها نُفيل من العرب ، وهي لبني ناشرة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد ، عمّ جعفر بن الحسين اليقطيني. قالوا : احتفر أبو موسى أخو يقطين بئراً بالبطان ، ما طال الحفر حتّى كانوا ينزلون بالسرج يحفرون ، فخرجت عليهم ريح من جانبها فلم يمكنهم الحفر ولا النزول ، فهابوا ذلك وأخبر أبو موسى ، وكان شديد القلب والبدن ، فنزل فيها فدخل في النقب الذي خرجت منه الريح ، فأخبر أنّه خرج إلى شبيه بالمدينة ، وإذا فيها قوم عظيم خلقهم موتى عليهم ثيابهم ، فإذا أمسّ الواحد منهم انتثروا ، وأخرج معه سيفاً ووجّه به إلى المهدي. ومن بطان إلى الثعلبية اثنان وعشرون ميلاً ونصف ، وبها قصر ومسجد. وقالوا : هي لبني أسد ، للقاسم بن منيع ، وبحضرة المنزل بركة تُدعى الخالصة ولها مصفاة. وعلى مقدار ميل ونصف من البركة يسرة بركة تُعرف بالمهدي ، وخزانة للماء في وسط الوادي من عمل عمير بن فرج ، وفيها بئر لأمّ المتوكل فيها ماء عذب ، وفي بيوت النجّار نحو من عشرين حوضاً ، وقبر العبادي خارج من بطان على أقل من ميل على الطريق. بلغني عن أبي بكر بن عياش أنّ اسمه ساسان بن روزبة ، كان نصرانياً فأسلم ومات هناك. فزعم إبراهيم بن الجنيد ، عن أبي بكر بن عفّان قال : سمعت أبا بكر بن عباس يقول : وجاء رجل خراساني ،

٨١

فقال : يا أبا بكر ، حججت فلم أرمِ قبر العبادي. قال : ولِمَ ترمه (رحمه الله)؟! كان رجلاً صالحاً ، أمر بمعروف فقُتل فهذا قبره. ويسمّيه ابن جبير في رحلته (١) : المرجوم ، قال : نزلنا بموضع يُعرف ببركة المرجوم ، وهي مصنع ، وقد بُني له ما يعلوه من الأرض مصبّ يؤدّي الماء إليه على بعد ، وأحكم ذلك إحكاماً يدلّ على قدرة الاتّساع وقوّة الاستطاعة. ولهذا المرجوم المذكور مشهد على قارعة الطريق ، وقد علا كأنّه هضبة شمّاء ، وكلّ مجتاز عليه لا بدّ أن يُلقي عليه حجراً. ويُقال : إنّ أحد الملوك رجمه لأمر استوجب به ذلك ، والله أعلم. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب ، وبادروا للحين بما لديهم من مرافق الأدم يبيعونها من الحاج ، وكان هذا المصنع مملوءاً من ماء المطر ، فغمر الناس وعمّهم والحمد لله. وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكّة من آثار زبيدة ابنة أبي جعفر ابن المنصور ، زوج هارون الرشيد وابنة عمّه. انتدبت لذلك مدّة حياتها ، فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعمّ وفد الله تعالى كلّ سنة من لدن وفاتها إلى الآن ، ولو لا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذا الطريق ، والله كفيل بمجازاتها والرضا عنها. وجاء في المخطوط : حدّثني محمد بن موسى ، عن محمد بن السري ، عن هشام بن محمد الكلبي قال : أخبرني أبو بكر بن عباس ، عن أخيه عمرو بن عباس ، عن ابن كثير : أنّ روزبة بن بوذر جمهري بن ساسان كان همذانيّاً ، وكان على فرج من فروج الروم فأدخل عليهم سلاحاً فأخافه الأكاسرة ، فلحق بالروم فلم يأمن حتّى قدم سعد بن أبي وقاص فبنى له القصر والمسجد ، وكتب معه إلى عمر فأخبره بحاله فأسلم ، وفوّض له عمر في الديوان ، وأعطاه وصرفه إلى سعد مع أكرياء له. والأكرياء يومئذ هم العباد ، حتّى إذا كان بهذا الموضع مات فحفروا له ، ثمّ انتظروا مَنْ يمرّ بهم فليشهدونه على موته ؛ ليبرؤوا من دمه ، فمرّ قوم من الأعراب وقد حفروا له على الطريق فأشهدوهم على ذلك ، وأوردوهم إيّاه ودفنوه ، فقالوا بعد ذلك : قبر العبادي ؛ لمكان

__________________

(١) انظر رحلة ابن جبير ص ١٦٣.

٨٢

الأكرياء الذي يسمّونه العباد. قال أبو بكر : أي هو والله ، فقلت : ألا تخبر الناس بحاله؟ قال : لا. وعند البريد من بطان قصر لأمّ جعفر خرب. قالوا : وقد اجتازها الحسين (عليه السّلام) وواصل سيره إلى الشقوق.

حيث الشقوقُ وبها لاقى الذي

حدّثه بما بكوفانَ جرى

(شقوق) : جمع شوق أو شق ، وهو الناحية ، منزل بطريق مكّة بعد واقصة من الكوفة ، وبعدها تلقاء مكّة بطان وقبر العبادي ، وهو لبني سلامة بن بني أسد. وفي المخطوط : من الشقوق إلى بطان اثنان وعشرون ميلاً ونصف ، وبه بركة تُعرف بالعقبة مربعة ، ولها مصفاة وبركة مدوّرة تُعرف بالزبيدية ولها مصفاة ، ومقر يُقال له : المشرف ، ومقر لماء السواني ومصفاة له ، وبها بئر تُعرف بالبرود ، وبئر تُعرف بالرزبون ، وبئر تُعرف بالرمادي ، وبئر تُعرف بغنيمة ، وخزانة للماء. ومَنْ أراد طريق سحمة ، وهو طريق سهل عدل من بركة الشقوق الداخلة يسرة وهو مصعد فيخرج عند المشرف يمنة. وسحمة : بئر احتفرها المهدي ، بينها وبين الطريق ميلاً وقد طمست وعطلت ، وعلى ثلاثة أميال من الشقوق قصر خرب لأمّ جعفر ، وعلى ستة أميال يمنة على الطريق بركة زبيدية وقباب ومسجد ، ويُدعى الرستمية. وهذا الموضع أوّل الردى ، والردى : عقاب صغار ، وأرض خشنة صعوداً وهبوطاً إلى بطان. ويُقال : إنّها نيف وسبعون عقبة ، وفيه رمل كثير ، ثمّ بركة السحنة وقصر وقباب وهو المتعشى. (الطليح) و (الطليحة) على اثني عشر ميلاً من بطان وليس ببركة ، وكان فيها شجر الطلح ، وقباب لخالصة وخزانة للماء ، والبريد دون البطان بسبعة أميال ، والرمل المذكور بالحجاز هو الرمل الذي عرضه من الشقوق إلى الأجفر ، وطوله من وراء جبلي طي إلى أن يتّصل مشرقاً بالبحر ، وهو رمل أصفر لين ألمس (١). وذكر ابن جبير (٢) قال : ونزلنا بالشقوق وفيه مصفاتان ألفيناهما مملؤين

__________________

(١) انظر الإصطخري ـ مسالك الممالك ـ ص ٢٣ ، طبع ليدن.

(٢) انظر رحلة ابن جبير.

٨٣

ماءً عذباً صافياً ، فأراق الناس مياههم وجدّدوا مياهاً طيّبة ، واستبشروا بكثرة الماء ، وجدّدوا شكر الله على ذلك. وأحد هاتين المصفاتين صهريج عظيم الدائرة كبيرها لا يكاد يقطعه السابح إلاّ عن جهد ومشقّة ، وكان الماء قد علا فيه أزيد من قامتين ، فتنعّم الناس من مائه سباحة واغتسالاً وتنظيفاً للثياب ، وكان يومهم فيه من أيام راحة السفر. وذكر ابن شهر آشوب (١) : وفي الشقوق رأى الحسين (عليه السّلام) رجلاً مقبلاً من الكوفة فسأله عن أهل العراق ، فأخبره أنّهم مجتمعون عليه ، فقال (عليه السّلام) : «إنّ الأمر لله يفعل ما يشاء ، وربّنا تبارك وتعالى هو كلّ يوم في شأن». ثمّ أنشد :

فإن تكنْ الدنيا تعدُّ نفيسةً

فدارُ ثوابِ اللهِ أعلا وأنبلُ

وإن تكنْ الأموالُ للتركِ جمعها

فما بالُ متروكٍ بهِ المرءُ يبخلُ

وإن تكنْ الأرزاقُ قسماً مقدّراً

فقلّةُ حرصِ المرءِ في الكسبِ أجملُ

وإن تكنْ الأبدانُ للموتِ أُنشأتْ

فقتلُ امرئ بالسيفِ في اللهِ أفضلُ

عليكم سلامُ اللهِ يا آلَ أحمدٍ

فإنّي أراني عنكمُ سوفَ أرحلُ

قالوا : ومن الشقوق سار بظعينته إلى زُبالة.

حتّى أتى زُبالةً حطّ السرى

وجاءهُ الكوفي في جنحِ الدجى

نعى لهُ ابنَ يقطرٍ رسولَه

فيا لهُ على الحسينِ من نبا

(زُبالة) : بضم أوّله ، منزل معروف بطريق مكّة من الكوفة. ذكر المقدسي : من زبالة ـ وهي عامرة واسعة الماء ـ إلى الشقوق أحد وعشرون ميلاً. قال ابن الكلبي : سمّيت زبالة باسم زبالة بنت مسعر ، امرأة من العمالقة نزلتها ، وقيل : سمّيت بزبالة بزبلها الماء ، أي بضبطها له وأخذها منه. وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية. قال السكوني : زبالة بعد القاع من الكوفة ، وقبل الشقوق فيها حصن وجامع لنبي غاضرة من بني أسد. ويوم زبالة من أيام العرب ، وفي زبالة استنقذ بنو نبهان أو الغاضريون جماعة من الطالبيِّين الذين ثاروا مع

__________________

(١) انظر ابن شهر آشوب. ـ المناقب ـ ج ٢ ص ٢١٣.

٨٤

محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) بالمدينة أيّام المأمون العباسي ، وكان محمد قد دعا لنفسه. ذكر ابن الخطيب (١) قال : وبايعوا ـ أي أهل المدينة ـ محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام) بالخلافة يوم الجمعة لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة مئتين ، فلم يزل يُسلّم عليه بالخلافة حتّى كان يوم الثلاثاء لخمس خلون من جمادى الأولى سنة مئتين ، ثم صاروا إلى مكّة وقاتلوا هارون بن المسيّب قتالاً شديداً. ثمّ إنّ محمد بن جعفر سأله الأمان لأصحابه الباقين بعد أن حوصر وهرب أكثر أصحابه ، فأمنهم الجلودي ، وبعدها حملهم مقيّدين في محامل بلا وطاء ليمضي بهم إلى خراسان إلى المأمون ، فلمّا وصلوا بهذا الحال زبالة خرجت عليهم بنو نبهان فاستنقذوهم منه بعد حرب طويلة صعبة (٢). قالوا : وفي زبالة مات موسى بن عبد الله بن موسى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) مسموماً. ذكر المسعودي (٣) قال : وحمل سعيد الحاجب من المدينة موسى بن عبد الله ، وكان من النسك والزهد في نهاية الوصف ، وكان معه إدريس بن موسى ، فلمّا صار سعيد بناحية زبالة من جادة الطريق اجتمع خلق من العرب من بني فزارة وغيرهم لأخذ موسى من يده ، فسمّه ومات هناك ، وخلّصت بنو فزارة ابنه إدريس بن موسى. وذكر الشبلنجي (٤) كرامة للإمام موسى بن جعفر في زبالة ، قال : من كتاب الدلائل للحميري ، روى أحمد بن محمد ، عن أبي قتادة ، عن أبي خالد الزبالي قال : قدم علينا أبو الحسن موسى الكاظم زبالة ومعه جماعة من أصحاب المهدي بعثهم في إحضاره لديه إلى العراق من المدينة ، وذلك في مسكنه الأوّل ، فأتيته وسلّمت عليه ، فسرّ برؤيتي ، وأوصاني بشراء حوائج وتبقيتها

__________________

(١) انظر ابن الخطيب البغدادي ـ تاريخ بغداد ـ ج ٢ ص ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) انظر أبو الفرج الأصبهاني ـ مقاتل الطالبيِّين ـ ص ٥٤١ ، طبع مصر.

(٣) انظر علي بن الحسين المسعودي ـ مروج الذهب ـ ج ٤ ص ١٢٣.

(٤) انظر الشبلنجي ـ نور الأبصار ـ / ٢٠٢ ، طبع مصر العثمانية.

٨٥

عندي له ، فرآني غير منسبط ، فقال لي : «ما لي أراك منقبضاً؟». فقلت : كيف لا أنقبض وأنت سائر إلى هذه الفئة الطاغية ، ولا آمن عليك؟ فقال (عليه السّلام) : «يا أبا خالد ، ليس عليّ بأس ، فإذا كان في شهر كذا يوم الفلاني منه فانتظرني آخر النهار مع دخول الليل فإنّي أوافيك إن شاء الله تعالى». قال أبو خالد : فما كان لي همّ إلاّ إحصاء تلك الشهور والأيام إلى ذلك اليوم الذي وعدني المجيء به ، فخرجت عند غروب الشمس فلم أرَ أحداً ، فلمّا كان دخول الليل إذا بسواد قد أقبل من ناحية العراق فقصدته ، فإذا هو على بغلة أمام القطار فسلمت عليه ، وسررت بمقدمه وتخلّصه (١) ، فقال لي : «أداخلك الشك يا أبا خالد؟». فقلت : الحمد لله الذي خلّصك من هذا الطاغية. فقال : «يا أبا خالد ، إنّ لهم إليّ عودة لا أتخلّص منها». وفي المخطوط : حدّث محمد بن عمرو بن بشر ، عن إبراهيم بن عطارد قال : زبالة لبني غاضرة. وحدّث أبو محمد الورّاق ، عن علي بن الصباح ، عن هشام بن محمد السائب ، عن أبيه قال : سمّيت ببلى وأبلى والتلبوت ومناله وزبالة بهم ، وهم بنو حرث بن مكنف من بني عمليق. وحدّث أبو محمد الورّاق ، عن علي بن الصباح ، عن هشام بن أبيه قال : ويُقال : سمّيت زبالة بزبالة لأنّه احتفرها زبالة بن حرث فنُسبت إليه. ومن زبالة إلى الشقوق سبعة عشر ميلاً ، وبها قصر ومسجد. ويُقال : إنّ الحسين بن علي (رضوان الله عليه) صلّى فيه. وبزبالة ثلاث برك ؛ إحداهن تُعرف بالعتيقة ، والاُخرى تُعرف بالكبيرة ولها مصفاة ، ولهذه المصفاة مصفاة صغيرة ، وبزبالة من الآبار التي تُسقى منها بئر تُعرف بالمقعد مدوّرة ، وبئر تُعرف بالريان مدوّرة ، وبئر تُعرف بالصبي مربّعة عندها بركة وحوض ، وبئر تُعرف بالبرمكية مربّعة عليها حوض يُعرف بالعتيق وبركة أخرى. وبزبالة من القلب في بطن الوادي وغيره ثلاثمئة وخمسون قليباً ، وبها بئر أخرى تُعرف ببئر الشجرة. وعلى ستة أميال ونصف من زبالة بركة مدوّرة يسرة ، وهي إحدى الرضمتين ، وهي رضم أبي جعفر يُعرف بالقيصوم ، لها مصفاة ومسجد وقباب وخلفها يميل رضم امير المؤمنين متعشا وبئر وحوض يسمى ذلك كله الرضم (١)

__________________

(١) الرضم على ستة أميال من زبالة والشقوق ، انظر ياقوت الحموي ـ المشترك ـ ص ٢٠٧ ، طبع غوتنجن.

٨٦

وعلى ثلاثة أميال من زبالة في موضع الزرع نبات شيح وغيره يُقال له : (العثيران) ورقه أكبر من ورق (السنخ) عيدانه بيض ، وعلى أربعة أميال من زبالة علم للخيزران البطن الذي فيه النبات ، ومنه يعدل يسرة إلى التنانير حتّى يبلغ إلى أميال يسيرة على الطريق ، وبناء خرب يُقال له : ذات التنانير ، وهو على اثني عشر ميلاً من زبالة بالأميال الصغار ، وهو قاع كثير السدر. وذكر ابن جبير قال : زبالة : هي قرية معمورة وفيها قصر مشيد من قصور الأعراب ومصنعان للماء وآبار ، وهي من مناهل الطريق الشهيرة ، ونزلنا عندما ارتفع النهار من اليوم المذكور. ولزبالة ذكر كثير في أشعار الشعراء. قال بعض الأعراب :

ألا هل إلى نجدٍ وماء بقاعِها

سبيلٌ وأرواحٌ بها عطراتِ

وهل لي إلى تلكَ المنازلِ عودةٌ

على مثلِ تلكَ الحالِ قبلَ مماتي

فأشربُ من ماءِ الزلالِ وأرتوي

وأرعى مع الغزلان في الفلواتِ

وألصقُ أحشائي برملِ (زُبالةٍ)

وآنسُ بالظلماتِ والظبياتِ

ويُنسب إلى زبالة جماعة منهم حسّان الزبالي حدّث عن زيد بن الحباب (١). قال أرباب السير : وعندما حطّ الحسين (عليه السّلام) رحله في زبالة أتاه نعي رسوله إلى أهل الكوفة (عبد الله بن يقطر) ، فعندها خطب الناس ، وقال : «بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد ، فإنّه أتانا خبر فظيع ؛ قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلتنا شيعتنا ، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام». قال أهل السير : فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، ونفر يسير ممّن انضموا إليه. وإنّما فعل ذلك ؛ لأنّه (عليه السّلام) علم أنّ الأعراب الذين اتّبعوه إنّما اتّبعوه بظنّهم أنّه يأتي إلى بلد قد استقامت له طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون عليه. ولمّا كان السحر أمر أصحابه فاستسقوا ماءً وأكثروا ، ثمّ رحل بظعنه من زبالة متوجّهاً إلى القاع.

__________________

(١) انظر ابن الأثير ـ اللباب في تهذيب الأنساب ـ ١ / ٤٩٣.

٨٧

وراحَ للقاعِ يوالي سيرهُ

وبعده إلى العقبة انتحى!

(القاع) : هو ما انبسط من الأرض الحرّة ، السهلة الطين التي لا يخالطها رمل فيشرب ماءها ، وهي مستوية ليس فيها تطامن ولا ارتفاع. والقاع : منزل بطريق مكّة بعد العقبة لمَنْ يتوجّه إلى مكّة تدّعيه أسد وطي ، ومنه يُرحل إلى زبالة. ويوم القاع من أيام العرب (١). قال أبو أحمد : يوم كان بين بكر بن وائل وبني تميم ، وفي هذا اليوم أُسر أوس بن حجر ، أسره بسطام بن قيس الشيباني ، وأنشد الشاعر :

بقاعٍ منعناهُ ثمانينَ حجّةً

وبضعاً لنا إخراجه ومسائلُهْ

وفي المخطوط : من القاع إلى زبالة ثمانية عشر ميلاً ونصف. وبالقاع مسجدان وقصر ، وهو أحسن منازل الطريق بناء ، وبه نخلة في وسطه ، وبه بركة تُعرف بالقصرى وبالشهابية ، وإلى جانبها بركة تُعرف بالمصفاة ، وبركة تُعرف بالعتيقة ، وبئر فتحتها أربعة أذرع ، وطول رشائها ثمان وثمانون قامة ليس في الطريق أطول منها. وعلى ثلاثة أميال ونصف من القاع قباب مبنيّة عن يسرة الطريق لخالصة ، وعندها أرح (٢) يجتمع فيه ماء السماء. وعلى ستة أميال من القاع قبل المشرق يسرة الطريق بركة زبيدية وقباب ومسجد ، وهي (الهيثم) ولها مصفاة. وعلى مقدار ثمانية أميال يخرجه هذا الطريق عن يسار البيوت بزبالة ، وبعد الهيثم بأقل من ميل يمنة الطريق بركة (الحريش) وقباب ومسجد وقصر وبئر جاهلية عميقة. وإنّما سمّي الحريش ؛ لأنّه كان لقوم يُقال لهم : (بنو حريش) ، ذُكر أنّهم من عجل ، وذُكر أنّهم من سعد بن زيد بن مناة. وبعد الحريش بخمسة أميال قباب يسرة الطريق يُقال لموضعها : القبيبات. وقبل زبالة بثلاثة أميال موضع يُقال له : الخيلان ، وإنّما سمّي الخيلان ؛ لأنّها

__________________

(١) ذكر مثله صاحب مراصد الاطلاع ، انظر عبد المؤمن مفتي الحنابلة بالشبرية. مراصد الاطلاع ج ٢ ص ٣٢٩.

(٢) هكذا مرقوم بالنسخة المخطوطة.

٨٨

أرض بيضاء وفيها حجارة سود ، ولمع من سواد وغيره. وللشعراء في أشعارهم ذكر للقاع. قال الشريف الرضي (ره) (١) :

أَيا أَثَلاتِ القاعِ كَم نَضحُ عَبرَةٍ

لِعَيني إِذا مَرَّ المَطيُّ بِذي الأَثلِ

وَيا عَقَداتِ الرَملِ كَم لِيَ أَنَّةٌ

إِذا ما تَذَكَّرتُ الشَقيقَ مِنَ الرَّملِ

وقال الطغرائي يذكر القاع والأثلات (٢) :

أيا أثلاتِ القاعِ أمّا عروقُها

فَريَّا وأمَّا ظِلُّها فظليلُ

لكِ اللّهُ هل مرَّتْ بقُربكِ رُفقةٌ

وأنضاءُ عِيسٍ سيرُهنَّ ذميلُ

وللأرجاني يذكر القاع بقوله (٣) :

صلي حبلَنا يا ظبيةَ القاعِ أو قفي

قليلاً ولا تخشي تعرّض نابلِ

فما يطمعُ القنّاصُ فيكِ وإنّما

تعلّمَ من عينيكِ رمي المقاتلِ

وعلى ثلاثة أميال من العقبة بينها وبين القاع شعب غير مضاف كما ذكره السكوني هو ماء (٤). قلت : وانتحى في الأمر : جدّ فيه. قالوا : وأقلع الحسين بركبه مجدّاً بالسير إلى العقبة.

(العقبة) : بالتحريك ، وهو الجبل الطويل يعرض للطريق فأخذ فيه ، وهو طويل صعب إلى صعود الجبل ، والعقبة : منزل في طريق مكّة بعد واقصة. وبين العقبة والقاع بقرب الجادة قصر يُقال له : قصر حمران (٥). قال ابن جبير (٦) عند ذكر العقبة : صعدنا العقبة وليست بالطويلة الكؤود ، ولكن ليس بالطريق وعر غيرها ، فهي شهيرة بهذا السبب. ونزلنا عند ارتفاع النهار على مصنع دون ماء ، وجزنا مانع كثيرة ، وما منها مصنع إلاّ وإلى جانبه قصر مبني من قصور الأعراب

__________________

(١) انظر ديوان الشريف الرضي.

(٢) انظر ديوان الطغرائي.

(٣) انظر ديوان الأرجاني.

(٤) انظر الحموي ـ المشترك ـ ص ٢٧٤ ، طبع غوتنجن ، ألمانيا.

(٥) انظر الحموي ـ المشترك ـ ص ١٤٥ ، طبع غوتنجن ، ألمانيا.

(٦) انظر رحلة ابن جبير.

٨٩

والطريق كلّها مصانع. ويروى أنّ الحسين (عليه السّلام) كان قد نزل العقبة في طريقه إلى الكوفة ، وهناك لقيه شيخ من بني عكرمة يُقال له : عمرو بن لوذان ، فسأله أين تريد؟ فقال الحسين (عليه السّلام) : «الكوفة». فقال الشيخ : أُنشدك الله لما انصرفت ؛ فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف ، وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ، ووطؤوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيّاً ، فأمّا على هذا الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل. فقال : «يا عبد الله ، ليس يخفى عليّ الرأي ، وإنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره». ثمّ قال : «والله لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الأمم». ثمّ إنّ الشيخ صار يخبر بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العذيب رصداً له ، ثمّ قال له : انصرف بنفسي أنت! فوالله ما تسير إلاّ على الأسنّة والسيوف ، ولا تتّكلنَّ على الذين كتبوا إليك ؛ فإنّ اُولئك أوّل الناس مبادرة إلى حربك. فقال الحسين (عليه السّلام) : «قد ناصحت وبالغت ، فجزيت خيراً». ثمّ سلم عليه ومضى (١). ويروى عن الصادق (عليه السّلام) أنّ الحسين لمّا صعد عقبة البطن ، قال لأصحابه : «ما أراني إلاّ مقتولاً». قالوا : وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قال : «رؤيا رأيتها في المنام». قالوا : وما هي يابن رسول الله؟ قال : «رأيت كأنّ كلاباً تنهشني ، وأشدّها عليّ كلب أبقع». قالوا : ثمّ سار من العقبة قاصداً واقصة.

وثَمّ قد نحبَ بالسيرِ إلى

واقصةٍ يطوي السهولَ والرُّبى

(واقصة) : بكسر القاف والصاد المهملة ، منزل بطريق مكّة بعد القرعاء نحو مكّة يُقال لها : واقصة الحزون ، وهي دون زبالة بمرحلتين ، وإنّما قيل لها واقصة الحزون ؛ لأنّ الحزون أحاطت بها من كلّ جانب ، والمصعد إلى مكّة ينهض في أوّل الحزن من العذيب في أرض يُقال لها : البيضة حتّى يبلغ مرحلة العقبة في أرض يُقال لها : البسيطة ، ثمّ يقع في ارتفاع وهو سهل.

__________________

(١) انظر الدينوري ـ الأخبار الطوال ـ ص ٢٢٣ طبع الأعظمي.

٩٠

ويُقال : زبالة أسهل منه ، فإذا جاوزت ذلك استقبلت الرمل ، فأوّل رمل تلقاه يُقال لها : الشيخة (١). قال الأعشى :

أَلا تَقنى حَياءَكَ أَو تَناهى

بُكاءَكَ مِثلَ ما يَبكي الوَليدُ

أَرَيتُ القَومَ نارِكَ لَم أُغَمِّض

بِواقِصَةٍ وَمَشرَبُنا زَرودُ

فَلَم أَرَ مِثلَ مَوقِدِها وَلَكِن

لأَيَّةِ نَظرَةٍ زَهَرَ الوَقودُ

وفي واقصة شاهد شقيق البلخي كرامة من الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ، كما ذكرها صاحب مطالب السؤول (٢) ، قال : عن هشام بن حاتم الأصم ، قال لي أبي حاتم : قال شقيق البلخي : خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومئة فنزلت القادسية ، فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه ، شديد السمرة ضعيف ، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة وفي رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً ، فقلت في نفسي : إنّ هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلاً على الناس في طريقهم ، والله لأمضينّ إليه ولأوبّخنّه. فدنوت منه ، فلمّا رأني مقبلاً قال : «يا شقيق ، اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ (٣)». قال : ثمّ تركني ومضى ، فقلت في نفسي : إنّ هذا لأمر عظيم ؛ قد تكلّم بما في نفسي ، ونطق باسمي ، ما هذا إلاّ عبد صالح ، لألحقنّه ولأسألنّه أن يعفو عنّي. فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عنّي ، فلمّا نزلنا واقصة إذا به يصلّي وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تجري. فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه وأستحلّه. فصبرت حتّى جلس ، وأقبلت نحوه ، فلمّا رآني مقبلاً قال لي : «يا شقيق ، اتلُ : وَإِنّي لَغَفّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمّ اهْتَدَى (٤)». ثمّ تركني ومضى ، فقلت في نفسي : إنّ هذا الفتى لَمن الأبدال ؛ قد تكلّم بسرّي مرّتين. فلمّا نزلنا زبالة وإذا بالفتى

__________________

(١) انظر ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ـ ٨ / ٣٨٨.

(٢) انظر محمد بن طلحة الشافعي ـ مطالب السؤول ـ ص ٨٣ ، والتذكرة ـ سبط ابن الجوزي ص ١٩٦ ، والكتابان طبع إيران.

(٣) سورة الحجرات ص ١٢.

(٤) سورة طه ص ٨٢.

٩١

قائم على بئر وبيده ركوة أن يستسقي الماء ، فسقطت الركوة من يده في البئر ، وأنا أنظر أليه ، فرأيته وقد رمق السماء بطرفه ، وسمعته يقول :

أنتَ ريّي إذا ظمئتُ إلى الما

ء وقوّتي إذا اشتهيتُ الطعاما

اللّهم سيّدي ، ما لي سواها فلا تحرمنيها. قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤه ، فمدّ يده فأخذ الركوة وملأها ماءً ، فتوضأ وصلّى أربع ركعات ، ثمّ مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده من ذلك الرمل ويطرحه في الركوة ويرحكه ويشرب ، فأقبلت إليه وسلّمت عليه ، فردّ السلام ، فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم الله به عليك.

قال : «يا شقيق ، لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة ، فأحسن ظنّك بربّك». ثمّ ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ، فوالله ما شربت قطّ ألذّ منه ولا أطيب ريحاً ، فشبعت وارتويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً ، ثمّ لم أره حتّى دخلنا مكّة ، فرأيته في ليلة إلى جنب قبّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلّي بخشوع وخضوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتّى ذهب الليل ، فلمّا رأى الفجر جلس في مصلاه يسبّح ، ثمّ قام يصلّي الغداة ، ولمّا فرغ من صلاته طاف بالبيت سبعاً وخرج فتبعته ، وإذا له حاشية وموالي ، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه.

فقلت لبعض مَنْ يقرب منه : مَنْ هذا الفتى؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام). فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيد.

فنظم بعضهم هذه الكرامات شعراً فقال :

سل شقيقَ البلخي عنهُ وما شا

هدَ منهُ وما الذي كان أبصرْ

قالَ لما حججتُ عاينتُ شخصاً

شاحبَ اللونِ ناحلَ الجسمِ أسمرْ

سايراً وحدهُ وليس لهُ زا

دٌ فمازلتُ دائماً أتفكرْ

وتوهّمت أنّه يسألُ الناس

ولم أدرِ أنّه الحجُّ الأكبرْ

ثمّ عاينتُهُ ونحنُ نزولٌ

دونَ فيدٍ على الكثيبِ الأحمرْ

يضعُ الرملَ في الإناءِ ويحسو

هُ فناديتهُ ولبّي تحيرْ

أسقني شربةً فناولني من

هُ فعاينتهُ سويقاً وسكرْ

فسألتُ الحجيجَ مَنْ يكُ هذا

قيلَ هذا الإمامُ موسى بن جعفرْ

٩٢

قال ابن جبير (١) : ثمّ نزلنا بواقصة ، وهي وهدة من الأرض منفسحة ، فيها مصانع للماء مملوءة ، وقصر كبير وبأزائه أثر بناء ، وهي معمورة بالأعراب ، وهي آخر مناهل الطريق ، وليس بعدها إلى الكوفة منهل مشهور إلاّ مشارع الفرات. ومنها إلى الكوفة ثلاثة أيّام ، ومن يريد الكوفة يسير مستقيماً إلى القرعاء ، فالمغيثة ، فالقادسية مشرقاً. (ونحب) يُقال : نحبَ القومُ في سيرهم ، أي جدّوا وأسرعوا. قلت : وسار الحسين من واقصة حتّى انتهى إلى القرعاء بسيره ، فمرّ بها ولم ينزلها حتّى أتى مغيثة.

ثمّ إلى القرعاء وافى وإلى

مغيثةٍ غوث الورى حثّ السُّرى

(القرعاء) : تأنيث الأقرع ، كأنّها سمّيت بذلك لقلّة نباتها ، وهو منزل في طريق مكّة من الكوفة بعد المغيثة ، وقبل واقصة إذا كنت متوجّها إلى مكّة. وبين المغيثة والقرعاء الزبيدية ومسجد سعد والخبراء ، وبين القرعاء وواقصة على ثلاثة أميال بئر بالمرعى ، وبين القرعاء وواقصة ثمانية فراسخ. وفي القرعاء بركة وركايا لبني غدانة ، وكانت به وقعة بين بني دارم بن مالك وبني يربوع بسبب هيج جرى بينهم على الماء ، فقُتل رجل من غدانة يُقال له : أبو بدر ، وأراد بنو دارم أن يدّوا فلم يقبل بنو يربوع ، فهاجت الحرب بين القبيلتين (٢). وهناك أحساء بني وهب بين القرعاء وواقصة تسع آبار كبار على طريق الحجّ. قلت : فوصل الحسين القرعاء في طريقه إلى الكوفة ومنها توجّه إلى مغيثة.

(مغيثة) : هذه غير مغيثة الماوان التي مرّ ذكرها ، والتي بين السليلة والنقرة ؛ أمّا هذه فهي بين القرعاء وشراف. قال في المشترك (٣) : المغيثة : منزل في طريق مكّة بعد العذيب من جهة مكّة ، وهي لبني نبهان من طي ، وقد وصلها الحسين بركبه ولم ينزل بها ، فاجتازها إلى شراف.

__________________

(١) انظر ابن جبير ـ رحلة ـ ص ١٦٥.

(٢) انظر معجم البلدان ج ٧ ص ٥٥.

(٣) انظر الحموي شهاب الدين ياقوت ـ المشترك ـ ص ٤٠٢ ، طبع غوتنجن ألمانيا.

٩٣

ومذ أتى شرافَ في طريقهِ

وحطّ ظعنُ المجدِ في تلك الفلا

قال أيا أحبّتي تزوّدوا

من مائهِ وأكثروا من الروى

ثمّ سرى وصحبُه في إثرِه

تسري إذا هُمْ بأسنّة القنا

(شراف) : بفتح أوّله وآخره فاء ، وثانية مخفف فعال ، من الشرف وهو العلوّ. ماء بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من أحساء التي لبني وهب ، ومن شراف إلى واقصة ميلاً. وذكر صفي الدين عبد المؤمن (١) قال : شراف : ما بين واقصة والقرع فيها ثلاث آبار كبار وقلب كثيرة طيّبة ، وهناك بركة تُعرف باللوزة ، وفي شراف ثلاث آبار كبار رشاؤها أقل من عشرين قامة ، وماؤها عذب كثير ، وبها قلب كثيرة طيّبة الماء يدخلها ماء المطر. وقيل : شراف : استنبطه رجل من العماليق اسمه شراف فسمّي به. وقيل : شراف وواقصة ابنتا عمرو بن معتق بن زمرة بن عبيل بن عوض بن أرم بن سام بن نوح. ومن شراف إلى الشبكة ستة وعشرون كيلو متراً ، ومن شراف إلى واقصة سبع كيلو مترات أرض وعرة جدّاً. قال المثقب العبدي في شراف (٢) :

مَرَرنَ عَلى شَرافِ فَذاتِ هَجلٍ

وَنَكَّبنَ الذَرانِحَ بِاليَمينِ

(الروى) : الماء الغزير المروي. قال أهل السير : ولمّا أتى الحسين (عليه السّلام) وصحبه شراف أمسوا هناك ، فلمّا كان السحر أمر الحسين (عليه السّلام) فتيانه فاستسقوا الماء فأكثروا ، وأكّد عليهم بالإكثار من حمل الماء ، فملأ أصحابه القرب والأواني وجميع ما كان عندهم من الطسوت. ثمّ سار (عليه السّلام) حتّى انتصف النهار ، فبينا هم يسيرون إذ كبّر رجل من أصحابه ، فقال الحسين (عليه السّلام) : «الله أكبر ، ممّ كبرت؟». قال : سيّدي ،

__________________

(١) انظر عبد المؤمن ـ مراصد الاطلاع ـ ج ٢ ص ١٠٠ طبع أوربا.

(٢) انظر ديوان المثقب العبدي الذي نشره حديثاً وعلّق عليه العلاّمة الجليل الشيخ محمد حسن آل يس في سلسلة (نفائس المخطوطات).

٩٤

رأيت النخل. وفي رواية : رأيت السواد ، أي نخلة الكوفة (١). فقال له جماعة من أصحابه : والله ، إنّ في هذا المكان ما رأينا نخلة قطّ! فقال الحسين (عليه السّلام) : «فما ترونه؟». قالوا : نراه والله آذان الخيل. قال (عليه السّلام) : «وأنا أرى ذلك». ثمّ قال : «ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله خلف ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟». فقلنا له : بلى ، هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد. فأخذ يسير إليه متياسراً حتّى وصل إليه.

فمالَ بالركبِ إلى ذي حُسمِ

وجاءهُ الحرُّ فكان الملتقى

(حُسَم) : بالضم ثم الفتح ، مثل جرذ وصرد ، كأنّه معدول من حاسم ، وهو المانع ، اسم موضع. ويروى بضمتين ، هضبة منيعة. وقيل : جبل كان النعمان بن المنذر يصطاد به. وفيه للنابغة أبيات ، وقد ذكرها أيضاً يحيى المعروف بالمهلهل (٢) بشعره :

أليلتنا بذي حُسمٍ أنيري

إذا أنت انقضيت فلا تحوري (٣)

فإن يكُ بالذنائب طال ليلي

فقد أبكي من الليل القصيرِ (٤)

قلت : يروى أنه لمّا بانت للحسين (عليه السّلام) طلايع الخيل مال بأصحابه إلى ذي حسم. قال الراوي : فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل (٥)

__________________

(١) كان قد كثر النخل آنذاك في طفّ العراق بسبب العيون التي فيه.

ذكر البلاذري قال : حدّثني الأثرم ، عن عبيدة ، عن عمرو بن العلاء قال : لمّا رأت العرب كثرة القرى والنخل والشجر قالوا : ما رأينا سواداً أكثر. والسواد : الشخص ؛ فلذلك سمّي السواد سواداً.

(٢) وقيل : المهلهل هو كليب ، واسمه عدي بن ربيعة ، وإنّما قيل له : المهلهل لأنّه أوّل مَنْ هلهل الشعر ، أي أرقّه. ولمّا قُتل أخوه كليب شمّر المهلهل فترك النساء والغزل ، وحرّم القمار والشراب ، واستعدّ لحرب بكر آخذاً بثأر أخي كليب ، فدارت من ذلك حروب طاحنة ووقائع عديدة.

(٣) تحوري : أي ترجعي.

(٤) انظر النويري ـ نهاية الأرب ـ ج ١٥ ص ٤٠١.

(٥) يُقال : أقبلت هاديات الخيل ، وهو أديها ، أي مقدماتها. مفردها الهادية.

٩٥

فتبينّاها وعدلنا. فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا ، كأنّ أسنتهم اليعاسيب (١) ، وكان راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين (عليه السّلام) بأبنيته فضُربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس مع رئيسهم الحر بن يزيد التميمي الرياحي (٢) حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين (عليه السّلام) في حرّ الظهيرة ، وقد

__________________

(١) اليعاسيب : مفردها يعسوب ، ذكر النحل وأميرها ، تشبه بها لبريق أجنحتها في أشعة الشمس.

(٢) هو الحرّ بن يزيد الرياحي الذي جعجع بالحسين (عليه السّلام) ، وكان أوّل خارج عليه ، ثمّ بعد ذلك أدركته السعادة وحظي بشرف الشهادة ، فكان أوّل قتيل بين يدي الحسين يوم الطفّ. ذكر أرباب التاريخ : أنّه لمّا صمّم ابن سعد على حرب الحسين (عليه السّلام) ، خرج الحسين (عليه السّلام) وقد ضرب بيده على كريمته المباركة ، وقال : «اشتدّ غضب الله على اليهود والنصارى ؛ إذ جعلوا له ولداً ، واشتدّ غضب الله على المجوس ؛ إذ عبدت الشمس والقمر والنار من دونه ، واشتدّ غضب الله على قوم اتّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيّهم. والله ، لا أجيبهم على شيء يريدونه أبداً حتّى ألقى الله». فلمّا سمع الحرّ بن يزيد هذا الكلام اضطرب قلبه ، ودمعت عيناه ، فخرج باكياً متضرّعاً مع غلام له تركي. وكان كيفية انتقاله إلى الحسين (عليه السّلام) : أنّه لمّا سمع هذا الكلام أتى عمر بن سعد ، وقال له : أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال : أي والله ، قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس ، وتطيح الأيدي فيه. فقال : أما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا؟ فقال : والله ، لو كان الأمر لي لفعلت ، ولكن أميرك ـ يعني ابن زياد ـ قد أبى ذلك. فأقبل الحرّ حتّى وقف عن الناس جانباً ومعه رجل من قومه يُقال له : قرّة بن قيس ، فقال له : يا قرّة ، هل سقيت فرسك اليوم ماء؟ قال : لا. قال : أما تريد أن تسقيه؟ قال قرة : فظننت والله أنّه يريد أن ينتحي فلا يشهد القتال ، ويكون أن لا أراه يصنع ذلك مخافة أن أرفع عليه ، فقلت له : لم أسقه ، وأنا منطلق فأسقيه. قال : فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه. والله ، لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين (عليه السّلام). فأخذ يدنو قليلاً قليلاً ، فقال له رجل من قومه : يا أبا يزيد ، إنّ أمرك لمريب ، فما الذي تريد؟ قال : والله ، إنّي أُخيّر نفسي بين الجنة والنار ، ووالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت وحرقت. ثمّ ضرب فرسه ولحق بالحسين (عليه السّلام) مع غلامه التركي ، فقال : يابن رسول الله ، جعلني الله فداك! إنّي صاحبك الذي حبسك عن الرجوع ، وسايرتك في الطريق ، وجعجعت بك في هذا المكان. والله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم ، ولا يبلغون بك هذه المنزلة ، وإنّي لو سولت لي نفسي أنّهم يقتلونك ما ارتكبت هذا منك ، وإنّي قد جئتك تائباً إلى ربّي ممّا كان منّي ، ومواسيك بنفسي حتّى أموت بين يديك ، أفترى ذلك توبة؟ قال : «نعم ، يتوب الله عليك ، ويغفر لك».

٩٦

أخذ العطش منهم ما أخذ ، هذا والحسين وأصحابه معتمّون متقلدون أسيافهم.

__________________

ثمّ قال له : «انزل». قال : أنا لك فارساً خير منّي لك راجلاً ؛ اُقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير آخر أمري. ثمّ قال : يابن رسول الله ، كنت أوّل خارج عليك فأذن لي أن أكون أوّل قتيل بين يديك ؛ فلعلي أكون ممّن يصافح جدّك محمداً غداً في القيامة. فقال له الحسين (عليه السّلام) : «إن شئت فأنت ممّن تاب الله عليه ، وهو التواب الرحيم». قال أهل السير : فكان أوّل مَنْ تقدّم إلى البراز ، فأنشأ يقول :

إنّـي أنا الحرّ ومأوى الضيفِ

أضـربُ فـي أعناقكم بالسيفِ

عن خيرِ مَنْ حلّ بأرضِ الخيفِ

أضـربكم ولا أرى مـن حيفِ

ويروى أنّ الحرّ لمّا لحق بالحسين (عليه السّلام) قال له رجل من بني تميم يُقال له يزيد بن سفيان الثغري : أما والله لو لقيته حين خرج لأتبعته السنان. فبينا هو يُقاتل وإنّ فرسه لمضروب على أذنه وحاجبه ، وإنّ الدماء لتسيل منه ، إذ قال الحصين بن نمير : يا يزيد ، هذا الحرّ الذي كنت تتمنّاه فهل لك به. قال : نعم. وخرج إليه ، فما لبث الحرّ أن قتله ، وقتل أربعين فارساً وراجلاً ، وهو يتمثّل بقول عنترة :

ما زلتُ أرميهمْ بثغرةِ نحرِه

ولـبانه حتّى تسربلَ بالدمِ

ولم يزل يُقاتل حتّى عرقب فرسه ، فوثب عنه الحرّ كأنّه الليث ، والسيف بيده ، وهو يقول :

إن تعقروا بي فأنا ابنُ الحرّ

أشـجعُ من ذي لبدٍ هزبرِ

وراح يُقاتل راجلاً ، وهو يقول :

آلـيتُ لا اُقـتلُ حتّى أقـتلا

ولا اُصـابُ الـيومَ إلاّ مقبلا

أضربكم بالسيفِ ضرباً معضلا

لا نـاكـلاً فـيكم ولا مهللا

فلم يزل يُقاتل حتّى تعطّفوا عليه وقتلوه. فمشى لمصرعه الحسين (عليه السّلام) وأبّنه بكلمته المعروفة. وقف عليه قائلاً: «أنت حرّ كما سمّتك أمك، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة». ورثاه علي بن الحسين (عليه السّلام) بقوله:

لـنعمَ الحرُّ حرّ بني رياحِ

صبورٌ عند مشتبكِ الرماحِ

ونعمَ الحرُّ إذ واسى حسيناً

وجـادَ بنفسهِ عند الصياحِ

وذكروا أنّ الحسين (عليه السّلام) أخرج منديله وعصب به رأس الحرّ. وذكر شيخنا السماوي ، ومثله العلاّمة المظفري ، قال : وإنّما دفنت بنو تميم الحرّ بن يزيد الرياحي نحو ميل من الحسين (عليه السّلام) حيث قبره الآن ؛ اعتناءً به. ويذكر أنّ بعض ملوك الشيعة استغرب من ذلك ، فكشف عن قبر الحرّ فوجده على صفته التي ذكرها التاريخ ، وأنّ رأس الحرّ غير مقطوع ، وهو معصّب بعصابة ، فطمع بها وراح ليحلها ويأخذها تبرّكاً بها ، فانبعث الدم من جبينه فشدّها على حالها ، وعمل على قبره صندوقاً. ولعل بنو تميم هم الذين تكتّلوا يوم الحادي

٩٧

قابلهمْ بخلقِهِ السامي كما

سقاهمُ من غبِّ ذلك الظما

وعندها أسمعهم خطابَهُ

وأعلم الحرَّ بما به أتى

أجابه الحرُّ بلطفٍ وغدا

كالعبدِ من مولاه يطلب الرضا

قال أهل السير : ولمّا رآهم الحسين (عليه السّلام) ، وقد أثّر العطش بهم في تلك الظهيرة ، وحرّ البادية والهجير. هذا والشمس في كبد السماء ترسل أشعتها الوقّادة عليهم وهم من غير ماء ، أمر (عليه السّلام) أصحابه وفتيانه ، وقال : «اسقوهم الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً». قال : فأقبل أصحاب الحسين (عليه السّلام) يملؤون القصاع والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ الرجل فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت ، وربّما يُسقى الفارس قبلها ، وسقى الآخر وفرسه حتّى سقوهم عن آخرهم. قال علي بن الطعّان المحاربي : كنت مع الحرّ يومئذ فجئت في آخر مَنْ جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين (عليه السّلام) ما بي وبفرسي من العطش ، قال : «أنخ الرواية». والراوية عندي السقاء ، ثمّ قال : «يابن الأخ ، أنخ الجمل». فأنخته ، فقال : «اشرب». فجعلت كلّما أشرب سال الماء من السقاء ، فقال الحسين (عليه السّلام) : «اخنث

__________________

عشر من المحرّم ، ومنعوا من قطع رأس الحرّ وحمله كما فعلوا بالرؤوس ، إذ قطعوها من الأبدان وحملوها على أطراف الرماح. وله اليوم مشهد يزار خارج كربلاء في الموضع الذي كان قديماً يُقال له : النواويس. قال شيخنا المظفّري : وفي قبر الحرّ في النواويس ، النائي عن مرقد الحسين (عليه السّلام) ، ومراقد الشهداء أقوال : قول : إنّه سقط هناك فلم يحمل إلى خيمة القتلى من الشهداء ؛ لحيلولة القوم بينهم وبينه مع اشتغالهم بالحرب. وقول : إنّ عمر بن سعد لمّا أراد أن يقطع الرؤوس أبت بنو تميم أن يُقطع رأس الحرّ ، فحملوه ودفنوه هناك. ويقال : إنّما حملوه لأنّ عمر بن سعد أمر بوطء جثث القتلى ؛ امتثالاً لأمر ابن زياد ، فقامت بنو تميم وحامت عنه ومنعت منه ، ثمّ حملته إلى هذا الموضع. ومنعت كلّ قبيلة عن وطء جثة رجلها ، لكنّهم لم يحملوهم ولم يدفنوهم ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ المأمور به ابن سعد وطء جسد الحسين (عليه السّلام) خاصة ، فوطأته الخيل دون سائر الشهداء من الهاشميِّين وغيرهم كما صرّحت بذلك كتب المقاتل. وهناك قول آخر يُعدّ رابعاً : إنّ الإمام زين العابدين (عليه السّلام) أمر بني أسد بنقله هناك ، وهذا بعيد جداً.

٩٨

السقاء». أي اعطفه ، فلم أدرِ كيف أفعل ، فقام (عليه السّلام) بنفسه فخنثه ، فشربت وارتويت وسقيت فرسي. قالوا : وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية ، وقد كان عبيد الله بن زياد بعث الحصين بن نمير وأمره أن ينزل القادسية ، وتقدّم الحرّ بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين (عليه السّلام). قال الراوي : فلمّا شرب الحرّ الماء ومَنْ معه ، وتغمرت (١) خيلهم ، جلسوا جميعاً في ظلّ خيولهم وأعنّتها في أيديهم حتّى حضرت صلاة الظهر.

صلّى الحسينُ الظهرَ فأتمّ بهِ

الجيشانِ والحرُّ بمولاه اقتدى

قال أرباب التاريخ : ولمّا حضرت صلاة الظهر أمر الحسين (عليه السّلام) الحجاج بن مسروف الجعفي أن يؤذن فأذن ، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين (عليه السّلام) من خبائه في إزار ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال (٢) : «إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، وأدبر معروفها ، فلم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً». قال : فقام زهير بن القين البجلي (٣) فقال لأصحابه : تتكلّمون أم أتكلم؟ قالوا : بل تكلّم. فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله مقالتك ، والله لو كانت ٧لدنيا لنا باقية ، وكنّا فيها مخلّدين إلاّ أنّ فراقها في نصرتك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها. قال : فدعا الحسين (عليه السّلام) [له]. ثمّ التفت إلى أصحاب الحرّ ، وقال : «أيها الناس ، إنّي لم آتيكم حتّى أتتني كتبكم ، وقدمت على رسلكم أن أقدم علينا ؛ فإنّه ليس لنا إمام غيرك لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى

__________________

(١) يُقال : غمر فرسه ، سقاه قليلاً.

(٢) هذه الخطبة ذكرها الطبري ، عن عقبة بن أبي العيزار ج ٦ ص ٢٢٩.

(٣) هو زهير بن القين البجلي (ره). وقد ترجمناه مفصلاً.

٩٩

والحق. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئن إليكم من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم». فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة ، فقال للمؤذن : «أقم». فأقام الصلاة ، فالتفت الحسين (عليه السّلام) إلى الحرّ وقال له : «أتريد أن تصلّي بأصحابك؟». قال : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلّى الحسين بهم جميعاً. ولمّا فرغ من صلاته دخل خباءه فاجتمع إليه أصحابه ، وانصرف الحرّ إلى مكانه المعدّ له فدخل خيمته واجتمع إليه جماعة من أصحابه ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه ، ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلّها. ولمّا كان وقت العصر أمر الحسين (عليه السّلام) أصحابه أن يتهيؤوا للصلاة ففعلوا ، ثمّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فتقدّم الحسين (عليه السّلام) فصلّى ، ثمّ سلّم وانصرف إليهم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أمّا بعد أيها الناس ، فإنّكم إن تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله تكن أرضى لله عليكم ، ونحن أهل بيت محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وأولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإن أبيتم إلاّ كراهية لنا والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم». فقال الحرّ : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكرها. فنادى الحسين (عليه السّلام) برجل من أصحابه ، «يا عقبة بن سمعان ، اخرج الخرجين الذين فيهما كتبهم إليّ». فأخرج عقبة خرجين مملؤين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال الحرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال الحسين (عليه السّلام) : «الموت أدنى إليك من ذلك». ثمّ قال لأصحابه : «قوموا واركبوا». فركبوا وانتظروا حتّى ركبت العائلة ، فقال (عليه السّلام) لأصحابه : «انصرفوا». فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين (عليه السّلام) للحرّ : «ثكلتك أمّك! ما تريد؟». فقال الحرّ : أما لو غيرك من العرب قالها لي وهو على مثل هذا الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر اُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان ، ولكن والله ، ما لي إلى ذكر اُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.

١٠٠