الحسين في طريقه إلى الشهادة

علي بن الحسين الهاشمي

الحسين في طريقه إلى الشهادة

المؤلف:

علي بن الحسين الهاشمي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٠

فقال الحسين (عليه السّلام) : «ما تريد؟». قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله. قال : «إذاً والله لا أتبعك». قال : إذاً والله لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرّات ، فلمّا كثر الكلام بينهما قال له الحرّ : إنّي لم اُؤمر بقتالك ، إنّما اُمرت أن لا اُفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة ، فيكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى الأمير عبيد الله بن زياد ، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك ؛ فخذ ها هنا. فتياسر عن طريق العذيب والقادسية. قال أرباب التاريخ : ثمّ سار الحسين (عليه السّلام) وجعل يسايره الحرّ وهو يقول له : يا حسين ، إنّي اُذكّرك الله في نفسك ، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ. فقال له الحسين (عليه السّلام) : «أفبالموت تخوفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فخوّفه ابن عمّه ، وقال : أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهدَ مُسلما

وواسى الرجالَ الصالحينَ بنفسِهِ

وفارقَ مثبوراً وخالفَ مُجرما

فإن عشتُ لم أندمْ وإن متُّ لم أُذمْ

كفى بكَ فخراً أن تعيشَ وترغم»

فلمّا سمع الحرّ منه ذلك تنحى عنه ، وصار يسير بأصحابه ناحية والحسين في ناحية حتّى وافى البيضة.

وحينَ بالبيضةِ حلّ وغدا

يخطبُ بالجمعِ وكلّهم صغى

فعندها نادوا جميعاً إنّنا

نكونَ يومَ الملتقى لكَ الفدا

أنتَ ابنُ بنت المصطفى وخيرُ مَنْ

طافَ ببيتِ اللهِ طوعاً وسعى

وخامسُ الأشباحِ مَنْ قد وجبتْ

طاعتُه بأمرِ جبّارِ السما

(البيضة) : موضع بين العذيب وواقصة في أرض الحزون من ديار بني يربوع

١٠١

ابن حنظلة. وقيل : ماء (١). وفي مراصد الاطّلاع (٢) : بيضة : واحدة البيض لبني دارم ، وهي بالكسر ما بين واقصة إلى العذيب متّصلة بالحزن لبني يربوع. وذكر الطبري (٣) ، عن أبي مخنف ، عن عقبة بن العيزار : أنّ الحسين (عليه السّلام) خطب أصحابه وأصحاب الحرّ بالبيضة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : «أيّها الناس ، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله ، وأنا أحقّ من غيري ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم ؛ فأنا الحسين بن علي وابنُ فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ اُسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم ، فلعمري ما هي لكم بنكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل ، والمغرور مَنْ اغتر بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته». قال : ولمّا فرغ الحسين (عليه السّلام) من خطبته قام إليه نافع بن هلال الجملي (٤) ، وقال : يابن رسول الله ، أنت تعلم أنّ جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله)

__________________

(١) انظر ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ـ ج ٢ ص ٣٣٩.

(٢) انظر عبد المؤمن مفتي الحنابلة ـ مراصد الاطلاع ـ ج ١ ص ١٩١ ، طبع أوربا.

(٣) انظر محمد بن جرير الطبري ج ٦ ص ٢٢٩.

(٤) هو نافع بن هلال المذحجي الجملي ، كان نافع سيّداً شريفاً ، سرياً شجاعاً ، وكان قارئاً كاتباً ، ومن حملة الحديث ، وكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، شهد حروبه الثلاث : الجمل ، وصفين ، والنهروان. وعندما بلغه امتناع الحسين (عليه السّلام) من البيعة خرج إليه فاستقبله في الطريق ، وكان قد أوصى أن يتبع بفرسه المسمّى بالكامل ، فأتبع مع جماعة من أصحابه. قال أبو مخنف : كان نافع قد كتب اسمه على أفواق نبله ، فكان يرمي بها أهل الكوفة [وهو يقول :]

١٠٢

لم يقدر أن يشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى ما كان أحبّ ، فكان منهم منافقون يعدونه بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل حتّى قبضه الله تبارك وتعالى إليه. وأنّ أباك علياً (صلوات الله عليه) قد كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصرته وهم المؤمنون ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقوم قعدوا عنه وخذلوه حتّى مضى إلى رحمة الله وروحه وريحانه ، وأنت اليوم يابن رسول الله على مثل تلك الحال ، فمَنْ نكث عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، والله تبارك وتعالى مغنٍ عنه ؛ فسر بنا يابن رسول الله راشداً معافى ، مشرقاً إن شئت أو مغرباً ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي مَنْ والاك ، ونعادي مَنْ عاداك. وقام إليه برير بن خضير الهمداني (١) ، فقال : يابن رسول الله ، لقد مَنْ الله تعالى علينا بك أن

__________________

أرمـي بها معلمةً أفواقُها

مسمومةً تجري بها أخفاقُها

لـيملأنَّ أرضها إرشاقُها

والنفسُ لا يمنعها إشفاقُها

حتّى إذا نفذت سهامه جرّد سيفه وحمل عليهم ، وهو يقول :

أنـا الهزبرُ الجملي

ديني على دينِ علي

فقتل اثني عشر رجلاً غير الذين جرحهم ، وصار أهل الكوفة يُضاربونه بالحجارة والنضال حتّى كسروا عضديه ، واجتمعوا عليه فأخذوه أسيراً ، وقد أمسكه شمر بن ذي الجوشن ، وراحوا يسوقونه حتّى جاؤوا به عمر بن سعد ، فقال له عمر : ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟ قال : إنّ ربّي يعلم ما أردت. فقال له رجل ، وقد نظر الدماء تسيل على لحيته : أما ترى ما بك؟ قال : والله ، لقد قتلت منكم اثني عشر رجلاً سوى مَنْ جرحت ، وما ألوم نفسي على الجهد ، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني. فقال شمر لابن سعد : اقتله أصلحك الله. قال : أنت جئت به فإن شئت فاقتله. فانتضى شمر سيفه ، فقال له نافع : أما والله ، لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا ، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. ثمّ قتله شمر.

(١) هو برير بن خضير الهمداني المشرقي ، وبنو مشرق بطن من همدان. قالوا : كان برير شيخاً تابعياً ناسكاً ، قارئاً للقرآن ، من شيوخ القرّاء ، وكان من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين. ذكر أرباب السير أنّ بريراً لمّا بلغه امتناع الحسين من البيعة ليزيد الطاغية خرج من الكوفة

١٠٣

نقاتل بين يديك ، وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثمّ يكون جدّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شفيعاً

__________________

حتّى أتى مكّة وصحب الحسين (عليه السّلام). روى الضحّاك بن قيس المشرقي ، قال : وكان برير قد بايع الحسين على أن يحامي عنه ما ظنّ أنّ المحاماة تدفع عن الحسين (عليه السّلام) ، فإن لم يجد بداً فهو في حلّ. قال أبو مخنف : أمر الحسين (عليه السّلام) في اليوم التاسع من المحرّم بفسطاط فضرب ، ثمّ أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة فأطلى بالنورة ، وعبد الرحمن بن عبد ربّه ، وبرير على باب الفسطاط تختلف مناكبهما ، فازدحما أيّهما يطلي على إثر الحسين (عليه السّلام) ، فجعل برير يهازل عبد الرحمن ويضاحكه ، فقال عبد الرحمن : دعنا ، فوالله ما هذه بساعة باطل. فقال برير : والله ، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً ، ولكنّي والله لمستبشر بما نحن لاقون ؛ والله إنّ بيننا وبين الحور العين إلاّ أن نحمل على هؤلاء فيميلون علينا بأسيافهم ، ولوددت أن مالوا بها الساعة. وروى بعض المؤرّخين أنّه لمّا بلغ من الحسين (عليه السّلام) العطش ما شاء الله أن يبلغ ، استأذن برير الحسين (عليه السّلام) في أن يكلّم القوم ، فأذن له ، فوقف قريباً منهم ونادى : يا معشر الناس ، إنّ الله بعث بالحق محمداً بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها ، وقد حيل بينه وبين ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أفجزاء محمد هذا؟! فقالوا : يا برير ، أكثرت الكلام فاكفف ، فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَنْ كان قبله. فقال الحسين (عليه السّلام) : «اكفف يا برير». قال : وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة ، فقال : يا برير بن خضير ، كيف ترى صنع الله بك؟ قال : صنع الله لي والله خيراً ، وصنع بك شراً. فقال : قد كذبت ، وقبل اليوم ما كنت كذّاباً. أتذكر وأنا أُماشيك في سكة بني دودان وأنت تقول : إنّ عثمان كان كذا ، وإنّ معاوية ضال مضل ، وإنّ علي بن أبي طالب إمام الحق والهدى؟ قال برير : أشهد أنّ هذا رأيي وقولي. فقال يزيد : فإنّي أشهد أنّك من الضالّين. قال برير : فهل لك أن اُباهلك ، ولندع الله أن يلعن الكاذب ، وأن يقتل المحقّ المبطل ، ثمّ اخرج لأبارزك؟ قال : فخرجا ، فرفعا أيديهما بالمباهلة إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب ، وأن يقتل المحقّ المبطل ، ثمّ برز كلّ واحد منهما لصاحبه ، فاختلفا ضربتين ، فضرب يزيد بريراً ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً ، وضرب برير يزيد ضربة قدّت المغفر وبلغت إلى الدماغ ، فخرّ كأنّما هوى من حالق ، وإنّ سيف برير لثابت في رأسه ، فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه حتّى أخرجه ، وهو يقول :

أنا بريرٌ وأبي خضيرُ

وكـلُّ خيرٍ فلهُ بريرُ

ثمّ حمل على أهل الكوفة وقاتل ، فبرز إليه رضي بن منقذ العبدي وكعب بن جابر بن عمرو الأزدي فقتلاه ، ولمّا رجع كعب إلى الكوفة قالت له اُخته النوار بنت جابر : أعنت على ابن فاطمة ، وقتلت سيّد القرّاء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر. والله لا اُكلّمك من رأسي كلمة أبداً. وله في ذلك شعر يذكر.

١٠٤

يوم القيامة لنا ، فلا أفلح قوم ضيّعوا ابن بنت نبيّهم ، أفٍ لهم غداً ما يلاقون! سينادون بالويل والثبور في نار جهنم وهم فيها خالدون. قال الراوي : فجزاهم الحسين خيراً. قال : وخرج ولد الحسين (عليه السّلام) وإخوته وأهل بيته حين سمعوا الكلام ، فنظر إليهم وجمعهم عنده فبكى ، ثمّ قال : «اللّهمّ إنّا عترة نبيّك محمد (صلواتك عليه) قد أُخرجنا وأُزعجنا وطُردنا عن حرم جدّنا ، وتعدّت بنو اُميّة علينا ، اللّهمّ فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين». ثمّ نادى بأعلى صوته : «الرحيل الرحيل». ورحل من موضعه المسمّى بالبيضة إلى العذيب ، والحرّ يسايره ، وكان كلّ فريق منهم على غلوة من الآخر (١).

مرّوا جميعاً بالعُذيب والردى

يطوفُ بالخامسِ من آلِ العبا

(العذيب) : تصغير العذب ، وهو الماء الطيّب ، وهو ما بين القادسية والمغيثة. بينه وبين القادسية أربعة أميال ، وإلى المغيثة اثنان وثلاثون ميلاً ، وقيل : هو وادٍ لبني تميم ، وهو من منازل الحجّ من الكوفة ، وقيل : هو حدّ السواد. قال في المشترك : والعذيب : بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة ثمّ مثناة من تحتها في آخرها باء موحدّة. قال : وهو ماء لبني تميم ، وهو أوّل ماء يلقاه الإنسان بالبادية إذا سار من قادسية الكوفة يريد مكّة. والعذيب : اسم لعدّة مياه بالبرية (٢) ، وهناك عين شمس ما بين العذيب والقادسية له ذكر في الفتوح (٣) ، وفي العذيب قصر للفرس يسمّى (قديس) (٤). قال السماوي : وأضيف إلى الهجانات ؛ لأنّ النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يجعل فيه إبله (٥) ، ولهم عذيب القوادس ، وهو غربي

__________________

(١) انظر الدينوري ـ الأخبار الطوال ـ / ٢٢٥.

(٢) انظر الملك المؤيد بن أيوب صاحب حماه المتوفي ٧٣٢ ـ تقويم البلدان ـ ص ٧٩ ، طبع باريس.

(٣) انظر شهاب الدين الحموي ـ المشترك ـ ص ٣٢١ ، طبع غوتنجن ألمانيا.

(٤) انظر السمعاني ـ مراصد الإطلاع ـ ج ٢ ص ٣٧٦.

(٥) انظر السماوي ـ إبصار العين ـ ص ٦٨.

١٠٥

عذيب الهجانات فيما أفهمه من حديث سعد بن أبي وقاص. وللعماد الأصبهاني (١) من قصيدة يمدح المستضيء العباسي (٢) ، ويذكر العذيب بقوله :

يا حبّذا ماءُ العذيب وحبّذا

بنطافهِ الغزرِ العذاب تمضمضى

وجاء ذكر العذيب في شعر المتنبي (٣) ، وهي مطلع قصيدته التي يمدح بها سيف الدولة الحمداني (٤) يقول :

تَذَكَّرتُ ما بَينَ العُذَيبِ وَبارِقِ

مَجَرَّ عَوالينا وَمَجرى السَوابِقِ

فصدرهما الشاعر الفحل ابن مطروح (٥) فقال :

إذا ما سقاني ريقَه وهو باسمٌ

تذكّرت ما بين العُذيب وبارقِ

ويذكرني من قدّه ومدامعي

مجرّ عوالينا ومجرى السوابقِ

__________________

(١) انظر العماد الأصبهاني ـ خريدة القصر وجريدة المصر ـ ج ١ ص ١٨ ، قسم العراق.

(٢) هو أبو محمد ، اسمه حسن ، الثالث والثلاثون من الخلفاء العباسيين. ولد سنة ست وثلاثين وخمسمئة ، أمّه أمّ ولد أرمنية اسمها غضة ، خلافته تسع سنين ونصف ، عاش تسعاً وعشرين سنة ، وتوفّي سنة ٥٧٥ هـ.

(٣) هو أحمد بن محمد بن الحسين ، أبو الطيّب المتنبي الجعفي الكوفي ، مفخرة من مفاخر الأدب العربي ، وشاعر حكيم ، لولا الشريف الرضي لكان أشعر العرب جمعاء. ولد بالكوفة ونشأ بالشام ، مدح الملوك والأمراء ، وهجا مَنْ هجا منهم بشعره. قيل : لمّا رجع من فارس قاصداً بغداد فالكوفة ، عرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه ، ومع المتنبي جماعة ، فاقتتلوا فقُتل أبو الطيّب وابنه محسد وغلامه مفلح بالقرب من دير العاقول.

(٤) هو سيف الدولة علي بن عبد الله ، أبو الهيجاء بن حمدان. وآل حمدان أمراء حلب. قال الثعالبي : كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء ، أوجههم للصباحة ، وألسنتهم للفصاحة ، وأيديهم للسماحة ، وعقولهم للرجاحة. وسيف الدولة مشهور بسيادتهم ، وواسطة قلادتهم. وكان شاعره المتنبي ، وكاتبه كشاجم ، وخطيبه ابن نباتة ، وكان مؤدّبه ابن خالويه ، وكان قائد جيشه وأميري السيف والقلم ابن عمّه أبو فراس الحمداني (ره). كانت ولادة سيف الدولة سنة ثلاث وثلاثمئة ، ووفاته سنة سبع وخمسين وثلاثمئة ، ودفن عند أمّه بميافادفين (رحمه الله).

(٥) هو يحيى بن عيسى ، جمال الدين بن مطروح ، ولد بأسيوط ،

١٠٦

وقال بشر بن ربيعة بن عمرو الخثعمي يوم القادسية :

أَلَم خيالٌ مِن اُميمة موهِناً

وَقَد جَعَلت أَولى النُجومِ تَغورُ

وَنَحنُ بِصَحراءِ العَذيب وَدارُها

حِجازيَةٌ إِن المَحلَّ شَطيرُ

وجاء ذكر العذيب في شعر ابن سنان الخفاجي قوله :

أَعَرَفتَ مِن عَبقِ النَّسيمِ الفائِحِ

خَبَرَ العُذَيبِ وَبانه المتَناوِحِ

وَاقتادَ طَرفَكَ بارِقٌ مَلَكَت بِهِ

ريحُ الجَنوبِ عَنانَ أَشقَرَ رامِحِ

وللأرجاني يذكر العذيب قائلاً :

إن تبلغا شرفَ العذيبِ عشيةً

فتيامنا عنه إلى الوعساءِ

وقِفا لصائدةِ الرّجال بدَلّها

فَصفا جِنايةَ عينها الحوراءِ

وللأبيوردي (١) في العذيب :

فثمّ عرارٌ يُستطاب شميمُه

وظلٌّ لخيطان الأراكِ صفيقُ

أرى السيرَ منهم عامريّاً وكلّ مَنْ

ثوى من هلالٍ بالعُذيبِ صديقُ

وللحاجري (٢) ذكر العذيب من أبيات له :

ذكرَ العُذيبَ فظلّ من أشواقهِ

يتنفسُ الصعداءَ دونَ رفاقهِ

وللسيّد شبر البحراني (٣) من ديوانه المخطوط يذكر العذيب :

فمَنْ لي بليلاتِ العُذيبِ وحاجرٍ

ولذّات عصرٍ فيهما لي تقدما

سقاه الحيا عهداً تزاهت رياضُهُ

وهبّ بهِ ريحُ التهاني نسما

__________________

ونشأ بها ، واتّصل بالملك الصالح أيوب وكان ناظراً على الخزائن بمصر ، ثمّ نقله إلى دمشق ، وبعد موت الملك الصالح عاد إلى مصر ، وتوفي بالقاهرة ، وديوانه طبع بمطبعة الجوائب.

(١) هو أبو المظفر محمد بن العباس الأموي ، المتوفّى ١٠ ع ٢ سنة ٥٥٧ بإصبهان.

(٢) هو حسام الدين عيسى بن سنجر بن بهرام الأربلي المعروف بالحاجري ، وفاته سنة ٦٣٢ هـ.

(٣) هو السيّد شبر الموسوي البحراني ، له ديوان مخطوط لدى حفيده السيّد حسن آل السيد عدنان.

١٠٧

ولشكيب أرسلان (١) من مطلع قصيدة له :

أَمَعلَمُها بَينَ العَذيبِ وَبارِقِ

تَغَزَّلتُ مِن غَزلانِهِ بِالحَقائِقِ

فَدَيتُكَ رَبعاً قَد تَرَحَّلَ آلَهُ

بِكُلِّ إِمامٍ لِلمَآثِرِ سابِقِ

قال الهروي في الإشارات (٢) : العذيب : موضع ينزل به الحاج ، به قبر الحصين بن وحوح ، ومسجد سعد بن أبي وقّاص ، وهناك بركة أمّ جعفر في طريق مكّة بين المغيثة والعذيب (٣). ذكر أرباب التاريخ ، قالوا : وبالعذيب لقى المختار بن أبي عبيدة الثقفي (رحمه الله) (٤) لاقياً حين توجّه إلى الكوفة من الحجاز ، فقال له المختار أخبرنا عن الناس ، فقال : تركت الناس كالسفينة تجول بلا ملاّح لها ، فقال المختار : أنا ملاّحها الذي يقيمها (٥). وفي العذيب كانت مسلحة. قال البلاذري (٦) ، عن يزيد بن نبيشة العامري ، قال : قدمنا العراق مع خالد بن الوليد فانتهينا إلى مسلحة العذيب. قال أبو عبد الله السكوني : العذيب يخرج من قادسية الكوفة إليها ، وكانت مسلحة للفرس ، بينها وبين القادسية حائطان متّصلان بينهما نخل ، وهي ستة أميال ، فإذا خرجت منه دخلت البادية إلى مغيثة. وكتب عمر بن الخطاب

__________________

(١) من ديوانه المطبوع بمطبعة النار ـ مصر ـ ١٣٥٤ هـ.

(٢) انظر علي بن أبي بكر الهروي ـ الإشارات ـ طبع دمشق.

(٣) انظر ياقوت الحموي ـ المشترك ـ ص ٥٣ ، طبع غوتنجن ألمانيا.

(٤) هو أبو إسحاق المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، كان شجاعاً مقداماً ، عالماً مفكّراً ، ومن الثائرين على بني اُميّة. حبسه ابن زياد بالكوفة ، وذلك قبل أن يصل الحسين إلى العراق ، وبقي في السجن حتّى قُتل الحسين (عليه السّلام) ، فشفع فيه عبد الله بن عمر بن الخطاب زوج اُخته صفية لدى يزيد بن معاوية ، فأُطلق من السجن بأمر من يزيد ، ثمّ نهض بالكوفة مشمّراً عن ساعده على الحكم الأموي ، واجتمع عليه أهل الكوفة وبايعوه ، فاستتب له الأمر ، وذلك لمّا استولى على الكوفة وضواحيها. ثمّ امتلك الموصل وعظم شأنه ، وراح يطلب بثأر الحسين ، وقتل جلّ مَنْ حضر الطفّ ، وهدم دورهم ، وجدّ مصعب بن الزبير في خضد شوكته فقاتله ، ونشبت الحرب بينهما أسفرت عن قتل المختار (رحمه الله) سنة ٦٧ هـ.

(٥) انظر ابن سعد ـ الطبقات الكبرى ـ ج ٥ ص ٧١ ، طبع ليدن.

(٦) انظر البلاذري ـ فتوح البلدان ـ ص ٢٤٥.

١٠٨

إلى سعد بن أبي وقاص : إذا كان يوم كذا فارتحل بالناس حتّى تنزل فيما بين عذيب الهجانات وعذيب القوادس ، وشرّق بالناس وغرّب بهم. وهذا دليل على أنّ هناك عذيبين. قال ابن بليهد (١) : والعذيب الثالث في بالد عذرة ، وهو الذي عناه كثير في شعره حين قال :

خَليلَيَّ إِن أُمُّ الحَكيمِ تَحَمَّلَت

وَأَخلَت لِخَيماتِ العُذَيبِ ظِلالَها

فَلا تَسقِياني مِن تِهامَةَ بَعدَها

بِلالاً وَإِن صَوبُ الرَبيعِ أَسالَها

وَكُنتُم تَزينونَ البَلاطَ فَفارَقَت

عَشِيَّةَ بِنتُم زَينَها وَجَمالَها

هناك عذيب رابع ، بئر جاهلية قديمة يُقال لها العذيب من آبار أثيفية ، وهي معروفة إلى اليوم عند أهل تلك النواحي. فالحسين (عليه السّلام) مرّ على عذيب الهجانات لا على عذيب القوادس ، ومعه الحرّ يسايره. ذكر الخوارزمي (٢) قال : لمّا وصل الحسين (عليه السّلام) إلى عذيب الهجانات ورد كتاب من ابن زياد إلى الحرّ بن يزيد الرياحي يلومه في أمر الحسين (عليه السّلام) ، ويأمره بالتضييق عليه. فلمّا أصبح الحسين (عليه السّلام) وأراد أن يسير عارضه الحرّ أيضاً بجيشه ، ومنعه من المسير ، فقال له الحسين (عليه السّلام) : «ويلك ما دهاك؟! ألست قلت نأخذ على غير الطريق فأخذنا وقبلنا مشورتك؟». فقال الحرّ : صدقت يابن رسول الله ، ولكن هذا كتاب الأمير ورد عليّ يؤنّبني ويضعفني في أمرك ، ويأمرني بالتضييق عليك. فقال الحسين (عليه السّلام) : «فذرنا إذاً أن ننزل بقرية نينوى أو الغاضريات». فقال الحرّ : لا والله يا أبا عبد الله ، لا أستطيع ذلك ، فقد جعل عليّ عيناً يطالبني ويؤاخذني بذلك. فقال للحسين (عليه السّلام) رجل من أصحابه يُقال له زهير بن القين البجلي : يابن رسول الله ، ذرنا نقاتل هؤلاء ؛ فإنّ قتالنا إيّاهم الساعة أهون علينا من قتال مَنْ يأتينا معهم بعد هذا. فقال الحسين (عليه السّلام) : «صدقت يا زهير ، ولكن ما كنت لأبدأهم بالقتال حتّى يبدؤوني». فقال زهير : فسيّر بنا حتّى ننزل كربلاء ؛ فإنّها على شاطئ الفرات فنكون هنالك ،

__________________

(١) انظر محمد بن عبد الله بن بليهد ـ صحيح الأخبار ـ ج ١ ص ٢٢.

(٢) انظر الخوارزمي ـ المقتل ـ طبع النجف.

١٠٩

فإن قاتلونا قاتلناهم ، واستعنا الله عليهم. فدمعت عينا الحسين (عليه السّلام) حين ذكر له كربلاء ، وقال : «اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء». [قال] الطبري (١) : ولمّا انتهى الحسين (عليه السّلام) إلى عذيب الهجانات ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجبنون فرساً لنافع بن هلال يُقال له : الكامل ، ومعهم دليلهم. قال : فأقبل إليهم الحرّ بن يزيد فقال : إنّ هؤلاء النفر الذين هم من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك ، وأنا حابسهم أو رادّهم. فقال له الحسين (عليه السّلام) : «لأمنعنَّهم ممّا أمنع منه نفسي ، إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني ، وقد كنت أعطيتني أن لا تعرض لي بشيء حتّى يأتيك كتاب من ابن زياد». فقال : أجل ، لكن لم يأتوا معك. قال : «هم أصحابي ، وهم بمنزلة مَنْ جاء معي ، فإن تممت عليّ ما كان بيني وبينك وإلاّ أجزتك». قال : فكفّ عنهم الحرّ ، ثمّ قال لهم الحسين (عليه السّلام) : «أخبروني خبر الناس وراءكم». فقال له مجمع بن عبد الله العائذي ، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوا : أمّا الأشراف فقد عظمت رشوتهم ، وملئت غرائزهم ، يستمال ودّهم ، ويستخلص به نصيحتهم ، فهم إلب واحد عليك ؛ وأمّا سائر الناس بعد ، فإنّ أفئدتهم تهوي إليك ، وسيوفهم غدال مشهورة عليك. قال : «أخبرني ، فهل لكم برسولي علم؟». قالوا : ومَنْ هو؟ قال : «قيس بن مسهر الصيداوي». فقالوا : نعم ، أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد ، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك ، فصلّى عليك وعلى أبيك ، ولعن ابن زياد وأباه ، ودعا إلى نصرتك ، وأخبرهم بقدومك ، فأمر ابن زياد (لع) فأُلقي من طمار القصر. فترقرقت عينا الحسين (عليه السّلام) ولم يملك دمعه ، ثم قال : «فَمِنْهُم مّن قَضَى‏ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلاً (٢). اللّهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة نُزلاً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك ، ورغائب مذخور ثوابك».

__________________

(١) انظر الطبري ج ٦ ص ٢٣٠.

(٢) سورة الأحزاب ص ٢٣.

١١٠

وأهل العبا هم : رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) ، فالحسين (عليه السّلام) خامس أهل العبا. قال ابن جرير الهيثمي في شرح همزية البوصيري (١) عند قوله :

وبام السبطين زوج علي

وبنيها ومن حوته العباء

وهم : النبي (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة وعلي وابناهما الحسن والحسين (عليهم السّلام).

وفي نيل المراد عند ذكر بيت البوصيري : ومَنْ حوته العباء : هم النبي (صلّى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة وابناهما (عليهم السّلام) ، ويُقال : هم أهل العبا وأهل الكساء. قال ديك الجن :

والخمسةُ الغرُّ أصحابُ الكساءِ ومَنْ

خيرُ البريةِ من عُجمٍ ومن عربِ

وقال ابن تيمية في جواب مَنْ سأله عن دخول علي (عليه السّلام) في أهل البيت : ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين ، وهو أظهر عندهم من أن يحتاج إلى دليل ، بل هو أفضل أهل البيت ، وأفضل بني هاشم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله). إنّه أدار كساه على علي وفاطمة وحسن وحسين ، فقال : «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» (٢).

وذكر علي جلال الحسيني (٣) قال :

وروى الترمذي في جامعة هذا الحديث في مناقب أهل البيت في آخر ج ٢ ، عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : نزلت هذه الآية على النبي (صلّى الله عليه وآله) (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٤) في بيت اُمّ سلمة ، فدعا النبي (صلّى الله عليه وآله) فاطمة وحسناً وحسيناً وعليّاً (عليهم السّلام) خلف ظهره ، فجلّلهم بكساء ، ثمّ قال : «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً». قالت اُمّ سلمة : أنا معهم يا رسول الله؟ قال : «أنتِ على مكانك ، وأنتِ إلى خير».

__________________

(١) انظر شرح همزية البوصيري ص ٣١٩.

(٢) انظر ابن تيمية ـ الفتاوى ـ ج ١ ص ٢٣٠.

(٣) انظر علي جلال الحسيني ـ الحسين ـ ج ١ ص ١٨٨.

(٤) سورة الأحزاب ص ٣٣.

١١١

لكن ابن تيمية قال في أوّل ج٣ من كتاب منهاج السنّة النبويّة ص٤ : أمّا حديث الكساء فهو صحيح ، وروى الحديث ، ثمّ قال : وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من`المتّقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم ، واجتناب الرجس واجب على المؤمنين ، والطهارة مأمور بها كلّ مؤمن ... إلخ.

وابن تيمية (رحمه الله) في رأيه هذا تعدّى حدّ الإنصاف ، وعطّل الآية وحديث الكساء من المعنى ؛ إذ لم يجعل لأهل البيت (عليهم السّلام) فضلاً على غيرهم ، مع أنّه واضح أنّ الكتاب والحديث يخصّانهم بالفضل. انتهى كلام الحسيني. أقول : أحسب أنّ ابن تيمية لو استطاع أن يحذف ويمحو هذه الآية من القرآن ، أو يحرّفها ويأوّلها في أبناء الطلقاء لفعل ، ولقبلها منه أتباعه السذّج بأحسن قبول ؛ لأنّه ابن تيمية.

روى السيوطي (١) عن ابن جرير وابن حاتم ، عن قتادة (رضي الله عنه) في قوله : (إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قال : هم أهل بيت طهّرهم الله من السوء ، واختصّهم برحمته. قال : وحدّث الضحاك بن مزاحم (رضي الله عنه) أنّ نبي الله (صلّى الله عليه وآله) كان يقول : «نحن أهل بيت طهّرهم الله. من شجرة النبوّة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وبيت الرحمة ، ومعدن العلم».

وقد ذكر خبر الكساء جمع من العلماء والمؤرخين ، كالترمذي (٢) ، ومسلم (٣) ، وصاحب المستدرك (٤) ، ومعالم التنزل بهامش الخازن (٥) ، إلى غير ذلك من المصادر الوثيقة ، فاطلبها من مضانّها. قال الشاعر :

إنّ النبيَّ محمداً ووصيَّه

وابنيه وابنته البتولَ الطاهرهْ

أهلُ العباءِ وإنّني بولائهمْ

أرجو السلامةَ والنجا في الآخرهْ

قلت : ثمّ سرى والحرّ يسير إلى جنبه.

__________________

(١) انظر جلال الدين السيوطي ـ الدر المنثور ـ ج ٥ ص ١٩٩.

(٢) انظر الترمذي ج ٤ ص ٢٠٤.

(٣) انظر صحيح مسلم ج ٤ ص ١٢٧.

(٤) انظر الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٤١٦.

(٥) انظر هامش الخازن ص ٢١٣.

١١٢

ثمّ سرى والحرُّ يسري جانباً

واتّفقَ الكلُّ على هذا السرى

وصوتُ حاديهِ يدوّي في الفضا

والكلّ للحادي وللرجزِ صغى

يا ناقتي لا تذعري بل شمّري

للسيرِ في ركبِ شقيقِ المجتبى

هذا الإمامُ ابنُ الإمام مَنْ بهِ

استقامَ هذا الدينُ والشركُ انمحى

يا مالكَ النفعِ والضرِّ معاً

أيّد حسينَ السبطِ خيرةَ الملا

واخذل يزيدَ الجورِ والعهرِ الذي

أولدهُ الشركُ وغذّاهُ الخنا

قال أرباب السير : وأخذ الحسين (عليه السّلام) يسرة الطريق واتّجه نحو الشمال ، فقال لأصحابه : «مَنْ منكم يعرف الطريق على غير الجادة». فقال الطرمّاح بن عدي (١) : أنا يابن رسول الله. فقال : «تقدّم الظعينة».

فتقدّم الطرمّاح شأن الأدلّة ، وجعل يرفع صوته بالحداء قائلاً :

يا ناقتي لا تذعري من زجري

واسري بنا قبلَ طلوعِ الفجرِ

بخيرِ فتيانٍ وخيرِ سفرِ

آلِ رسولِ اللهِ أهلِ الفخرِ

السادةِ البيضِ الوجوهِ الزُّهرِ

الضاربينَ بالسيوفِ البترِ

الطاعنينَ بالرماحِ السمرِ

المطعمينَ الضيفَ عامَ العسرِ

يا مالكَ النفعِ معاً والضرِّ

أيّد حسيناً سيّدي بالنصرِ

عـلى الـطغاةِ من بقايا الكفرِ

قال الراوي : فانتهى بهم المسرى إلى أقساس مالك.

__________________

(١) الطرماح : بزنت سنمار. قال السماوي (رحمه الله) في أبصار العين : الطويل ، وهو هنا علم لرجل طائي ، وليس بابن عدي بن حاتم المعروف بالجود ؛ فإنّ ولد عدي الطرفات قتلوا مع أمير المؤمنين (عليه السّلام) في حروبه ، ومات عدي بعدهم ، وكان يعيّر بذلك ، فيقال له : اذهب على الطرفات. فيقول : وددت أنّ لي ألفاً مثلهم لاُقدّمهم بين يدي علي (عليه السّلام) إلى الجنّة. والطرفات هم : طرفة ، وطريف ، ومطرف (رحمهم الله).

١١٣

ومرّ بالأقساس لم يقِل بها

وكان جلّ القَس منه للردى

(أقساس) : قرية بالكوفة ، أو كورة يُقال لها : أقساس مالك ، منسوبة إلى مالك بن عبد هند ابن [نجم ، بالجيم بوزن زفر ، بن منعة بن برجان بن الدوس] ابن الديل بن أميّة بن حذافة بن زهر بن أياد بن نزار. وذكر ابن الفقيه قال : أقساس مالك تنسب إلى مالك بن قيس (١) ، والقس في اللغة تتبع الشيء وتطلبه. وجمعه : أقساس ، فيجوز أن يكون مالك تطلب هذا الموضع ، وتتبع عمارته فسمّي بذلك. قال السمعاني (٢) : أقساس : هي قرية بالكوفة ، نزلت في صحرائها منصرفي من الكوفة في النوبة الخامسة ، وقرأت بها خبراً على شيخنا أبي سعد ابن البغدادي الحافظ. وينسب إلى هذا الموضع أبو محمد يحيى (٣) بن محمد بن الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الأقساسي ، وجماعة من العلويّين ينسبون كذلك إليها (٤) كالأقساسي. قال شيخنا الأميني (٥) : آل الأقساسي من أرفع البيوت العلويّة ، لها أغصان باسقة موصولة بالدوح النبوي اليانع ، بزغت بهم العراق عصوراً متطاولة ، وإن كان مبعث غرسهم الزاكي الكوفة من قرية كبيرة ، أو كورة يُقال لها : أقساس مالك ، وهم بين عالم متبحّر ، ومحدّث ثقة ، ولغوي متظلّع ، وشاعر متأنّق ، وأمير ظافر ، ونقيب فاضل. وأوّل مَنْ عرف بهذه النسبة محمد الأصغر بن يحيى ، وأولاده تتشعّب عدّة شعب ؛ منهم بنو جوذاب وهم من أولاد علي بن محمد الأصغر ، وبنو الموضح أولاد أحمد بن محمد الأصغر ، وبنو قرّة العين أولاد أحمد بن علي الزاهد بن محمد الأصغر ،

__________________

(١) انظر ابن الفقيه من علماء أواخر القرن الثالث للهجرة ص ١٨٢.

(٢) انظر الأنساب ـ السمعاني ص ٤٧.

(٣) كانت ولادته في شوال سنة ٣٩٥ ، وتوفّي في نيف وسبعين وأربعمئة.

(٤) انظر ـ اللباب ج ١ ص ٦٤.

(٥) انظر الشيخ عبد الحسين الأميني ـ الغدير ـ ج ٥ ص ٣.

١١٤

وبنو صعوة أولاد أحمد بن محمد بن علي الزاهد بن محمد الأصغر. ومن بني صعوة : طاهر بن أحمد ، ذكره السمعاني في الأنساب ، فقال : طاهر بن أحمد بن محمد بن علي الأقساسي كان يلقّب بصعوة ، وكان ديّناً ثقة. يروي عن أبي علي الحسن بن محمد بن سليمان العربي العدوي ، عن خراش ، عن أنس بن مالك. ومنهم : محمد بن علي (١) بن فخر الدين أبي الحسين حمزة بن كمال الشرف أبي الحسن محمد بن أبي القاسم الحسن الأديب بن أبي جعفر محمد بن علي الزاهد بن محمد الأصغر (الأقساسي) بن يحيى بن الحسين ذي العبرة بن زيد الشهيد ابن الإمام علي بن الحسين (عليهما السّلام). وله شعر رائق ، فمن قوله :

رُبّ قومٍ في خلائقهمْ

غررٌ قد صيّروا غررا

سترَ المالُ القبيحَ لهم

سترى إن زال ما سترى

والأقساسيون هم سلسلة المترجم له ، جدّه الأعلى أبو القاسم الحسن الأقساسي المعروف بالأديب ، ابن أبي جعفر محمد (٢). قال ابن عساكر : قدم دمشق ، وكان أديباً شاعراً ، في المحرّم سنة ٣٤٧ هـ ، ونزل في الحرمين ، وكان شيخاً مهاباً نبيلاً ، حسن الوجه والشيبة ، بصيراً بالشعر واللغة ، يقول الشعر ، من أجود آل أبي طالب حظّاً ، وأحسنهم خلقاً ، وكان يُعرف بالأقساسي نسبة إلى موضع نحو الكوفة. ومنهم : كمال الدين الشرف أبو الحسن (٣) محمد بن أبي القاسم ، ولاّه الشريف علم الهدى نقابة الكوفة ، وإمارة الحاج ، فحجّ بالناس مراراً (٤). ولمّا مات رثاه الشريف المرتضى بقوله :

__________________

(١) المتوفّى سنة ٥٧٥ هـ.

(٢) ترجمه ابن عساكر في تاريخ الشام ج ٤ ص ٢٤٧.

(٣) كنّاه العلم الحجّة ابن طاووس في كتاب ـ اليقين ـ بأبي يعلى.

(٤) كانت وفاته سنة ٤١٥ ، انظر المنتظم ـ لابن الجوزي ج ٨ ص ١٩ ، وكامل ابن الأثير ج ٩ ص ١٢٧ ، وتاريخ ابن كثير ج ١٢ ص ١٨ ، ومجالس المؤمنين ص ٢١١.

١١٥

عرفتُ ويا ليتني ما عرف

تُ فمرُّ الحياةِ لمَنْ قد عرفْ

وقال ابن الأثير في الكامل (١) : حجّ بالناس أبو الحسن الأقساسي سنة ٤١٢ هجـ ، فلمّا بلغوا فيد (٢) حصرهم العرب ، فبذل لهم الناصحي (أبو محمد قاضي القضاة) خمسة آلاف دينار فلم يقنعوا ، وصمّموا العزم على أخذ الحاج ، وكان مقدمهم رجلاً يُقال له : حمار بن عدي (بضم العين) ، من بني نبهان ، فركب فرسه وعليه درعه وسلاحه وجال جولة يرهب بها ، وكان من سمرقند شاب يوصف بجودة الرمي ، فرماه بسهم فقتله وتفرّق أصحابه ، وسلم الحاج فحجّوا وعادوا سالمين. ومن آل الأقساسي : فخر الدين أبو الحسين حمزة بن كمال الشرف محمد. ذكره النسابة العمري في المجدي ، وقال : هو نقيب الكوفة ، وكان لفخر الدين أخ يسمّى أبو محمد يحيى ذكره السمعاني في الأنساب ، وقال : كان ثقة نبيلاً ، سمع أبا عبد الله القاضي الجعفري. روى لنا عنه أبو القاسم إسماعيل بن أحمد السمرقندي (٣) ، وأبو الفضل محمد بن عمر الأرموي (٤) ببغداد ، وأبو البركات عمر بن إبراهيم الحسني (٥) ، وكان بالكوفة. ومن آل الأقساسي علم الدين أبو محمد الحسن النقيب الطاهر بن علي بن حمزة ، كان شيخاً مهاباً ، جاوز الثمانين ، وقد أورد له ابن الساعي أشعاراً كثيرة ، منها :

اصبر على كيدِ الزما

نِ فما يدومُ على طريقهْ

سبقَ القضاءُ فكن بهِ

راضٍ ولا تطلب حقيقهْ

__________________

(١) انظر ابن الأثير ـ الكامل ـ ج ٩ ص ١٢١.

(٢) فيد : منزل في طريق مكة مرّ ذكره آنفاً.

(٣) كان مكثراً من الحديث ، عالي الرواية ، ولد بدمشق ٤٥٤ ، وتوفّى ٥٦٣.

(٤) الأرموي من أهل أرمية ، إحدى بلدان آذربايجان. سكن بغداد ، وتخرّج عليه كثير من أعلامها ، ولد سنة ٤٥٧ ، وتوفّي سنة ٥٤٧.

(٥) مفتي الكوفة ، كان مشاركاً في العلوم ، ولد سنة ٤٤٢ ، وتوفّي ٥٣٩ ، وصلّى عليه ثلاثون ألفاً. حسيني النسب من ذرية زيد الشهيد. وذكره الحموي في معجمه ج ١ ص ٣١٢.

١١٦

كم قد تغلّب مرّةً

وأراكَ من سعةٍ وضيقهْ

ما زالَ في أولادهِ

يجري على هذي الطريقهْ

كان (الناصر) قد ولاّه النقابة ، وكانت ولادته ونشأته بالكوفة ، توفّي سنة ٥٩٣ هـ. وعلى ما ذكره ابن كثير (١) قال : كان شاعراً مطبقاً ، امتدح الخلفاء والوزراء ، وهو من بيت مشهور بالأدب والرياسة والمروّة. وخلّف علم الدين ولده قطب الدين أبا عبد الله الحسين نقيب نقباء العلويّين في بغداد ، وكان عالماً شاعراً ، متطّلعاً على السير والتواريخ. قلد النقابة بعد عزل قوام الدين (أبي علي الحسن بن معد) المتوفّى ٦٣٦ عن النقابة سنة ٦٤٢ هـ.

وجاء في الحوادث الجامعة (٢) : توفّي فيها ـ يعني ٦٤٥ ـ النقيب قطب الدين أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن علي المعروف بالأقساسي العلوي ببغداد ، وكان أديباً فاضلاً ، يقول شعراً جيداً. بدرت منه كلمة في أيام الخليفة الناصر على وجه التصحيف ، وهي (أردنا خليفة جديداً) ، فبلغت الناصر ، فقال : لا يكفي حلقة لكن حلقتين ، وأمر بتقييده وحمله إلى الكوفة ، فحمل وسجن فيها ، فلم يزل محبوساً إلى أن استخلف الظاهر سنة ٦٢٣ فأمر بإطلاقه ، فلمّا استخلف المنتصر بالله ٦٢٤ رفق عليه فقرّبه وأدناه ، ورتّبه نقيباً ، وجعله من ندمائه ، وكان ظريفاً خليعاً ، طيّب الفكاهة ، حاضر الجواب. وجاء في التاريخ أنّه وصل الملك الناصر (ناصر الدين) داود بن عيسى في المحرّم ٦٣٣ إلى بغداد ، واجتاز الحلّة السيفية وبها الأمير شرف الدين علي ، ثمّ توجّه منها إلى بغداد ، فخرج إلى لقائه النقيب الطاهر قطب الدين أبو عبد الله الحسين بن الأقساسي ، وفي سلخ ربيع الأول من السنة المذكورة وصل الأمير ركن الدين إسماعيل صاحب الموصل إلى بغداد ، وخرج إلى لقائه النقيب الحسين بن الأقساسي وخادماً من خدم الخليفة. وجاء أنّ الخليفة المستنصر بالله قصد سنة ٦٣٤ مشهد الإمام موسى بن جعفر (عليهما السّلام) في ثالث رجب ،

__________________

(١) انظر ابن كثير ـ البداية والنهاية ـ ١٣ / ١٦.

(٢) انظر الحوادث الجامعة ص ٢٢٠.

١١٧

فلمّا عاد أبرز ثلاثة آلاف دينار إلى أبي عبد الله الحسين الأقساسي نقيب الطالبيِّين ، وأمره أن يفرّقها على العلويّين المقيمين في مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) والحسين وموسى بن جعفر (عليهم السلام) (١). وذكر اُستاذنا الشيخ الأميني (٢) أفرد العلاّمة سيّدنا المرعشي في (مجالس المؤمنين) (٣) ترجمة باسم عز الدين بن الأقساسي ، وقال : إنّه من أشراف الكوفة ونقبائها ، كان فاضلاً أديباً ، له في قرض الشعر يد غير قصيرة. روى أنّ الخليفة المستنصر العباسي خرج يوماً إلى زيارة قبر سلمان الفارسي (سلام الله عليه) ومعه السيّد المذكور ابن الأقساسي ، فقال له الخليفة في الطريق : إنّ من الأكاذيب ما يرويه غلاة الشيعة من مجيء علي بن أبي طالب (عليه السّلام) من المدينة إلى المدائن لمّا توفّى سلمان ، وتغسيله إيّاه ، ورجوعه في ليلته إلى المدينة ، فأجابه الأقساسي بالبديهة بقوله :

أنكرتَ ليلةَ إذ سارَ الوصيُّ إلى

أرضِ المدائنِ لمّا أن لها طلبا

وغسّلَ الطهرَ سلماناً وعاد إلى

عراصِ يثربَ والإصباحُ ما وجبا

وقلتَ ذلكَ من قولِ الغلاةِ فما

ذنبُ الغلاةِ إذا لم يوردوا كذبا

فآصفُ قبلَ ردِّ الطرفِ من سبأٍ

بعرشِ بلقيسَ وافى يخرقُ الحُجبا

فأنتَ في آصفٍ لم تغلُ فيهِ بلى

في حيدرٍ أنا غالٍ إنّ ذا عجبا

إن كانَ أحمدُ خيرَ المرسلينَ فذا

خيرُ الوصيينَ أو كلُّ الحديثِ هبا

وقد نسب السماوي هذه الأبيات في كتابه (الطليعة) ـ مخطوط ـ إلى السيد محمد الأقساسي. قال شيخنا الأميني : ذكر ابن شهر آشوب هذه الأبيات بتغيير يسير وزيادة ، ونسبها إلى أبي الفضل التميمي ، أو لغيره من أسلاف آل الأقساسي الأوّلين ، وأنشدها قطب الدين للمستنصر. نعم ، إنّ أقساس مالك قرية من قرى الكوفة ، وإن لم يحقّق المؤرّخون موقعها غير أنّا نرى أنّ الحسين (عليه السّلام) مرّ بها

__________________

(١) انظر الحوادث الجامعة ص ٧٧ و ٧٩.

(٢) انظر موسوعة الشيخ الأميني ـ الغدير ـ ج ٥ ص ١٣.

(٣) انظر السيد المرعشي ـ مجالس المؤمنين ـ ص ٢١٢.

١١٨

في طريقه إلى كربلا ، فهي لا شك من قرى سواد العراق ، أي حدّ العراق من الغرب ، ومنها سار الحسين إلى الرهيمة فوافاها.

ومُذ أتى عينَ الرُهيمة التقى

بالرجلِ الكوفي في رأدِ الضحى

(الرهيمة) : بلفظ التصغير ، ويجوز أن يكون تصغير رهمة ، وهي المطرة الضعيفة الدائمة ، وهي ضيعة قرب الكوفة. قال السكوني : هي عين بعد خفية إذا أردت الشام من الكوفة. بينها وبين خفية ثلاثة أميال ، وبعدها إلى القطيفة مغرباً. وذكر المتنبّي في مقصورته التي يهجو في آخرها كافو الأخشيدي ، ويعدّد فيها المنازل التي مرّ عليها في طريقه إلى العراق قوله :

فيا لكَ ليلاً على أعكشِ

أحمّ البلادِ خفيّ الصوى

وردنَ الرهيمةَ في جوزهِ

وباقيهِ أكثرُ ممّا مضى

فزعم قوم أنّ المتنبي أخطأ في قوله (جوزه) ، ثمّ قوله (وباقيه أكثر ممّا مضى) ؛ لأنّ الجوز وسط الشيء. ولتصحيحه تأويل وهو : أنّ أعكش اسم صحراء ، والرهيمة عين وسطه ، فتكون الهاء في جوزه راجعة إلى أعكش فيصح المعنى (١). ذكر محمد بن نما (٢) أنّ الحسين (عليه السّلام) لمّا وصل إلى الرهيمة لقيه رجل من أهل الكوفة يُقال له : أبو هُرم ، فقال : يابن رسول الله ، ما الذي أخرجك عن حرم جدّك؟ فقال (عليه السّلام) : «يا أبا هرم ، إنّ بني اُميّة شتموا عرضي فصبرت ، وأخذوا مالي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيمُ الله ليقتلونني فيلبسهم الله ذلاً شاملاً ، ويريهم سيفاً قاطعاً ، ويسلّط عليهم مَنْ يذلّهم (٣) حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم». ورأد الضحى : أي وقت ارتفاع الشمس وانبساط الضوء. فالحسين (عليه السّلام) سار من الرهيمة ، وواصل سيره إلى قصر مقاتل فنزل عنده.

__________________

(١) انظر ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ـ ج ٤ ص ٣٤٤.

(٢) انظر محمد بن نما ـ مقتل الحسين ـ ص ٢٣.

(٣) ومثله ذكر الصدوق ، انظر ـ الأمالي ـ ص ٩٣.

١١٩

حتّى أتى قصرَ بني مُقاتلٍ

رأى بهِ الجُعفيَّ ضارباً خبا

ناشدهُ الحسينُ أمراً فأبى

والفتحُ معْ سبطِ النبيِّ ما هوى

(قصر مقاتل) : قصر كان بين عين التمر والشام. وقال السكوني : هو قرب القطقطانة وسلام ، ثمّ القريات ، وهو منسوب إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب بن مجروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد بن مناة بن تميم. قال ابن الكلبي : لا أعرف في العرب الجاهلية مَنْ اسمه إبراهيم بن أيوب غيرهما ، وإنّما سمّيا بذلك للنصرانية ، وخرّبه عيسى بن علي بن عبد الله ، ثمّ جدّد عمارته فهو له. وقال ابن طخماء الأسدي :

كأن لمْ يكن بالقصرِ قصرِ مقاتلٍ

وزورةَ ظلٌّ ناعمٌ وصديقُ (١)

وفي قصر مقاتل آراء المؤرّخين متضاربة ؛ فمنهم مَنْ يسمّيه قصر مقاتل ، والبعض يذكره قصر بني مقاتل ، وربّما يكون وجه تسميته ببني مقاتل نسبته إلى أولاد مقاتل وأحفاده ، وصحيحه قصر مقاتل ، وموقعه شرقي الأخيضر (٢) الذي يذكره

__________________

(١) انظر ياقوت الحموي ـ معجم البلدان ـ ج ٧ ص١١١.

(٢) الأخيضر : قصر عظيم يدلّ على عظمة بانيه. ذكر بعض المؤرّخين أنّه من بنايات الفرس ، أشبه ما يكون بالمسلحة ، والبعض الآخر يوعزه إلى الأراميين ، وإن ذكر بعضهم أنّ بناءه إسلامي ؛ لوجود المسجد الذي فيه ، وهذا لا ينافي من أنّ القصر بُني قبل الإسلام ، وبعد أن استولى المسلمون على هذه المناطق شيّدوا فيه مسجداً للصلاة. يقع هذا القصر (الأخيضر) قرب هور أبو دبس من الأراضي التابعة إلى لواء كربلاء ؛ ولارتفاعه يُرى من مسافة بعيدة. وفي هذه المنطقة سلسلة قصور شمال الأخيضر وجنوبه ؛ أمّا التي في جنوبه فهي متّصلة ببحر النجف ، كقصر الحياضية والرهيمة والعزية والرحبة وغيرها ، وقد درس علماء الآثار هذا القصر درساً مفصّلاً حيث أمّه كثير من الأوروبيّين والمستشرقين ؛ ففي أوائل القرن السابع عشر جاءه (بيترودي لافاله) ، وفي أوسط القرن الثامن عشر جاءه (نيبهور) ، وقصده (ماسنيون) سنة ١٩٠٨ ، و (ألمس بل) جاءته سنة ١٩٠٩ ، وويوله ، وديولافوا ، وموزيل. وأوسكار رويتر بين سنة ١٩١p ـ ١٩١٢. لقد قام (أوسكار رويتر) بدرس الأخيضر دراسة تفصيلية ؛ فإنّه مسح أقسامه المختلفة بدقة كبيرة ، فرسم مخططاتها ومقطعها ، وصوّر مناظرها المختلفة ـ انظر الآثار القديمة في العراق ـ الأخيضر ـ فقد استوفى البحث عن هذا القصر الأثري.

١٢٠