أسرار العربيّة

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

أسرار العربيّة

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


المحقق: بركات يوسف هبّود
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرحيم

مقدمة التحقيق

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه الغرّ الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين وبعد :فقد أعزّ الله ـ تبارك وتعالى ـ هذه الأمّة بأن جعل لغتها لغة القرآن المتعبّد بتلاوته إلى يوم القيامة ؛ فأكرم الله ـ عزّ وجلّ ـ هذه اللّغة ، وأعلى من شأنها ، حيث صارت علومها من علوم الدّين ؛ ولذا ، انبرى سلفنا الصّالح للقيام بالواجب تجاه هذه اللّغة وقدسيّتها ، فقعّدوا قواعدها ، وأرسوا أسس علوم نحوها ، وصرفها ، وبلاغتها ، وآدابها ، وما يتعلّق بكلّ جانب من جوانبها ، حتى تكامل بنيانها ، وتشعّبت ميادينها ، وصار لكلّ علم من علومها ولكلّ فنّ من فنونها علماء متخصّصون يدرّسون ويؤلّفون ، ويتتلمذ على أيديهم طلّاب علم مجدّون ، لا يلبثون أن يصبحوا بعد فترة من الزّمن علماء عاملين مجدّدين ومحافظين ، يتابعون طريق أساتذتهم وشيوخهم في مجالي التّصنيف والتّدريس ؛ وهكذا ، تنتقل الأمانة من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولعلّ أهمّ ما يميّز هذا العصر عمّا تقدّمه من عصور هو التفات أبنائه إلى تراث الآباء والأجداد ، والسّعي الحثيث إلى بعثه وتحقيقه ؛ لما فيه من ذخائر وكنوز ، قلّ نظيرها عند غيرنا من الأمم مدفوعين إلى ذلك بدافع دينيّ ، وهو الحفاظ على علوم الدّين ـ ومنها علوم اللّغة وآدابها ـ وبدافع قوميّ ، وهو الحفاظ على اللّغة العربيّة حيّة متجدّدة ؛ لأنّها العامل الموحّد والأساس من عوامل الوحدة العربيّة ؛ فالمحافظة عليها ، وعلى تراثها ، ضرورة ملحّة ، وواجب قوميّ يقع على عاتق أبنائها ، إذا كانوا أمناء بحقّ وصدق على ما أولاهم الله ـ تعالى ـ واختصّهم به من مقدّرات هذه الأمّة التي تسارعت أمم الأرض من كلّ

٥

حدب وصوب ؛ لاستنزاف خيراتها ، وتدمير ما خلّفه الأسلاف للأحفاد من أبنائها في مجالات الحضارة على اختلافها.

فحريّ بمثقّفي هذه الأمّة والمتخصّصين من أبنائها أن يحافظوا على تراث الآباء والأجداد ، وأن يسعوا جاهدين لتجديده ، وإحيائه ، ودراسته ، وفهمه ، وشرحه ، والزّيادة عليه بما يتوصّلون إليه من معارف وعلوم وفنون ؛ لأنّ العلوم حلقات متّصلة عبر مسيرة الحياة ، وهكذا يتمّ التّواصل بين الأجداد والأحفاد.

من هذا المنطلق ، قرّرت أن يكون أحد تخصّصاتي الجامعيّة في الدّرسات العليا تحقيق أثر من آثار سلفنا الصّالح. ثمّ تابعت السّير على طريق البحث والتّحقيق ، لعلّي أساهم مساهمة متواضعة في وضع لبنة ما في صرح تراثنا الشّامخ.

وأمّا اختيار كتاب «أسرار العربيّة» لأبي البركات الأنباريّ ، فلما يتّسم به هذا الكتاب من جدّة في موضوعه ، وبحثه عن علل الإعراب ، وأسباب تسمية كثير من المصطلحات النّحويّة التي يعود إليه الفضل في جمعها ، وإن كان النّحاة قبله قد ذكروا شيئا منها في ثنايا موضوعاتهم التي طرقوها.

ولم يكن أبو البركات في كتابه هذا جامعا وحسب ، وإنّما كان يطرح التّساؤلات ، ثمّ يجيب عنها إجابة العالم الواثق ، السّريع البديهة ، الحاضر الذّهن ، في الإتيان بالشّواهد المناسبة ، والحجج القاطعة التي يدعم بها آراءه.

كيف لا؟ وهو العالم الحاذق الذي تتبّع مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين (١) ، وتعرّف أسس كلا المذهبين ، وحججهما ، فتبنّى ما رآه صوابا ـ وفق اعتقاده ـ وفنّد الحجج التي رآها بعيدة عن الصّواب بأسلوب واضح ، ينمّ عن ذكاء خارق ، وسعة اطّلاع.

وما أريد أن أثير انتباه الدّارسين والباحثين وطلّاب الدّراسات العليا إليه في هذه العجالة ، هو أنّ ابن الأنباريّ وضع اللّبنات الأولى لفنّين اثنين في غاية الأهميّة من خلال كتابيه «أسرار العربيّة» و «الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين» ففي الأوّل ـ أسرار العربيّة ـ شقّ الطّريق إلى إيجاد فنّ متكامل في مجال الدّراسات النّحويّة ، يمكن أن نطلق عليه اسم : «الفلسفة النّحويّة».

__________________

(١) الإشارة إلى كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين» للمؤلّف.

٦

وفي الثّاني ـ الإنصاف في مسائل الخلاف ـ مهّد الطّريق إلى إيجاد فنّ متكامل في المجال نفسه ، يمكن أن نطلق عليه اسم «النّحو المقارن» ؛ وكلا الفنّين لمّا يتطرّق إليه أحد حتى الآن. فعلى الباحثين والدّارسين المعاصرين تقع مسؤوليّة معالجة هذين الفنّين وتكاملهما ؛ لما فيهما من الأهميّة بمكان على طريق تهذيب النّحو العربيّ ، وتسهيل قواعده ، واعتماد الأسهل ، والأنسب ، والموافق للأسس التي قام عليها ، وتجاوز الآراء الغريبة التي تعتمد أدلّة وحججا واهية ، لا داعي لأن نشحن أذهان ناشئتنا بها.

فلهذا الكتاب ـ أسرار العربيّة ـ أهميّة خاصّة ، ينبغي الانتباه إليها ، ولعلّها أحد الأسباب التي دعتني إلى تحقيقه والتّعليق عليه. وأمّا عملي فيه ، فقد أوضحته في قسم التّمهيد من هذا الكتاب الذي جاء في ثلاثة أقسام هي :

القسم الأوّل : قسم التّمهيد : وفيه تناولت المباحث التّالية :

أوّلا ـ تعريف موجز بأبي البركات الأنباريّ.

ثانيا ـ منهج أبي البركات النّحوي في كتاب «أسرار العربيّة».

ثالثا ـ عملنا في الكتاب.

القسم الثّاني : الكتاب محقّقا.

القسم الثّالث : قسم المسارد الفنيّة.

وفي الختام لا بدّ من التّقدّم بأسمى آيات التّقدير والاحترام إلى كلّ من ساهم في صفّ هذا الكتاب ، وإخراجه ، وطبعه ، وتجليده ، ونشره ؛ وأخصّ بالذّكر الصّديق الحاج أحمد أكرم الطّبّاع صاحب «دار الأرقم بن أبي الأرقم» للطّباعة والنّشر والتّوزيع ومديرها ؛ لما يقوم به من عمل مشكور في ميدان إحياء التّراث العربي والإسلامي من خلال قيامه بطباعة الكثير من الكتب التّراثيّة النّفيسة ؛ فجزاه الله ـ تعالى ـ خير الجزاء ، وجعل ذلك في صحيفة عمله يوم القيامة.

وأسأل الله ـ جلّ وجلاله ـ أن يهيّىء لهذا التّراث من يقوم على خدمته بأمانة ونزاهة إلى يوم الدّين. وأتضرّع إليه ـ جلّ في علاه ـ أن يحفظ علينا جوارحنا وملكة تفكيرنا على الدّوام ، وأن يجعلها الوارثة منّا ، إنّه هو الرّحيم الرّحمن.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ

٧

عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٨٦].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

وكتبه

بركات يوسف هبود

بيروت في ١٥ / ذي القعدة ه

الموافق له ٣ / آذار م

٨

القسم الأوّل قسم التّمهيد

ويشمل المباحث التّالية :

أوّلا ـ تعريف موجز بالأنباريّ

ثانيا ـ منهج الأنباريّ النّحويّ في كتاب «أسرار العربيّة»

ثالثا ـ عملنا في الكتاب

٩
١٠

أوّلا تعريف موجز بالأنباريّ

ـ اسمه ونسبه

ـ المولد والنّشأة

ـ شيوخه وطلبه للعلم

ـ تلاميذه

ـ منزلته العلميّة

ـ تديّنه وورعه

ـ آثاره

ـ شعره

ـ وفاته

١١
١٢

أوّلا

تعريف موجز بالأنباريّ

اسمه ونسبه

هو عبد الرّحمن بن محمّد بن عبيد الله بن أبي سعيد الأنباريّ (١) ؛ لقبه كمال الدّين ، وكنيته أبو البركات (٢).

المولد والنّشأة

ولد في الأنبار ، وسمع من أبيه فيها ، ثمّ قدم بغداد في صباه ، وسكن فيها إلى أن مات ؛ وكانت ولادته سنة ٥١٣ ه‍ على الأرجح.

شيوخه وطلبه العلم

سمع عن أبيه في صباه في بلدة الأنبار ، ولمّا قدم إلى بغداد ، قرأ اللّغة على أبي منصور الجواليقيّ (٣) ، وصحب أبا السّعادات ، الشّريف هبة الله ابن

__________________

(١) الأنباريّ : نسبة إلى «أنبار» وهي بلدة قديمة على الفرات ؛ بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. راجع معجم البلدان ١ / ٣٠٥.

(٢) راجع ترجمته في :

إنباه الرّواة على أنباه النّحاة ، للقفطي ؛ تحق محمّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة :

دار الكتب المصريّة ، ١٩٥٢ م) ؛ مج ٢ ، ص ١٦٩.

شذرات الذّهب في أخبار من ذهب ، لابن العماد الحنبلي (القاهرة : مك القدسي ، ١٣٥١ ه‍) ؛ مج ٤ ، ص ٢٥٨.

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزّمان ، لابن خلّكان ؛ تحق د. إحسان عبّاس (بيروت : دار صادر ، ١٩٧٨ م) ؛ مج ٣ ، ص ١٣٩.

بغية الوعاة في طبقات اللّغويّين والنّحاة ، للسّيوطيّ ؛ تحق محمّد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة : مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر ، ١٩٦٤ م) ؛ مج ٢ ، ص ٨٦ ، وغيرها.

(٣) الجواليقيّ : موهوب بن أحمد بن محمّد بن الحسن الجواليقيّ ؛ كان إماما بارعا في اللّغة والنّحو والأدب. درّس الأدب في المدرسة النّظاميّة ببغداد بعد الخطيب

١٣

الشّجريّ (١) حتى برع في النّحو. وأخذ الفقه على سعيد بن الرّزّاز (٢) ، وتفقّه على مذهب الشّافعيّ بالمدرسة النّظاميّة. وسمع الحديث من أبي منصور ، محمّد بن عبد الملك بن خيرون (٣) ، وأبي البركات ، عبد الوهاب ابن المبارك الأنماطيّ (٤) ، وغيرهما.

تلاميذه

لم تذكر كتب التّراجم من تلاميذه أحدا يذكر سوى الحافظ أبي بكر الحازميّ (٥) الذي روى عنه ؛ والرّواية غير التّلمذة كما هو معلوم. ولعلّ سبب ذلك هو انصراف أبي البركات إلى التّأليف ، واعتزاله النّاس أكثر أوقاته كما سنرى.

منزلته العلميّة

كان ابن الأنباريّ إماما ثقة ، غزير العلم في اللّغة والأدب وتاريخ الرّجال (٦). درّس النّحو في المدرسة النّظاميّة ببغداد ، وصار معيدا فيها. وكان يعقد مجلس الوعظ ، ثمّ قرأ الأدب ، وحدّث باليسير ، لكن روى الكثير من كتب

__________________

التّبريزيّ ؛ من آثاره : شرح أدب الكتّاب ، وغيره. مات سنة ٥٣٩ ه‍. راجع إنباه الرّواة ٣ / ٣٣٥.

(١) ابن الشّجري : هبة الله بن عليّ بن محمّد الحسينيّ الشّريف المعروف بابن الشّجريّ ؛ كان إماما في اللّغة والأدب. مات ببغداد سنة ٥٤٢ ه‍.

(٢) ابن الرّزّاز : سعيد بن محمّد بن عمر بن منصور بن الرّزاز ، كان إماما في الفقه والأصول ومسائل الخلاف ، وتفقّه على الغزّاليّ ، وغيره. ودرّس مدّة في المدرسة النّظاميّة ، ثمّ عزل. مات سنة ٥٣٩ ه‍.

(٣) ابن خيرون : أبو منصور ، محمّد بن عبد الملك بن خيرون ، البغداديّ ، المقرىء ؛ من آثاره : المفتاح ، والموضح في القراءات. مات سنة ٥٣٩ ه‍.

(٤) الأنماطيّ : أبو البركات ، عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي الحنبلي ، كان حافظا ، متقنا ، كثير السّماع ، ثقة ، لم يتزوّج في حياته ، وكان واسع الرّواية متفرّغا للحديث.

مات سنة ٥٣٨ ه‍.

(٥) أبو بكر الحازميّ : محمّد بن موسى المعروف بالحازميّ ، الهمذانيّ ، الشّافعيّ ، الملقّب زين الدّين ، كان فقيها حافظا ، زاهدا ؛ من آثاره : النّاسخ والمنسوخ ، وغيره. مات سنة ٥٨١ ه‍.

(٦) راجع : الوسيط في تاريخ النّحو العربي ، د. عبد الكريم محمد الأسعد (ط. أولى الرّياض : دار الشّوّاف للنّشر والتوزيع ، ١٤١٣ ه‍ / ١٩٩٢ م) ، ص ١٣٧.

١٤

الأدب. وصفه الشّيخ موفّق الدّين البغداديّ (ـ ٦٢٩ ه‍) قائلا : «لم أر في العبّاد والمنقطعين أقوى منه في طريقه ، ولا أصدق منه في أسلوبه ، جدّ محض لا يعتريه تصنّع ، ولا يعرف السّرور ، ولا أحوال العالم ...» (١).

تديّنه وورعه

كان أبو البركات الأنباريّ متديّنا ورعا ، تفقّه في المدرسة النّظاميّة على مذهب الشّافعيّ ـ كما أسلفنا ـ ثم حدّث فيها. وكان إماما ثقة صدوقا ، وفقيها مناظرا غزير العلم ، وعفيفا لا يقبل عطايا الخلفاء والأمراء ، وكان يرضى بالكفاف من العيش ، ويلبس الخشن من الثّياب. وكان يعيش حياة الزّاهدين معتمدا على أجرة دار وحانوت ؛ مقدار أجرتهما نصف دينار في الشّهر.

وذكر بعض من ترجم لأبي البركات أنّ المستضيء (٢) أرسل إليه خمسمائة دينار ، فردّها ؛ فقالوا له : اجعلها لولدك ؛ فقال : «إن كنت خلقته فأنا أرزقه».

وكان رحمه الله ـ تعالى ـ يلبس في بيته ثوبا خلقا ، وكان له ثوب وعمامة من قطن يلبسهما يوم الجمعة.

وقيل : إنّه انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلا بالعلم والعبادة ، وترك الدّنيا ، ومجالسة أهلها ، ولم يكن يخرج إلّا لصلاة الجمعة (٣).

آثاره

صنّف أبو البركات الأنباريّ كثيرا من الكتب والكتيّبات والرّسائل في المجالات اللّغويّة ، والنّحويّة ، والفقهيّة ، والأصوليّة ، والكلاميّة ، والتّاريخيّة ، وغيرها. وذكر بعضهم له ديوان شعر ، والأرجح أن يكون نظم الأبيات أو المقطوعات على غرار العلماء والأدباء الذين ينظمون بعض القصائد أو المقطوعات في مناسبات مختلفة.

__________________

(١) أسرار العربيّة ، لابن الأنباريّ ؛ تحق محمّد بهجة البيطار (دمشق : مطبوعات المجمع العلمي العربي ، ١٩٥٧ م) ، ص ١٢.

(٢) المستضيء : أبو محمّد ، الحسن بن يوسف المستنجد ، ابن المقتفي كان خليفة محمود السّيرة ، توفّي سنة ٥٧٥ ه‍.

(٣) راجع المصادر المذكورة في ترجمته ، والأعلام للزّركلي (الطّبعة الثّانية) ؛ مج ٤ ، ص ١٠٤.

١٥

وأمّا مؤلّفاته : فقد ذكر السّبكيّ في كتابه : «طبقات الشّافعية الكبرى» أنّ لأبي البركات في اللّغة والنّحو ما يزيد على خمسين مصنّفا. وجاء بعده السّيوطي ، ليوصلها في كتابه «بغية الوعاة» إلى سبعين مصنّفا. وأمّا ابن العماد ، فقد أوصلها في كتابه «شذرات الذّهب» إلى ثمانين مصنّفا ومائة مصنّف. وتجدر الإشارة ـ هنا ـ إلى أنّ المصنّف قد يحتوي عددا من الأوراق والصّفحات ، وقد يتجاوز ذلك إلى العشرات ، والمئات. وسنكتفي في هذه العجالة بذكر أهم مصنّفاته اللّغويّة والنّحويّة ؛ وهي :

١ ـ أسرار العربيّة.

٢ ـ الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويّين البصريّين والكوفيّين.

٣ ـ البلغة في أساليب اللّغة.

٤ ـ تفسير غريب المقامات الحريريّة.

٥ ـ الزّاهر في اللّغة.

٦ ـ شرح السّبع الطّوال.

٧ ـ كتاب اللّمعة في صنعة الشّعر.

٨ ـ نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء.

شعره

كان رحمه الله ـ تعالى ـ ينظم الشّعر كغيره من العلماء الذين رزقوا قريحة شعريّة وأغلب الظّنّ أنّه كان مقلّا ؛ لانشغاله بعلوم الدّين واللّغة والأدب من جهة ، ولتورّعه الذي يربأ به عن الانسياق وراء شيطان الشّعر ، وتضييع الوقت فيما لا فائدة ترجى منه يوم المعاد من جهة ثانية ؛ ومن شعره : [الكامل]

العلم أوفى حلية ولباس

والعقل أوقى جنّة الأكياس

والعلم ثوب والعفاف طرازه

ومطامع الإنسان كالأدناس

والعلم ثوب يهتدى بضيائه

وبه يسود النّاس فوق النّاس (١)

وذكر السّيوطيّ في «بغية الوعاة» : [البسيط]

إذا ذكرتك كاد الشّوق يقتلني

وأرّقتني أحزان وأوجاع

وصار كلّي قلوبا فيك دامية

للسّقم فيها وللآلام إسراع

__________________

(١) فوات الوفيات (ط مصر ، ١٢٩٩ ه‍) ؛ مج ١ ، ص ٢٦٢.

١٦

فإن نطقت فكلّي فيك ألسنة

وإن سمعت فكلّي فيك أسماع (١)

وفاته

توفّي أبو البركات الأنباريّ ـ رحمه الله تعالى ـ ليلة الجمعة في التّاسع من شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة هجرية ٥٧٧ ه‍ م ، ودفن بتربة الشّيخ أبي إسحاق الشّيرازي (٢).

__________________

(١) بغية الوعاة (ط. مصر ، ١٣٢٦ ه‍) ، ص ٣٠١ وما بعدها.

(٢) المصدر نفسه.

١٧

ثانيا

منهج الأنباريّ النّحويّ في كتاب «أسرار العربيّة»

يعدّ ابن الأنباريّ من متأخّري النّحاة ، وهو أحد أعلام المدرسة البغداديّة ـ كما هو معلوم ـ فطبعيّ أن يكون هذا الرّجل ـ بتأخّره ، وذكائه ، وإخلاصه في طلب العلم ، وباستقامته التي عرف بها طول حياته ـ أن يتحرّر من الأهواء ، وأن ينهج النّهج الذي يتّفق مع قناعاته ، واستنتاجاته التي توصّل إليها بعد طول مدارسة ومعاناة. وقد رأينا ابن الأنباريّ في كتابه المشهور :«مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين» ذا عين بصيرة ، وقوّة في عرض حجج كلّ من البصريّين والكوفيّين ، وغيرهم ، ومن ثمّ تفنيد الحجج التي يراها بعيدة عن الصّواب ، وتأييد الحجج التي يقتنع بها ، مبيّنا في كثير من الأحيان سبب تبنّيه لرأي دون رأي ، ولحجّة دون أخرى ، بطريقة علميّة موضوعيّة مقنعة. وهو إذ وافق البصريّين في أكثر مسائل الخلاف ، لا لانحيازه إليهم ـ كما يرى بعض الدّارسين (١) ـ بل لأنّه رأى آراءهم أكثر سدادا ، وحججهم أكثر إقناعا ؛ وعلى كلّ فإليه يعود الفضل في إظهار أسس كلّ مذهب من المذهبين ؛ ولا يضيره بعد ذلك اقتناعه بآراء أحد الفريقين ، ولا سيما إذا وجده الأنسب ، والأقرب إلى الصّواب وفق اعتقاده.

وقد سار أبو البركات في كتاب «أسرار العربيّة» على النّهج نفسه من حيث العرض ، والتّفنيد ، والتّأييد ، وإن كان في أكثر الأبواب يؤيّد آراء البصريّين ؛ لكونها أكثر إقناعا ، وأقلّ تكلّفا.

وأمّا موضوع كتاب «أسرار العربيّة» بشكل عام ، فهو العلل النّحويّة والإعرابيّة ، وأسباب تسمية مسمّيات كثير من المصطلحات النّحويّة ، وأسباب تسمية الحركات ، وصيغ الجموع ، وغير ذلك. وكان ابن الأنباريّ في منتهى

__________________

(١) راجع : الوسيط في تاريخ النّحو العربي ، ص ١٣٧.

١٨

الذّكاء والعبقريّة في توليد التّساؤلات والإجابة عنها حتّى يقرّب المادة من نفوس النّاشئة ، وييسّر سبيل دخولها إلى الأذهان.

وجاء هذا الكتاب في أربعة وستّين بابا ، تناولت ما له صلة في موضوع بحثه في أبواب كتب النّحاة. ولم يكن أبو البركات يستطرد على عادة النّحاة ، بل كان يطرح التّساؤل ، ثم يجيب عنه مباشرة بعبارات مركّزة واضحة ؛ كما جاء في باب «ما الكلم»؟ على سبيل المثال : «فما الفرق بين الكلم والكلام؟ قيل :

الفرق بينهما أنّ الكلم ينطلق على المفيد ، وعلى غير المفيد ؛ وأمّا الكلام ، فلا ينطلق إلّا على المفيد خاصّة» (١).

وأحيانا ، كان يولّد التّساؤلات التي قد تدور على ألسنة النّاشئة والمتبحّرين على حدّ سواء ، ثمّ ينبري للإجابة عنها مستطردا استطرادا مركّزا هو أقرب إلى التّفريع منه إلى الاستطراد ؛ ليوضح الفكرة ، ويعلّل صحّة ما ذهب إليه بشاهد من الشّعر ، أو النّثر ، كما جاء في باب «التّثنية» على سبيل المثال :

«إن قال قائل : ما التّثنية؟ قيل : التّثنية صيغة مبنيّة للدّلالة على الاثنين ؛ وأصل التّثنية العطف ؛ تقول : قام الزّيدان ، وذهب العمران ؛ والأصل : قام زيد وزيد ، وذهب عمرو وعمرو إلّا أنّهم حذفوا أحدهما ، وزادوا على الآخر زيادة دالّة على التّثنية للإيجاز والاختصار ؛ والذي يدلّ على أنّ الأصل هو العطف أنّهم يفكون التّثنية في حال الاضطرار ، ويعدلون عنها إلى التّكرار ؛ كقول القائل :

كأنّ بين فكّها والفكّ

فارة مسك ذبحت في سكّ (٢)

وأحيانا ، كان يصل إلى التّعليل من دون استشهاد يذكر بآية من القرآن الكريم ، أو من الحديث الشّريف ، أو من الشّعر ، وإنّما يلجأ إلى الاستنتاج والمنطق ، كما نلحظ ذلك في باب «العطف» على سبيل الذّكر لا الحصر :«إن قال قائل : كم حروف العطف؟ قيل : تسعة ؛ الواو ، والفاء ، وأو ، ولا ، وثمّ ، وبل ، ولكن ، وأم ، وحتّى. فإن قيل : فلم كان أصل حروف العطف الواو؟ قيل : لأنّ الواو لا تدلّ على أكثر من الاشتراك فقط ، وأمّا غيرها من الحروف ، فتدلّ على الاشتراك ، وعلى معنى زائد على ما سنبيّن. وإذا كانت هذه الحروف تدلّ على زيادة معنى ليس في الواو ؛ صارت الواو بمنزلة الشّيء

__________________

(١) أسرار العربيّة ، ص ٣٥.

(٢) أسرار العربيّة ، ص ٦١.

١٩

المفرد ، والباقي بمنزلة المركّب ، والمفرد أصل للمركّب» (١).

وأمّا طرق كتاب «أسرار العربيّة» فقد استقى أبو البركات كثيرا من مادّته من كتابه «الإنصاف في مسائل الخلاف» الذي أشرنا إليه ، ومن كتب البصريّين والكوفيّين على السّواء ؛ وكثيرا ما كان يشير إلى ذلك بقوله : «وقد أوضحنا ذلك في مسائل الخلاف» (٢) أو «وقد أوضحنا ذلك في المسائل الخلافية» (٣) ، ونحو ذلك.

وأمّا أسلوبه في كتابه ، فكان أسلوبا سلسا ، سهلا ، واضحا ، بعيدا عن التّعقيد ، شبيها إلى حدّ ما بأسلوب أبي محمّد الحريريّ (٤) في كتابه «شرح ملحة الإعراب» فلا تحسّ بالجفاف النّحويّ والمنطقيّ الذي تجده في كثير من كتب النّحو التي كتبت في ذلك العصر. والقارئ في كتاب أبي البركات الأنباري ـ أسرار العربيّة ـ لا يشعر بالملل والسّأم الذي يساور من يقرأ أكثر تلك الكتب المشار إليها ، والمدوّنة في ذلك العصر وما قبله ، وما بعده ؛ لأنّها محشوّة بالغريب ، متّسمة بالتّعقيد ، متّصفة بكثرة الاستطرادات التي تجعل القارىء بعيدا عن التّركيز والاستيعاب.

وخلاصة القول : إنّ كتاب «أسرار العربيّة» كتاب متميّز في موضوعه ، متميّز في طريقة عرضه لمادّته ، متميّز ، في وضوحه ، وسهولته ، متميّز في حاجة المبتدئين والمتخصّصين إليه ـ على حدّ سواء ـ نظرا لأهميّته. ويمكن أن يكون هذا الكتاب وما شابهه باكورة فنّ جديد يمكن أن يطلق عليه اسم :

«الفلسفة النّحويّة» قوامه البحث في العلل النّحوية وتأويلاتها وتمحيصها وبيان الرّاجح من المرجوح من حجج النّحاة ، وإبداء الرّأي في تلك العلل ، وبيان الأسس التي قامت عليها ، وهل هي أسس منطقيّة أو لغويّة في ضوء الدّراسات اللّغويّة المعاصرة. ويكون لهذا الفنّ من الفائدة ما فيه على طريق توحيد المصطلحات النّحويّة ، وإزالة الخلافات القائمة بين أصحاب المذاهب النّحويّة بعد اعتماد الرّاجح ، وتجاوز المرجوح ، ولا سيّما ونحن نسعى إلى خدمة لغتنا ، وتسهيل سبل تعلّمها وإتقانها على مختلف الأصعدة.

__________________

(١) أسرار العربيّة ، ص ٢١٩.

(٢) أسرار العربيّة ، ص ٧٣.

(٣) أسرار العربيّة ، ص ١٠٥.

(٤) الحريريّ : هو القاسم بن عليّ الحريريّ البصريّ ولد سنة ٤٤٦ ه‍ ؛ من آثاره : ملحة الإعراب ، وشرح ملحة الإعراب ، ودرّة الغواص في أوهام الخواص ، والمقامات ، وغيرها. مات سنة ٥١٦ ه‍. نزهة الألبّاء ٣٨١ ، وإنباه الرّواة ٣ / ٢٧.

٢٠