تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]

تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

المؤلف:

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]


المحقق: الدكتور محمّد رضوان الدّاية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-633-9
الصفحات: ١٧٦

جهة التّعجيز (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) [الإسراء : ١٧ / ٥٠]. إلى غير ذلك من أنواع الأوامر والنّواهي (١).

وإذا كان هذا ، فمن أين لقائل أن يقول : إن نهي آدم عليه‌السلام كان على جهة الحظر أو الكراهة؟.

فإن احتجّوا بقوله تعالى (٢) إنّه : عصى وغوى وظلم نفسه ؛ قلنا : إذا لم يثبت تكليفه في الجنة فتخرج هذه الألفاظ على مقتضى اللّغة : فإنّ المعصية في اللّسان عدم الامتثال : كانت مقصودة أو غير مقصودة. وظلم النفس : غبنها وبخسها في منافعها ، لكونه وضع الفعل في غير موضعه ، وكذلك غوى : أدخل على نفسه الضّرر ، يقال :

غوى الفصيل : إذا رضع فوق حدّه من اللبن فبشم ، فعلى هذه الوجوه تخرّج هذه الألفاظ.

فإن قيل : إذا خرّجتم هذه الألفاظ على هذه الوجوه فما قولكم في قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما) [البقرة : ٢ / ٣٦] ، وفي قوله : (فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ) [الأعراف : ٧ / ٢٢] إلى غير ذلك. فنقول : تخرج هذه الألفاظ أيضا على جهة

__________________

عن الصّيد في ذلك اليوم ـ ولقوا جزاءهم. وكان الفريق الآخر من أهلها ممّن لم يخالفوا شهودا على ما جرى لهم.

ـ ومعنى خاسئين : مبعدين.

(١) الخطاب للمشركين ، وسياق الآية مع ما قبلها : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).

والمعنى : إن عجبتم من إنشاء الله لكم عظاما ولحما فكونوا أنتم حجارة أو حديدا إن قدرتم. وقيل : لو كنتم حجارة أو حديدا لم تفوتوا الله عز وجل إذا أرادكم. وقيل : لو كنتم حجارة أو حديدا لأعادكم كما بدأكم ولأماتكم ثم أحياكم. وقيل : المعنى كونوا ما شئتم فستعادون.

(٢) في سورة [طه : ٢٠ / ١٢١] (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

وفي سورة [الأعراف : ٧ / ٢٣] في خبر آدم وحواء (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

٨١

قصد الشّيطان ، والتّعريض بالوسوسة إليه لا على قصد القبول من آدم عليه‌السلام لوسوسته وخدعه. فإن الشّيطان قد يوسوس إلى الأنبياء ولكن لا يقبلون منه. قال تعالى لنبيّنا عليه الصلاة والسلام : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٧ / ٢٠٠] ، وقال له : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون : ٢٧ / ٩٧ ـ ٩٨].

وسنحيل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وجملة الأمر أنه إذا لم يثبت تكليف لم يثبت إيجاب ولا حظر ولا طاعة ولا معصية يقع فيها ذمّ شرعي ولا مدح ولا ثواب ولا عقاب. وهذا ما أجمع عليه أهل السّنّة.

فصل

[القول السّديد في قصّة آدم عليه‌السلام]

فإن قيل : فإذا كان ذلك كما زعمتم ، فما المختار عند أهل الحقّ في هذه القصّة ، وما معتقدهم فيها ، وكيف التّخلّص منها؟.

فنقول : التخلّص منها عند أهل الحقّ إن شاء الله : أنّ الله تعالى نهاه على جهة الإرشاد والإعلام والنّصيحة لا على نهي التّكليف ووسوس إليه الشّيطان على جهة الإغواء والحسد والمكر فلم يقبل منه. ثم أنساه الله تعالى بعد ذلك إرشاده إياه ووصيّته له ، ووسوسة الشيطان إليه ، فأكل منها غافلا عن الوصية والوسوسة.

وإذا كان ذلك لم يبل (١) : هل كان عند ذلك نبيّا أو لم يكن نبيا ، فإنّ النّاسي

__________________

(١) قال ابن الشّجري في أماليه (٢ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨) : من الألفات التي حذفوها ألف (تبالي) في قولهم (لا تبل) ، حذفوا ياءه أوّلا للجزم ، فقالوا : لا تبال ، كقولك : لا ترام. ثم اختصروه لكثرة استعماله ، فجزموه جزما ثانيا بإسكان لامه فسقطت ألفه لالتقاء السّاكنين ... فصار : لم أبل.

كقولك : لم أجب ، و: لم أعن : (من : أجاب وأعان).

٨٢

لا طلب عليه في الشّرع ولا ذمّ ، بالإجماع. والدّليل على أنّه نسي قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ٢٠ / ١١٥] ، يعني : عهدنا إليه في أمر الشجرة فنسي العهد (١) ، فأكل منها من غير عزم على أكلها ، [ولا] متعمّدا لاطّراح الوصيّة والنهي ، أو نسي المراقبة لتلك الوصيّة ، ولم نجد له عزما على المراقبة ، فألقي عليه النسيان بتركه المراقبة ، فأكل منها. ولا يصحّ في حقّه عليه‌السلام مع شهادة القرائن وعظم المكانة غير هذين الوجهين. مع أنّ العزم في اللّسان هو : الإرادة التي يقع معها الفعل ، وقد نهاه تعالى عنه ، فلم يبق إلاّ أنّه أكل ناسيا من غير عزم.

فإن قيل : وما دليلكم على أنّ العهد المنسيّ إنما كان في أمر الشّجرة ، والعهود كثيرة كعهده له في حمل الأمانة وغيرها؟.

فنقول : دليلنا على ذلك أنه لو قصد ارتكاب نهي الله تعالى ، وترك نصيحته له مراعاة لمكيدة الشّيطان ومكره به وقبوله منه فأكل منها متعمّدا لصحّة قول اللّعين ، تاركا لوصية الله ونهيه ، متعمّدا لتركهما لكان متّهما لخبره تعالى مفنّدا لحكمه ، مرتكبا لنهيه ، وهذه كانت فعلة الشّيطان عند امتناعه من السّجود حذوك النّعل بالنّعل (٢) ، وبها حكم بكفره.

فمن اعتقد هذا في حقّه عليه‌السلام فقد رماه برجام الكفر (٣) ، والابتراك (٤) في أوضار الجهل ، ودحض المزلاّت (٥) فأما ما كان يبترك فيه من الجهالات : ففي تقليده عدوّه الشّيطان ، وقبول قوله من غير دليل في أنّها شجرة الخلد التي توجب الملك

__________________

(١) ـ وقول المؤلّف ، رحمه‌الله : (لا طلب عليه) أي : لا مؤاخذة ولا مسئولية.

(٢) معنى (حذا النّعل) قدّرها وقطعها على مثال. وحذا النعل بالنّعل قدّره عليه. وتقال العبارة :(حذوك النّعل بالنّعل) عند تشابه الأمرين.

(٣) الرجام : حجارة ضخمة. والرّجم : الرمي بالحجارة.

(٤) يقال : ابترك أي أسرع في العدو وجد ، وابترك الرجل في عرض أخيه يقصبه : إذا اجتهد في ذمّه ، والأوضار : الأوساخ.

(٥) والدحض : الزّلق. وفي حديث أبي ذرّ رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض».

٨٣

الدّائم والحياة الدّائمة. وهذا هو القول بالطّبع (١) فإنه لا يخلو أن تفعل الشّجرة ذلك باختيارها أو توجبه بنفسه ، ومحال أن تفعل باختيارها فإنّها جماد ، ولو قدّرت حيّا لم يصحّ فعلها في غيرها ، فإنّ القدرة الحادثة لا تتعلّق بما خرّج عن محلها ، فلم يبق إلا الطّبع ، والقول به كفر ، فمن قال إنّه أكلها قاصدا لما ذكرناه ، ألزم اعتقاد وقوع هذه الجهالات كلّها من آدم عليه‌السلام وهي لا تجوز عليه ، فإنّها تؤدّي إلى الكفر الصّراح.

ومعلوم من دين الأمّة أنّه ما كفر نبيّ قطّ ، ولا جهل الله تعالى ، ولا سجد لوثن ، ولا أخبر تعالى عن واحد منهم بالكفر ، ولا بما دون الكفر من المعاصي قبل النّبوّة وبعدها ، سوى قصة آدم عليه‌السلام ، فمن قال بسوى هذا فعليه الدّليل ، ولا دليل!.

فإن قيل : ولعلّه كان يعتقد أنّ إبليس أعلم أنّه من أكل منها يخلد في الجنّة بإرادة الله تعالى لا بالطبع والإيجاب!.

قلنا : باطل ، فإنّ الله تعالى أعلمه قبل ذلك بنقيض قول الشّيطان في أنّ الأكل منها سبب الخروج ، فلو اعتقد الخلود فيها إذا أكل من الشّجرة بقول الشّيطان لكان مكذّبا للخبر السابق من الله تعالى ، وهو الذي فرغنا من استحالته عليه. فلم يبق إلاّ أنه أكل منها ناسيا ، فإنّه إذا لم يصحّ العمد لم يبق إلا النّسيان ، على أنّا لو قدّرنا وقوع هذه القبائح من أدنى عاقل مؤمن من البله منّا لم يصحّ ، فكيف يصحّ ممن خلقه الله تعالى بيده ، وأسجد له ملائكته ، وجعله قبلة لهم ، وعلّمه الأسماء كلّها ، وجعله معلما لهم ، كلّمه بلا ترجمان على جهة الإكرام والإعلام والنّصيحة؟! جاء في الصّحيح عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (٢) : آدم نبيّ مكلم ، يعني بغير

__________________

(١) الطّبائعيون ، أو الدّهريون. ومنهم اليوم القائلون بالماديّة التاريخية والمادية الديالكتيكيّة.

(٢) قال في الجامع لأحكام القرآن :المكلّم موسى عليه‌السلام ، وقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن آدم أنبيّ مرسل هو؟ فقال : نعم نبيّ مكلّم.

قال ابن عطيّة : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنّة. فعلى هذا تبقى خاصية موسى.

ـ و: (من كلّم) أي : من كلّمه الله.

٨٤

واسطة ، إذ من الأنبياء غير مكلّمين ، قال الله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : ٢ / ٢٥٣] ، فكيف يكون آدم عليه‌السلام مكلّما على هذه الوجوه كما تقدم ، ثم يقع في مثل هذه الجهالات قاصدا متعمّدا ، حاشى وكلا! فيا لله لما يرتكبه الجاهل من نفسه ، من حيث لا يشعر!

فخرج من مجموع ما ذكرناه ، أنّه أكل منها ناسيا ، وعوتب على نسيانه الوصيّة ، إذ لو كان مراقبا لم ينسها على مجرى العادة ، فهذا هو الحقّ الذي يرغب فيه ولا يرغب عنه ، ولا يصحّ أن يعتقد في حقّه ، ولا في حق نظرائه من النّبيين والمرسلين سوى ما ذكرناه ، أو ما يضاهيه من الشّروح التي لا تخلّ بقدره ، ولا تغضّ من جاهه واجتبائه واصطفائه كما أخبر تعالى عنه.

فإن قيل : ولعلّه أكل منها غير قابل لمكيدة الشّيطان ، ولا رادّ لوصيّة ربّه وإرشاده إياه ، أو ناسيا لمكيدة الشّيطان عالما بوصيّة ربه ، لكن لشهوة غلبت عليه ، حتى هان عليه الخروج من الجنّة ، لتحصيل تلك الشّهوة!.

قلنا : هذا لا يصحّ في حقّه عليه‌السلام ، لأنه مؤذن بضعف عقل فاعله وشدّة شرهه وسوء رأيه ، وقلّة علمه ، والتقحّم على خسيس الشّهوة رضى بالنّقمة. وليست هذه أخلاقه ولا شيمته ، بل كان رأس العقلاء ، ورئيس الحكماء ، ومعلّم الملائكة ، ولو حكي هذا عن عاقل من لفيف الناس لاستبعد في حقه ، فكيف في حقّ من كلّمه الله بلا ترجمان على جهة الإكرام؟ فلم يبق إلا أن النّسيان الذي أخبر الله عنه ، وعدم العزم ، إنّما كان في أمر أكل الشّجرة لا غير.

فهذا هذا ، ولم يبق بعد الخروج عن هذه الإلزامات في أنه أكل منها ناسيا مطعن لطاعن. والله أعلم.

٨٥

ولتعلموا ـ أرشدنا الله وإياكم ـ أنّ هذه النّكتة الغريبة في أمر النّسيان ، الذي خلّص هذه القصّة من التخيّلات الفاسدة ، والآراء المضطربة ، قد تقدّم إليها غير واحد من العلماء وذكرها ، لا سيما مشايخ الصّوفية ، فإنّهم على هذه القولة عوّلوا ، لكنّهم لم يتخلّصوا منها كل التخلّص بل نزّهوه عنها تنزيها جمليا غير مفصّل بمثل هذا التفصيل.

ولقد تحيّرت في إثبات هذا التخلص ، على هذا الوجه منذ سنين لمعارضة هذا النسيان ، بذكر المعصية والغواية والظّلم ، حتى تذاكرت يوما فيها مع الفقيه العالم المتفنّن أبي العباس أحمد بن محمّد اللّخمي (١) أدام الله كرامته ـ فكان منه في درج المذاكرة ما يليق بمثله من التّنبيه فيها على بعض نكت نادرة مؤيّدة بالتّوفيق الربّاني ، فثلج بها الصّدر إذ لا يصح سواها كما قدمناه.

وأخبرني مع ذلك أنه أتعبه النّظر في حلّ مشكلاتها مدة طويلة ، حتى فتح عليه ، فشارك بحمد الله ، وأعان على ما كان تعذّر منها ، بارك الله له فيما منحه ، وبارك لنا في حياته وبقائه وصحّة معاملته ومعونته.

فانظر أيّها اللّبيب الفطن إليها ، نظر المتناصف ، ولا تعدل عن هذا الشّرح إلى سواه ، لئلا يفتح عليك باب من الفساد ولا يمكنك سدّه ، فإنه إذا جوّزت عليه المعصية المنهيّ عنها شرعا جازت على من بعده من الأنبياء عليهم‌السلام. وإذا لم تجز عليه فأحرى ألاّ تجوز على من بعده منهم ، لكونهم لم يذكر لواحد منهم معصية في الكتاب ولا في السّنّة ضمنا ولا تصريحا ، ولا يجوز وقوعها عليهم كما قدّمناه.

__________________

(١) الإشارة هنا إلى أحد أئمة المغرب والأندلس في وقته ، وهو أبو العبّاس أحمد بن محمّد اللّخمي العزفي (أو ابن أبي عزفة) ، والد أبي القاسم العزفي مؤسّس إمارة العزفيّين بمدينة سبتة. لزم التدريس بجامع سبتة مدّة حياته ، وله مؤلفات في بعض العلوم الإسلاميّة ، وأثنى عليه تلامذته والذين ترجموا له بغزارة العلم وكثرة السّماع عن العلماء.

ـ وكانت وفاة العز في سنة (٦٣٣). ينظر برنامج شيوخ الرعيني ٤٢ ـ ٤٣ وإحالاته.

٨٦

ثم إنّ الله تعالى لطف بآدم عليه‌السلام ، في أكله من الشّجرة بعد النّهي عنها ، من ستة أوجه :

أحدها : أنّه لما أسجد له ملائكته على جلالة قدرهم ، وصيّره قبلة لهم ومعلّما ، لطف بقلبه ألا تخطر به لفتة عجب ، فامتحنه بأكل الشجرة ، فلمّا أكل منها عوتب عليها فتواضع.

الثاني : أنّه كان منبسطا ، فلمّا أكل منها انقبض ، فسلم من وهلات البسط ، لأن الله تعالى لا يعامل إلا بالخوف والقبض.

الثالث : أنّه امتحن التّكليف وكدّ المعيشة في الدّنيا ، ليحصل له مقام الصبر.

الرابع : أنّه رزق من طيّبات ثمراتها ليلتذّ بها ، فيشكر نعم الله تعالى عليه فيجمع بين الصّبر والشّكر.

فإن قيل : فقد كان يتنعّم في الجنّة بأكثر مما يتنعّم في الدّنيا ، قلنا : كان يتنعّم من غير تعب سابق ، ونعيمه في الدّنيا ممزوج بالمشقّة ، والتنعم بعد المشقة يؤكّد خالص الشّكر ، وأيضا فإنّه لم يكلّف في الجنّة كما تقدّم ، فما كان يؤجر على شكر لو وقع منه.

الخامس : أنه لمّا خرج من دار التنعّم والدّعة إلى دار المشقّة والتّكليف صحّت له المعاملة بالكسب ، والدّرجات بالطاعة ، وميزان الجنّة بالعمل.

السادس : أنّه تحصّل له أجور ما ينتهك بعض ذريته من حرمة عرضه في هذه القصّة ، فإنهم يغتابونه في اقتفاء ما ليس لهم به علم ، وكفى بالمرء عقوقا أن ينتهك عرض أبيه.

٨٧

فهذه رحمك الله ، سنّة ألطاف به في ضمن كلّ لطف منها مقام كريم لآدم عليه‌السلام كما قيل (١) :

لعلّ عتبك محمود عواقبه

فربّما صحّت الأجسام بالعلل!

__________________

(١) هذا البيت للمتنبّي ، من آخر قصيدة له في سيف الدولة الحمداني (شرح الواحدي ٤٩٤) ، أنشدها أبو الطيب يعتذر مما خاطبه به في القصيدة الميميّة التي أوّلها :

واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم

ومن بجسمي وحالي عنده سقم

والبيت الذي استشهد به المؤلّف ، رحمه‌الله ، هو الثاني والأربعون من القصيدة اللامية ، يقول :«لعلّي أحمد عاقبة عتبك ، وذلك أن أتأدّب بعد عفوك فلا أعود إلى شيء أستوجب به العتب ، كمن يعتلّ ، فربّما تكون علّته أمانا له من أدواء غيرها ، فيصحّ جسمه بعلّته مما هو أصعب منه!».

٨٨

شرح قصّة نوح (١) عليه‌السلام

في محاورته مع ابنه الكافر وسؤاله ربّه في أمره. وكذلك في دعائه على قومه.

قال تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود : ١١ / ٤٢ ـ ٤٣].

قالوا : كيف يصحّ أن يقول له (ارْكَبْ مَعَنا) ، فيأبى ويظنّ أنّ الجبال تعصمه من الغرق ، مع قول أبيه له : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) وفي إبائه أن يركب مع أبيه السّفينة مع عقوق أبيه والرّدّ عليه واعتصامه بغير السّفينة ، دليل على إثبات كفره ، إذ لو صدّق أباه في أنّ النجاة في السّفينة ، والهلاك في غيرها لم يقل ذلك.

وفي قوله أيضا مع اعتقاده أنّ الجبال تعصم من الماء ، تسفيه حلم أبيه ، إذ لو كان الاعتصام بغير السّفينة ، لكان الاعتصام بالسّفينة سفها من جهة الضّيق والتّغرير.

ونوح عليه‌السلام أعلم النّاس بهذه الوجوه ، وهذه القرائن من أحوال ولده وأقواله ، فإنّها تدلّ على كفره بتكذيبه إياه وتسفيه حلمه ، وإذا كان هذا فكيف يسوغ له عليه‌السلام أن يقول بعد ذلك : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) [هود : ١١ / ٤٥] يعني في سلامة أهلي. وقد قيل له قبل ذلك : (إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [هود : ١١ / ٤٠] وأقوال ابنه وأحواله تدلّ على أنه ممّن سبق عليه القول. وكذلك قوله

__________________

(١) شرح قصة نوح عليه‌السلام في تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ١٧ ، وعرائس المجالس ٥٤ ، وابن كثير ١ / ١٠٤ ، وتفسير الطبريّ ١٢ / ٢٥ ، وتاريخ الطبريّ ١ / ١٧٩ ، وتفسير الطّبري ٩ / ٣٠.

٨٩

تعالى له : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [هود : ١١ / ٣٧] وهو من الذين ظلموا؟.

فالجواب : أنّ نوحا عليه‌السلام حين ركب السّفينة وأدخل فيها المؤمنين وأهله كما أمر ، رأى ولده في جهة من خارج السّفينة وبمقربة منها حيث يسمع النّداء ، ولم ير امرأته ، فيئس من سلامتها ، وظنّ أنها هي المستثناة وحدها وأنّها هي التي سبق عليها القول من الله تعالى بختم الكفر والعذاب ، فقط ، وطمع في إيمان ولده الذي كان عهد منه قبل ذلك ، وكان ولده يظهر له الإيمان ويبطن الكفر. والأنبياء عليهم‌السلام إنما عنوا بالظّواهر والله يتولّى السّرائر ، فلما لم ير امرأته يئس من سلامتها ، ولمّا رأى ولده بمقربة من السّفينة حيث يسمع النّداء طمع في سلامته وحسّن الظّنّ أنّه مؤمن ، فقال : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) [هود : ١١ / ٤٢] يعني في السّفينة (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) [هود : ١١ / ٤٣] أي لا تبق في الأرض فتهلك مع الكفرة. [و] في قوله له : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) دليل على أنّه كان يعتقد إيمانه. فلمّا قال له : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) حسّن أيضا به الظّنّ بأنّه كان يعتقد أنّ ما أخبر به أبوه من هلاك الكفرة صحيح ، وأنّ المؤمن يسلم بإيمانه ، فظنّ هو أنّه يسلم في السّفينة وغيرها ، فقال له أبوه : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ١١ / ٤٣] ، يعني من مراد الله هلاك الكفرة. (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ) [هود : ١١ / ٤٣] يعني من رحمه‌الله فسلم بإيمانه. ولم يقل : إلاّ من ركب السّفينة. فاحتمل القول جواز سلامة المؤمن في السّفينة وغيرها. فلم يقع من الولد تكذيب ظاهر لأبيه في هذه المراجعة مع هذه الاحتمالات. ثم (حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) [هود : ١١ / ٤٥] في الحين ، فظنّ نوح عليه‌السلام أنّه قد كان يدخل معه السّفينة لو لا ما حال بينهما الموج. فلمّا حال بينهما الموج لم يدر ما صنع الله به وبقي مستريبا في إيمانه ، فقال بعد ذلك : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، يعني في النّسب وظاهر إيمانه (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) في سلامة أهلي بإيمانهم (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ). إن كان الحكم هنا من الحكمة التي هي العلّة فمعناه : أنت

٩٠

أعلم العالمين بحاله ومعتقده ، وإن كان الحكم : القهر بالإرادة القدرة فمعناه : أنت أقهر القاهرين الذي لا رادّ لأمرك ولا معقّب لحكمك.

وفي ضمن هذا كلّه سؤاله ربّه ورغبته [في] أن يطلعه على عاقبة أمر ولده كيف كانت؟ فأطلعه الله على ذلك فقال : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ١١ / ٤٦] يعني في الدّين لا في النّسب (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ١١ / ٤٦] يعني أن عمله غير صالح ، لكن سمّاه باسم صفته الغالبة عليه. وقد قرئ (١) : (إنّه عمل غير صالح) بفتح اللاّم على معنى الخبر عن عمله ، فأعلمه الله تعالى بحاله ومآله ثمّ أدّبه تعالى ووعظه وعلّمه فقال له : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ١١ / ٤٦] نهاه ربّه أن يسأله تحصيل علم ما لم يكلّف علمه ، إذ ليس يجب على المكلف أن يسأل علم ما لم يكلّف العلم به.

ومن هذا الوجه تخرج قولة خضر لموسى عليهما‌السلام : (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) [الكهف : ١٨ / ٧٠] وذلك أنّ موسى عليه‌السلام طلب منه علما لم يكلّف طلبه ، إذ لا يجوز لطالب العلم المكلّف بطلبه السكوت عن سؤال علم يلزمه ، ولا يجوز للمعلّم أيضا أن ينهاه عن السّؤال فيما كلّف العلم به.

فخرج من ذلك أنّ نوحا عليه‌السلام سأل في أمر ولده عن علم لا يلزمه ، فنهاه الله تعالى أن يسأل عمّا لم يكلّف العلم به. ثم حذّره تعالى أن يفعل ذلك ، على جهة النّزاهة لا على الحظر ، فقال : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ١١ / ٤٦] يعني الّذين يتعصّبون لعاطفة الرّحم حتّى يسألوا عمّا لم يكلّفوا العلم به.

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن ٩ / ٤٦ (قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي من الكفر والتكذيب ، قال : واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون «عمل غير صالح» أي ابنك ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف. قاله الزجّاج وغيره. قال القرطبي : وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال ، أي إن سؤالك إياي أن أنجيه غير صالح.

ونقل وجوها أخر نكتفي بما أوردنا منها).

٩١

فقد قام بحمد الله عذر نوح في سؤاله عن رفع الإشكال ، وإجابة ربّه تعالى إيّاه في إعلامه بمآل ولده ، وعتبه ألا يعود لمثل ذلك ، واستعاذ هو بربّه ألاّ يفعل مثل ذلك.

ولله تعالى أن يعتب أنبياءه ، ويؤدّبهم ، ويحذّرهم ، ويعلّمهم ، من غير أن يلحق بهم عتب ولا ذنب.

فهذا هذا ، والجهلة يخبطون عشواء الدّجون! (١).

فصل

[في شرح ما جاء في الكتاب من دعائه على قومه وامتناعه الشّفاعة الكبرى في الآخرة من أجله]

وأمّا قصّته عليه‌السلام في دعائه على قومه حين قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٧١ / ٢٦] فأجابه ربّه فيهم ، فجاء في الخبر أنه احتمل أذايتهم ألف سنة إلاّ خمسين عاما ، كما أخبر تعالى ، وهو يقول مع ذلك ، ربّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون. فبينا هو ساجد يوما إذ مرّ به رجل من كفّار قومه وعلى عنقه حفيد له ، فقال الجدّ للحفيد : يا بنيّ ، هذا هو الشّيخ الكذاب الذي دعانا إلى عبادة ربّ لا نعرفه وأوعدنا وعيدا بلا أمد ، فتحفّظ منه لئلاّ يضلك ، فقال الحفيد له : إذا كان على هذه الحالة فلم تركتموه حيّا إلى الآن؟ فقال له الجدّ : وما كنا نصنع به؟

فقال أنزلني حتّى ترى ما أصنع به ، فأنزله ، فأخذ صخرة فصبّها على رأسه فتلقّفها الملك ، وقيل : شجّ رأسه ، فلما سمع نوح عليه‌السلام قوله ورأى فعله ، علم إذ ذاك أنّ الحفيد أطغى من الجدّ ، فدعا في تلك السّجدة فكان ما كان (٢). ثم ندم على دعائه

__________________

(١) وردت عبارة للمؤلّف مماثلة شرحناها في مكانها ، في أواخر خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زينب رضي الله عنها ، قال المؤلّف : «والجهلة يخبطون عشواء الدّجون».

(٢) الخبر في القرطبي ١٨ / ٣١٢.

٩٢

حتّى إذا سئل الشّفاعة في الآخرة امتنع منها واعتذر بأنّه دعا على قومه بالإهلاك (١).

ومعلوم أنّ دعاء المؤمن على الكافر مباح لا ذنب فيه صغيرا ولا كبيرا ، لا سيما بعد ما قيل له : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ١١ / ٣٦]. فلما قطع بكفرهم دعا عليهم.

وإذا كان الدّعاء على الكفرة على الإطلاق مباحا كان أحرى إذا وقع القطع على كفرهم بالخبر الصّدق.

وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مضر (٢). وكذلك موسى عليه‌السلام دعا على فرعون وملئه (٣).

على أنّ دعوة نوح عليه‌السلام رحمة علّلها هو إذ دعا فقال : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) [نوح : ٧١ / ٢٧] يعني يضلّوا من آمن من قومه بكثرة الأذاية ، فربما

__________________

(١) في سورة نوح : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً).

وقيل في التفسير :

ـ دعا عليهم حين يئس من اتباعهم إيّاه.

ـ دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه (إنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن) فأجاب الله دعوته وأغرق أمّته (يعني كفّارهم).

(٢) في صحيح مسلم ٤ / ٢١٥٧ ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على قريش لمّا استعصت عليه بسنين سبع كسني يوسف ، فأصابهم قحط وجهد ، حتى أكلوا العظام ، حتّى أتى رجل (قيل هو أبو سفيان) قال :يا رسول الله ، استغفر لمضر ، فإنّهم قد هلكوا ، فلم يستغفر لهم رسول الله ، ولكن دعا الله لهم فمطروا. (نقلت الحديث بمعناه) وانظر مسند الإمام أحمد ١ / ٣٨٠ ، ٣٤١ ، ٤٤١.

(٣) قال تعالى في سورة يونس ١٠ / ٨٨ : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) ومعنى : اطمس على أموالهم : عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم.

٩٣

رجع منهم إلى مذهبهم ، وقد يكون العباد هنا : المولودين على الفطرة الّذين إذا أدركوا يكفرون بكفر آبائهم (١) كما ورد في الخبر.

(وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً) يعني : من يكفر في ثاني حال ، لصحّة الخبر أنهم لا يؤمنون ، ولما رأى من الصّبيّ الذي طرح على رأسه الصّخرة ، إن صحّ الخبر.

وإذا كان كذلك ، وطال مكثهم يتوالدون فيكثر سواد أهل النّار بطول مكثهم.

وهذا دعاء مباح مع ما فيه من الرّفق بالغير وطلب السّلامة للبعض. وقد عدّه هو ذنبا (٢) ، وذلك لأنّه رأى أنّ سكوته وصبره عليهم كان أولى به ، حتى ينفذ فيهم حكم ربّهم بما شاء.

ويحتمل أن يعدّه ذنبا لكونه لم يؤمر به ، كما عدّ موسى عليه‌السلام قتل الكافر ذنبا لكونه لم يؤمر به فيقول : قتلت نفسا لم يأمرني الله بقتلها.

فهذا رحمك الله ، أدلّ دليل على صحّة ما ذكرناه في أنّ الأكابر يصيّرون بعض المباحات ذنوبا من باب الأولى والأحرى ، إذ الدّعاء على الكفرة مباح إجماعا (٣).

__________________

(١) إشارة إلى الحديث المشهور : «كلّ مولود يولد على الفطرة».

ورواية الموطأ ١٦٠ ، من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحس فيها من جدعاء؟ قالوا يا رسول الله أرأيت الذي يموت وهو صغير؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين».

ـ وقوله : «إذا أدركوا» يعني بلغوا مبلغ الرجال ، وصاروا في سنّ التكليف الشرعي.

(٢) يعني قوله عليه‌السلام لطالبي الشفاعة ، كما ورد في حديث يوم القيامة.

(٣) علّق في الجامع لأحكام القرآن بعد آية سورة يونس الثامنة والثمانين قال : «استشكل بعض الناس هذه الآية فقال : كيف دعا عليهم وحكم الرسل استدعاء إيمان قومهم؟». فالجواب : أنه لا يجوز أن يدعو نبيّ على قومه إلا بإذن من الله ، وإعلام أنه ليس فيهم من يؤمن ولا يخرج من أصلابهم من يؤمن ، دليل قوله لنوح عليه‌السلام : «إنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن» وعند ذلك قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) والله أعلم.

٩٤

فصل

[تعقيب على قصة نوح عليه‌السلام]

ثم إن لله تعالى أن يعتب أنبياءه وأصفياءه ، ويؤدبهم كما تقدّم ، ويطلبهم بالنّقير والقطمير (١) ، من غير أن يلحقهم في ذلك نقص من كمالهم ، ولا غضّ من أقدارهم ، حتى يتمحّصوا للعبوديّة ، والقيام في نطاق الخدمة ، والقعود على بساط القربة.

ألا ترى كيف نهى الله تعالى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النّظر لبعض المباحات فقال : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ١٥ / ٨٨]. ونهاه أن يتبع النظرة الأولى ثانية ، فقال له : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ١٨ / ٢٨] مع قوله تعالى في مقام آخر : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٧ / ٣٢].

فإذا لم يحرّم أكل الطيّبات والتمتّع بالزّينة إذا كانت من كسب الحلال ، ـ والنّظر في الحسن من التمتّع والزّينة ـ فكيف يحرم النّظر إليها؟ لكن كما قال المشايخ : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين!.

جاء في الصحيح ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم الفتح (٢) : «ما كان لنبيّ أن يكون له خائنة الأعين».

يعني الإشارة بالعين في الأوامر حتّى يفصح بها.

__________________

(١) يضربان مثلا في القليل والذي لا شأن له :

فالنقير : النكتة (النقرة) في ظهر نواة التّمرة.

والقطمير : القشرة الرقيقة على نواة التمرة كاللّفافة لها.

(٢) في سنن أبي داود ٤ / ١٢٨ ، ونصّه : «إنّه لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين».

٩٥

والإشارة بالعين في الأوامر مباحة ، لكنّه يجري (١) عنها تنزّها وتأكيدا لرفع الالتباس ، وهي مباحة لغير الأنبياء (٢).

__________________

(١) في الأصل المخطوط كلمة رسمها (يجري) بلا نقط ، والمراد : يتركها ، ويتجاوز عنها.

(٢) في خبر عبد الله بن سعد بن أبي سرح أنه كان أسلم ثم ارتدّ ، وأهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دمه ، فلما فتحت مكة كان عبد الله لجأ إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة. فلما جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستأمن له صمت عليه الصلاة والسلام طويلا ، ثم قال : نعم. فلما انصرف ابن أبي سرح مع عثمان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن حوله : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمّت فيقتله؟ فقالوا :يا رسول الله هلاّ أومأت إلينا؟ فقال : «إن النبي لا يقتل بالإشارة». وفي رواية «إنه لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين». قال ابن هشام : «وقد حسن إسلام عبد الله بعد ذلك وولاّه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان» ، وكان لابن أبي سرح ذكر طيب جدّا في الفتوح ، وخصوصا فتوح البحر.

٩٦

شرح قصّة إبراهيم (١)

عليه‌السلام

بما تقتضيه الآيات الثّلاث

إحداها : في استدلاله بالثّلاثة الكواكب.

الثانية : في الأقوال الثّلاثة التي قال إنها كذبات.

الثالثة : في قوله (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢ / ٢٦٠].

فممّا تخيّلوه في استدلاله بالكواكب أنّهم زعموا أنّ أمّه فرّت به صغيرا إلى مغارة خوفا من النّمرود ، فإنّه كان يذبح أبناء العماليق ويستحيي نساءهم ، خيفة على خراب ملكه على يد مولود فيهم ، كما كان يفعل فرعون ببني إسرائيل ، خيفة من خراب ملكه على يد مولود منهم.

فألقته في المغارة ، وكانت تختلف إليه (٢) فترضعه فيها ، وكان يشقّ عليها ذلك خيفة من أن يظهر أمرها معه لقومها بالتّكرار إليه ، إلى أن جاءت يوما فوجدته يرضع ظبية ، فطابت نفسها وعلمت أنّه محفوظ ، فتركته ولم تعد إليه ، فبقي كذلك حتى حصل في حدّ من يعقل ، فخرج ليلا من المغارة ليطلب العلم بصانعه ومعبوده ، فرأى كوكبا وقّادا فقال : هذا ربّي إلى آخر ما قال.

__________________

(١) شرح قصة إبراهيم عليه‌السلام في تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ٢٠ ، وعرائس المجالس ٧٣ ـ ٧٩ ، وابن كثير ١ / ١٩١ ، وتفسير الطبريّ ٣ / ٣٢ ، وتاريخ الطبري ١ / ٢٣٣ و ٧ / ١٥٨ و ١٧ / ٢٨ ، وتفسير القرطبي ٣ / ٢٩٧ و ٧ / ٢١ و ١١ / ٢٩٩.

(٢) أي تأتي مرّة بعد مرّة ، بحسب الاقتضاء والضرورة.

ـ وقول المؤلّف ، رحمه‌الله ، (حتّى حصل في حدّ من يعقل) ، أي حتّى بلغ سنّ الرّشد.

٩٧

فأما قولهم في قصّة المغارة والظّبية ، فهو قليل في كرامته وجائز عليه.

وأما قولهم : نظر في الكوكب فقال : (هذا رَبِّي) ، معتقدا لذلك فباطل ، فإنّ هذا القول كفر صراح ، وما كفر نبيّ قطّ ولا سجد لوثن قبل النّبوّة ولا بعدها ، ولا تفوّه أحد من الأمّة بذلك قطّ ، كان محقّا أو غير محق.

جاء في الأثر في خروج نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صغيرا مع عمّه أبي طالب إلى الشام ، أنّه لما مرّ بصومعة بحيرا الرّاهب (١) نزل إليه في حديث يطول ذكره ، إلى أن قال له : باللاّت والعزّى يا غلام ما اسمك؟.

فقال له : إليك عنّي ، فو الله ما تكلّمت العرب بكلمة هي أثقل عليّ من هذه الكلمة!.

فحاشا لأنبياء الله تعالى من اعتقاد الكفر في وقت من الأوقات!.

وكيف ، وقد جاء في الصّحيح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان غلاما كان يوما ينقل الحجارة مع عمّه أبي طالب لإصلاح ما ثلم في الكعبة (٢) ، وهو عار ، فسقط على وجهه في الأرض مغشيا عليه ، فلما أفاق قال له عمّه : ما بالك؟ فقال : رأيت شخصا أشار إليّ أن استتر. وكان ذلك الشّخص الملك. فهذا صغير ينبّهه الملك على أدب من آداب الشّريعة قبل التّكليف. فما ظنّك بحمايتهم من الكفر؟ على أنّ منهم من أوتي الحكم صبيّا ، كيحيى عليه‌السلام. قال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٩ / ١٢] ، وعيسى عليه‌السلام تكلّم في المهد صبيّا بالحكمة ، حيث قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ)

__________________

(١) انظر السيرة النبويّة ١ / ١٨٢.

(٢) انظر السيرة النبويّة ١ / ١٨٣ ، ومسند الإمام أحمد ٣ / ٢٩٥.

٩٨

[مريم : ١٩ / ٣٠] ، والذبيح أوتي العلم والحلم غلاما ، قال : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (١) [الذاريات : ٥١ / ٢٨] ، وفي آية أخرى (٢) (حَلِيمٍ) [الصافات : ٣٧ / ١٠١].

فهذا هو الّذي يصحّ من أحوالهم ، ويعتقد في جانبهم الكريم.

وإذا كان هذا شأنهم في حال الطّفوليّة ، فما ظنّك بهم في حال الإدراك وكمال العقل؟!.

فحاشاهم أن يكفروا اعتقادا أو يتلفّظوا بكلمة كفر : كانوا صغارا أو كبارا.

فإن قيل : فمن أين عرفوا الله تعالى قبل النّبوة؟!.

فنقول : بالنّظر والاستدلال.

فإن قيل : فقد كانوا زمن النّظر غير عالمين بالله تعالى!.

قلنا : كذلك هو ، لكن ما دام المحلّ معمورا بالنّظر لم يحكم له بكفر ولا بإيمان ، إلا أنّه كان آخر نظرهم متّصلا بالعلم ، ففي أثر ما نظروا عرفوا الحقّ حقا من غير أن يعتقدوا جهلا أو يتلفّظوا بكلمة كفر.

ومن الناس من قال : إنّهم علموا خالقهم بعلوم ضرورية (٣) على جهة الخرق والإكرام لهم.

وهذا سائغ في المقدور لائق بهم ، إلاّ أنّهم يفوتهم في ذلك أجر الكسب ، إذ (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى).

__________________

(١) ـ (عليم) أي يكون بعد بلوغه من أولي العلم بالله ودينه.

قال في الجامع لأحكام القرآن : الجمهور على أن المبشّر به هو إسحاق. وقال مجاهد وحده : هو إسماعيل. قال : وليس بشيء فإن الله تعالى يقول : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) وهذا نصّ.

(٢) (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي يكون حليما في كبره ، فكأنه بشّر ببقاء ذلك الولد ، لأن الصغير لا يوصف بذلك.

(٣) أي : فطريّة.

٩٩

ومنهم من قال : إنهم اكتسبوا العلم من غير تقدّم نظر على جهة الخرق ، إكراما من الله تعالى لهم ، والله أعلم.

ولهم في هذا كلام لا تحتمل هذه التّعاليق بسطه ، لكنهم مجمعون على أنهم علموا من أول وهلة ، على أيّ وجه علموا : نظرا أو ضرورة.

فصل

[إبراهيم عليه‌السلام نبيّ الحجّة]

وأوّل ما ينبغي أن نقدّم قبل الخوض في هذه المسائل الإعلام بأنّ إبراهيم عليه‌السلام كان نبيّ الحجّة ، وهو أوّل من أصّل أصول الدّين بالاستدلال على علم التّوحيد.

وبه اقتدى رؤساء المتكلّمين في استدلاله بالثّلاثة الكواكب التي وردت في الكتاب كما سيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام : ٦ / ٨٣].

نرفع درجات من نشاء ؛ أي بالحجّة البالغة والعلوم العالية ، فكان قومه حرّانيّين (١) ينظرون في النّجوم ويردّون لها القضاء في الأفعال ، ويعبدون بعضها.

__________________

(١) الحرّانيّون نسبة إلى مدينة حرّان ، وهي مدينة قديمة مشهورة ، فتحت أيام عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه ، وكانت مركزا حضاريا قديما قبل الإسلام. وهي الآن في تركية على حدود الشام. ومراد المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ الإشارة إلى مذهب اشتهر به أهل هذه المدينة ، وهم الصابئة ، وفي الملل والنحل للشهرستاني ٢ / ٥٣ ، أن إبراهيم عليه‌السلام في حجاجه قومه قرّر مذهب الحنفاء وأبطل مذاهب الصابئة.

وقد أفرد الشهرستاني فقرة لفرقة الصابئة سمّاها الحرنانية ٢ / ٥٤ ، وقد وقفت على كتاب فيه طرافة عنوانه : (مفاهيم صابئية مندائية) تأليف ناجية حراني صرحت بأنّها منهم ، وزعمت أنّ الصّابئة يتوجهون إلى الشمال (الأعلى) على سمت نجم القطب ، فلذلك قيل فيهم إنهم يعبدون النّجوم أو يقدّسونها ، في كلام طويل.

وفي هذا الكتاب ص ٥٦ أنّه يقال في الصّابئة حرّانية وحرنانيّة.

١٠٠