تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]

تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

المؤلف:

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]


المحقق: الدكتور محمّد رضوان الدّاية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-633-9
الصفحات: ١٧٦

شرح قصّة نبيّنا عليه الصلاة والسلام (١)

مع زيد وزينب

في قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). إلى قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧].

هذه من القصص التي امتحن بها عوامّ هذه الأمة ومقلّدوهم المجازفون المقتفون ما ليس لهم به علم!

والقصّة بحمد الله أشهر وأظهر من أن يتقوّل فيها بزور ، أو يدلّى بغرور (٢) ، والأولى أن نقدّم ما صحّ من القصّة ثم نرجع إلى شرح الآية.

والّذي صحّ منها أنّ المرأة هي زينب بنت جحش ابنة أميمة بنت عبد المطلب جد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما بعلها فهو زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعتقه. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ربّاه وتبنّاه ، وكان يسمّى ابن رسول الله حتّى أنزل الله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) [الأحزاب : ٣٣ / ٤]. فنفى البنوّة بالدّعوى وقال : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [الأحزاب : ٣٣ / ٥]. فلما

__________________

(١) قصة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زيد ، وزينب في تنزيه الأنبياء ، للشريف المرتضى ١٠٩ ، وتفسير الطبري ١٢ / ١٠ ، وتاريخ الطبريّ ٢ / ٥٦٣ ، وتفسير القرطبيّ ١٤ / ١٨٨.

(٢) العبارة مقتبسة من الآية الكريمة من سورة الأعراف (فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ) [الأعراف : ٧ / ٢٢] ، أي أوقع إبليس آدم وحوّاء في الهلاك. قال ابن عباس غرّهما باليمين. قال في التفسير الجامع :(فَدَلاَّهُما) يقال : أدلى دلوه : أرسلها. ودلاّها : أخرجها ، وقيل : دلاّهما أي : دللهما من الدالة وهي الجرأة ، أي جرّأهما على المعصية فخرجا من الجنة.

٦١

أدرك زوّجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب المذكورة. وبقي معها حتّى أمر الله تعالى نبيّه عليه‌السلام أن يتزوّجها ؛ أو أخبره به كما سيأتي في شرح الآية ، إن شاء الله تعالى.

وما تقوّله المنافقون والجهلة المجازفون من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآها وأحبّها وشغف بحبّها حتى كان يضع يده على قلبه ويقول : يا مقلّب القلوب ثبّت قلب نبيّك! ويدخل عليه زيد المسجد ويقول : «ادن منّي يا زيد» ، شوقا إليها! ، إلى غير ذلك من هذيانات لا يرضاها صلحاء المسلمين لأنفسهم فكيف سيّد المرسلين (١)!؟ فكلّ ذلك باطل متقوّل (٢).

وكذلك قولهم : إنّه ـ عليه‌السلام ـ رآها فأحبّها ، تخرّص وزور ، وكيف وقد تربّت في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى زوّجها لزيد ، على أنّه لو أحبّها كما اختلقوه لم يدركه في ذلك لوم فإن الحبّ أمر ضروريّ لا يدخل تحت الكسب ، جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (٣) : «اللهمّ إنّي عدلت فيما أملك فاغفر لي ما لا أملك». يعني : عدلت فيما أكسب فاغفر لي ما لا أكسب ، فلم يكره العقلاء الحبّ إلاّ لما يكون معه للمحبّين من الطّيش ، والميل ، والذّكر بما لا ينبغي ، وطلب الظّفر بالمحبوب على الوجوه الفاسدة.

وهذه الأمور كلّها لا تليق بصلحاء المسلمين ، فكيف بسادات المرسلين المعصومين ممّا دون ذلك كما تقدم؟!

__________________

(١) تنظر في المطوّلات من كتب التفسير ، ومنه في القرطبي ١٤ / ١٨٨ ـ ١٩٦.

(٢) قال القرطبي في التفسير ١٤ / ١٩١ (فأمّا ما روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هوي زينب امرأة زيد ـ وربّما أطلق بعض المجّان لفظ عشق ـ فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مثل هذا ، أو مستخف بحرمته).

(٣) ورد الحديث في مسند الإمام أحمد ٦ / ١٤٤ برواية أخرى ، من حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت :«كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه ، فيعدل ... ثم يقول : اللهمّ هذا فعلي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».

وقول المؤلّف : (فإنّ الحبّ أمر ضروريّ) أي فطريّ.

٦٢

جاء في الأثر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ برجل ينشد : (١)

أقبلت فلاح لها

عارضان كالسّبج

أدبرت فقلت لها

والفؤاد في وهج

هل عليّ ويحكما

إن عشقت من حرج؟!

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا حرج إن شاء الله ، معناه : لا حرج عليك إن كنت تكتم وتصبر ولا تؤذي محبوبك بقول ولا بفعل ، ولا يشغلك حبّه وذكره عمّا فرض عليك.

ومصداق هذا الشّرح ما جاء عنه ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال (٢) : «من عشق وكتم وعفّ ومات مات شهيدا» وسبب شهادته أنّ النّفس الأمّارة بالسّوء تحبّ الشّهوة والتّشفيّ بالفعل ، فيحاربها الورعون المتّقون بالكتمان والعفاف حتى يقتلهم.

__________________

(١) في الرسالة القشيرية ٦٤١ (وقد روي أن رجلا أنشد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقبلت فلاح لها ...

الأبيات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا). وعلّق المحققان : قيل : إن هذا حديث موضوع فلا يجوز الاستشهاد به.

ـ وقرأت في التكملة للصاغاني (ق ض ب) أن الشعر لشيرين أخت مارية القبطية.

ـ والأبيات يستشهد بها في كتب العروض (مثلا العقد ٦ / ٨).

(٢) في الفتح الكبير للسيوطي ٣ / ٢١٢ : «من عشق فكتم وعفّ فمات فهو شهيد».

ـ وقرأت في كتاب : المصون في سرّ الهوى المكنون لأبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني ٩٧ ، (فأمّا طيّ الحبّ وكتم ما في القلب عن كلّ أحد إلى آخر الأبد فهو الذي لا يجوز سواه ، ولا يمكن المحبّ أن يتعدّاه) ، وقد ورد في الحديث «من أحبّ فعف فمات فهو شهيد». قال بعض المتأوّلين ، من أحبّ فكتم ، ووصل فعف ، وهجر فصبر ، فمات فهو شهيد ، انتهى بحروفه.

ونظم بعضهم الحديث فقال :

سأكتم ما ألقاه يا نور ناظري

من الوجد كي لا يذهب الأجر باطلا

فقد جاءنا عن سيّد الخلق أحمد

ومن كان برّا بالأنام وواصلا

بأن من يمت بالحب يكتم سرّه

يكون شهيدا في الفراديس نازلا

رواه سعيد عن عليّ وأحمد

فما فيه من شكّ لمن كان عاقلا!

٦٣

وعلى هذا مضت العادات وتناصرت الحكايات ، ولو لا قصد الاختصار لأسمعتك في هذا الشّأن أخبارا وأشعارا عن ظرفاء المحبّين المتديّنين ، وأهل الهمم من فتيان العرب. فقد قيل : إنّ قيس بني عامر (١) تعرّضته ليلى بأرض فلاة فقالت له : ها أنا بغيتك ومثار فتنتك ، ليلى! جئتك ولا رقيب ولا واسطة ، فاقض ما أنت قاض!.

فقال لها : بي منك ما شغلني عنك! ثمّ سار وتركها. فهذا من ظرفاء المحبّين.

وآخر رأى غبار ذيل (٢) محبوبه فغشي عليه فهذا أظرف منه ، إلى غير ذلك.

وجاء في الأثر : أنّ عليا ـ كرّم الله وجهه ـ كانت له جارية تتصرّف في أشغاله.

وكان بإزائه مسجد فيه قيّم ، فكانت متى مرّت به تلك الجارية قال لها : أما إني أحبّك ، فشقّ عليها ذلك فأخبرت عليّا ـ رضي‌الله‌عنه ـ بذلك ، فقال لها : إذا قال لك ذلك فقولي له : وأنا أحبّك فأيش تريد بعد هذا (٣)؟!.

فلمّا مرّت به قالت له ذلك ، فقال : نصبر حتّى يحكم الله بيننا ، فلمّا أخبرت عليا ـ عليه‌السلام ـ بما قال لها دعا به وقال له : خذها إليك فقد حكم الله بينكما! فهذا شأن الظّرفاء والمتديّنين من المحبّين.

__________________

(١) قيس بن الملّوح العامري ، أحد بني عامر بن صعصعة ، ومن مشاهير عشّاق العرب ، عشق ليلى بنت مهدي العامريّة ، وكان يرعى الغنم منذ الصّغر عند جبل يقال له (التّوباد) ، وقال فيها الشعر ، وذاع شعره فمنعه أهلها الاقتراب من ديارهم واستعدوا عليه الوالي ، فأهدر دمه إن زارها ، وخطبها فرفض أبوها ، وزوّجها من رجل غنيّ من ثقيف فاختلط قيس ، فكان يجيء جبل التوباد فيقيم به ثمّ يهيم على وجهه ، ثم وجد ميتا في أحد الأودية ، وللمجنون ديوان شعر مطبوع بتحقيق الأستاذ عبد الستّار فرّاج ـ رحمه‌الله ـ نشرته مكتبة مصر ـ القاهرة.

(٢) غبار ذيل ثوبها ، فقد كانت تجرّ الثوب نعمة وخيلاء!.

(٣) فأيش : فأيّ شيء. (وهذا اختصار قديم من باب النّحت).

٦٤

ومع هذا فالرّسول ـ عليه‌السلام ـ أشرف وأسنى من أن يمتحن بمثل هذه النّقيصة ، ومع ذلك فما صحّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحبّها ولا شغف بها في كتاب ولا سنّة سوى ما تخيّله (١) الجهلة ، وكلّ ما رووه في ذلك عن الصّحابة فكذب وزور وجهل بمقتضى الآية ومنصب النّبوّة ، وتخرّص من أهل النّفاق ، وها أبيّن لك ذلك في سياق الآية إن شاء الله تعالى.

فصل

[معجزة في هذه القصّة وكرامة وشرف وتشريف]

قال الله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧].

ذكر بعض المفسّرين في أشبه الأقوال أنّ قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ) ، تنبيه من الله تعالى لنبيّه ـ عليه‌السلام ـ على وجه العتاب في قوله لزيد : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ، وأقول إنّه تنبيه لنبيّه ـ عليه‌السلام ـ ليتهيّأ لفهم الخطاب من غير عتاب ، وهو الأظهر والأولى.

وبذا تناصرت الآيات كقوله تعالى : (إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة : ٢ / ١٢٤] ، وقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٢ / ٣٢] وفي سور أخر إلى غير ذلك من الآي.

وأما قوله تعالى : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧] ، ففي هذا الخبر معجزة للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكرامة لزيد ، لكنّها من أعزّ الكرامات وأشرفها.

فأمّا المعجزة فهي من باب إخباره ـ عليه‌السلام ـ بالغيوب فتقع كما أخبر عنها.

__________________

(١) ما تخيّله الجهلة : من خيالهم المريض. وفي المخطوط بالحاء المهملة (تحيّله) ولها وجه أيضا. ورجّحت الخاء المعجمة.

٦٥

وذلك أنّ الإنعام هاهنا إنّما هو في أن وهبه (١) الله تعالى إيمانا لا يفارقه إلى الممات ، إذ لو كان في معلوم الله تعالى أن يسلبه إيّاه عند الوفاة لم يسمّه نعمة ، فإنّ ثمرة الإيمان إنما تجتنى في الآخرة ، وإيمان زائل لا ثمرة له في الآخرة لا يسمّى نعمة بل هو نقمة. كإيمان بلعم بن باعورا (٢) وغيره من المخذولين المبدّلين ، نعوذ بالله من بغتات سخطه.

فخرج من فحوى ذكر هذه النّعمة أنّ زيدا يموت مؤمنا ، فكان ذلك وزيادة أنه مات أميرا شهيدا مقدما بين الصّفّين ، في يوم مؤتة ، كان قد قدّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجيش في حديث يطول ذكره ، ثم قتل شهيدا ، فنزل الوحي على رسول

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (٣) : «أخذ الرّاية زيد فأصيب» ، إلى قوله : «لقد رفعوا لي في الجنّة على أسرّة من ذهب». الحديث.

فهذه معجزة صحّت له ـ عليه‌السلام ـ من باب الإخبار بالغيوب ، فوقعت بمحضر الأشهاد كما أخبر عنها ، كما وقع نقيضها في قصّة أبي لهب (٤) حيث أخبره ربه في قرآن يتلى أنّه من أهل النّار ، ومات كافرا فكان ذلك.

__________________

(١) قول المؤلف رحمه‌الله تعالى (أن وهبه الله تعالى إيمانا ..) المقصود هنا زيد رضي‌الله‌عنه أي : أن وهب والده زيدا إيمانا لا يفارقه ... إلخ.

(٢) بلعام بن باعوراء كان أيام موسى عليه‌السلام ، قال القرطبي ٧ / ٣١٩ كان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلّمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث أنه كان أول من صنّف كتابا في أن : ليس للعالم صانع! وقال مالك بن دينار : بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان فأعطاه الملك وأقطعه فاتّبع دينه وترك دين موسى ، ففيه نزلت هذه الآيات (يعني الآيات ١٧٥ ـ ١٧٧ من سورة الأعراف).

(٣) في مسند الإمام أحمد ٣ / ١١١٣ و ١١٨ ، ولم ترد في العبارة : «لقد رفعوا لي في الجنّة على أسرّة من ذهب».

ـ وانظر الخبر مطوّلا في السّير والمغازي لابن كثير ٣ / ٤٤٥ وما بعدها ، الواقدي ٧٥٥.

(٤) في سورة تبت يدا أبي لهب.

ـ في تفسير القرطبي ٢٠ / ٢٣٧ سئل الحسن البصري عن قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) هل كان في ـ

٦٦

وأمّا كرامة زيد فبإعلام الله له في ضمن الآية بسلامة العاقبة كما ذكرناه.

وأمّا تصوّر العتاب إن صحّ في قوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) فقد يقع من باب ترك الأولى من المباحات كما تقدّم ، وذلك أنّ الله تعالى أمره بزواجها أو أخبره به حيث قال له في آخر الآية : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧] وسيأتي بيان ذلك الأمر عند فراغنا من شرح الآية إن شاء الله تعالى.

وأما سبب قوله له أمسكها فهو أنّ زيدا جاءه يتشكّى له بها ، فقال : يا رسول الله زينب تسبّني وتستعلي عليّ وتعيّرني وتفخر عليّ بشرفها ، إلى غير ذلك ، وأريد أن أطلقها.

فقد ربّما كان الأولى أن يقول له ـ عليه‌السلام ـ مثلا : أنت وشأنك! أو ما يقرب من هذا من الأقوال ، أو يسكت عنه فلا يأمره ولا ينهاه لكونه ـ عليه‌السلام ـ قد أمره الله تعالى بتزويجها أو أخبره بذلك ، فقال له : أمسكها والأظهر أنّه قصد ـ عليه‌السلام ـ بهذه القولة خوف القالة من السّفهاء أن يقولوا ما قالوه فيهلكوا بأذيّته ، فتصحّ عليهم اللّعنة في الدّارين ، والعذاب الأليم ، بدليل الكتاب ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) [الأحزاب : ٣٣ / ٥٧].

وأيضا أنه لمّا سمع أنّ الله تعالى عاتب داود ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (أَكْفِلْنِيها) [ص : ٣٨ / ٢٣] ، قال هو : «أمسكها» ، وسقط العتاب.

وأما قوله : (وَاتَّقِ اللهَ) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧] ، يعني في ذكرها بالقبح لغيبها في قوله : تقول لي كذا وتفعل بي كذا ، وهي غائبة ، فنهاه عن الغيبة المنهيّ عنها شرعا ، بدليل أنّ قول زيد : أطلّقها ، كلام مباح ليس فيه حظر ولا كراهة في الشرع.

__________________

أمّ الكتاب؟ وهل كان أبو لهب يستطيع ألاّ يصلى النار؟ فقال : والله ما يستطيع ألاّ يصلاها ، وإنها لفي كتاب الله من قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه.

٦٧

وأمّا قول الله ـ عز وجل ـ لنبيّه ـ عليه‌السلام : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧]. يعني من تزويجها الّذي أمرتك به أو أعلمتك به.

وأمّا قوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧] ، أي تخشى من قول النّاس ، على حذف حرف الجر كأنه يقول : تخشى من النّاس أن يقولوا فيك فيأثموا ويهلكوا ، (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي تخشى منه على النّاس وللنّاس حتى يقع مرادي فيك وفي النّاس ، إذ ليس احتياطك يغني عنهم من الله شيئا ، فلا عليك ممّن قال ولا ممّن أثم ، فأنا أعلم بما يقولون وبما أجازيهم. كما قال تعالى له : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) [آل عمران : ٣ / ١٢٨] ، و (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) [البقرة : ٢ / ٢٧٢] ، و (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٢٨ / ٥٦] إلى غير ذلك.

وأمّا أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخشى النّاس من غير مراعاة لهذا القدر وما أشبهه ، فحاشا وكلاّ ، وكيف وقد قال تعالى بعد هذه الآية : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٩] فقد زكّى الله تعالى أنبياءه بأنّهم أفردوه بالخشية ، فلو كان الرسول ـ عليه‌السلام ـ يخشى النّاس لأجل النّاس لتناقض الخبر ، والتّناقض في خبر الله ورسوله محال.

وأمّا ما خاف أن يقوله النّاس فيهلكوا ، فهو على خمسة أوجه :

أحدها : ما جرت به عادات الجهلة المتكبّرين على الموالي فيقولون : كيف يسوغ له أن يعمد إلى كريمة من كرائمه وأقرب النّاس إليه نسبا فيزوّجها لعبده؟!.

والثاني : وهو أشدّ عليهم في الإنكار أن يقولوا : كيف رضي أن يتزوّجها بعد عبده؟!

الثالث : أن يقولوا : إنّما حمله على ذلك حبّه لها وشغفه بها.

٦٨

الرّابع : قلّة المراعاة لأمر الله ، وعدم التّسليم لحكمه ، إذ لو كانوا يذعنون لأحكام الله تعالى ويسلمون له لم ينكروا شيئا ممّا فعله نبيهم ـ عليه‌السلام ـ.

الخامس : وهو أصل لكلّ رذيلة ، وهو مراعاة التّحسين والتّقبيح وردّهما إلى العقول القاصرة ، وما جرت به العادات ، وهو داء عضال نغلت به (١) ، قلوب الجهلة الضّالين (٢) ، ففنّدوا حكم الله تعالى واعترضوا لفعاله في خلقه. وكان أوّل من سنّ هذه الدّاهية الدّهياء إبليس ، حيث قال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [الإسراء : ١٧ / ٦١] ، و (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ١٥ / ٣٣] ، و (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [ص : ٣٨ / ٧٦] ، و (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ١٧ / ٦٢] إلى غير ذلك من أقواله السّخيفة. فانظر ـ رحمك الله ـ إلى أهل هذه المذاهب الخسيسة بمن اقتدوا فيها وعلى من عوّلوا في اقتدائهم ، (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : ٩ / ٣٠].

ومما قيل في معنى قوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ) ، أنه يخشى الناس أن يقولوا : كيف يحرّم علينا أزواج البنين وهو مع ذلك يتزوّج زوج ابنه؟ فلأجل (٣) هذه الأقوال كانت خشيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النّاس ، إذ ليس منها واحدة إلاّ وهي تحمل إلى سجّين ، فإنّها كلها معارضة لقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٥٩ / ٧].

وقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٤ / ٨٠].

__________________

(١) النّغل : الفساد ، وفي الحديث (في النهاية واللّسان) : «ربّما نظر الرجل نظرة فنغل قلبه كما ينغل الأديم في الدّباغ فيتثقّب».

(٢) وفي كلام المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ ردّ على القائلين بالاحتكام إلى العقل وحده في التّحسين والتّقبيح : وهذا يعني ، بالوجوه كلّها ، إبطال الدّيانات ، وترك الرسالات وتكذيب الأنبياء ، والعياذ بالله تعالى.

(٣) يقال في المرأة : زوج ، وزوجة.

٦٩

وقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣ / ٣١].

وقوله تعالى حيث أقسم بذاته المعظّمة فقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٤ / ٦٥].

فمن أجل هذه الآي وأمثالها خشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقع فيه النّاس ، وقد وقعوا فيما ذكرناه ، وفيما هو أشدّ منه (١).

قال تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧] ، الوطر هنا : النّكاح.

واعلم ـ رحمك الله ـ أنّ في هذه الآية فوائد جمّة منها أنّ الله تعالى جعل فيها لزيد صيتا وشرفا خصّه به عن جملة الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ وذلك أنّه لم يذكر في الكتاب منهم أحدا باسمه العلم إلا زيدا ، وسبب ذلك ـ والله أعلم ـ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد تبنّاه قبل ذلك ، فكان يدعى بابن رسول الله حتى نزل عليه : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [الأحزاب : ٣٧ / ٥] ، فسمّي بعد ذلك زيد بن حارثة ، فعوّضه الله تعالى بأن سمّاه في كتابه باسمه العلم (٢).

وهذه القولة ليست لي ، ولا يبلغ نظري إلى هذا القدر ، وإنّما ذكرها أبو بكر بن

__________________

(١) قول المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ : (وقد وقعوا في ما ذكرناه وفيما هو أشدّ منه) إشارة إلى مجريات كانت في زمانه في هذا الموضوع. ونقرأ في مقالة الدكتور بن شريفة ٢٣ ، إنّ هذا المؤلّف (يذكر أمورا وقعت وقتئذ في بلده سبتة وفي غيرها) ، وذكر فئة من الوعّاظ كان الوعظ عندهم (ضربا من التكسب ونوعا من الكدية) إلخ.

(٢) ـ وقد قالوا فيه «زيد بن محمد».

٧٠

العربي (١) في بعض تواليفه ، ولا أعلم هل هي له أو لغيره (٢) ، [وإن] من غاص عليها لغوّاص ، [وهي نكتة بارعة تخرج] من باب الإشارة ، وقد يحتمل أن تخرج من باب الفقه ، وهو أن يكون تسمية زيد بالعلميّة ليتبين في الآية ثبوت هذا الحكم ووقوعه في أبناء التّبنّي ، إذ لو قال تعالى : فلما قضى بعلها ، لم يعلم من البعل من مقتضى الآية.

ومنها : أنّ الله تعالى سنّ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السّنّة على رغم أنف المتكبّرين ، فمن لام بعد هذه السّنّة أحدا في أن يزوّج مثلا بنته لعبده أو يتزوج امرأة عبده من بعده فليفغر فوه بفهر يكسر قواضمه وخواضمه ، ويطرح في أمّه الهاوية (٣) ، إذ ليس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شارع ولا فوق شرفه شرف.

ومنها : قوله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧].

فأضاف تعالى تزويجها لنبيّه إلى نفسه ، وما أضاف الله تعالى لنفسه شيئا إلاّ وشرّف ذلك الشيء ، كما قال تعالى : (رُوحِي) [الحجر : ١٥ / ٢٩] ، و (بَيْتِيَ) [البقرة :

__________________

(١) هو القاضي أبو بكر محمد بن الله المعافري الإشبيلي الأندلسي المعروف بابن العربي (ولد ٤٦٨ ، وتوفي ٥٤٣) من أعيان علماء الأندلس ، ومن كبار المصنفين البارعين ، ومن كتبه أحكام القرآن ، والعواصم من القواصم ، وعارضة الأحوذي على كتاب التّرمذي ، وغيرها.

(٢) لم أر هذا في (أحكام القرآن) ولعله من كتاب آخر.

ـ ونقله القرطبي في تفسيره ١٤ / ١٩٤ عن أبي القاسم السهيلي (٥٠٨ ـ ٥٨١).

ـ وفيه : كان يقال زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) فقال : أنا زيد بن حارثة ، وحرم عليه أن يقول : زيد بن محمّد ، فلمّا نزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر ، وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يكن يخصّ بها أحدا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي أنه سمّاه في القرآن فقال تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) يعني من زينب ، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب نوّه به غاية التنويه ، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم له.

(٣) الفهر : الحجر يملأ الكفّ. والقواضم : الأسنان ، مأخوذ من القضم ، وهو أخذ الشيء وأكله بأطراف الأسنان ، والخواضم : الأضراس ، مأخوذ من الخضم ، وهو أخذ الشيء وأكله بأقصى الأضراس ، وأمّه :أي أمّ رأسه ، وهي الدّماغ ، أو الجلدة الرّقيقة التي عليها ، والهاوية : جهنّم.

٧١

٢ / ١٢٥] و (جَنَّتِي) [الفجر : ٨٩ / ٣٠] ، و (عَذابِي) [الأعراف : ٧ / ١٥٦] ، و (ناقَةَ اللهِ) [الشمس : ٩١ / ١٣] ، و (نارُ اللهِ) [الهمزة : ١٠٤ / ٦] ، والكلّ مخلوق ومربوب ، ولكنّ الله اختصّ بالشّرف الإضافي هذه المخلوقات.

وفي هذا التّزويج شرف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كون تزويج النّاس أجمع من عندهم وباختيارهم واجتهادهم ، وهذا التزويج بأمر الله على الخصوص ، واختياره وإكرامه لنبيّه ـ عليه‌السلام ـ.

ومنها : تشريف لزينب زوجه ، وذلك أن الله تعالى ما اختارها لنبيّه ـ عليه‌السلام ـ حتى علم حصانتها ودينها وورعها وحفظ أدبها لمراعاة خلطة سيّد المرسلين.

ولها أيضا على سائر نسائه في هذا التّزويج مزيّة ، وإن كنّ كلّهن مطهّرات محفوظات ، وقد ذكرت هي ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : يا رسول الله أما إنّي لأدلّ عليك بثلاث لا يدلّ بها عليك واحدة من نسائك.

فقال لها : وما هي؟ فقالت : إحداها : أنّي أقرب إليك نسبا من جميع نسائك ، لأنّ جدّي وجدّك واحد.

والثانية : أن الله تعالى زوّجني إيّاك.

والثالثة : أنّ كان السّفير [في ذلك] (١) جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

فيا لها من حرّة! فلقد فخرت وصدقت ، مع أنها أغفلت رابعا يؤكّد ثبوت هذه الثلاثة وهو : كون قصّتها مسطّرة في قرآن يتلى إلى الأبد ، إذ لو كانت من خبر الواحد لاختلجتها الظّنون.

__________________

(١) في النّسخة هنا : (بيني وبينك) وقد رددتها إلى الأصل ، وقد وردت العبارة صحيحة قبل هذا ، والنصّ في السير والتفاسير كذلك ، ينظر تفسير القرطبي ٤ / ١٩٥.

٧٢

ثم قال تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٣ / ٣٧].

علّل الله ـ عزّ وجل ـ هذا التزويج ليعلم النّاس أنّ من تبنّى أحدا ثمّ تزوّج امرأته من بعده فلا حرج عليه ، فإنّ من تبنّاه ليس كابنه الّذي لصلبه.

قال تعالى في تحريم أزواج الأبناء للصّلب : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٤١ / ٣٣] ، وقال : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الأحزاب : ٣٣ / ٤]. فرفع الله الحرج بهاتين الآيتين في التبني ، ثم قال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً).

(الأمر) هنا يحتمل الحقيقة والمجاز ، فإن كان الله أمره بتزويجها فيكون : (وكان المأمور به مفعولا) أي : واقعا في معلوم الله تعالى ، ويسمى المأمور به (أمرا) لمناسبة بين الآمر والمأمور ، فإنّ الأمر من الله تعالى يستحيل أن يكون مفعولا لكونه يرجع لكلامه الأزليّ ، وإن كان الأمر بمعنى المراد على سبيل المجاز ، فيكون : وكأن ما أخبرك الله تعالى به من المراد واقعا ، إذ : ما أراد الله تعالى وقوعه فلا بد من وقوعه. فتأمّل ـ رحمك الله ـ هذه القصة العجيبة فإنّها تتضمّن خمس عشرة فائدة ، منها في جانب الرسول ـ عليه‌السلام ـ ستّة :

إحداها : المعجزة في إخباره بالغيوب فوقعت كما أخبر عنها.

الثانية : تواضعه ـ عليه‌السلام ـ أن زوّج كريمته بعبده.

الثّالثة : انقياده لأمر الله في تزويجها بعبده.

الرابعة : إثبات هذا التّزويج سنة.

الخامسة : قمع المتكبرين وإرغام أنوفهم في هذه السّنّة.

السّادسة : في الردّ على من قال بتحسين العقل وتقبيحه.

٧٣

والتي من جانب زيد أربع : إحداها : بشارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بسلامة عاقبته.

الثّانية : موته شهيدا بين الصّفّين.

الثالثة : ما أخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه في الجنّة.

الرابعة : تسميته في الكتاب بالعلميّة على الخصوص.

والتي في حقّ زينب (١) ـ رضي الله عنها ـ خمس : إحداها : أن الله تعالى رضيها لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهلا.

الثّانية : أن صيّرها أمّ المؤمنين.

الثّالثة : أن كان خطيبها جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

الرابعة : أن كان وليّها ربّ العالمين.

الخامسة : أن كانت قصّتها قرآنا يتلى.

فهذه خمس عشرة فائدة صحّت في هذه القصة ، شاملة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمّته ، سوى ما أغفله الخاطر.

والجهلة يخبطون عشواء الدّجون (٢).

فهذا ما منّ الله تعالى به من ثمرات النّظر في هذه القصص الأربع في حقّ السّادة القادة ـ صلوات الله عليهم ـ.

__________________

(١) قال الشعبي : كانت زينب رضي الله عنها تقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهنّ :

ـ أنّ جدّي وجدّك واحد.

ـ وأنّ الله أنكحك إياي من السماء.

ـ وأنّ السفير في ذلك جبريل.

(٢) العشواء : النّاقة التي لا تبصر أمامها ليلا ، والدّجون : جمع الدّجنّة ، وهي الظّلمة ، ومن أمثال العرب السّائرة : هو يخبط خبط عشواء ، يقال للّذي يركب رأسه ولا يهتم لعاقبته.

٧٤

ونسأل الله تعالى ـ مع هذا التحفّظ على مناصبهم السّنية ومناقبهم الرّضيّة ـ العفو عمّا وقع فيها من الخطأ والخطل بحوله وطوله (١).

فصل

[مقدّمة لقصص سائر الأنبياء في هذا الكتاب]

ولنذكر الآن ما وقع من بعض قصص الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في القرآن ، وهي القصص التي اعترضها أهل الزّيغ والإلحاد في أقوال الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وأفعالهم ، بما منّ الله به ، والله المستعان.

وقد كنّا نرتّب الكلام فيها على ترتيب الزّمان ، فنبدأ بقصة آدم ـ عليه‌السلام ـ ونختم بقصّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنّا قدّمنا هذه القصص لتأكيد اعتراض السّفلة عليها وشناعة طبعهم فيها كما تقدّم.

فنذكر قصّة آدم ـ عليه‌السلام ـ في أكله من الشّجرة المنهيّ عنها.

وقصّة نوح ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ١١ / ٢٥] ، وفي دعائه على قومه.

وقصّة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في الثّلاثة الأقوال التي عدّها (٢) هو كذبات ، وفي الثّلاثة الكواكب والأنوار ، وقصّته ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢ / ٢٦٠].

وقصة عزير ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢ / ٢٥٩].

وقصّة أيّوب ـ عليه‌السلام ـ في محنته.

__________________

(١) الطّول : المنّ.

(٢) في الأصل المخطوط : عددها.

٧٥

وقصّة يونس ـ عليه‌السلام ـ ومغاضبته لقومه وفراره منهم ، ولومه ، وتوبته ، وقبول توبته.

وقصّة موسى ـ عليه‌السلام ـ في قتل الكافر.

ثم نختم هذه القصص بقصّة مريم ـ عليها‌السلام ـ في هزّها الجذع ، وغلط من حطّ من مقامها من الجمع إلى الفرق في ذلك الوقت إن شاء الله تعالى.

وكذلك قصّة إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ والرّد على من اعترض علينا ، فقال : إنّهم عند ما واقعوا ما واقعوا مع أخيهم وأبيهم كانوا أنبياء ، والله المستعان.

٧٦

شرح قصة آدم (١)

عليه‌السلام

في أكله من الشّجرة بعد ما نهي عنها.

اختلف النّاس في هذه القصّة اختلافا لا يكاد ينضبط ، وذلك لأن الله تعالى ما نصّ على معصية لنبيّ إلا لآدم ـ عليه‌السلام ـ خصوصا. فلمّا كان ذلك وجد أهل الدّعاوى وأهل الحيرة مع ما دهاهم من عدم التّحقيق وكيد الوسواس سبيلا إلى الإخلال بحقّه ـ عليه‌السلام ـ حتى سطّروا في الضّبائر (٢) وأفصحوا على المنابر بأن قالوا : إذا كان رأس الدّنّ درديّا (٣) فما ظنّك بقعره!.

وهذه وصمة تجرّ إلى تنقيصه وتنقيص من بعده من الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وهو مقصودهم في ذلك ، وشرحوا قوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [الأعراف : ٧ / ٢٢] أنهما لمّا عصيا سلب الله عنهما أنوار الرّبوبيّة الرّوحانيّة التي كانت فاضت عليهما منه ؛ تعالى عمّا يصفون. فظهر لهما الجسم التّرابيّ المجبول على المعصية ، فعلما إذ ذاك أنّه منه أتي عليهما ، فأوجبوا المعاصي للأجسام التّرابية ، وأنبياء الله تعالى كلّهم أجسام ترابيّة ، وهي ظاهرة لهم (٤).

وهذا أقلّ ما نسبوه لآدم ـ عليه‌السلام ـ.

__________________

(١) شرح قصّة آدم عليه‌السلام في : تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ٩ ، وعرائس المجالس ٣٠ ، وابن كثير ١ / ٥٠ ، وتفسير الطبريّ ١ / ١٨١ ، وتاريخ الطبري ١ / ١٦٠ ، وتفسير القرطبيّ ١ / ٢٩٨ ـ ٣٢٣.

(٢) الضّبائر جمع الضّبيرة ، على وزن فعيلة ، والمشهور في ذلك : الإضبارة ، وهي الحزمة من الصّحف ، وهي التي يقال لها في بعض البلدان : الملفّ.

(٣) الدّرديّ عكر الزّيت ، ويكون ـ لثقله ـ في قعر الدّنّ أو الظّرف ، وفي العبارة استغراب وتعجّب ، وفيها مبالغة أيضا.

(٤) روى ابن عباس رضي‌الله‌عنه في تفسير الآية الكريمة قال : تقلّص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل ، نقله القرطبي ٧ / ١٨٠.

٧٧

فصل

[في نبوّة آدم عليه‌السلام ، متى كانت؟]

وأوّل ما ينبغي أن نقدّم أنّ آدم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن عند ما أكل من الشّجرة نبيّا ، والعصمة لا تشترط للنبيّ إلا بعد ثبوت النبوّة له. فمن النّاس من ذكر الإجماع على أنّه لم يكن نبيّا عند ما أكل من الشجرة ، ومنهم من اكتفى بظاهر قوله تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ) [طه : ٢٠ / ١٢٢] ، وهذا عطف ب (ثم) ، التي تعطي المهلة ، ثم ذكر الاجتباء والهداية.

والاجتباء هنا : النّبوة : بدليل قوله تعالى في سورة مريم عليها‌السلام ، عند ما عدّد الأنبياء ، عليهم‌السلام ، ومناقبهم على التّفصيل ، قال : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) [مريم : ١٩ / ٥٨] يعني من النّبيّين أجمعهم.

وقال في قصة يونس ـ عليه‌السلام ـ بعد قصة الحوت : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) [القلم : ٦٨ / ٥٠] وهذا وجه من الوجوه يثبت أكله من الشجرة قبل نبوته.

فصل

[في نهي آدم عليه‌السلام عن الشجرة]

والذي ينبغي أن يعوّل عليه في قصة آدم ، عليه‌السلام ، أنّ نهيه عن الشجرة كان نهي إرشاد وإعلام على جهة الوصيّة والنّصيحة لا على جهة التّكليف ، فإنّه ما صحّ تكليفه في الجنّة ، ولا نبوّته ، لا في كتاب ولا سنة. والأوامر والنّواهي تنقسم إلى مشروع وغير مشروع ، كالأوامر اللّغوية ، فإن السّيّد قد يقول لعبده ، والأخ لأخيه ، والصّاحب لصاحبه على جهة الإعلام والإرشاد والنّصيحة : افعل كذا ، واترك كذا تسلم من كذا وتظفر بكذا ، وكذلك أوامر الأطبّاء للعليل بالحمية والدّواء والغذاء إلى غير ذلك.

٧٨

فكان أمر الله تعالى لآدم عليه‌السلام بسكنى الجنان والأكل الرغد ونفوذ المشيئة من باب الإعلام والتّأنيس بالبشارات بأنه لا يجوع فيها ولا يعرى ، ولا يظمأ ولا يضحى (١) ، وكان نهيه له على جهة الإرشاد المتقدّم ذكره ، أو التّحذير ممّا تؤول إليه عقباه إن فعل ما نهي عن فعله في خروجه عن الجنّة وشقائه في الدّنيا ، والإعلام بمكيدة الشيطان ، والتحفظ منه ، وكونه عدوا حاسدا له.

وهذا معلوم في اللّسان ، وما جرت به العادات ، وقد أمر الله تعالى إبليس بقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ) [الإسراء : ١٧ / ٦٤] فهذه أوامر على جهة الوعيد له والتّهديد ، كقوله تعالى للكفرة : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤١ / ٤٠] وليست بتكليف ، إذ لو كانت على جهة التّكليف بفعلها لكان وقوعها منه طاعة (٢) ، وهو عاص في هذه الأفعال إجماعا.

وقد أمر الله موسى عليه‌السلام بأخذ الحيّة ونهاه عن الخوف منها حيث قال له : (خُذْها وَلا تَخَفْ) [طه : ٢٠ / ٢١] والخوف أمر ضروري فلا يقع الأمر به جزما.

فكان الأمر له على جهة التّأنيس والإعلام بأنّها لا تؤذيه إذا أخذها. وكان مكلّفا إذ ذاك ولم يكن ذلك الأمر والنّهي له مشروعين. وكذلك قوله تعالى : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [القصص : ٢٨ / ٣٢] ، وقوله تعالى لأمّ موسى : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) [القصص : ٢٨ / ٧].

__________________

(١) في كلام المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ إشارة إلى آيات في سورة طه ، قال تعالى : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ، إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٧ ـ ١١٩]. قال القرطبي ١١ / ٢٥٣ : «أعلمه أن له في الجنّة هذا كلّه : الكسوة والطعام والشراب والمسكن ، وأنك إن ضيّعت الوصيّة وأطعت العدوّ أخرجكما من الجنة فشقيت تعبا ونصبا».

(٢) قول المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ «لكان وقوعها منه طاعة» أي : من الكافر.

٧٩

وكذلك قوله عليه‌السلام في الصّحيح إذ رأى رجلا يقطعه الآل (١) ، فقال : «كن أبا خيثمة» فإذا هو أبو خيثمة. فهذا أمر على وجه الخبر ، كأنّه يقول : هذا أبو خيثمة ، إلى غير ذلك.

ويكفيك أنّ الآخرة ليست بدار تكليف وفيها أوامر ونواه مثل قوله تعالى للمؤمنين على جهة البشارة : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [الزخرف : ٤٣ / ٧٠] ، وقوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) [الحجر : ١٥ / ٤٦] ، وقوله تعالى للكافرين على جهة الإغلاظ والتّرويع : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل : ١٦ / ٢٩] ، وقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ٢٣ / ١٠٨] على جهة التّحقير والخزي والطّرد. وقوله تعالى على جهة التّصيّر لأصحاب السّبت (٢) : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٢ / ٦٥] ، وقوله تعالى على

__________________

(١) في السيرة النبوية (ابن هشام ١ / ٥٢٠) في خبر غزوة تبوك أن أبا خيثمة رضي‌الله‌عنه كان تخلّف عن اللحاق بالجيش الإسلامي ، ثم إنه عزم وعجل حتى أدرك الجماعة عند تبوك ، ولما ظهر من بعيد عليهم قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كن أبا خيثمة ، فقالوا :يا رسول الله هو ـ والله ـ أبو خيثمة ، فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» .. الخبر.

ـ وقول المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ (يقطعه الآل) المعروف يرفعه الآل أي السراب ، يقال : رفع السراب الشخص أي زهاه فأبصرته من بعد.

(٢) ـ وهم الذين اعتدوا في السّبت.

ـ وقول المؤلف رحمه‌الله : (على جهة التصيّر) يشير إلى مسخ المخالفين قردة خاسئين. وتمام الآية الكريمة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي انتقلوا من حال البشرية الإنسانية إلى حال الحيوانية عقوبة ونكالا ، وفي سورة الأعراف (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة : ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤].

أي واسأل اليهود جيرانك عن أخبار أسلافهم ، وما مسخ الله منهم قردة وخنازير. وهذا سؤال تقرير وتوبيخ. وفيه دلالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبوّته. أي سلهم يا محمد عن القرية أما عذّبتهم بذنوبهم؟ وذلك بتغيير فرع من فروع الشريعة؟ وكان اليهود يكتمون هذه القصّة لما فيها من السبّة عليهم.

وكانت قرية إلى جانب البحر ، وقد خالف فريق من أهلها واعتدوا في السبت ، واصطادوا ـ وقد نهوا

٨٠