تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]

تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

المؤلف:

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]


المحقق: الدكتور محمّد رضوان الدّاية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-633-9
الصفحات: ١٧٦

هناك ، ممّا سأشير إليه بعد ، ونسجه بأسلوب أدبيّ متقن ، واضح ، سائغ ، مفهوم ، متسلسل.

والكتاب ينضح عن ثقافة منوّعة واسعة ، ومعرفة بالعلوم الإسلامية المختلفة ، وقدرة على استيعابها والتعبير عنها بأدواتها ، ولكنه لم يثقل النص بالمصطلحات أو التعقيدات المألوفة في مثل هذه المؤلفات.

وموضوع الكتاب كان يحتمل من المؤلف ـ رحمه‌الله ـ أن يوسّعه ويزيد في صفحاته ، ويوغل في التّفصيلات والتعليقات ، ولكنّه أراد أن يقدّم الموضوع المطروح مباشرة ، وأن يكتفي بما يوصل الفكرة ويؤدّي الغرض ، وفضّل أسلوب المساواة ، والعبارة القاصدة.

ولا أبالغ إذ أقول : إنّ صياغة الكتاب ، وأسلوب الكتاب ، وطريقة تناول فقراته ومعالجتها تعدّ في مزايا الكتاب ، وتضيف إليه أهميّة خاصّة.

وقد يلمح القارئ بعض المفردات الشديدة الوقع ، أو البالغة الحماسة وهذا صحيح ، ولكن المؤلّف لم يعتمد على إيحاء الألفاظ المشعّة للوصول إلى الإقناع ، على أنّه لم يكن يوفّر المفردة المناسبة في لحظة الحماسة لتعبّر عن خطورة الموقف ، أو لينفّس المؤلف عن قلمه وهو يذكر ترّهات أولئك الجاهلين أو المفسدين ، كقوله في المقدّمة : «... ثم قيّض الله لتلك الحكايات في هذا الوقت المنكوب شرذمة من المقلّدة المنتمين إلى الوعظ والتذكير ، فتراهم ينتقلون من المزابل إلى المنابر فيطرحون الكلام في وظائف التوحيد ، ومزعجات الوعد والوعيد ، وأقسام أهل الدّارين في الدرجات والدّركات ، ويخوضون في أحوال الأنبياء عليهم‌السلام ، ويتمندلون بأعراضهم على رءوس العوام والطّغام ولا مشفق على دين الله تعالى ، ولا محتاط على أغمار المقلّدة ، ولا زاجر ذا سلطان ، حتّى كأننا ملّة أخرى ...» إلخ.

٢١

وتتناول الفصول الرئيسية في الكتاب مسائل ، أو قضايا في سيرة الأنبياء المكرمين : داود ، وسليمان ، ويوسف ، وسيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وعزير ، وأيّوب ، ويونس ، وموسى ، عليهم‌السلام.

(وأضاف إلى ذلك كلاما عن السّيّدة البتول مريم العذراء ، وكلاما آخر في إخوة يوسف عليه‌السلام).

وقد كشفت كتابة المؤلّف ـ رحمه‌الله وأثابه كل خير ـ عن معرفة بعلوم القرآن ، والحديث ، وبسطة يد في التّفسير وما يتبعه ، ومعرفة واسعة باللّغة والأدب والأخبار ، والسّير ، والتواريخ ، ونفوذ في أمور الفقه ، والأصول ، والعقائد ، وقدرة على المناقشة ، وإتقان الأخذ والردّ ، والاستقراء والاستنتاج العلميّ العام ، والفقهيّ والأصوليّ.

مخطوط الكتاب

عنوان الكتاب الذي نقدّمه اليوم محقّقا هو : (كتاب تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأغبياء ، ومجموع نكت ما خصّ به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكرامات ليلة الإسراء عند لقاء الكليم وما كان بينهما من المراجعة والمحاورة في أمر الصلاة).

وقد جعلت العنوان مختصرا منه ، حتى تبقى له صفة العنوان ، ولأنّ موضوع الكتاب الأصلي هو الكلام في تنزيه الأنبياء ، أمّا سائر العنوان فيشير إلى فقرة (أو فصل قصير) أضافه المؤلّف إلى كتابه زيادة في بيان ما خصّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكرامات.

واعتمدت في نشر الكتاب على نسخة محفوظة في مكتبة الأسد الوطنية (كانت محفوظة في المكتبة العثمانية بحلب برقم ٦٤٣) تقع في ٦٦ ست وستين ورقة من القطع المتوسط ، وفي آخر هذه النسخة :

٢٢

«كمل بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه ، ووقع الفراغ من تحريره على يد الفقير الخاطئ المذنب الرّاجي عفو ربّه الكريم إسحاق بن محمود بن ملكويه ابن أبي الفيّاض الشابرخواستي البروجردي. غفر الله له ولوالديه ولجميع أمّة محمد برحمته الواسعة ، وذلك في الخامس عشر من صفر سنة ست وأربعين وست مائة بالقاهرة المحروسة المعزّية.

والأصل الذي انتسخ منه كان مقابلا بأصل المؤلف ـ رحمة الله عليه ـ.

والحمد لله وحده ، وصلواته على نبيّه محمد وآله وصحبه وعترته الطيبين الطاهرين».

وعلى غلاف الكتاب أسماء عدد من المؤلّفات والرّسائل التي ضمّها ذلك المجلد ، وهي بالنّص : «ـ وفيه طبقات الفقهاء للإمام العلامة أبي إسحاق الفيروزآبادي رحمه‌الله ـ وفيه مختصر من رسالة الاحتجاج للإمام الشافعي رضوان الله عليه تصنيف الحافظ العلاّمة أبي بكر بن ثابت الخطيب البغدادي رحمه‌الله ـ وفيه نصرة القولين للإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه تصنيف أبي العباس ابن القاص الطبري رحمه‌الله ـ وفيه القول في حقيقة القولين تصنيف الإمام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي رحمة الله عليه».

الراجي منه العفو والغفران إبراهيم بن الملاّ أحمد بن الملاّ محمّد الشهير بابن الملاّ العبّاسي الحلبيّ خادم الحديث النبوي وأهله. وبعده : «تحريرا في محرم الحرام ٩٩٧» ـ وسنعرّف بصاحب المخطوط فهو من أهل العلم والفضل ـ.

وحلّى المؤلّف في صفحة الغلاف بهذه العبارة «تأليف الشيخ الإمام الفقيه المرحوم أبي الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي ، عرف بابن خمير».

فنسخة الكتاب إذن نسخة عالية ، فهي مقابلة على أصل عرض على نسخة المؤلف.

٢٣

والناسخ : أحد علماء القرن السابع الهجري ، هو شمس الدّين أبو إبراهيم إسحاق بن ملكويه بن أبي الفيّاض البروجردي الشيخ الصّوفي المشرف ، قال فيه الصفدي في الوافي بالوفيات ٨ / ٤٢٤ : إنه من أكابر مشايخ الصوفية وقدمائهم ، ولد سنة سبع وسبعين وخمس مائة ب (بروجرد) وسمع من أبي طاهر لاحق بن قدرة ببغداد ،

وابن طبرزد ، والشيخ عبد القادر ، وأبي تراب الكرخي ، وغيرهم ، وسمع بالقاهرة من جماعة ، وكان يكتب خطّأ جيّدا ، ونسخ الكثير ، وصحب الشيوخ ، خرّج له ابن المنذري مشيخة ، روى عنه الدّمياطي والدواداري ، والمصريون ، قال : وهو ثقة نبيل لديه فضل. ولي إشراف الخانقاه مدّة ، وتوفي سنة تسع وستين وست مائة.

وفي هذه التّرجمة إشارة إلى إتقانه وضبطه ، وإلى نسخه الكثير من الكتب المختارة.

وقد ظفر الملحق الذي أضافه المؤلّف رحمه‌الله بتعليق لطيف من أحد مالكي النسخة على الورقة (٦١ / ب) ، والمعلّق أحد علماء زمانه في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريّين ؛ واسمه كما ذكره على الصفحة المذكورة ، وعلى ورقة الغلاف عند العنوان هو : إبراهيم بن أحمد بن محمد ؛ وتمامه مع ألقاب أفراد أسرته ، ونسبته كما سجلها بخطّه : «إبراهيم بن الملاّ أحمد بن الملاّ محمد الشهير بابن الملاّ ، المحدّث الحلبي العباسي».

ترجم المحبيّ في خلاصة الأثر لإبراهيم ، وأبيه أحمد ، وأخيه محمد بن أحمد. ونبّه إلى أنهم من أسرة علم وفضل ، وقد كان أبوه وأخوه من علماء العصر ، وكان جدّ والده قاضي قضاة تبريز ويعرف هذا بمنلا حاجي ، فاشتهر بيته في حلب ببيت المنلا (وتنبه الزّركلي ـ رحمه‌الله ـ إلى أنّ إبراهيم المذكور يكتب الملاّ هكذا بلا نون).

وأمّا أبوه أحمد فقد ترجم له المحبيّ في خلاصة الأثر ١ / ٢٧٧ ، وأثنى عليه بغزارة

٢٤

المعرفة ، وجودة التّأليف ، وحسن الشعر وقال فيه : «كان واحد الدهر في كل فن من فنون الأدب» ، وكانت وفاته سنة (١٠٠٣ ه‍).

وترجم المحبي لأخيه محمد المتوفى (١٠١٠ ه‍) في الخلاصة ٣ / ٣٤٨ ، وذكر عددا من مؤلفاته ونبذة من شعره.

وأما إبراهيم (وترجمته في خلاصة الأثر في ١ / ١١) فقد تتلمذ على أبيه وعلى غيره من علماء العصر ، واشتغل بالعلم ، وحج بعد الألف ثم رجع إلى حلب وانعزل عن الناس ، ولزم المطالعة والكتابة والتلاوة للقرآن كثيرا. وذكر له المحبي عددا من الكتب.

وكانت وفاة إبراهيم سنة (١٠٣٢ ه‍) كما في الزّركلي ، وقال المحبي : إن وفاته كانت حول سنة (١٠٣٠ ه‍).

وكتب

محمد رضوان الداية

٢٥

٢٦

٢٧

٢٨

٢٩

٣٠

كتاب تنزيه الأنبياء

عما نسب إليهم حثالة الأغبياء

ومجموع نكت

ما خصّ به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكرامات ليلة الإسراء عند لقاء الكليم ، وما كان بينهما من المراجعة والمحاورة في أمر الصّلاة تأليف الشّيخ الإمام الفقيه المرحوم أبي الحسن عليّ ابن أحمد السّبتيّ الأمويّ ، عرف بان خمير رحمة الله عليه

حققه وعلّق عليه وقدم له

الدكتور محمّد رضوان الداية

٣١
٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله

ربّ يسّر ولا تعسّر

الحمد لله العليّ العظيم العزيز الحكيم الّذي فطرنا باقتداره ، وصوّرنا (١) باختياره ، ورتّب صورنا في أحسن تقويم ، ومنّ علينا بالعقل السّليم ، وهدانا إلى الصراط المستقيم ، وقيّض لنا من السّادة الأعيان المؤيّدين بواضح البرهان ، المعصومين من كلّ صغير وكبير من اللّمم والعصيان ، سفرة من خاصّة الأخيار المرسلين الأبرار المشهود لهم بخالصة ذكرى الدّار (٢) ، ليفصلوا بين الحرام والحلال ، والتّرك والامتثال ، واختصّنا منهم بخاتم النّبيّين وسيّد المرسلين : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليهم أجمعين ، وعلى آلهم الطيّبين الطّاهرين من عهد آدم إلى يوم الدّين.

أمّا بعد : فإنّني قد استخرت الله تعالى في إملاء شرح بعض آيات رغب في إملائها بعض المحتاطين على الدّين غيرة منهم على أعراض النّبيّين لأن لاح في ضمنها بعض عتاب لهم في بعض فقرات لا تغضّ (٣) من أقدارهم ، ولا تنقص من كمالهم ، ولا تقدح في عصمتهم وكريم أحوالهم ، بما منّ الله به من فضله على من يشاء من عباده ؛ وذلك لما سلّط الله على سادات المرسلين من غثاء الفرق المضلّين من أوباش المعطّلة الضالّين ،

__________________

(١) في الأصل : (وطوّرنا) بالطاء ، ويرجح اختيار (صوّرنا) السياق التالي ، ولكل من الكلمتين معنى مناسب.

(٢) في مقدمة المؤلّف إشارات قرآنية كثيرة ، وهذه منها ، إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) [ص : ٣٨ / ٤٦] ، ووجّه المفسّرون معنى الآية على وجوه ، ومنها عن ابن زيد : أي يذكرون الآخرة ويرغبون فيها ويزهدون في الدنيا ، وعن مجاهد أي أخلصناهم بأن ذكرنا الجنّة لهم.

(٣) غضّ من الرجل : نقص ، ووضع من قدره.

٣٣

وأراذل اليهود والنّصارى ، ومقلّدة المؤرّخين والقصّاص المجازفين الجاهلين بحقيقة النّبوة ، وما يجوز على أنبياء الله تعالى ، وما يستحيل ، وما يجب على الكافة من تعزيرهم وتوقيرهم ، وتدقيق النّظر في استخراج مناقبهم على أتمّ الكمال وأعمّه ؛ فتراهم يتركون ما أوجب الله عليهم من التفقّه في آي القرآن ، من توحيد بارئهم وتنزيهه عن النّقائص ، ووصفه تعالى بما يجب له (١) من صفات الكمال والجلال ، ووصف أنبيائه بالصّدق والعصمة والتنزيه من الخطأ والخطل (٢) ، وكذلك ما جاءوا به من وظائف العبادات ، وما أخبروا به من المغيّبات ، والمواعظ بالوعد والوعيد ، والنّظر في الفرق بين الحلال والحرام والمشتبهات ، إلى غير ذلك ممّا لا تحويه الرّقوم ، ولا تحيط به ثاقبات الفهوم ، وما عسى أن أقول فيما قال الله تعالى فيه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٣١ / ٢٧] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ١٣ / ٣١] ، وقوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) [الحشر : ٥٩ / ٢١] ، إلى غير ذلك ، فترى بهائم (٣) قد صرف الله قلوبهم ، وطبع عليها بطابع النّفاق ينكّبون (٤) عن هذه الواضحات من الحكم البالغة والبراهين الصّادعة ، ويقصدون إلى أقوال وأفعال لهم يتخيّلونها مثالب في حقّهم ، فيهلكون ويهلكون من حيث لا يشعرون.

فلنذكر الآن ما نذكر منها لكونهم يستعملون ذكرها لتحصيل أغراض لهم فاسدة ، ثم نعطف على ما بقي منها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في الأصل : مما يجب ... ودقيق النظر.

(٢) الخطل : الكلام الفاسد الكثير.

(٣) شبّه هؤلاء الذين سمّاهم قبل قليل من ضعاف المؤرخين والقصاصين ومن ماثلهم بالبهائم ، وعلل هذا التشبيه في درج الكلام.

(٤) نكّب عن الطريق : عدل عنه ، والواضحات ، هي الطّرق الجادّة الواضحة المسالك ، ويقال في عكسها : بنيّات الطريق.

٣٤

[إشارات إلى بعض قصص الأنبياء]

فمنها قصّة داود عليه‌السلام مع زوج أوريا ، وقصّة سليمان عليه‌السلام مع زوجه جرادة ، وما كان من قصّة الجسد والكرسيّ ، وقصّة يوسف عليه‌السلام مع امرأة العزيز في الهمّ والمراودة ، وقصّة نبيّنا عليه الصلاة والسّلام مع زيد بن حارثة وزينب بنت جحش بن أميّة ، فيتأوّلونها تأويل من حلّ من عنقه ربقة (١) الشّريعة ويئس من رحمة الله ، ثم ينسبون بعض هذه الأقوال إلى كبار الصّحابة والتّابعين ليموّهوا بها على العوامّ لئلاّ يردوها عليهم ويقدحوا فيها ، ثم تراهم يتردّدون في نقل تلك الخرافات بالتّكرار على أوجه مختلفة ، تورّعا في نقل الرّواية ، تورّع الكلب الذي يرفع رجله عند البول ، وفمه في أعماق الجيفة! ثم قد قيّض الله لتلك الحكايات في هذا الوقت المنكوب (٢) شرذمة من المقلّدة المنتمين إلى الإرادة ، والقصّاص المدّعين في غرائب العلم وبواطن المعاني المنتمين إلى الوعظ والتّذكير ، فتراهم ينتقلون من المزابل إلى المنابر فيطرحون الكلام في وظائف التّوحيد ، ومزعجات الوعد والوعيد ، وأقسام أهل الدّارين في الدّرجات والدّركات (٣) ، ويخوضون في أحوال الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ

__________________

(١) الرّبقة : العروة في الحبل يشدّ بها رأس الشّاة ونحوها ، فاستعير اللّفظ للدّين ، فيقال : خلع ربقة الإسلام من عنقه ، إذا خرج عنه.

(٢) نكب الدّهر أهله نكبا ونكبا : بلغ منهم ، وأصابهم بنكسة.

ـ والمؤلف ، رحمه‌الله تعالى ، يشير إلى جماعة معروفين في زمانه ممّن يقعون في هذه الأخطاء والمفاسد والجهالات (ينظر مقدمة التحقيق).

(٣) الدّرجات : جمع الدّرجة ، وهي المرتبة من مراتب أهل الجنّة. والدّركات : جمع الدّركة ، وهي المنزلة السّفلى من منازل أهل النّار ، ضدّ الدّرجة.

٣٥

ويتمندلون (١) بأعراضهم على رءوس العوامّ والطّغام ، ولا مشفق على دين الله تعالى ، ولا محتاط على أغمار (٢) المقلّدة ولا زاجر ذا سلطان حتّى كأنّنا ملّة أخرى ، ولا نغار على ذمّهم ولا نرقب في أعراضهم إلاّ ولا ذمّة (٣).

وغرض هؤلاء الفسقة في سرد تلك الحكايات المورّطة قائلها وناقلها في سخط الله تعالى أن يهوّنوا الفسوق والمعاصي على بله العوامّ ، ويتسلّلوا إلى الفجور بالنّساء ، بذكرها لواذا (٤) حتى ترى المرأة تخرج من مجلس الواعظ إلى منزله ، فتسأله على التّفصيل فيزيدها أقبح ممّا أسمعها في الجمهور ، يقول لها : هذا أمر ما سلم منه عظماء المرسلين ، فكيف نحن؟!.

فلا يزال يهوّن عليها ما كان يصعب من قبل ، ف : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٢ / ١٥٦] ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٢٦ / ٢٢٧].

__________________

(١) يتمندلون : هذا فعل مشتقّ من (المنديل) ، والمنديل يتّخذ عادة للابتذال والامتهان ، وفي الشّفا (١٠٩٦) : «حدّثنا الثّقة أنّ أبا بكر الشّاشيّ كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى وفي ذكر صفاته ، إجلالا لاسمه تعالى ، ويقول : هؤلاء يتمندلون بالله عزّ وجلّ».

(٢) أغمار : جمع غمر ، وهو الّذي لم يجرّب الأمور (أصل الكلمة في الصّبيّ إذا لم يجرّب ، ثم قيلت في كلّ غرّ لم تعركه الحياة).

(٣) الإلّ : العهد ، والقرابة. والذّمّة : العهد ، قال تعالى متحدثا عن المشركين : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة : ٩ / ١٠].

(٤) يقال : لاذ بكذا لواذا ، أي لجأ إليه وعاذ به ، واستتر.

٣٦

ذكر ما اختلقوه في قصة داود (١) عليه‌السلام

فمن شنيع تخرّصهم (٢) في قصّته ـ عليه‌السلام ـ مع امرأة أوريا ، وقلّة مراعاتهم مع من جعله الله تعالى خليفة في الأرض وشدّ (٣) ملكه ، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب ، وسخّر له الجبال يسبّحن معه والطّير ، وألان له الحديد (٤) ، فممّا اختلقوه عليه أن قالوا :إنّه أشرف يوما من كوّة كانت في محرابه ، فرأى امرأة تغتسل في حجرتها ، فأعجبه حسنها ، ولين جانبها ، ورخامة دلّها (٥) ، فشغفه حبّها ، فالتفتت إليه فأسبلت شعرها على جسدها لتستتر منه ، فزاده ذلك شغفا بها ، ثم أرسل إليها يسألها : من

__________________

(١) قصة داود عليه‌السلام في : تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ٨٧ ، وعرائس المجالس ٢٧٩ ، وابن كثير ٢ / ٢٥٥ ، وتفسير الطبري ٢٣ / ٨٨ ـ ٩٤ ، وتاريخ الطبري ١ / ٤٨ ، وتفسير القرطبي ١٥ / ١٦٥.

(٢) تخرّص (وخرص) : كذب.

(٣) في المخطوط : (شدّد) ، واخترت (شد) لملاءمته الاقتباس القرآني (انظر الحاشية ٣).

(٤) في سورة [ص : ٣٨ / ١٧ ـ ٢٠] (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ* وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ).

وقوله تعالى في سورة [ص : ٣٨ / ٢٦] : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ..).

وفي قوله تعالى من سورة [سبأ : ٣٤ / ١٠] : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

فهذه هي الآيات التي استفاد منها المؤلّف ، رحمه‌الله ، في مقدّمة كلامه على قصّة سيدنا داود عليه‌السلام.

(٥) الرّخامة : لين المنطق ، حسن في النّساء.

٣٧

بعلها؟ فأخبرته أنّه أوريا ، فأرسل إليه فسأله أن ينزل له عنها بطلاقها ، فأبى ، فأمره بالخروج إلى الغزو ، وأرسل إلى صاحب الجيش أن يغزيه ويقدّمه للقتال في كلّ مأزق. ففعل صاحب الجيش به ذلك مرّات حتى قتل. فلمّا بلغ داود ـ عليه‌السلام ـ أنّه قتل ، أرسل إليها ليتزوّجها فأسعفته ، فتزوّجها ، وكان له مائة امرأة إلا واحدة فأتمّ بها المائة. فأرسل الله إليه إذ ذاك الملائكة فاختصموا عنده ، فأفتاهم بما يؤول دركه عليه (١) ، فخصموه (٢). ثم قال أحدهما للآخر : قم : فقد حكم الرّجل على نفسه! وصعدا إلى السّماء وهو ينظر إليهما ، فتفطّن إذ ذاك أنّهم ملائكة وأنّه فتن وأخطأ ، فاستغفر ربّه وخرّ راكعا وأناب.

فهذه من أقوالهم أقلّ شناعة وبشاعة ممّا سواها من الأقوال في كتب القصص والتّواريخ ، وبعض التّفاسير الفاسدة!

فصل

[ما يعول عليه في قصص الأنبياء]

والّذي ينبغي أن يعوّل عليه في هذه القصّة وما يضاهيها (٣) من القصص ، ما جاء به الكتاب العزيز ، أو ما صحّ عن الرّسول ـ عليه‌السلام ـ من الخبر ، وما سوى ذلك فيطرح هو ومختلقه وراويه إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم (٤).

__________________

(١) يؤول : يرجع. والدّرك : التّبعة ، أي : ترجع تبعة فتواه عليه.

(٢) خصموه : غلبوه في مجادلتهم ومحاورتهم.

(٣) يقال : ضاهى (يضاهي) ، وضاها (يضاهئ) أي شابه ، وماثل وفي سورة التوبة : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : ٩ / ٨].

فمعنى (يضاهئون) : يشابهون.

(٤) أي إلى الموت والهلاك! وهذه الكناية وردت في معلقة زهير :

٣٨

فصل [قصّة نبيّ الله داود عليه‌السلام]

فأمّا قصّة داود عليه‌السلام فهي مذكورة على الكمال مفصّلة في قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) إلى قوله (١) : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [ص : ٣٨ / ٢٤].

قال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) الآية.

اعلم ـ رحمك الله ـ أنّ استفهام الله تعالى لخلقه لا يجوز أن يحمل على حقيقة الاستفهام لوجوب إحاطة علمه تعالى بجميع المعلومات على أتمّ التّفصيل ، فلم يبق إلا أن يكون الاستفهام هنا بمعنى التّقرير والتّنبيه لنبيّه ـ عليه‌السلام ـ ليتهيّأ لقبول الخطاب ، وليتفهّم ما يلقى إليه من غرائب العلم وعجائب الكائنات ، وأمّا إفراد الخصم وهما خصمان ، فالعرب تسمّي الواحد بالجمع والجمع بالواحد على وجه ما ، فتقول : (خصما) للواحد والجمع (٢) ، كما تقول (ضيفا) للواحد والجمع ، وقال الله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) [الذاريات : ٥١ / ٢٤ ـ ٢٥] ، فسمّاهم باسم الواحد ونعتهم بالجمع في قوله : (الْمُكْرَمِينَ) ، وكذلك (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ).

__________________

ـ

فشدّ ولم يفزع بيوتا كثيرة

لدى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم

وفي اللّسان : أم قشعم : المنيّة ، والحرب.

(١) قال تعالى في سورة ص : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ* إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ* قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [ص :٣٨ / ٢١ ـ ٢٤].

(٢) في اللسان : (خ ص م) : قوله عزّ وجلّ (خَصْمانِ) أي نحن خصمان. قال : و (الخصم) يصلح

٣٩

ومعنى (تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) : أتوه من أعاليه ولم يأتوه من بابه ، ولذلك فزع منهم فإنّه خاف أن يكونوا لصوصا ، أو يكون بعض رعيّته ثاروا عليه. والمحراب في اللّسان : صدر المجلس وأحسن ما فيه ، ولذلك سمّي محراب المسجد محرابا. وقيل :

المحراب : الغرفة. وفي فزعه منهم ـ وكانوا ملائكة ـ دليل على أنّه ليس من شرط النّبوّة أن يعرف النّبيّ كلّ من يأتيه من الملائكة حتى يعرّف به ، وفيه أيضا دليل على أن الملائكة يتصوّرون على صور الآدميّين بأمر ربّهم وقدرته لا بقدرتهم ، وفي تصورهم كذلك عريض من القول لسنا الآن له ، لكنّ الذي يصحّ منها وجهان : إمّا أنهم ينسلخون من أبعاضهم (١) ، أو تنعدم من أجسامهم بالإمساك عن خلق الأعراض فيها ما شاء الله وتبقى ما شاء ، ثم يعيدهم إلى مقامهم كما كانوا قبل ، فإنّه ليس من شرط الحيّ العالم أن تكثر أجزاؤه ولا أن تقلّ ، فإن العالم منه جزء فرد.

وأمّا قوله (لا تَخَفْ خَصْمانِ) [ص : ٣٨ / ٢٢] ، ولم يكونا خصمين على الحقيقة ، ولا بغى بعضهم على بعض ، ولا اتّفق لهما ممّا ذكراه شيء (٢) ، ففيه دليل على أنّ الكذب أنّما يقبح شرعا ، فمن أمره الله تعالى أن يخبر بما وقع وبما لم يقع فأخبر به فهو مطيع ممتثل فاعل الحسن. ولذلك جاز لهم أن يقولوا للمعصوم : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ

__________________

للواحد والجمع والذكر والأنثى لأنّه مصدر خصمته خصما ، كأنك قلت ذو خصم.

وفي اللسان أيضا (ض ي ف) : والضّيف : المضيّف ، يكون للواحد والجمع كعدل وخصم.

(١) كذا عبارته ، وفي الفصيح أن (إمّا) إذا وردت في عبارة تكرّر ولا تتلقّى بحرف آخر ك‍ (أو) وغيره ، قال تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً).

(٢) أجيب أيضا بعدد من الأجوبة : ـ قالوا لا بدّ في الكلام من تقدير ، فكأنهما قالا : قدّرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقّ ، قال القرطبي : وعلى ذلك يحمل : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) لأن ذلك ، وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبّه داود على ما فعل.

ـ وقال الثعلبي : قيل كان المتسوّران أخوين من بني إسرائيل لأب وأمّ ، فلما قضى بينهما بقضيّة قال له ملك من الملائكة : فهلاّ قضيت بذلك على نفسك يا داود؟ ثم رجح الثعلبي الرواية الأولى أي أنهما كانا ملكين. ـ

٤٠