تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]

تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

المؤلف:

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]


المحقق: الدكتور محمّد رضوان الدّاية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-633-9
الصفحات: ١٧٦

السادس : أنّه لمّا كلّمها الوليد استبشرت بأنه سيقيم حجّتها عند قومها كالّذي فعل.

السّابع : وهي البشارة العظمى التي تثبت أنّ مقامها عند الجذع كان أعلى من مقامها في الغرفة. وهو قوله تعالى لها : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) [مريم : ١٩ / ٢٥].

وتتصور الكرامة في هزّها من أحد عشر وجها : أحدها : أنّه نبّهها على بركة يدها بأن تمسّ الشّيء فيظهر عليه بركة ذلك المسّ.

كما جاء في الصّحيح (١) عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث ، فلمّا اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها.

وكما قيل : (٢)

لو مسّ عودا سلوبا لاكتسى ورقا

ولو دعا ميّتا في القبر لبّاه

الثاني : أنّ الملموس كان جذعا ، والجذع في اللّسان هو : ساق النّخلة إذا جذّ رأسها ، يقول العرب : على كم جذع بيتك مبنيّ؟ وجاء في الخبر (٣) : «فحنّ الجذع إليه» وكانت أسطوانة في المسجد ، وقال تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٢ / ٧١] ولا يكون الصّلب إلاّ في الخشب. فصحّ أنّ ساق النّخلة إنّما يسمّى جذعا

__________________

(١) في مسند الإمام أحمد ٦ / ١١٤.

(٢) في اللسان : شجرة سليب : سلبت ورقها وأغصانها.

ووردت سلوب صفة للناقة التي ترمي ولدها ، وقال : ناقة سالب وسلوب ، مات ولدها أو ألقته لغير تمام ، وكذلك المرأة. وظبية سلوب وسالب : سلبت ولدها.

(٣) في مسند الإمام أحمد ١ / ٢٤٩ من حديث ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب إلى جذع قبل أن يتّخذ المنبر ، فلمّا اتّخذ المنبر وتحوّل إليه حنّ عليه ، فأتاه فاحتضنه فسكن ، قال :«ولو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة».

١٤١

إذا جزّ رأسه ، وإذا جزّ رأس النّخلة يبست فلا تلقح ولا تورق بعد ، فلمّا لمسته اخضرّ في الحين!.

الثالث : أن نبتت فيها أغصان وورق ورءوس النّخل إذا قطعت لا تخلف.

الرابع : أن أثمرت في الحين والنّخل لا تثمر إلا بعد ريح في أيّام كثيرة.

الخامس : أن صارت رطبا في الحين.

السادس : قوله : (جَنِيًّا) أي حان قطافها فصلحت للجني ، فإنها قد تسمى رطبا في أوّل نضجها قبل أن تصلح للجني ، على جهة المجاز.

وهنا لطيفة ، وهي أن الله تعالى آنسها بأن أراها مثلا بالجذع اليابس حين اخضرّ من غير سقي ، وبعد يبسه اخضرّ وأثمر في الحين كما [ولد] عيسى عليه‌السلام من غير فحل ، وتكلّم في الحين ، وتمّ خلقه دفعة ، وولد في الحين ، فتلك بتلك.

السابع : أن هزّتها فتساقطت ، ومعلوم أن هزّ مثلها على ما هي عليه من ضعفها ونفاسها لسوق النّخل لا يسقط الرّطب ، فإن كان أعطيت في الحين قوّة تهزّ بها النخل فتسقط رطبها فخرق كبير (١) ، وإن تساقطت الرّطب للمسها إيّاها فخرق آخر أكبر منه!.

الثامن : قوله لها : (فَكُلِي وَاشْرَبِي) [مريم : ١٩ / ٢٦] فإنّ فيه بشارة بسرعة الخلاص من ألمها ، فإنّ النّفساء لا تأكل ولا تشرب إلا بعد مدّة لشغلها بألمها.

التاسع : أنّه بشّرها بحصول الطّعام والشّراب عندها ، لأن كانت بأرض فلاة ، فإنّ الناس يخافون عدمهما في الفلوات.

__________________

(١) أي خرق للمعتاد ، وإعجاز.

١٤٢

العاشر : قوله لها : (وَقَرِّي عَيْناً) [مريم : ١٩ / ٢٦] فعلمت بكلامه الخارق أنّه لا يكذبها فأنست.

الحادي عشر : أنه علّمها كيف تجيب إذا سألها قومها في قوله لها : (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ١٩ / ٢٦].

ألا ترى إلى طمأنينتها إلى (مبارأة) (١) ولدها ، كيف أتت به قومها تحمله ظاهرا لهم. وقد كادت (٢) تفرّ به إلى بلد آخر أو تخفيه ما استطاعت فلا يشعر به قومها؟

فلمّا طابت نفسها به في إقامة حجّتها عند قومها أتتهم به تحمله ظاهرا لهم.

فهذه ـ رحمك الله ـ سبعة أحوال ثوّبها ربّها عليها بثمانية عشر حالا ، سبعة منها قبل الهزّ ، وأحد عشر بعده ، كلّها تتضمّن من البسط والأنس والكرامات ما يدلّ على رفعة شأنها وعزّة مكانها عند ربّها. فكيف تبخس هذه الصّدّيقة في حقّها وتحطّ عن مقامها في الهزّ؟!.

ويعضد ما رمناه من علوّ المقام لها في ذلك الوقت صحّة الشّبه في قوله تعالى لأيّوب عليه‌السلام : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أراد تعالى أن يريه عاقبة صبره ، وبركة تصرّفه ، وفائدة ركضه ، وثمرة لمسه الأرض بأخمصيه. ومعلوم أنّ المياه لا تنبع بسبب الرّكض ، على مجرى العادة (٣).

وإنّ الرّكض يخرج مخرج الهزّ حرفا بحرف.

__________________

(١) في الأصل المخطوط : (مبارات) غير واضحة ومهملة من النقط ، وكأنها كما رسمت : مبارأة.

ـ وفي اللسان : بارأت فلانا برئت إليه وبرئ إليّ.

(٢) في الأصل المخطوط : (كانت). ورجحت قراءة (كادت) لاستقامة المعنى.

(٣) قال الجوهري في الصحاح : الركض تحريك الرّجل ، ومنه قوله تعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) وفي اللسان : ركض الأرض والثوب : ضربهما برجله.

١٤٣

وكذلك قوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) [البقرة : ٢ / ٦٠] ، و [الأعراف : ٧ / ١٦٠] ، و [الشعراء : ٢٦ / ٦٣] ، أراد تعالى أن ينبع له الماء بواسطة الضّرب حتى تظهر كرامته عند بني إسرائيل.

وكذلك في البحر حين ضربه فانفلق (١).

وكذلك عيسى ـ عليه‌السلام ـ كان يركض القبور فيحيي الله به الموتى ، ويلمس الطّين فيصير طائرا بإذن الله.

وكذلك نبيّنا عليه‌السلام لمس الماء فنبع من بين أصابعه ، ولمس الطعام فنما وزيد فيه ، وتفل في بئر فعذبت وكثر ماؤها ، وتفل في عين عليّ كرم الله وجهه فبرأت من داء الرّمد ، وشربت أمّ أيمن بوله فبرأت من داء البطن ، وتفل على رجل أبي بكر الصّديق رضي‌الله‌عنه في الغار حين لسعته العقرب فبرئ في الحين (٢).

فليت شعري ما الّذي أغفل أولئك الجلّة (٣) عن هذه الأدلة حتّى يغضّوا من مقام مريم عليها‌السلام بالهزّ وهو الأعلى ، كما ترى أيها اللّبيب الفطن المتناصف؟!.

__________________

(١) تراجع الآية الكريمة من سورة [الشعراء : ٢٦ / ٦٣].

(٢) يراجع كتاب الشّفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (طبعة البجاوي بدار إحياء الكتاب العربية):

ـ نبع الماء ٤٠٢ ـ ٤٠٥ ـ وتكثير الطعام ببركته ودعائه ٤١٠ ، ٤١٢ ، ٤١٦ ـ وتفجير الماء.

ـ وإبراء ذوي العاهات (العين) ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ـ وشرب المرأة بوله ٩٠.

(٣) في الأصل : الخلّة ، وهو تصحيف صوابه : الجلّة أي العظماء السّادة ، يعني أهل الإشارة (الصوفيّة) الذين ذكرهم في أوّل حديثه عن مريم فقال : «... وذلك أن معظم أهل الإشارة رحمهم‌الله أصفقوا على أنّ مريم عليها‌السلام كان مقامها في الغرفة أعلى ممّا كان عند النخلة».

ـ ومعنى : أغفلهم : جعلهم يغفلون.

١٤٤

فإن قيل : إنّما كانت تلك الأفعال منهم على سبيل إظهار المعجزة لكونهم أنبياء ، ومريم ـ عليها‌السلام ـ لم تكن نبيّة.

قلنا : ليس الأمر كذلك ، بدليل أنّهم لو تحدّوا بتلك الخروق من غير تناول منهم لها فوقعت على وفق تحدّيهم بها لصحّت المعجزة ، وإذا صحّت المعجزة دون التّناول باللّمس والضّرب ، علم أنّ تلك الأفعال وقعت إكراما لهم زائدا على ثبوت المعجزة ، وأيضا فإنّ اللّمس والضرب والتّفل ليس من قبيل المعجزات ، فإنّه معتاد ، والمعتاد لا يكون معجزة.

فهذا هذا ، ومن اعترض من المقلّدة بالجزاف فعليه الدّليل ، ولا دليل ، فإنّ القوم الّذين قالوا ذلك لم يأتوا بدليل سوى ما نقرره من أنّ التوكّل فوق الكسب.

وهذه مسألة قد حفيت فيها الأقدام ، واضطربت الأفهام ، والأظهر فيها أنّ الكسب مع التوكّل إعلاء ، فإنّه يقع بالظّاهر ويبقى الباطن متوكّلا ، فإذا تصوّر الجمع بين الظاهر والباطن فالكسب الحلال ممّن جمع بينهما ، فهو إعلاء مقام ، لكونهما مقامين وعملين ، فلا منافرة بين التوكّل والكسب لاختلاف المجال. ومريم ـ عليها‌السلام ـ صدّيقة. ومن بعض مقامات الصدّيق الجمع بين الكسب والتوكّل.

وفي الكسب فائدة كثيرة (١) فإنّه مما ينفع النّاس ، ويصلح شئونهم ، ويقوم بمنافعهم في لباسهم وأقواتهم.

فلو ترك النّاس الكسب بالجملة لهلكت الأرض ومن عليها ، فقد تصورت فيه المنفعة العظمى.

وقد جاء عنه عليه‌السلام أنه قال (٢) : «سيّد القوم خادمهم».

__________________

(١) في الأصل : فائدة كثيرة. وتقرأ أيضا ـ من جهة المعنى ـ (فائدة كبيرة).

(٢) ورد الحديث في كشف الخفاء ١ / ٥٦١ ، وضعّفه.

١٤٥

وجاء عنه عليه‌السلام أنّه قال (١) : «النّاس عيال الله وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله».

والمنفعة على ضربين : دنيويّة وأخرويّة.

فالأخروية : إرشاد المكلّف وتعليمه ما يلزمه من وظائف التّكليف.

والدّنيوية : معالجة المعيشة بالأسباب العادية التي يقوم بها أود الحاجات وإبقاء رمق الحياة. فقد انحصرت المنفعة الدّنيوية في الكسب ، وفيه أيضا سبب للمنفعة الأخروية ، فإنّه لو لا سدّ الجوعة وستر العورة على مقتضى الشّرع ومجرى العادة لم تكن حياة ولا تصوّرت عبادة. فأهلا بالكسب وأهله فإنهم أحبّ الناس إلى الله تعالى.

وكيف يعاب الكسب أو يغضّ من قدره وقد أثبته سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه حيث قال (٢) : «جعل رزقي تحت ظلّ رمحي» يعني ما يأكل من الغنائم بسبب الكسب بالرّمح. وما فوق مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقام.

وأمر الله تعالى داود عليه‌السلام بالكسب حيث قال له : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ : ٣٤ / ١١] يعني سابغات الدّروع (٣). ولذلك أخبر عليه‌السلام أنّ داود عليه‌السلام كان يأكل من كسبه في عمل الدّروع.

وكذلك جاء في الأثر أنّ سليمان عليه‌السلام كان يأكل من عمل الخوص (٤).

__________________

(١) في كشف الخفاء ١ / ٤٥٧ برواية : «الخلق كلّهم عيال الله ، فأحبّ الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله» وأشار إلى روايات أخر ، ونقل عن النووي وابن حجر أنّ الحديث ضعيف ، ورد من طرق كلّها ضعيفة.

(٢) في مسند أحمد ٢ / ٥٠.

(٣) وفي سورة [الأنبياء : ٢١ / ٨٠] (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ).

(٤) في صحيح البخاري ٣ / ٩ من حديث المقدام رضي‌الله‌عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من أن يأكل من عمل يده ، وإنّ نبيّ الله داود عليه‌السلام كان يأكل من عمل يده».

١٤٦

وجاء عنه عليه‌السلام أنه قال (١) : «اطلبوا الرّزق في خبايا الأرض». يعني فيما يزرع. وقال عليه‌السلام لصاحب النّاقة (٢) : «اعقلها وتوكّل».

وهذه الأخبار تدلّ على إثبات الكسب شرعا ، وأنّه لا يقدح في التوكّل.

فخرج من هذه الأحاديث إثبات الكسب شرعا ، وأنّ مريم ـ عليها‌السلام ـ كان مقامها في تلك الحالة إعلاء ، لكونها جمعت بين الكسب والتوكّل.

وقد نظمت في ذلك على نقيض ما نظموه في قولهم إذ قالوا (٣) :

ألم تر أن الله أوحى لمريم

إليك ، فهزّي الجذع تساقط الرّطب

فقلت :

أما علموا أنّ المقام سما بها

لأن جمعت بين التوكّل والسّبب

بأن لمست جذعا فأينع رأسه

على الحين أفنانا وأثمر بالرّطب

كما مسّ أيّوب اليبيس برجله

ففارت عيون طهّرته من الصّخب

ومسّ كليم الله بالعود صخرة

ففجّر من أرجائها الماء فانسكب

ومسّ المسيح الطّين بالخلق فانتشا

طيورا بإذن الله أحياء تضطرب

ومسّ يمين المصطفى الماء نطفة

ففاضت عيون الماء من خلل العصب

فعضّ على هذه القولة يا أيها المتناصف الفطن بالنّواجذ ، وشدّ عليها كفّ الضّنين فإنها قولة مقصودة بالبرهان ، ونادرة ما أراني سبقت إليها. واعرف الرّجال بالعلم ، ولا يعرف العلم بالرّجال. فمن كلّ كلام مأخوذ ومتروك إلاّ من كلام صاحب القبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الحديث في كشف الخفاء ١ / ١٥٤ قال : «رواه ابو يعلى والطبراني والبيهقيّ بسند ضعيف عن عائشة».

(٢) الحديث في كشف الخفاء ١ / ١٦١.

(٣) في تسجيل القصة القرآنية ورواية مضمونها.

ـ والنّطفة : القليل من الماء ، يبقى في دلو أو قربة. ومن خلل العصب : أي من خلال عصب أصابعه عليه‌السلام.

١٤٧

فهذا ما منّ الله تعالى به في تنزيه الأنبياء عليهم‌السلام على ما تقتضيه الآي ، وما صحّ من الأخبار ، من غير أن يلحق بواحد منهم ذنب ولا ذمّ ، إذ لو جاز ذلك على البعض لجاز على الكلّ ، ومن قدح في عرض واحد منهم ألزم القدح في الكلّ.

وقد أجمعوا على أنّ من قال في زرّ نبيّ إنّه وسخ ، يريد بذلك تنقيصه أنّه يقتل ولا يستتاب ، احتياطا على أعراضهم السّنيّة أن لا يلحقها نقص ، فإنّهم في النّزاهة والعصمة كأسنان المشط ، لا يفرّق بين أحد من رسله.

وكيف وقد قال تعالى لسيّدهم ورئيسهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٦ / ٩٠] يعني بمكارم أخلاقهم وجميل أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم.

وقال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء : ٤ / ١٥٢].

وهذا هو الحقّ الذي يرغب فيه ولا يرغب عنه.

فإيّاك أيّها المقلّد الغرّ أن تسمع من كلّ ناعق غبيّ يدخل الميدان حاسرا حتى تأتيه كل طعنة سلكى نجلاء (١) ، فهو لا يعرف ما ألزمه تعالى من دينه ولا ما تخلّصه في معتقده ومعاملته عند الله تعالى فيتكلّم في تفاصيل أحوال المرسلين ورؤساء المقرّبين وهو لا يعرف النّبوّة ولا شروطها ولا ما يجب لها ويستحيل عليها. وقد جاء في الصّحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (٢) : «الرّؤيا الصّالحة من الرّجل الصّالح جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوّة». وجاء في خبر آخر : «من سبعين جزءا» فليت شعري إذا

__________________

(١) الطعنة السّلكى : المستقيمة. والنجلاء : الطّعنة الواسعة.

ـ وفي شعر امرئ القيس :

نطعنهم سلكى ومخلوجة

كرّك لأمين على نابل

(٢) الحديث في صحيح مسلم ٤ / ١٧٧٤ برواية : «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوّة» وذكر روايات أخر تؤدّي المعنى ذاته ، وفي رواية : «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوّة».

١٤٨

لم يكن للعلماء القيام بعلم سبعة من هذه السّبعين فما ظنّك بالجاهل الغبيّ الذي غايته تقليد أمّه في الشّهادتين فهو من الضّفادع والدّيدان في ضحضاح الغيطان (١) ، ويريد أن ينهض إلى مظانّ العقبان في شماريخ ثهلان (٢).

فصل

[الكلام في إخوة يوسف عليه‌السلام هل كانوا أنبياء؟]

فإن قال قائل : فإذا نزّهتم الأنبياء عليهم‌السلام مثل هذا التّنزيه فما قولكم في إخوة يوسف عليهم‌السلام ، وقد قال بعض من يؤبه (٣) له من المفسّرين والمؤرّخين القائلين بغير دليل بأنهم كانوا أنبياء؟.

فالجواب : أنّ إخوة يوسف عليه‌السلام عند ما واقعوا ما واقعوه مع أخيهم وأبيهم لم يكونوا أنبياء وأمناء الله ورسله. والدّليل على ذلك أنّ الكتاب العزيز جاء بأنّهم واقعوا كبائر وصغائر والإجماع منعقد على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام معصومون من الكبائر ، واختلفوا في الصغائر (٤) ، وقد أقمنا الدّليل على عصمتهم من الصّغائر بما فيه مقنع فيما تقدّم.

فأمّا جملة ما ارتكبوه منها ففي عشرين آية ، من قوله تعالى مخبرا عن أبيهم أنه

__________________

(١) الضّحضاح : الماء اليسير ، يصل إلى الكعبين. والغيطان : جمع الغوط والغائط ، وهو المطمئن الواسع من الأرض.

(٢) الشماريخ ، جمع الشّمروخ ، وهو رأس الجبل. وثهلان : اسم جبل طويل بالعالية ـ عالية نجد ـ في بلاد بني نمير (معجم البلدان : ثهلان).

(٣) يؤبه له : يفطن له ، أي هو ذو شأن.

(٤) أشهر من قال إن الأنبياء قد تقع منهم الصغائر : المعتزلة. وفي تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبّار عند تفسير قوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) : (إنّ وكزه كان على وجه الدفع لمّا أراد مخاصمته ولم يظن أنه يؤدّي إلى قتله وذلك كالمرء يؤدب ولده استصلاحا له فيؤديه إلى الموت.

وهذا من الصغائر التي نجوّزها على الأنبياء) ٣٠٩.

١٤٩

قال ليوسف عليه‌السلام : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) [يوسف : ١٢ / ٥] إلى قوله تعالى مخبرا عن نفسه : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) [يوسف : ١٢ / ١٠٢] فتتّبع الآي تجد العدد المذكور فما أحيلك على مبهم ولا على خبر ضعيف الإسناد. ومعلوم أنّ الله عزّ وجلّ ما أطلق هذه الأقوال وأمثالها على أنبيائه وأصفيائه في كتاب ولا سنة ، ولا أمر بإطلاقها عليهم ، ولا باعتقادها فيهم.

فأمّا الكبائر الّتي فعلوها وهي لا تجوز على الأنبياء عليهم‌السلام فخمسة : ١ ـ ظلم الأخ المسلم لا سيّما أخ مثل يوسف.

٢ ـ وعقوق الأب لا سيّما أب مثل يعقوب عليه‌السلام.

٣ ـ والكذب في قصة الذّئب المؤدّي إلى فراق أخيهم من أبيهم على حداثة سنّه وضعف منّته (١) ، وتفجّع أبيهم على فقده حتى ابيضّت عيناه من الحزن.

٤ ـ وبيعه من الكفرة بثمن بخس على قول (٢) وهو مؤمن حرّ ، وأخوهم ؛ وابن نبيّ.

٥ ـ ووصمة أخيهم يوسف عليه‌السلام بعد ثبوت نبوّته حين قالوا له : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ١٢ / ٧٧]. فنبزوه بالسّرقة حتى ألجئوه أن يقول لهم : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف : ١٢ / ٧٧].

أو هذه ـ رحمك الله ـ أخلاق الأنبياء عليهم‌السلام؟ أو يسوغ أيضا أن يكذّب النبيّ عشرة أنبياء حتّى يقول لهم أبوهم النّبيّ بعد ما جاءوه عشاء يبكون ، وقالوا إنّ

__________________

(١) المنّة : القوة.

ـ في سورة [يوسف : ١٢ / ٨٤] : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ).

(٢) أي على قول من قال إن المشترين (السيّارة) كانوا من الكفّار.

١٥٠

يوسف أكله الذّئب : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ١٢ / ١٨] وهذا هو فحوى التّكذيب؟!.

فهذه خمس كبائر ، أربعة منها فعلوها على القطع والخامسة الّتي هي بيع الحرّ مختلف فيها فإنّ الله تعالى يقول : (شَرَوْهُ) [يوسف : ٢٢ / ٢٠] فيحتمل أن تعود الهاء عليهم أو على السّيارة ، وهو الأظهر.

وأما الصّغائر فخمس عشرة على أنّ كلّ ذنب عصي الله تعالى به فهو كبيرة. لكن يتأكّد الوعيد على بعضها بما ورد من الظّواهر فيتصوّر فيها الصّغر والكبر ، كما تقدّم.

فمن قال إنّهم كانوا أنبياء عند ما واقعوا هذه الكبائر فيلزم أن يجوّز وقوعها على من سواهم من الأنبياء عليهم‌السلام لتساويهم فيما يجب لهم من العصمة كما سبق ، والجائز كالواقع ، مع خرق الإجماع الواجب الاتّباع في عصمتهم من الكبائر ، والعياذ بالله من شؤم الجهل وأهله!.

فإن قيل : ولعلّ هذه الأفعال كانت في شريعتهم غير كبائر ، قلنا : إنما وقع الإجماع على أن كبائر شريعتنا لا تجوز عليهم.

والخمسة التي أخبر تعالى عنهم بها كبائر في شريعتنا ، وأمّا شرائعهم فما نعلم كبائرها من صغائرها ، ولا كلّفنا ذلك.

فصل

ثمّ يطلب هذا الغمر البليد (١) بثبوت نبوّتهم من أين علمها؟ إنّ النّبوة لا تثبت بالعقول ولا بخبر الواحد الذي لا يحصل به العلم ، ولا يثبت أيضا بقرينة الحال ولا تحميل الأعمال كما زعمت المعتزلة وغلاة الباطنية القائلين باكتساب النّبوة. فإنّ غير

__________________

(١) الغمر : الذي لم يجرّب الأمور.

١٥١

النّبي من الأولياء قد يصحّ منه ذلك ، وقد يصدر من أهل الرّياء من الأعمال والقرائن مثل ذلك (٢).

فإن قيل : فإذا لم تصحّ النّبوّة من هذه الوجوه فمن أين تصحّ؟

قلنا : تصحّ من وجهين : أحدهما أن يأتي النبيّ في زمان تصحّ فيه النبوّة فيدّعي النّبوة ويتحدّى الناس بالمعجزة فيفعلها الله له على وفق دعواه.

أو ينصّ على نبوّته نبيّ آخر نصّا متواترا لا يحتمل التّأويل ، كما نص الله تعالى في محكم كتابه على الستّة والعشرين الذين أوّلهم آدم وآخرهم محمّد عليهم الصّلاة والسّلام ، فهؤلاء هم الأنبياء الّذين من أنكر نبوّة واحد منهم أو قدح فيها قدحا يخلّ بشرط من شروط نبوّتهم فهو كافر ، حلال الدّم والمال ، مخلّد في نار جهنم بالإجماع المتواتر ، فهؤلاء هم الأنبياء حقّا ومن أثبت نبوّة غيرهم على التّعيين فعليه الدّليل ، مع أنّا نعلم أنّ ثمّ أنبياء لله أخر جاء بهم القرآن في قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٤٠ / ٧٨] لكن لم يقع التّنصيص في الكتاب إلاّ على نبوّة عدد من ذكرناه. فأمّا من ذكر منهم في أخبار الآحاد فمظنون.

فصل

فإن قيل : ولعلّ نبوتهم تثبت من الكتاب في قوله تعالى حين عدّد الأنبياء عليهم‌السلام قال : (وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) [البقرة : ٢ / ١٣٦] ، و [آل عمران : ٣ / ٨٤] ، و [النساء : ٤ / ١٦٣].

__________________

(٢) ذكر القشيري في ترجمة أبي يزيد البسطاميّ قوله : «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغترّوا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة» الرسالة القشيرية ٣٩٧.

ـ وانظر كتاب الفصل في الملل والأهواء والنّحل ٣ / ١١٩ في تسفيهه القول باكتساب النبوّة وزعم من زعم أنّ من بلغ الغاية من الصّلاح وطهارة النفس أدركها!.

١٥٢

والأسباط إخوة يوسف واحدهم سبط.

قلنا : ليس كما قلت ، فإنّ الأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل.

واحدهم : سبط. وهم اثنا عشر سبطا لاثني عشر ولدا ليعقوب عليهم‌السلام ، وإنّما سمّوا هؤلاء أسباطا ، وهؤلاء قبائل ، ليفصل بين ولد إسماعيل وولد يعقوب تسمية ، هكذا نصّ عليه أهل اللغة (١).

فإن قال قائل : فما معنى دخولهم في العدد مع الأنبياء وليسوا بأنبياء؟.

والجواب : أنّ القرآن مقصود بالإيجاز الذي هو مخّ البلاغة ، وكانت النبوّة تترى في بني إسرائيل وكان أثلهم من أولاد يعقوب وهو إسرائيل.

فلمّا عدّد الله تعالى من كان قبل من الأنبياء على التّفصيل أوجز فقال : «والأسباط» يعني أنبياء الأسباط على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. ثم خصّص بعد ذلك عظماءهم بالذّكر فقال : (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [النساء : ٤ / ١٦٣] فبدأ بالتّفصيل وختم بالتّفصيل ، فتضمّن الطّرفان الواسطة. وصحّ التّشريف لمن خصّص بالذّكر في الآحاد.

وهذا التّخصيص ينظر لقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٢ / ٩٨] وهما من الملائكة ، وقال تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٥٥ / ٦٨] وهما من الفاكهة.

وكذلك ذكر معظم الأصناف التي كانت النبوّة تترى فيهم ثمّ خصص عظماءهم بالذّكر تشريفا لهم صلوات الله عليهم أجمعين. ومصداق هذا التّفسير أنّ ذكر الأسباط إنّما وضع تسمية عوضا من القبائل كما تقدّم ؛ فلو كانوا كلّهم أنبياء كما زعم الجهلة لكان كلّ

__________________

(١) في اللسان (س ب ط) : السّبط من اليهود كالقبيلة من العرب ، وهم الذين يرجعون إلى أب واحد ، سمّي سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق.

١٥٣

من انتسل من بني يعقوب عليه‌السلام نبيّا ، وقد قال تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) [الأعراف : ٧ / ١٦٨] ، وقال تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات : ٣٧ / ١١٣] ، وقال : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) [الأعراف : ٧ / ١٦٠] ، فسمّاهم أسباطا وأمما ، ولم يسمّهم أولادا ولا أبناء.

فإن قيل : فقد جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال (١) : «الحسين سبط من الأسباط» ، فمعناه أنه يقوم في العبادة ، والقيام بحقّ الله تعالى مقام سبط كما قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) [النحل : ١٦ / ١٢٠] وقال عليه‌السلام في قس (٢) : «إنّي لأرجو أن يحشر أمّة وحده» هكذا حكاه الهروي في كتاب (الغريبين).

فإن قيل : ولعلّهم سمّوا أسباطا ـ وهم أولاد ـ تجوّزا واتّساعا كما سمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحسين سبطا حيث قال : «الحسين سبط من الأسباط» وهو ولد.

قلنا : هذا التجوّز إنما صحّ في الحسين رضي‌الله‌عنه لسبق المعرفة ببنوّته من وجه آخر ، فلو أخبر تعالى أن يهوذا سبط من الأسباط ثم عدده في جملة الأنبياء بلفظ السّبط لصحّت نبوّته ، وهذا لم يقع فلا حجّة للخصم في هذه القولة ، ولو صحّ لما صحّت نبوته إلاّ بعد التّوبة والإنابة واشتراط العصمة في حال الوهلات كما زعم الخصم.

وأمّا غير هؤلاء من أهل النّظر فتوهّموا نبوّتهم من قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه‌السلام حيث قال : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) [يوسف : ١٢ / ٦].

__________________

(١) الحديث في النهاية في غريب الحديث ٢ / ٣٣٤.

(٢) جاء في الأغاني ١٥ / ١٩٢ في ترجمة قسّ بن ساعدة أنّه : «أوّل من قال في كلامه : أمّا بعد ، وأوّل من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا ، وأدركه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النبوّة ، ورآه بعكاظ فكان يأثر عنه كلاما سمعه منه ، وسئل عنه فقال : يحشر أمّة وحده».

١٥٤

وهو لم يمتّ إلى قريب في اللّسان لأنّ الآل أقرب في اللّسان للبنوّة من الأسباط ، لكن (الآل) تحتمل البنين وتحتمل التّبع (١) ، قال تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٠ / ٤٦] أي تبعه. وفي السّنّة (٢) : «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آله وأزواجه وذرّيته» فذكر الآل ثم ذكر الذّرية. فلو كان الآل من الذريّة لم يصحّ العطف.

فإن قيل : ولعلّ ذكر الذرية بعد ذكر الآل تخصيص التّشريف كما قال تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٢ / ٩٨].

قلنا : إذا بقيت (لعلّ) فقد تطرّق الاحتمال واطّرد الإشكال. والنّبوّة لا تثبت بالاحتمال. ويحتمل أن يكون التّمام على الآل بما دون النّبوة من الولاية والصّدقيّة ، وإذا دخلت هذه الاحتمالات لم يصحّ القطع على نبوّتهم في هذه الآية ، ومع تسليم هذه التقديرات جدلا فلا تصحّ نبوتهم عند مواقعة الأفعال التي ذكر تعالى عنهم أصلا ، فإنه كان يؤدّي إلى أن يجوز على أنبياء الله عزّ وجلّ كلّ ما فعلوه لصحّة التّساوي الّذي قدّمناه. فهذا ـ رحمكم الله ـ هو الحقّ الذي يرغب فيه ولا يرغب عنه.

وبعد هذا التتبّع فلا يبقى لقائل مستروح (٣) إلى ثبوت نبوّتهم إلا من هذه الوجوه المتقدّمة ، وهي مظنونة ولا سبيل إلى القطع في واحد منها. فالله الله أيّها المسترشد المحتاط على دينه إن لم تكن من أهل النّظر القويم على الصّراط المستقيم ، فما كلّ سوداء تمرة ولا كلّ بيضاء شحمة (٤)!.

__________________

(١) اللسان (أول).

(٢) في صحيح مسلم ١ / ٣٠٦.

(٣) أي مستند واحتكام.

(٤) المثل في مجمع الأمثال ٢ / ٢٨١.

١٥٥

واجتهد فيمن تأخذ عنه دينك ، وجنّب الجهّال مرّة ، وجنّب وعّاظنا ومريدينا في هذا الزمان المنكوب المنكوس ألف ألف مرة! فإنهم أضرّ على دينك من الأفاعي الصّفر (١) ، لا سيما في هذا العويلم (٢) المتهافت الدّعيّ في الإرادة بالنوافج (٣) ومغالطة البله الأغمار (٤) من النّساء وفحول النّساء فإنّهم انتهكوا حرمة الأنبياء عليهم‌السلام ، حتى تشبّهوا بهم وربّما أربوا (٥) عليهم بادّعاء الإلهيّة بالفيض والإشراق (٦) الّذي ادّعته القرامطة حتى يلقى أحدهم امرأة أو غلاما فيقول له : «رأيت الله فيك»! إلى غير ذلك من أمور هي أشنع وأبشع من أن تذكر أو تسخّم (٧) بها الأوراق.

والّذي ورّط هؤلاء الأرجاس (٨) في هذه الرّذائل عدم الزّاجر وقلّة الغيرة في الدّين. فانظر عمّن تأخذ دينك وكيف تأخذه ، وقد نصحتك والسّلام.

وقد نجز التّنبيه على التّنزيه بمعونة الله تعالى.

ونسأل الله الذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة أن يعفو عنّا فيما وقع فيه من الخطأ والخطل ، بمنّه ولطفه ، والختم بالصّلاة والتسليم على الأنبياء عموما وعلى نبيّنا خصوصا وعلى آله وآلهم وسلّم تسليما.

__________________

(١) ضرب الأفاعي الصّفر مثلا لشدّة السميّة.

(٢) العويلم تصغير العالم.

(٣) النّوافج : ما يتنفج به (يتكثّر) من الحجج الضعيفة والآراء المتهافتة ، والمخارق ..

(٤) الأغمار : جمع الغمر ، وهو الذي لم يجرّب الأمور.

(٥) أربوا عليهم : زادوا.

(٦) انظر الملل والنحل للشهرستاني ، على هامش الفصل في الملل والأهواء والنّحل لابن حزم ٢ / ٣٠.

(٧) تسخّم : تسوّد ، من السخام ، وهو الهباب الأسود المتشكل من الدّخان (غاز الفحم ..) وفي الأصل :تسخم به ، وأصلحت العبارة بما يناسب السياق ، والأوراق مؤنثة.

(٨) الأرجاس : القذرون ، والرّجس : القذر.

١٥٦

مجموع نكت من بعض ما خص به نبيّنا عليه‌السلام

من الكرامات ليلة الإسراء عند لقاء الكليم عليه‌السلام وما كان بينهما من المراجعة والمحاورة في أمر الصّلاة (١). ثم ننبّه بعد ذلك على فضل هذه الطاعة العظيمة وتعدّد أعمالها على التّفضيل فروضا وسننا وأجورا لتتأكد على المصلّين الرّغبة في أدائها ، ويزدجر التّاركون لها لما فاتهم من خيرها ، ولما يتوقّعون من الوعيد على تركها ، إن شاء الله تعالى.

فإن [قال] قائل : لم اختصّ نبيّنا عليه‌السلام موسى عليه‌السلام بخبر الصّلاة وتفاوض معه فيها وهو في السّادسة ، وقد مرّ بإبراهيم عليه‌السلام في السّابعة ، ولم يخبره بذلك مع أنه أب ، ومع قوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٢٢ / ٧٨] فقد

__________________

(١) جاء في حديث الإسراء : «... فأوحى الله إليّ ما أوحى ؛ ففرض عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم وليلة.

فنزلت إلى موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما فرض ربّك على أمّتك؟ قلت : خمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربّك ، فاسأله التّخفيف ، فإن أمّتك لا يطيقون ذلك ، فإنّي قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال ، فرجعت إلى ربّي فقلت : يا ربّ! خفّف على أمّتي. فحطّ عني خمسا. فرجعت إلى موسى فقلت :حطّ عني خمسا. قال : إنّ أمّتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف. قال : فلم أزل أرجع بين ربّي تبارك وتعالى وبين موسى عليه‌السلام حتى قال : يا محمّد : إنّهنّ خمس صلوات كلّ يوم وليلة ، لكلّ صلاة عشر ، فذلك خمسون صلاة. ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا. ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم تكتب شيئا ، فإن عملها كتبت سيّئة واحدة.

قال : فنزلت حتّى انتهيت إلى موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال : ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقلت : قد رجعت إلى ربّي حتّى استحييت منه» صحيح مسلم ١ / ١٤٦ ، وانظر الحديث بتمامه ثمّة.

١٥٧

شاركه في الملّة والأبوة ، فلم أخذ في القصّة مع موسى عليه‌السلام ولم يأخذ فيها مع إبراهيم عليه‌السلام مع هذه المرّات؟ وتصوّر المسألة مبنيّ على ما جاء من أنّ موسى عليه‌السلام في السّادسة وإبراهيم عليه‌السلام في السّابعة. ومن صحّ عنده أنّ موسى في السّابعة وإبراهيم عليه‌السلام في السّادسة فلا غرو أن يتفاوض مع أول من لقي من الأنبياء ، وإن صحّ أنّ موسى عليه‌السلام في السّادسة وإبراهيم عليه‌السلام في السّابعة كما تقدّم فلا بدّ من ذكر اختصاصه معه في المفاوضة. وذلك يحتمل خمسة أوجه :

الأول : منها أن يكون موسى عليه‌السلام سأله إذ مرّ به ، وإبراهيم عليه‌السلام لم يسأله ، فلمّا لم يسأله لم يخبره.

الثاني : أنه اختصّ موسى بالمفاوضة لأنه قد حنّكته معالجة بني إسرائيل قبله ، وجرّبهم فلم يفوا بما كلّفوا ، وإبراهيم عليه‌السلام بعث بالموعظة الحسنة ، فلم يقبل في الإيمان ، فلم تقع طاعة ، فلم تتصوّر تجربة ، وإن كان قبله أفذاذ من الناس فالنّادر لا يحكم به. ويعضد هذا التفسير قول موسى عليه‌السلام له : «ارجع إلى ربّك فاسأله أن يخفّف عن أمتك فإنّي قد عالجت بني إسرائيل قبلك» ... الحديث. فقصد عليه‌السلام موسى لأنّه كان مجرّبا.

الثالث : أن إبراهيم عليه‌السلام أب وموسى أخ ، وكان في معلوم الله تعالى أن يسعف موسى عليه‌السلام من وجه ولا يسعفه من وجه ، حيث قال له موسى عليه‌السلام بعد فرض الخمسة : «ارجع إلى ربّك فقال : إني أستحيي» فيسوغ هذا في مراجعة الأخ ولا يسوغ في مراجعة الأب.

الرابع : أن موسى عليه‌السلام كان له حظّ في أجور هذه الأمّة في قوله عليه‌السلام لمّا أخبر بتضعيف (١) أجور أمّة أحمد وفضلهم على جميع الأمم : «قال ربي اجعلني من أمة أحمد».

__________________

(١) أي بمضاعفة.

١٥٨

قاله يفاوضه في ذلك ليحلب حلبا له شطره ، قال تعالى لنبينا عليه‌السلام : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [القصص : ٢٨ / ٤٤] ، قال المفسّرون (١) : يعني إذ قضينا في فضلك وفضل أمّتك حتى قال موسى : «ربّ اجعلني من أمة أحمد».

الخامس : أن يكون قصده لموسى للشّبهة التي كانت بينه وبين نبيّنا عليه‌السلام في البعث بالسّيف ، والتّنجيم في العقوبة ، وكانت خصوصا في بني إسرائيل بامتداد الأيام وكثرة السامعين المطيعين له ، وكثرة التّبع ، فإنّه ما بعد تبع نبيّنا عليه‌السلام في الآخرة من هو أكثر من تبع موسى عليه‌السلام كما جاء في الخبر (٢). ومصحح الشبهية في هذه الوجوه قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) [المزمل : ٧٣ / ١٥] فاختصّه بالشّبهيّة في الإرسال دون غيره.

فهذه أوجه يتصور فيها التّخصيص بالانحياش والمفاوضة إلى موسى عليه‌السلام.

وأما فوائد فرض الصلاة في ذلك المقام فلنذكر منها ما منّ الله تعالى به على جهة الاختصار ، وهي تنقسم أربعة أقسام :

__________________

(١) انظر القرطبي ١٣ / ٢٩١.

(٢) في مسند الإمام أحمد ١ / ٤٢٠ من حديث عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت عليّ الأنبياء بأممها وأتباعها من أممها ، فجعل النبيّ يمرّ ومعه الثلاثة من أمّته ، والنبيّ معه العصابة من أمّته ، والنبيّ معه النّفر من أمّته ، والنبي معه الرجل من أمته ، والنبيّ ما معه أحد ، حتى مرّ عليّ موسى بن عمران صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كبكبة من بني إسرائيل فلمّا رأيتهم أعجبوني ، قلت : يا رب من هؤلاء ، فقال : هذا أخوك موسى بن عمران ومن معه من بني إسرائيل ، قلت : يا ربّ فأين أمتي؟ قال : انظر عن يمينك ، فإذا الظّراب ظراب مكّة قد سدّ بوجوه الرجال. قلت : من هؤلاء يا رب ، فقال :أمتك ، قلت : رضيت يا ربّ ...» إلى آخر الحديث.

١٥٩

قسم في فضلها على سائر العبادات.

وقسم في فضل نبيّنا عليه‌السلام على سائر الأنبياء وإظهار إكرامه في ذلك المقام عند الملأ الأعلى.

وقسم في اهتمامه بأمّته واحتياطه عليهم في طلب التخفيف عنهم.

وقسم في لطف الله تعالى بهم حيث حطّ عنهم كلفة خمس وأربعين وأبقى لهم أجر الخمسين.

فأمّا فضلها على سائر العبادات

أولا : لكونها فرضت في المقام الأسنى على بساط العزّة بحضرة الملأ الأعلى ، وفي هذا تنويه بهذه الطاعة وتشريف لها على سائر العبادات ، حتى إنّ الله تعالى يسأل الحفظة في كلّ يوم وليلة (١) : كيف تركتم عبادي؟ فلا يذكرون له من أعمال البرّ في التّرك والإتيان سوى الصّلاة وذلك لما سبق لها من العلم بفضلها وتعظيمها حين فرضت في ذلك المقام.

وأمّا من جهة التّعليل فإنّها عبادة تشمل الجسد ظاهرا وباطنا ، وتجمع عبادات الملائكة كما شهد الخبر (٢) أنّ منهم قوّاما ، ومنهم ركّع ومنهم سجّد ، ومنهم ذاكرون مسبّحون حامدون ، فهذه الأحوال كلّها قد جمعتها الصلاة حتى [لا] يفوت ابن آدم عمل من أعمال الملائكة ، مع ما جاء في الأخبار من الحض عليها وتعظيم الوعد والوعيد على فعلها وتركها في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله.

__________________

(١) في الموطأ ١ / ١٧٠ ، من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتعاقبون فيكم : ملائكة باللّيل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر ، وصلاة العصر ، ثمّ يعرج الّذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون».

(٢) ينظر تفسير سورة (الجن) في كتب التفسير ، مثل الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ١٩ / ١٢ وما بعدها.

١٦٠