تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]

تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

المؤلف:

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]


المحقق: الدكتور محمّد رضوان الدّاية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-633-9
الصفحات: ١٧٦

شرح قصّة موسى

عليه‌السلام (١)

في الآية المتضمنة قتل الكافر.

قال تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ٢٨ / ١٥]. إلى قوله : (فَقَضى عَلَيْهِ) [القصص : ٢٨ / ١٥].

فمن أقوال المخلّطة في هذه القصّة ، أن موسى عليه‌السلام قتل القبطي من أجل العبرانيّ ، لأن كان العبرانيّ من قبيله والقبطيّ من غير قبيله. فصيّروا الكليم عليه‌السلام متعصّبا لأجل قبيله وعشيرته ، وليس الأمر كذلك ، وحاشاه من ذلك.

فإنّ هذه هي حميّة الجاهليّة ، وإنما مرّ موسى عليه‌السلام برجلين يقتتلان أحدهما يعرفه مؤمنا والآخر يعرفه كافرا ، فاستغاثه المؤمن على الكافر ، فوكز الكافر ليحمي المؤمن فصادف مقتلا من مقاتله بتلك الوكزة فمات.

فصل

فإن قيل : من أين لكم أن تحكموا بإيمان أحدهما وكفر الآخر ، وإنّما نطق الكتاب ب «رجلين» أحدهما من شيعته ، أي من بني إسرائيل ، والآخر من عدوّه لكونه من القبط؟!.

__________________

(١) شرح قصة موسى عليه‌السلام في تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ٦٧ ، وعرائس المجالس ١٧٢ ، وابن كثير ٢ / ١٢ ، وتفسير الطبري ٢٠ / ٢٨ ، وتاريخ الطبري ١ / ٣٩٠ ، وتفسير القرطبيّ ١٣ / ٢٥٩.

١٢١

فنقول : ومن أين علمتم أيضا أنّ أحدهما [كان] قبطيا والآخر [كان] سبطيّا ، والكتاب إنّما نطق برجلين؟!.

فإن قالوا : لقوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) والشّيعة : القبيل والرّهط ، فمن أين نقلتم الحقيقة إلى المجاز ، ومن أين صحّ لكم العلم بكفر أحدهما وإيمان الثّاني؟!.

فنقول : علمنا ذلك من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ شيعة الكافر قبيلة ونسيبه وصنفه. وشيعة المؤمن إنّما هو شريكه في الإيمان ، كان من قبيله أو من غير قبيله. قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ٤٩ / ١٠].

وقال في قصّة إبراهيم عليه‌السلام مع أبيه : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ٩ / ١١٤].

وقال في الكفرة : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ٢٣ / ١٠١].

وقال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس : ٨٠ / ٣٤ ـ ٣٦].

والمرء هذا : الكافر ، بدليل قوله تعالى : (الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٤٣ / ٦٧].

والأخلاّء هنا المؤمنون.

وقال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ١٥ / ٤٧].

١٢٢

وقال تعالى في الكافر : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) ، إلى قوله : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان : ٢٥ / ٢٧ ـ ٢٨].

إلى غير ذلك ممّا جاء في الكتاب والسّنة من تبرّئ المؤمن من الكافر. ومجموع هذا يدلّ على أنّ الذي استغاث بموسى عليه‌السلام كان مؤمنا على بقايا من دين يوسف عليه‌السلام.

قال تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : ٢٠ / ٢٨].

فكان في بني إسرائيل ، وفي القبط مؤمنون يكتمون إيمانهم ، فكان هذا الرّجل المستغيث بموسى عليه‌السلام منهم.

الثاني : قول الله تعالى لأم موسى عليه‌السلام : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) [طه : ٢٠ / ٣٩].

ومعلوم قطعا أنّ الله تعالى ما سمّى فرعون عدوّا له ولنبيّه إلا لأجل كفره ، فخرج من هذا أنّ هذا القبيل إنّما كان عدوّا لموسى عليه‌السلام من أجل كفره ، ولو اجتزأنا بهذا الدّليل لاكتفينا به عمّا سواه.

الثالث : أنّ الله تعالى قال : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) فلو كان المقصود بالشّيعة القبيل لقوبل في النّقيض بقبيل آخر لا بالعدوّ ، فإنّه ليس من وصف من لم يكن من القبيل أن يكون عدوّا ، ثم قد يكون العدوّ من القبيل ، بل من الأخ والولد ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ٦٤ / ١٤]. فصحّت عداوة الدّين مع ثبوت النّسب.

فيخرج العدوّ هنا مخرج قوله تعالى : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) حرفا بحرف ، وكذلك قوله تعالى : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)

١٢٣

[القصص : ٢٨ / ١٥] ، فخرج من مضمون هذا أنّ موسى عليه‌السلام وكز الكافر العدوّ (١) لأجل كفره لا لغير ذلك ، إذ ليس لله تعالى شيعة ولا قرابة ، سبحانه وتعالى ، وقد أثبت لنفسه عدوا.

فإن قيل : فإذا كان هذا هذا ، فلم ندم على قتله وتحسّر واستغفر ربّه ، وغفر له ، ومع هذا يمتنع يوم القيامة من الشّفاعة (٢) لأجل هذا المقتول ، ويقول معتذرا ومعترفا : «قتلت نفسا لم يأمرني الله بقتلها» وأيضا فإنّ الله تعالى عاتبه في الدنيا عند المناجاة فقال له : (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) [طه : ٢٠ / ٤٠].

فكيف يعاتب كليمه على قتل كافر؟!.

وأيضا فقد قال هو لفرعون حين عرّض له بقتل القبطي فقال : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٦ / ١٩ ـ ٢٠].

فنقول : أمّا قولكم : لم ندم وتحسّر واعتذر واستغفر ، وغفر له فهذا من النّمط الذي قدّمناه في حقّ غيره من الأنبياء عليهم‌السلام أنهم يتحسّرون ويندمون ويستغفرون على ترك الأولى من المباحات. فلا فائدة في إعادة تفصيل ما فرغنا من جملته وتفصيله.

على أنّ ندم موسى عليه‌السلام لم يكن على مباح ، وإنما كان ندمه على فعل لم.

يؤمر به. والأفعال قبل الشّرع إنّما هي مطلقة لا غير ، فإن المباح يقتضي مبيحا ، فإذا لم يثبت شرع فلا مباح ولا مبيح.

__________________

(١) قيل في معنى (وكزه) : دفعه وضربه. و: طعنه بجمع كفّه. و: ضربه بجمع يده على ذقنه. و:نخسه ، قال الزجاج : الوكز : أن يضرب بجمع كفّه.

(٢) إشارة إلى حديث الشفاعة يوم القيامة ، وقد سبق انظر فهارس الكتاب.

١٢٤

وهذا أوسع في عذر موسى عليه‌السلام ، إذ لم يكن مشروعا له عند ما قتله ، وإن كان قد التزم شريعة يوسف عليه‌السلام على وجه من الوجوه ، فتخرّج له على الوجه المتقدّم.

وأما قولكم : إن الله تعالى عاتبه عند المناجاة على قتل القبطيّ فباطل ، وإنّما عدّد ربّه تعالى عليه في ذلك المقام الكريم نعمه السّالفة عليه وآلاءه العميمة في قوله تعالى : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) [طه : ٢٠ / ٣٨ ـ ٣٩] إلى قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٢٠ / ٤١] ثم ذكر له من جملتها كيف نجّاه من كيد فرعون ، وغمّ كان في قلبه من أجل طلبه إياه حين فرّ بنفسه منه.

ولو عاتبه ربّه على ذلك لخرج له مخرج ما قدّمناه من عتاب الله تعالى لأنبيائه على بعض المباحات ، من غير أن يلحق بهم ذنب ولا عتب.

وأمّا قوله عليه‌السلام لفرعون : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) فيعني به : أنه كان عند ما قتله من الغافلين الغير مكلفين (١) ، فكأنه يقول له : فعلتها قبل إلزام التكليف ، وإذ كنت غير مكلّف فلا تثريب عليّ ، فإنه لا يقع الذّنب والطّاعة إلا بعد ثبوت الأمر والنّهي ، والدليل على أنّ ضلال الأنبياء غفلة لا جهل قوله تعالى لنبينا عليه‌السلام (٢) : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٩٣ / ٧] يعني غافلا عن الشّريعة

__________________

(١) الفصيح أن يقال غير المكلفين ، ورووا : الغير المكلّفين.

(٢) ووجدك ضالا : أي غافلا عمّا يراد بك من أمر النبوة ، فهداك أي فأرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة ، كقوله تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أي لا يغفل. وقال في حقّ نبيّه (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ).

ـ وقال قوم : ضالا : أي لم تكن تدري القرآن والشرائع فهداك الله إلى القرآن ، وشرائع الإسلام ، وهو معنى قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ).

ـ وقال قوم : أي في قوم ضلال ، فهداك إلى إرشادهم.

ـ ورويت وجوه أخرى كثيرة (القرطبي ٢٠ / ٩٦ ـ ٩٩).

١٢٥

لا تدري كيفيّة العبادة فهداك لها بالأمر والنّهي ، ثم قال له : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف : ١٢ / ٣].

والجاهل لا يسمّى غافلا حقيقة لقيام الجهل به ، فصحّ أنّ ضلال الأنبياء عليهم‌السلام غفلة لا جهل.

وقال بعض مشايخ الصّوفيّة : (وجدك ضالا) أي محبّا له (١) ، (فهدى) أي اختصّك لنفسه خصوص الهداية والصّحبة.

يعضد ذلك ما أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه‌السلام : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف : ١٢ / ٨] أي في حبّ مبين ليوسف ، وكذلك قولهم له بعد ذلك : (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف : ١٢ / ٩٥]. أي في حبّك القديم له ، ومن أسماء المحبّة عند العرب : الضّلال.

ومع ما ذكرناه في هذه القصّة من تبرئة موسى عليه‌السلام من الذّنب في قتل الكافر أنّ قتله كان خطأ. فإنّه ما طعنه بحديدة ولا رماه بسهم ، ولا ضربه بفهر (٢) ولا بغيره ، وإنما وكزه ، وما جرت العادة بالموت من الوكزة ، وإن مات منها أحد فنادر ، والنّادر لا يحكم به. فقد تبرّأ موسى عليه‌السلام من الذّنب في قتل الكافر براءة الذئب من دم ابن يعقوب عليهما‌السلام!.

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : وقيل : ووجدك محبّا للهداية ، فهداك إليها. ويكون الضلال بمعنى المحبّة. ومنه قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي في محبّتك قال الشاعر :

هذا الضّلال أشاب منّي المفرقا

والعارضين ولم أكن متحقّقا

عجبا لعزّة في اختيار قطيعتي

بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

(٢) الفهر : الحجر يملأ الكفّ.

١٢٦

شرح قصة يونس (١)

عليه‌السلام

في قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٢١ / ٨٧].

فممّا اختلقوه عليه (٢) ـ عليه‌السلام ـ في شرح هذه الآية أن قالوا : أنّه جاءه الملك بالوحي وهو يتعبّد في الجبل فقال له : إنّ الله تعالى أمرني أن أعلمك بأنّه أرسلك إلى أهل نينوى ، لتحذّرهم وتنذرهم. فقال له يونس عليه‌السلام : الله أرفق بي ، وأعلم بضعفي ومسكنتي ، من أن يرسلني إلى قوم جبّارين متكبّرين ، يؤذونني ويقتلونني ، فراجع ربّك أيّها الملك في أمري ، فلعلّه يعفيني من ذلك ويلطف بي! فقال له الملك : الله تعالى أعظم من أن أراجعه فيما أمرني به ، وقد أمرتك ، فسل أنت ربك ذلك إن شئت ، فقد بلّغتك والسّلام. ثم صار الملك إلى مقامه ففرّ إذ ذاك يونس ـ عليه‌السلام ـ على وجهه إلى جهة البحر مغاضبا لربه ، وركب السفينة فالتقمه الحوت.

ومنهم من قال : إنه بلّغ قومه الرّسالة ، فسبّوه وضربوه وأغلوا (٣) في أذيّته ، فدعا عليهم ، فأخبره ربّه أنه ينزل البلاء عليهم في يوم كذا ، فأخبرهم بذلك ، فلمّا كان في

__________________

(١) شرح قصة يونس عليه‌السلام في تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ٩٩ ، وعرائس المجالس ٤٠٦ ، وابن كثير ٣٩٠ ، وتفسير الطبري ١٧ / ٤٨ ، وتاريخ الطبري ٢ / ١١ ، وتفسير القرطبي ١١ / ٣٢٩.

(٢) ذو النون لقب ليونس بن متّى لابتلاع النون (الحوت) إيّاه.

(٣) كذا قال المؤلف ، رحمه‌الله. والفعل الذي يريده المؤلّف لجريان كلامه ومقاصد فكرته هو :(غالى) ، والمراد : (سبّوه وضربوه وغالوا في أذيته ..) ومعنى غالى : جاوز الحدّ. أمّا أغلى فله معان متقاربة ، يقال : أغلاه أي عدّه غاليا ، أو اشتراه غاليا ، أو وجده غاليا ، قال أبو فراس :ومن طلب الحسناء لم يغله المهر!

١٢٧

ذلك اليوم ، خرج إلى أعلى الجبل وقعد ينتظر الوعد ، فإذا سحابة عظيمة سوداء قد جاءت من ناحية البحر حتى قربت من البلد ، ثم جاءت ريح فهبّت في وجهها فردّتها عنهم ، فخرج فارا مغاضبا لربّه حيث ردّ عنهم البلاء.

فهذا من بعض أقوالهم الخبيثة في قصة يونس عليه‌السلام.

ومقتضى هاتين الكذبتين عليه أنّه سخط أحكام ربّه ، ولم يرض بقضائه ، ولا أذعن لحكمه!.

وحاشى وكلاّ أن يفعل ذلك أنبياء الله تعالى مع العصمة والنّزاهة فيما دون ذلك كما قدمناه.

فإنّ غضب العبد على ربّه إنّما هو ألاّ يرضى بحكمه ولا بإرادته. وهذه هي المناقضة والكفر الصّراح.

قال تعالى لنبيّنا عليه‌السلام : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٤ / ٦٥].

فنفى الله الإيمان عمّن لم يرض بحكم الله تعالى وحكم نبيّه عليه‌السلام. وقال عليه‌السلام في دعائه (١) : «لك العتبى حتى ترضى». والأمر أظهر من الاستدلال عليه.

فصل

فإن قيل : إذا لم تصح هذه المغاضبة لربّه على هذا الوجه ، فما الصّحيح الذي يعوّل عليه فيها؟! وكذلك المطالبة في لوم الله تعالى له حيث قال : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ

__________________

(١) لك العتبى : الرّجوع مما يكره إلى ما يحبّ.

ـ والدّعاء بتمامه في السيرة النبوية ١ / ٤٢٠ وذلك في خير وفوده عليه الصلاة والسلام على ثقيف في الطّائف.

١٢٨

وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات : ٣٧ / ١٤٢] ، وكذلك في قوله تعالى لنبيّه عليه‌السلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم : ٦٨ / ٤٨].

وكذلك في قولة نبينا عليه‌السلام (١) : حمّل أخي يونس أعباء الرّسالة فانفسخ تحتها كما ينفسخ الرّبع.

قلنا : أما مغاضبته عليه‌السلام ، فكانت لقومه لا لربّه ولا يجوز ذلك عليه ، وأنّى وقد جاء في الخبر أنّه عليه‌السلام قال : «والّذي نفسي بيده لو لم يبلّغ نبيّ الرسالة إلى قومه لعذّب بعذاب قومه أجمعين» ، ـ نقل على المعنى ـ وإنّما كانت لقومه لما نال منهم من الأذيّة ، فاحتمل أذاهم حتّى ضاق صدره ، ويئس من فلاحهم ، ففرّ بنفسه بعد ما بلّغ غاية التّبليغ كما أمره الله تعالى.

ثم غلب ظنّه لسعة حلم الله تعالى ألاّ يطلبه بذلك الفرار لكونه قد أدّى ما عليه ، وهو معنى قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٢١ / ٨٧] أي أن لن نضيّق عليه. قال تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٦٥ / ٧] أي ضيّق. وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الزمر : ٣٩ / ٥٢] أي يضيّق.

ويحتمل أنه ظنّ أن قدرة الله تعالى لم تتعلّق بإيلامه وسجنه تفضّلا منه ، وأنّه تعالى يعفو عنه في ذلك الفرار ، فوقع خلاف ظنّه.

وهذا هو الّذي يجوز أن يعتقده الأنبياء ، وأن يعتقد فيهم.

__________________

(١) نقل القرطبي : في الخبر في وصف يونس عليه‌السلام أنه كان ضيّق الصّدر ، فلما حمل أعباء النبّوّة تفسخ تحتها تفسّخ الرّبع تحت الحمل الثقيل ، فمضى على وجهه مضيّ الآبق النادّ.

ـ وفي اللغة تفسّخ الرّبع تحت الحمل الثقيل وذلك إذا لم يطقه.

والرّبع : ما ولد من الإبل في الربيع.

١٢٩

وقال الفجرة : إنّه ظنّ أن لا يقدر الله عليه ، أن لا يمكنه أن يفعل فيه!! وهذا كفر صراح لا يمكن أن يعتقده مقلّد في الإيمان ، فكيف نبيّ؟.

وقد تذاكرت مع طالب من طلبة الأندلس ملحوظ بالطّلب ، فقال لي ذلك ، وبالإجماع أنه من ظنّ أن لا يقدر الله ـ عز وجل ـ عليه على وجه العجز عنه أو الفوت من قضائه وقدره فهو كافر.

وأمّا قوله تعالى : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) [الصافات : ٣٧ / ١٤٢] أي أتى ما يلام عليه. وليس كلّ من أتى ما يلام عليه يقع لومه. فإن كان تعالى لم يلمه ، فقد اندفع الاعتراض لعدم اللّوم ، والأظهر أنه لم يلمه ، إذ لو وقع اللّوم لقال : وهو ملوم ، وإن كان لامه فاللّوم قد يكون عتابا ، وقد يكون ذمّا ، فإن صحّ وقوع لومه فكان من الله عتابا له على فراره لا ذمّا ، إذ المعاتب محبور (١) والمذموم مدحور.

فاعلم ـ رحمك الله ـ صحّة التّفرقة بين اللّوم والذّم ، قال الشّاعر : (٢)

لعلّ عتبك محمود عواقبه

فربّما صحّت الأجسام بالعلل!

وقال آخر : (٣)

إذا ذهب العتاب فليس ودّ

ويبقى الودّ ما بقي العتاب

وقال آخر (٤) :

لو كنت عاتبتي لسكّن لوعتي

أملي رضاك وزرت غير مراقب

لكن صددت فما لصدّك حيلة

صدّ الملول خلاف صدّ العاتب

__________________

(١) محبور : مسرور ، ومنعم عليه.

(٢) البيت للمتنبّي في ديوانه (بشرح العكبري) ٣ / ٨٦ ، وقد سبق.

(٣) البيت في التمثيل والمحاضرة ٤٦٥ ، وفي الأمثال والحكم للرّازي ١٠٣ ، ولم ينسباه.

(٤) لم أقف على قائله.

١٣٠

ألا ترى كيف قال الله تعالى : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم : ٦٨ / ٤٩] معناه : لو لا ما عصمناه ورحمناه لأتى ما يذمّ عليه على أصل الجواز لا على فرع الوقوع.

وهذا من النّمط الذي قدّمناه في قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (وَاجْنُبْنِي) [إبراهيم : ١٤ / ٣٥] وهي أن يعبد الأصنام وهو قد أمن من ذلك بالخبر.

وقوله تعالى في قصة شعيب ـ عليه‌السلام ـ (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٧ / ٨٩]. وقوله تعالى لنبينا ـ عليه‌السلام ـ (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ١٧ / ٨٦] وهو تعالى لم يشأ ذلك ، بالخبر.

وأمّا قوله تعالى لنبينا عليه‌السلام : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم : ٦٨ / ٤٨] يعني كيونس عليه‌السلام في فراره حين ضاق صدره كما قدّمناه. وقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ١٥ / ٩٧] كما ضاق صدر يونس ، فلا تفرّ كفراره.

ولذا جاء عنه عليه‌السلام (١) : «لا تفضّلوني على يونس بن متّى» لما قيل له : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) فنهاه أن يفعل فعله في قصّة مخصوصة خاف على قلوب عوام أمّته من اعتقاد هذه القولة على خلاف ما هي به ، فيعتقدون أنّها نهي له على العموم ، وحاشى وكلا ، وكيف يصحّ فيها العموم وقد أمره تعالى أن يتخلّق ويقتدي ويهتدي بأخلاقه وأخلاق نظرائه عليهم‌السلام ، حيث قال له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٦ / ٩٠] فقال ذلك والله أعلم.

__________________

(١) في صحيح مسلم ٤ / ١٨٤٤ من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تفضّلوا بين أنبياء الله ... ولا أقول إنّ أحدا أفضل من يونس بن متّى عليه‌السلام». وفي صحيح مسلم أيضا ٤ / ١٨٤٦ من حديث ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متّى».

١٣١

وأما قوله عليه‌السلام (١) : «حمّل أخي يونس أعباء الرسالة فانفسخ تحتها كما ينفسخ الرّبع» الحديث فهو في هذا المعنى أنّه كلّف مقاساة الجهلة ، والصّبر على الأذيّة (٢) ، فضاق صدره بذلك ولم يحتمله ففرّ!.

وعلى هذا ينبغي أن تحمل هذه الأقوال ، وعلى ما أغمض وأعلى في التّبرئة من هذا ، ولا قوّة إلا بالله.

__________________

(١) سبق الحديث وانظر فهارس الكتاب.

(٢) رسمت الكلمة هنا ، وفي مواضع أخر (أذاية) وصوابها أذيّة ، ويقال أذاة أيضا. وعددتها من سهو الناسخ.

١٣٢

شرح قصة أيوب (١)

عليه‌السلام

في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) [ص : ٣٨ / ٤١ ـ ٤٢].

فممّا قالوه في سبب محنته عليه‌السلام ، وهو أسلم ما نسبوه إليه من الأقاويل ، أنّه شوى حملا في منزله ، وكان بإزائه جار فقير ، فتأذّى برائحة طعامه ولم ينله منه شيئا ، فامتحنه الله تعالى بأن سلّط عليه الشيطان!.

ومنهم من قال : إنه دخل يوما على ملك جبّار ، فرأى في منزله منكرا فلم يغيّره ، فلذا امتحن!.

وهاتان القولتان من أشبه (٢) ما قالوه في محنته عليه‌السلام ، فأوّل ما يطلبون به إثبات دعواهم ، وهم لا يثبتونها في كتاب ولا سنّة ، سوى ملفّقات من قصصيّات هي أوهى في الثّبوت من خيط العنكبوت!.

__________________

(١) شرح قصة أيوب عليه‌السلام في تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ٥٩ ، وعرائس المجالس ١٥٣ ، وابن كثير ٣٦٧ ، وتفسير الطبريّ ٢٣ / ١٠٦ ، وتاريخ الطبري ١ / ٣٢٢ ، وتفسير القرطبيّ ١٥ / ٢٠٧.

(٢) يعني من أخفّ ما اختلقوه ، وهناك ما هو أدهى وأمرّ! ـ وقد تفنّن بعض المعاصرين ممّن ولدوا في ديار المسلمين ، وحسبوا في عددهم ، فاستندوا إلى فنّ القصة والرواية ليدخلوا إلى التجديف والتخريف والهرف على أنبياء الله وصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ينفثون سموما تجرّعوها ، وينالون تشجيع أعداء الأمّة وتقويتهم. ونفذ بعضهم من باب التهويل بالدراسة النّصيّة والتنصيصيّة!! ... أسماء كثيرة لمسمّى واحد هو العدوان على كتاب الله تعالى والافتراء على رسله وأنبيائه ، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

١٣٣

فاخترنا الكلام في هاتين القصّتين لكونهما مما يصحّ معناهما لو صحّ أثرهما. فلو صحّ ما قالوه من القولتين أو إحداهما لتصوّر الخروج عنهما بأحسن مخرج.

فأما قصّة الحمل ، فقد يكون يغلب الظنّ أن جاره ليس يحتاج إليه في ذلك الوقت ، وقد نعلم (١) أنّه يمكنه أن يصنع مثل ذلك ، فإنّ ثمن الحمل يسير ، وليس كلّ فقير مملقا ، وقد يحتمل أنّه نسي أن يواسيه منه ، وليس يلحقه في ذلك عتب ولا ذنب ، على أنّه لو ترك إعطاءه قاصدا لم يكن مذنبا ، فإنّ مؤاساة الجار مندوب إليها ، ومن ترك المندوب فلا ذنب عليه.

وأما قولهم : إنه لم يغيّر المنكر على الملك الجبّار ، فعين هذا القول عذر عنه.

فإنّ لزوم تغيير المنكر إنّما هو مع الإمكان ، قال تعالى : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحج : ٢٢ / ٤١]. فلما علم جبروت (٢) الملك خاف على نفسه ، ولم يمكنه تغييره بظاهره لئلا يقع من الجبّار منكر أكبر ممّا رآه في منزله ، فغيّر بقلبه.

ويحتمل أن يكون ذلك الملك لم يكن من أمّته ، ولا أرسل إليه ، فلم يغيّر عليه ، إذ لا يلزمه ذلك.

كما مرّ موسى عليه‌السلام على قوم يعكفون على أصنام لهم فغيّر على قومه ولم يغيّر عليهم ، لكونه لم يرسل إليهم ، فإنّ النبيّ لا يلزمه التّغيير إلاّ على من أرسل إليه.

فقد خرجت القولتان بحمد الله على أحسن مخرج إذا صحّتا.

وأما قوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٣٨ / ٤١] أي ببلاء وشر.

جاء في خبر يطول ذكره ، فلنذكر منه ما لا بدّ من ذكره.

__________________

(١) في الأصل المخطوط (نعلم) غير معجمه.

ولعل المعنى : «وقد نسلم» أي نسلم جدلا ، واستجرارا للكلام.

(٢) في الأصل المخطوط : جبريّة. ورجحت ما رجّحه السّياق.

١٣٤

وجاء في الأثر أنّ الشيطان تحدّاه بأنه لو سلّط عليه لضجر وسخط حكم الله تعالى ، فسلّط على ماله وولده وجسده إلا قلبه ولسانه فصبر صبرا أثنى الله به عليه إلى يوم القيامة في قرآن يتلى ، فقال تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص : ٣٨ / ٤٤] ، وبقي الشّيطان خائب الصّفقة خزيان. فلمّا نادى ربّه شاكيا بالشّيطان وبما ناله منه ، أجابه بالإقالة من شكيّته وأمره أن يركض الأرض برجله حتى يريه بركة صبره فقال : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) [ص : ٣٨ / ٤٢] فعجّل له في الدّنيا مثلا لعين الحياة التي بين الجنّة والنّار يغتسل فيها المعذّبون ويشربون منها فيخرجون مطهّرين من كل بؤس ظاهرا وباطنا ، كما جاء في الخبر (١).

فمسّ أيّوب عليه‌السلام الأرض برجله فنبع منها الماء فشرب منه فبرئ ما كان في باطنه من دقيق السّقم وجليله ، واغتسل فبرئ من ظاهره أتمّ براءة ، فما كان يرسل الماء على عضو إلاّ ويعود في الحين أحسن ما كان قبل ، بإذن الله تعالى.

وردّ الله عليه ماله وولده ، وولد له مثل عددهم.

قال الله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) [الأنبياء : ٢١ / ٨٤].

وهذه القصة على رونق فيها ، لكونها متعلقة بالكتاب ، جائزة في العقل ، لكنّها غير لائقة بمنصب النّبوة. وحاشى لله أن يسلّط عدوّه على حبيبه بمثل هذه السّلطة حتى يتحكّم في ماله وولده وجسده بالبلاء والتّنكيل.

__________________

(١) في صحيح مسلم ١ / ١٧٢ من حديث أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :«يدخل الله أهل الجنّة الجنّة ، يدخل من يشاء برحمته ، ويدخل أهل النّار النار ، ثم يقول : انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان فأخرجوه ، فيخرجون منها حمما قد امتحشوا فيلقون في نهر الحياة ـ أو الحيا ـ فينبتون فيه كما تنبت الحبّة إلى جانب السّيل ، ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية؟!» قوله : قد امتحشوا ، أي : قد احترقوا.

١٣٥

وأما تعلّقهم فيها من الكتاب العزيز فبقوله تعالى أنه قال : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).

وليس لهم حجّة في هذا القول ، فإن الأنبياء عليهم‌السلام ، إذا مسّهم ضرّ نسبوه إلى الشّيطان ، على جهة الأدب مع الحق ، سبحانه ، لئلاّ (١) ينسبوا له فعلا يكره ، مع علمهم أنّ كلاّ من عند الله.

قال الخليل عليه‌السلام : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء : ٢٦ / ٨٠].

وقال الخضر عليه‌السلام : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ١٨ / ٧٩].

وقال الكليم عليه‌السلام : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ٢٨ / ١٥].

وقال فتاه عليه‌السلام : (وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ) [الكهف : ١٨ / ٦٣].

وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) : «والخير كلّه في يديك ، والشر ليس إليك».

يعني ليس إليك يضاف وصفا لا فعلا ، وإن كان الفعل كلّه من عند الله.

وقال تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ٣ / ٢٦].

فخرج من مجموع ما ذكرناه أن تعلّقهم بالآية في كل ما زوّروه من الأقاصيص غير صحيح.

فصل

[استطراد إلى قصّة مريم وتبيين أنّ مقامها عند هزّ الجذع ليس أقلّ من مقامها في الغرفة].

__________________

(١) في الأصل المخطوط : ألا. وقد سبق للناسخ أن صحّف مثل هذه الكلمة.

(٢) في صحيح مسلم ١ / ٥٣٥ من حديث طويل برواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

١٣٦

وهنا نكتة شريفة يجب الاعتبار بها في قصّة مريم عليها‌السلام عند هزّ الجذع ، وهي معضودة بقصّة أيّوب عليه‌السلام في بركة ركضه ، وبركات بعض الأنبياء فيما لمسوه وركضوه وضربوه. وذلك أنّ معظم أهل الإشارة رحمهم‌الله أصفقوا (١) على أن مريم عليها‌السلام كان مقامها في الغرفة أعلى ممّا كان عند النّخلة.

واستدلّوا على ذلك بما جاء في الخبر عن الرّزق الذي كان يجد عندها زكريا عليه‌السلام ، إذ كان يجد عندها فاكهة الشّتاء في الصّيف ، وفاكهة الصّيف في الشتاء. فكان يأتيها بلا سبب ، فلمّا نظرت إلى عيسى عليه‌السلام حين ولدته أحبّته (٢) ، فأمرت بالكسب في هزّ النخلة لكونها رجعت من جمع إلى تفريق.

وقالوا في هذا وأطنبوا (٣) ، وأنشدوا الأبيات المشهورة على قافية الباء ، إلى غير ذلك. وهذه رحمهم‌الله وهلة منهم وغفلة عن الأولى والأحرى في حقّ تلك الصّدّيقة.

وأوّل ما يعترض به عليهم أن يقال لهم : من أين يحكمون عليها أنّها لما رأت الولد تفرّقت بميل قلبها إليه؟.

وهذا لا يصح إلاّ بتوقيف ، والتّوقيف في ذلك معدوم ، وبم تردّون على من يدعي نقيض دعواكم؟ ويبرهن عن ذلك أنّ مريم عليها‌السلام ما كانت قطّ في مقام هو أعلى

__________________

(١) أصفقوا : أجمعوا.

(٢) روى القرطبي ١١ / ٩٦ قال : قال علماؤنا : لمّا كان قلبها فارغا فرّغ الله جارحتها عن النّصب (التّعب) فلمّا ولدت عيسى وتعلّق قلبها بحبّه ، واشتغل سرّها بحديثه وأمره وكلها إلى كسبها ، وردّها إلى العادة بالتعلّق بالأسباب في عباده.

(٣) سيذكر المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ أنّ أول الشّعر الذي أنشدوه في مريم عليها‌السلام :

ألم تر أنّ الله أوحى لمريم

إليك فهزّي الجذع تساقط الرّطب

وانظر مقدّمة التحقيق.

١٣٧

من مقامها في تلك الأزمة على تلك الحالة؟ وعلى قدر الأزمات يأتي الفرج ، وذلك أنّها قبضت (١) في ذلك المقام من سبعة أوجه :

أحدها : أن خاطبها الملك على ضعفها وصغر سنّها ووحدتها في الفلاة ، وهذا أمر لا يتخيّل ما يكون فيه إلاّ من دهمه.

الثاني : أنّه كان أوّل خطاب خوطبت به. وقد جاء في الصحيح أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا خاطبه الملك في أوّل مرة كاد أن يتردّى من حالق الجبل خيفة من فجأة الملك وفجأة الخطاب (٢) ، وكان عليه‌السلام في ثاني حال يأتيه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيتفصّد عرقا هيبة من فجأة الوحي وإعظاما للملك (٣).

الثالث : أن أخبرها بأنّها تلد من غير فحل ، وهذا ممّا يعظم سماعه لكونه غير معتاد لا سيّما لمثلها.

الرّابع : طريان (٤) المخاض عليها وآلامه الّتي توازي آلام الموت لا سيّما أوّل مخاض.

الخامس : وهو أشدّ عليها من كلّ ما وقع ، وهو ما يصمها النّاس به من الملامة والأذيّة وإقامة الحدّ عليها وهي بريئة.

__________________

(١) في الأصل المخطوط : قبضت ، وفي آخر الفقرة سيقول المؤلّف : «فهذه سبع قوابض لو سلّط أحدها على جبل لتصدّع».

(٢) الّذي ورد في مسند الإمام أحمد ١ / ٢٣٣ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتر الوحي عنه فترة بعد أن فاجأه لأوّل مرّة ، حتى حزن حزنا شديدا غدا منه مرارا كي يتردّى من رءوس شواهق الجبال ، فكلّما أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل فقال : يا محمّد إنّك رسول الله حقا ، فيسكّن ذلك جأشه وتقرّ عينه فيرجع.

(٣) وجاء في مسند أحمد أيضا ٥ / ٢٥٧ من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : «... ولقد رأيته ينزل عليه (تعني الوحي) في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه ، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا».

(٤) في المعاجم : طرأ : طرأ وطروءا ، ولم أجد (طريان) التي ذكرها المؤلّف رحمه‌الله.

١٣٨

السّادس : وهو أشدّ عليها من أذيّتها ، وهو ما يلحق قومها من [الناس] (١) إذا قذفوها ، فإنها صدّيقة بشاهد القرآن ، والصّدّيق أشفق على خلق الله مما هو على نفسه.

السابع : فيما يكون عذرها إذا اعترضت ، وأنكر عليها ما جاءت به.

فهذه سبع قوابض لو سلّط أحدها على جبل لتصدّع! ويكفيك قولها عند ذلك : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ١٩ / ٢٣] فأي مقام فوق مقام من ابتلي بمثل هذه المعضلات دفعة واحدة فصبر وشكر؟.

ويعضد ما قلناه في علوّ مقامها في ذلك الحال قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) ، إلى قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٣ / ٣٧].

وذلك أنّ زكريا عليه‌السلام كان يجد عندها تلك الفواكه المذكورة في غير أوانها فيقول : (أَنَّى لَكِ هذا) يعني بأيّ عمل بلغت هذا المقام؟ كان عليه‌السلام يستعظم ذلك المقام في حقّها لغرارتها وضعفها ، فتقول هي : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ٣ / ٣٧].

أي ليس ذلك مقاما بلغته بكبير عمل ، وإنّما هو من فضل الله تعالى ، فكأنّ ما تشير إليه : أنتم عظماء! لكم المقامات والأحوال ، وأنا ضئيلة ضعيفة! فأنتم ترزقون بسبب وأنا بغير سبب!.

ففي قول زكريا عليه‌السلام : (أَنَّى لَكِ هذا) دليل على ضعف مقامها في الغرفة (٢). فإنّ المقامات عند القوم مرتبطة بعلوم مخصوصة وأعمال مخصوصة ، وكذلك الأحوال والكرامات أيضا هبة من الله تعالى لهم على قدر مقاماتهم.

__________________

(١) كلمة لم تنضّح ، ورجّحت ما أثبت بمقتضى السّياق.

(٢) أي مقامها الّذي كانت تتعبّد فيه ، وكان غرفة ، وهي المشار إليها في قوله تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) والمحراب : الغرفة.

١٣٩

فلمّا كان ذلك غاية قبضها وعلاء مقامها في القبض ، بسطت من سبعة (١) أوجه :

أحدها : أن كلّمها الوليد. قال تعالى : (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي) ، قرئ بفتح الميم (٢).

فقال قوم : ناداها الملك من مكان منخفض عنهما.

وقال آخرون : ناداها الوليد ، وهو الأظهر لوجهين :

أحدهما : أنّ (تحت) في حقّ الوليد أمتّ (٣). والثّاني : أنّ تكليم الوليد آنس في الخطاب من كلام الملك ، على ما تقدم.

والثّاني : من تقاسيم البسط : أن كلّمها وليدها ولم يكلّمها وليد غيرها ، لأنّ تكليم ولدها من بركات أحوالها.

الثالث : أن كلّمها في الحين ، فإنّ فيه تنفيس خناق قبضها بسرعة البشارة.

الرابع : أن كلّمها بالبشارة : (أَلاَّ تَحْزَنِي).

الخامس : أن أخبرها أنّه سريّ ، أي رفيع القدر عند الله تعالى. وما يحبّ أحد أن يكون غيره أحسن منه إلا ولده (٤).

__________________

(١) في سورة البقرة : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢ / ٢٤٥] ، قال القرطبي : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) هذا عامّ في كل شيء :فهو القابض الباسط.

(٢) قرئ بكسر الميم : (من تحتها) وقرئ بفتح الميم (من تحتها). وانظر معجم القراءات القرآنية ٤ / ٣٩.

(٣) أقرب إلى المقصد ، ومجرى القصّة.

(٤) هذه العبارة وما يقرب منها في جملة الأقوال السائرة. وسمعت أستاذي الدكتور عمر فرّوخ رحمه‌الله يزيد فيها ، قال : «... وتلميذه إن كان نجيبا». كان ذلك في مجلس ضم مجموعة من الأساتذة والعلماء في دبيّ ١٩٨٠ ، وكنا نسجّل برنامجا ثقافيا مع الأستاذ ظافر القاسمي رحمه‌الله. وكنت في جيل تلاميذهم ، وفيهم الدكتور صبحي الصالح أيضا ، رحمه‌الله.

١٤٠