تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]

تنزيه الأنبياء عمّا نسب اإيهم حثالة الأغبياء

المؤلف:

أبو الحسن علي بن أحمد السبتي [ ابن خمير ]


المحقق: الدكتور محمّد رضوان الدّاية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٢
ISBN: 1-57547-633-9
الصفحات: ١٧٦

فكان هو يقصد الاحتجاج عليهم في حدوثها بتغيرها وتبدّل أحوالها ، فخرج مع أهل الرّصد ليلا لينبّههم على حدوثها بتغيّرها مع تسليم مذهبهم الفاسد لهم جدلا ، وقصده : مقابلة الفاسد بالفاسد فإنّه من وجوه النظر. والأظهر في طريقة التّنبيه على الحدوث الاستدلال بالأكوان ، فإنّ الحركة يعلم حدوثها ضرورة لكونها تقطع الحيّز بعد الحيّز بحركة بعد حركة. فمن رأى ساكنا يتحرّك علم تغيّره ضرورة ، فنظر عليه‌السلام فرأى كوكبا فقال لقومه : (هذا رَبِّي) يعني على ظنّكم وحسابكم ، ففرحوا بقوله وظنوا أنّه رجع إلى مذهبهم ، فلمّا أفل رجع لهم عن قوله الأول بقوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)!.

فعلموا إذ ذاك أنّه رجع عن مذهبهم بحجّة بالغة ، والدّليل على صحة ما رمناه من أنّه قال (هذا رَبِّي) على جهة التّعنيت (١) لهم ، وإقامته الحجّة عليهم لعلهم يتفطّنون ويتعلمون منه وجوه الاستدلال.

ويتصوّر الردّ فيه على القائلين بأنّه استدلّ وغلط وتحيّر من ثلاثة أوجه : أحدها : أنّه لو قال : (هذا رَبِّي) على جهة الاعتقاد والتّصميم لكان كافرا في تلك الليلة إلى حين غروب الكوكب (٢). وكذلك يلزم في قوله في القمر والشّمس ، ومن اعتقد هذا فقد أعظم عليه الفرية ، وردّ ما علم من دين الأمّة في أنّ نبيا ما كفر قطّ عقدا ولا لفظا كما تقدّم. وغايته أن لو كان ما زعموه لتوقف على دءوب النّظر حتى يعلم الحقّ حقا لكون الناظر في حال نظره ، لا يحكم له بكفر ولا بإيمان كما تقدّم.

الثاني : أنّه لو كان يثبت إلهيّة الكوكب عند الطّلوع من أجل ظهوره وينفيها عند الغروب من أجل غروبه لقامت عليه حجّة الخصم بأن يقول له : إذا أثبتّ إلهيّة

__________________

(١) عنّته : أي شدّد عليه وألزمه بما يصعب عليه أداؤه.

(٢) ينظر ما قاله المفسّرون من وجوه ، لخّص أكثرها القرطبي في الجزء السّابع ، وممّا رواه أن إبراهيم عليه‌السلام قال ما قال في حال الطفولية ، وأنّه غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو موحّد لله تعالى وبه عارف.

١٠١

الكوكب عند الطّلوع ونفيتها عند الغروب فالكوكب يسري على ما هو به ، وإنّما غاب عنك وسيطلع غدا ويظهر لك فيلزمك أن تثبت الإلهيّة له عند كلّ طلوع وتنفيها عند كلّ غروب. وهذا تناقض بيّن مع تساوي الغروب والطّلوع له في التّغيّر.

الثالث : أنّ الكواكب لا تكاد تعدّ كثرة فمن أين له أن يعيّن أحدها بالإلهيّة مع التّساوي بينهما في كل حال.

فإن قالوا إن الكوكب كان من الدّراري السّبعة التي يعتقد قومه فيها الإلهيّة قبل.

قيل لهم : هذا باطل من أربعة أوجه :

أحدها : أنكم قلتم إنّه عند ما خرج في حال صغره من المغارة رأى أوّل كوكب فقال هذا ربي. فهو على قولكم لم يعلم الدّراري من غيرها رؤية ولا سماعا لكونه لم ير أحدا يخبره بذلك.

الثاني : أنه لو كان يقصد أحد الدراري لعلمه بأن قومه عبدوها وخصصوها بالإلهية فيقول (هذا رَبِّي) معتقدا لذلك لكان مقلدا لقومه في الكفر لكونه ما عنده إلا ما سمع بأنها آلهة ، وهذا أشد عليهم في الإنكار من كل ما تخيلوه.

الثالث : أن الطلوع والغروب في التغير والحركات على سواء في الاستدلال على الحدوث ، فلم استدل بأحدهما على نفي الإلهية وأثبتها للثاني؟

الرابع : أنه قال في الشمس والقمر ما قاله في الكوكب فصار ينقل الإلهية من جسم إلى جسم ، والكل في حالة الطلوع والغروب على سواء ، وهذه غاية الجهل الذي يحاشى الخليل عليه‌السلام عنه قطعا.

فإن قالوا : لما رأى القمر ظن أنه لا يغرب فقال ذلك ، قلنا هذا باطل فإنه قد جرب الكوكب وطلوعه وغروبه ثم رأى القمر طالعا كالكوكب ، فلو كان ما زعمتم

١٠٢

لتوقف عن هذا القول حتى يرى هل يغرب أم لا يغرب ، وأما قوله في الشمس فيجب أن يتأكد الإنكار عليه لتأكد تكرار التجربة منه في الكواكب والقمر.

وهذه الأقوال كلها لو قدرت لأحد منا لأنكرها كل الإنكار فإن فيها غاية الحيرة وعدم الاستدلال ، فكيف تثبت لخليل الرحمن الذي أراه ملكوت السموات والأرض حتى كان يرى ويسمع صريف القلم (١) في اللوح المحفوظ؟ وكان يسمع خفقات قلبه من خشية الله على فرسخ؟ فإذا بطلت في حقه ـ بل في حق العقلاء المستدلين ـ هذه الأقوال لم يبق إلا أنه قالها من باب مقابلة الفاسد بالفاسد ليقيم الحجة على قومه في التغير بالأكوان الدالة على الحدوث ، ويعضد ذلك قوله لهم في الشمس : (هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) [الأنعام : ٦ / ٧٨] يعني أكبر جرما وأبهر ضياء ، وأنفع لأهل الأرض ، من كل ما دونها من الكواكب ، وهي تتغير كتغيرها ، وليس بعدها ما ينتظر (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٦ / ٧٨] ، إلى قوله : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٦ / ٨٠]. والبارئ تعالى يخبر أنه نادى قومه وناجاهم ، وحاجوه وحاجهم ، ورد عليهم. وهم يقولون إنه خرج من المغارة وحده ، واستدل وغلط وتحير وقال : هذا ربي في الكواكب الثلاثة ، فلو كان صغيرا كما زعموا لم يكن له قوم يناديهم ويحاجهم ويحاجونه ، ولو كان أيضا لم ير الكواكب إلا تلك الليلة كما زعموا ، لم يقل في الشمس على الإطلاق «هذا ربي هذا أكبر» ، مع تجويز طلوع أكبر منها فلولا ما رأى الكواكب قبل ذلك لم يقل : هذا أكبر.

وهذا جزاء من يتكلم في أمور الأنبياء عليهم‌السلام ، قبل أن يتمرن في علم ما يجب لهم ويستحيل عليهم.

__________________

(١) صريف القلم : صوت صريره على الورق وما يكتب عليه من أشياء.

١٠٣

فصل

[الجواب عن «الكذبات» الثّلاث]

فإن قالوا : فإذا زعمت أنه قال لقومه هذا ، يعني ثلاث مرات معترضا ومنبّها ، ليقيم الحجّة عليهم وهو يعتقد خلاف ما يقول ، فلم لم يعدّ هذه الأقوال في الكذبات التي يعتذر بها في المحشر ، حين يطالب بالشّفاعة (١) فيقول : كذبت في الإسلام ثلاث كذبات ، وهي بالإضافة إلى هذه الثّلاث ستّ؟ وكذلك جاء في الحديث أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يكذب إلاّ ثلاث كذبات ، وما منها كذبة إلا وهو يماحل بها عن الإسلام ؛ أي يدافع؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الثلاث الكذبات التي عددها على أوجه مختلفة.

فإحداها أنه لمّا دعوه للخروج معهم لمهرجانهم في سدفة السّحر (٢) ، وفي باله أن يكيد أصنامهم بعد خروجهم ، كما أخبرهم حين قال : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) [الأنبياء : ٢١ / ٥٧] فنظر إلى النّجوم ليقيم عذره عندهم على زعمهم لكونهم يقولون بالقضاء في النّجوم (٣) : (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٣٧ / ٨٩] فاعتقدوا أنّه رأى في النّجوم أسباب المرض ، فرضوا عنه بذلك وتركوه!

وهذا من النّمط الذي قدّمناه في الكواكب الثلاثة ، أنّ أقواله فيها إنما كانت على جهة الإبهام عليهم ، والتّنبيه لهم لعلّهم يتفطّنون في ثاني حال.

الثانية : قوله بعد ما صيّر أصنامهم جذاذا (٤) حين سألوه (٥) : (مَنْ فَعَلَ هذا

__________________

(١) انظر الحديث بتمامه في مسند الإمام أحمد ١ / ٢٨١.

(٢) السّدفة تصلح لمعنى الضوء ولمعنى الظلمة ، والمراد هنا الإضاءة الكائنة في وقت السحر ، أو الزّمن نفسه.

(٣) وقبلها قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) [الصّافات : ٣٧ / ٨٨].

(٤) جذاذا : قطعا مكسّرة.

(٥) في سورة الأنبياء : (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ) ـ

١٠٤

بِآلِهَتِنا)؟ فقال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وأشار إلى كبير الأصنام ، وهو قد شوّه صورته ، وسمل عينيه (١) وجدع أنفه ، ومقطوع به أنّه قال ذلك ليقيم الحجّة عليهم في نفي الإلهيّة عمّا اعتقدوه من الكواكب والأصنام ، فصارت هذه القولة في معناها ، تشبه تلك الأقوال الثّلاثة في الكواكب. فلمّا كانت الأقوال مع قوله في الصّنم على وجه واحد من إقامة الحجّة على مذهب الخصم ، ومقابلة الفاسد بالفاسد ، صارت كالواحدة في المعنى .. ثم أضاف لها القولتين المختلفتين ، في النّظر في النّجوم ، وقوله في أهله للملك الجبّار «هي أختي» ، فصارت ثلاثا (٢).

وأمّا الثالثة التي هي قوله للملك الذي أراد أن يأخذ منه أهله عنوة ، فسأله : ما هذه التي معك؟ فقال : هي أختي ، فكان قوله ذلك طمعا في تخليصها منه بهذه القولة ليقيم عذره عند الملك ، لكون الغيرة على الأخت ، آكد منها على الزّوج. فقال له ذلك لعلّه يتركها له ، كالّذي فعل. فلو قال هي زوجتي فربّما كان يقول له : انزل لي عنها أتملّكها على الوجه الذي كانت عندك. فلمّا كانت القولتان تخالف الواحدة التي اتّحدت مع الثلاث في إقامة الحجّة على الخصوم ، بعد تسليم مذهبهم لهم جدلا عدّ الكلّ ثلاثا ، لاتّحاد الأربعة الأقوال في المعنى.

الوجه الثاني : أن تكون القولات الثّلاث في الكواكب التي لم يعدها من الكذبات ، بأمر من الله تعالى ، أمر أن يقولها فقالها ولم يعدها كذبات لكونه مأمورا بها ، وتلك الثّلاث التي عدّها كانت عن نظره واجتهاده فأبهمها بأن رأى أنّ السّكوت عنها كان له أولى ، على ما قدّمناه في حقّهم من مراعاة الأولى.

__________________

(إِبْراهِيمُ. قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ. قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٢١ / ٥٩ ـ ٦٣].

(١) سمل عينيه : اقتلعهما.

(٢) انظر الحديث بتمامه في صحيح مسلم ٤ / ١٨٤٠.

١٠٥

وإذا كانت الثّلاث الأخر بأمر الله تعالى له فلا حرج فيها لكونه مأمورا بها ، فتخرج له مخرج قول الملك لداود عليه‌السلام (إِنَّ هذا أَخِي) [ص : ٣٨ / ٢٣] ولم يكن أخاه حقيقة. وقوله (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [ص : ٣٨ / ٢٣] ولم يكن له نعاج ، إلى آخر ما قاله.

وقول يوسف عليه‌السلام لإخوته (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ١٢ / ٧٠] كما قدّمناه حرفا بحرف.

والأظهر من الوجهين الأخير منهما ، ودليلنا عليه أن الستّة الألفاظ في التلفّظ بخلاف المعتقد على سواء.

فذكر الثّلاث والإعراض عن ذكر الثّلاث الأخر ، مع ورعه عليه‌السلام وشدّه مراقبته ، دليل على أنّ الّتي أعرض عن ذكرها كانت بأمر الله تعالى.

الثالث : ما جاء في الصّحيح أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (١) : «لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام في الإسلام إلاّ ثلاث كذبات ، كلّها ما حل بها عن دين الله : قوله في الكوكب (هذا رَبِّي) ، وقوله في سارة «هي أختي» وقوله في الأوثان (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا)».

فقد فسّرها عليه‌السلام حين عدّها ثلاثا ، فصارت الثّلاثة : القولات في الكواكب كالواحد في العدد لكونها متّحدة في المعنى. وانضافت إليها قولته عن سارة ، وقولته عن الأوثان ، فصارت ثلاثا.

وتكون قولته : (إِنِّي سَقِيمٌ) حقيقة ، وتكون النّجوم هنا ما ينجم له من

__________________

(١) في صحيح مسلم ٤ / ١٨٤٠ ، من حديث أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يكذب إبراهيم النبيّ ـ عليه‌السلام ـ قطّ إلاّ ثلاث كذبات ، اثنتين في ذات الله : قوله : إنّي سقيم ، وقوله :بل فعله كبيرهم هذا ، وواحدة في شأن سارة ..» وذكر خبر إبراهيم وسارة مع الجبّار.

١٠٦

تفاصيل أحواله أي يظهر له. ويعضد هذا الخبر ما ذكرناه من أنه قال في الكواكب ما لم يعتقده دينا كما زعم الجهلة.

فصل

[طلب إبراهيم أن يرى كيفيّة البعث والنّشور]

وأما قصّته عليه‌السلام في طلب رؤية كيفية البعث وجمع الأجسام بعد تبدّدها.

وسبب هذا الطّلب ما جاء في الخبر عن سيّد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال (١) : «بينما إبراهيم عليه‌السلام يمشي على ساحل البحر إذ مرّ بدابّة بعضها ـ في البرّ وبعضها في البحر ، فرأى دوابّ البحر تأكل ممّا يليها ، ودواب البر تأكل ممّا يليها ، فقال : ليت شعري ، كيف يجمع الله هذه؟» ... الحديث.

فاشتاق إلى رؤية الكيفيّة فقال إذ ذاك : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢ / ٢٦٠]. نقل هذا الخبر على المعنى.

فصل

[ردّ على اعتراض]

اعترضت الملحدة هذه القصّة ومن تابعهم من اليهود والنّصارى والقرامطة ، ومن

__________________

(١) ونقل القرطبي في الجامع ، قال الحسن : «رأى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ جيفة نصفها في البرّ توزّعها السباع ، ونصفها في البحر توزّعها دوابّ البحر ، فلمّا رأى تفرّقها أحبّ أن يرى انضمامها ، فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق ...».

ـ وفي تنزيه الأنبياء للشريف : وقد روى المفسّرون أن إبراهيم عليه‌السلام مرّ بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر ، ودواب البرّ والبحر تأكل منه وأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلك حيّا مؤلفا مع تفرق أجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البر والبحر ... إلخ. وردّ الشريف على ذلك بوجوه مختلفة جاء المؤلّف هنا بما يشبهها أو يماثلها.

١٠٧

قال من الباطنيّة باستحالة حشر الأجساد ، والجهلة بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام ، على الوجه الذي ذكرناه قبل.

فقالوا : هذا إبراهيم عليه‌السلام على جلالة قدره قد استراب في البعث حتّى طلب رؤية الكيفيّة ليطمئنّ قلبه بنفي الاسترابة. وهذا أشدّ في الاعتراض من كلّ ما ذكروه ، فإن الشّكّ في البعث كفر صراح بالإجماع من كل أمّة (١) ، فإن حقيقة الكفر في الشرع تكذيب الله ورسله. وما ملئت طباق جهنّم (٢) إلاّ من هذا الصّنف الشاكّ فيما جاءت به الرّسل عليهم‌السلام.

فانظر ـ عصمنا الله وإياكم ـ إلى معتقد هذه الوصمة في حقّ الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن تؤوّل به. ولأجلها جاء عنه عليه‌السلام أنّه قال (٣) : «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم» ؛ نبّه ضعفاء العامة أنّ أنبياء الله تعالى في العصمة والنّزاهة على سواء ، فما جاز على أحدهم جاز على الكلّ. فكأنه يقول : إياكم أن تجوّزوا الشكّ على إبراهيم عليه‌السلام فيما يوحى إليه به ، فإن جوّزتموه عليه فأنا أحق أن تجوّزوه عليّ ، وأنتم لا تجوّزونه عليّ فلا تجوّزوه عليه. ثمّ تأدّب عليه‌السلام مع الأب بقوله : نحن أحقّ.

فصل

[رؤية ... واطمئنان]

في شرح الآية. قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ، قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢ / ٢٦٠].

__________________

(١) يقول : إن الإقرار بالبعث والنّشور أساس في كلّ عقيدة في أديان الله.

(٢) طباق جهنّم : طبقاتها ، طبقة فوق طبقة.

(٣) في صحيح مسلم ١ / ١٣٣.

١٠٨

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) تنبيه لنبيّنا عليه‌السلام ليتهيّأ لقبول الخطاب ، كما قدّمنا في قصة زيد ، فكأنّه يقول له : وقد أخبرك عن قول إبراهيم إذ طلب أن أريه كيف أحيي الموتى ، فأسعفته في ذلك وأريته الكيفيّة. فذكره تعالى إسباغ آلائه على أنبيائه وإسعافه لهم فيما يثلج به صدورهم ممّا غاب عنهم من بعض الجائزات في معلوماته تعالى.

وأما قولة إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) وأنه طلب أن يريه تعالى مثلا محسوسا يطلعه على كيفيّة الجمع من أقاصي الأرض وبطون الحيوانات ، وكيفية سرعتها في الحركات عند الاجتماع ، ولأي أصل تجتمع ، وعلى أيّ وجه تتصوّر ، إذ الجواز بحر لا ساحل له.

وقد نبّه عليه‌السلام على بعض هذه الكيفيات فقال (١) : كلّ ابن آدم تأكله الأرض إلاّ عجب الذّنب فإنه منه خلق وفيه يركّب.

ومعنى (خلق) هنا : (صوّر) لكون الشّيء لا يخترع من الشّيء ، وإنما يخترع لا من شيء. وأخبر عليه‌السلام أنّ عجب الذّنب الذي هو وسط الجرم منه بدئ تركيبه في الرّحم ، وإليه ترجع الأجزاء الزّائلة عنه في نواحي الأرض إذا بعث.

وفي هذا الحديث دليل على أنّ أكل الأرض إنّما هو عبارة عن تبدّد الأجزاء في الجهات لا عدمها البتّة (٢).

__________________

(١) في صحيح مسلم ٤ / ٢٢٧١ ، من حديث أبي هريرة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّ ابن آدم يأكله التراب إلاّ عجب الذّنب ، منه خلق ، وفيه يركّب».

(٢) قال تعالى في سورة ق : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) [ق :٥٠ / ٢ ـ ٤]. قال القرطبي في التفسير ٩ / ٤ : «أي علمنا ما تأكل من أجسادهم فلا يضلّ عنّا شيء حتى تتعذّر الإعادة ..» وفسر بعضهم النقص بالموت ..

١٠٩

ويعضد ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى في هذه القصّة من جمع أجزاء الطّيور بعد تفريقها. وللنّاس في هذا عريض من القول لسنا الآن له.

وأمّا قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) : سأله بالنّفي فأجابه ب «بلى» التي هي جواب النّفي لإثبات المنفيّ. كأنه قال له : ألست مؤمنا بالبعث؟ قال : بلى ، معناه : أنا مؤمن به كما علمت ، لكنّني أريد أن يطمئنّ قلبي برؤية الكيفيّة ، فقال تعالى له : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي : أملهنّ إليك بالإحسان والتّعليم لكي تدعوها فتأتيك مجيبة لدعائك. ففعل ذلك ثم أخذ الطّيور وذكّاها (١) وحزّ رءوسها ، وأمسكها عنده ، وهشم أجسامها وخلطها حتى صارت جسما واحدا لا يتميّز بعضها من بعض ، ثم فرّقها على أربعة أجبل ، ثم قعد هو في الجبل الوسط الذي أحاطت به الجبال الأربعة ، ثم دعاها فطارت القطرة من الدّم إلى القطرة ، واللّحمة إلى اللحمة ، والريشة إلى الريشة ، وكذلك صكيك العظام (٢) ، وهو ينظر إليها حتى التأم كلّ جسد على ما كان عليه من الأجزاء التي كانت له قبل ، ثم طار كلّ جسد إلى رأسه فالتأم به.

فصل

[تحليل في مجريات القصّة وتعليل]

انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى وقوع هذه الكيفيّة فإنّها تشبه بعث بعض الأجساد وجمعها وإحياءها وسرعة مسيرها إلى أرض المحشر حذوك النّعل بالنّعل (٣).

__________________

(١) ذكّاها : ذبحها.

(٢) صكيك العظام : المدقوق المهروس.

(٣) الحذو : التقدير والقطع ، وفي الحديث : «لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل» أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر الأخرى.

١١٠

فأما كون وقوع المثال بالطّيور بدلا من سائر الحيوانات ، فهو أن يقع الشّبه فيها بأحوال البعث من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها تقبل التّعليم حتى تدعى فتجيب ، كالنّسر والعقاب والبازي والسّوذنيق (١) والغراب والطّاوس ، إلى غير ذلك.

وأنّها تؤخذ أفراخا وتعلّم فتقبل التّعليم حتى تطير ، وترجع إلى داعيها إذا دعيت ، وكذلك الملك إذا دعا الموتى من القبور جمعوا وحيوا وأتوه.

والثّاني : أنّ الطّيور إذا دعيت أتت بسرعة تفوق بها سائر الحيوانات ، وكذلك الملك إذا دعا الموتى أتوه بسرعة ، كما قال تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٥٤ / ٨] أي مسرعين ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج : ٧٠ / ٤٣].

الثالث : أنّ الطّير تأتي في الهواء على خطّ استواء فتكون أسرع في الإتيان ، وأظهر للرّائي فإنّها لا تفوت بصره. فلو كانت غير الطّيور من الحيوانات كالأرنب والثّعلب والكلب والذّئب ، إلى غير ذلك ، وجاءته لكانت تتوارى في بعض الغيطان وخلف الشّجر والرّبا إلى غير ذلك ، فكانت تغيب عن بصر إبراهيم عليه‌السلام تارة وتظهر أخرى ، فما كانت تتمّ له الرؤية التي طلب ، إذ قال : (رَبِّ أَرِنِي).

وأمّا كونها أربعة ولم يكن أكثر ولا أقلّ ، فلأن يقع الاكتفاء بها في الجهات الأربع ، وهو المقصود أيضا بكون الجبال أربعة ، وذلك لأنّ الجهات ستّ : فوق وتحت ويمين وشمال وأمام وخلف.

ومعلوم أنّ أجزاء الحيوانات الأرضيّة إذا تبدّدت بعد موتها لا تصعد إلى فوق ، ولا تغوص إلى تحت ، وإنّما تتبدّد في الجهات الأربع.

__________________

(١) السّوذنيق : الصّقر.

١١١

فلذا كانت الطّيور أربعة ، والجبال أربعة. والله أعلم.

وأما كون إبراهيم عليه‌السلام على الجبل المتوسّط منها فأشبه شيء بالملك الذي يقف على صخرة بيت المقدس فيدعو الحيوانات فيأتون إليه من الأربع جهات (١) مسرعين كما تقدم.

وأما مجيء النّقطة من الدّم إلى النقطة ، واللّحمة إلى اللّحمة ، والرّيشة إلى الرّيشة ، والعظم إلى العظم ، وهو ينظر إليها ، فأشبه شيء بمجيء الأجزاء يوم البعث من الجهات التي افترقت فيها حتى تجتمع كما كانت أوّل مرّة لا يشذّ منها شيء عن صاحبه. وهو كان مطلوبه عند ما رأى الدّابة تتبدّد أجزاؤها في بطون حيوانات مختلفة ، كما جاء في الخبر ، فاشتاق إلى رؤية كيفيّة الجمع ، فسألها فأجيب فيها.

وأمّا فائدة حبس الرّءوس عنده ومجيء الأجسام بأعيانها فلخمسة أوجه :

أحدها : أنّه لمّا كانت رءوسها عنده وجاء كل جسد إلى رأسه ، وقع له اليقين أنها هي لا غيرها.

الثاني : أنّ في هذه القصّة ردا على من أنكر حشر الأجساد من غلاة الباطنيّة وغيرهم (٢).

الثالث : ردّ على من زعم أن الأرواح تركّب في أجسام أخر غير الّتي كانت مركّبة عليها في الدّنيا ، لكون الأرواح عندهم هي الحيّ النّاطق ؛ والأجسام ظروف متماثلة فلا يبالي بإعادتها.

الرابع : ردّ على من قال من أهل الأهواء المضلّة ؛ إن الحيوانات لا تحي دون الرّءوس ، ولا يجوز ذلك ، فحييت بال رءوس.

__________________

(١) أورد المؤلّف الصيغة على الوجه الفصيح أكثر من مرّة.

(٢) سبق كلام المؤلّف في هذه الجزئية فيما تقدّم.

١١٢

الخامس : قولهم : إنّه لا تكون الإدراكات والحواسّ إلاّ في الرّءوس على بنية مخصوصة ، فأكذبهم الله تعالى بأن سمعت ورأت بإدراكات خلقت في بعض أجسامها دون الرّءوس ، فحييت وسمعت حين دعيت ورأت ، وجاءت طائرة بلا رءوس ولا عيون ولا آذان. وهذا هو مذهب أهل الحقّ أنه ليس للإدراكات شرط في المحلّ سوى الحياة.

وأما قوله تعالى : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢ / ٢٦٠] ؛ فقد يكون أمرا له عليه‌السلام بأن يبقى على معلوماته في إثبات عزّة الله تعالى وحكمته ، لا أن يستجدّ علما بما لم يكن يعلم ، ويحتمل أن يأمره بأن يستجدّ علوما أخر بأنواع من الحكمة والعزّة لم يكن يعلمها قبل.

وأما ذكره العزّة في هذا المقام فهي الغلب والقهر ، تقول العرب (١) (من عزّ بزّ) أي : من غلب سلب. فلما كان في جمع الموتى وإحيائهم دفعة واحدة غاية الغلب والقهر والحكم والعلم والإتقان والإحكام تمدّح البارئ تعالى بصفاته العلى وعزّة قهره ، فأمره أن يتزيّد علما بصفات الجلال والجمال.

وقد يكون الأمر بالعلم فيما رأى من تفاصيل عجائب الكيفيّات. فلمّا أطلعه على ذلك غاية الاطلاع ، وعلّمه ما لم يكن يعلم قال له تعالى : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : وابق عالما بما زدتك من العلوم الحسيّة التي لا يتأتّى الجهل بها ولا الشكّ فيها في مستقرّ العادة ، ولا يتغافل عنها.

فهذه ـ رحمك الله ـ قصص إبراهيم عليه‌السلام في الثلاث الآيات والتّبرئة له (٢).

__________________

(١) أي في أمثال العرب ، والبزّ : السّلب. والقول مشهور في كتب الأمثال.

(٢) في النص هنا (على أوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

١١٣

شرح قصة عزير

عليه‌السلام (١)

في الآية التي وردت في إماتته وإحيائه.

قال تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (٢).

إلى قوله تعالى : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢ / ٢٥٩].

فممّا اختلقوه عليه ـ عليه‌السلام ـ أنّه شكّ في البعث بقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) فأراه الله الآية في نفسه حيث أماته ثمّ أحياه ، فحينئذ أيقن بالبعث فقال : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وما أرى أنّ هؤلاء الأوباش ، الّذين يعتقدون في عقائد أنبياء الله تعالى مثل هذا

__________________

(١) شرح قصة عزير عليه‌السلام في عرائس المجالس ٣٤٣ ، وابن كثير ٢ / ٣٢٤ ، وتفسير الطبريّ ٣ / ١٩ ، وتاريخ الطبريّ ١ / ٥٤٨ ـ ٥٥٧ ، وتفسير القرطبي ٣ / ٢٨٨.

(٢) والآية بتمامها :(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

* قال جماعة هو عزير : وقال وهب بن منبّه وغيره هو إرميا وكان نبيّا ـ وقال ابن إسحاق إرميا هو الخضر ـ وعن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل غير مسمّى. قال النقاش : ويقال هو غلام لوط عليه‌السلام ، وقيل هو شعيا.

وعن ابن عباس أنه عزير.

١١٤

الاعتقاد ، إلا أنّهم يقيسونها بعقائدهم الفاسدة وشكوكهم المضطربة! كما قيل (١) : رمتني بدائها وانسلّت! ، وقيل (٢) : وكلّ إناء بالّذي فيه يرشح!.

مع جهلهم بمقادير النّبوة فيمشون فيهم مثل هذه الأقوال الحاسمة (٣) لأصل الإيمان.

ومنهم من قال : إنّه ما مات عزير ولكن غشي عليه ، بدليل أنّه لو مات لم يحي بعد!

وهذا هو التّنصيص على إنكار البعث واستبعاد إحياء الموتى ، وتكذيب البارئ تعالى حيث قال : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).

وقد قال كلب من كلاب القصّاص هذه القولة في هذا (٤) البلد (٥) على المنبر فما أنكروها عليه ولا طولب بها ، وما يمكن أن ينبو فهم مسلم عن فساد هذه القولة ، فإنها ردّ نصّ الكتاب ، ولكنّها قلوب طبع الله عليها بطابع الحرمان.

__________________

(١) المثل في مجمع الأمثال ١ / ٢٨٦.

(٢) المثل في مجمع الأمثال ٢ / ١٦٢ ، ونصّه فيه : (كلّ إناء يرشح بما فيه).

(٣) الحاسمة : القاطعة.

(٤) البلد : هي سبتة.

(٥) في الأصل المخطوط كلمة غير واضحة بعد اسم (سبتة).

ـ والمؤلّف يشير إلى ما فشا من أقاويل القصّاصين وضعاف المؤرّخين ، وأراذل المتلبّسين بالوعظ والإرشاد. وقد سبق في مقدمة المؤلّف أن غرض (هؤلاء الفسقة في سرد تلك الحكاية المورّطة قائلها وناقلها في سخط الله تعالى أن يهوّنوا الفسوق والمعاصي على بلة العوام ويتسلّلوا إلى الفجور بالنساء ..).

وفي مقالة الدكتور بن شريفة أن ابن خمير ـ وجمهرة المتنوّرين من أهل زمانه ـ إنما يذكر أمورا وقعت في بلده سبتة ، وفي غيرها فقد ظهرت فئة من الوعّاظ المحترفين .. كان الوعظ عندهم ضربا من التكسب ونوعا من الكدية ... إلخ.

ـ وانظر مقدمة تحقيق هذا الكتاب.

١١٥

فصل وأمّا عزير عليه‌السلام فاختلف النّاس في نبوّته لكونه لم ينصّ عليه الكتاب.

والأظهر إثبات نبوّته بدليل قوله تعالى : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) [آل عمران : ٣ / ٨٠]. وهذا خطاب لليهود والنّصارى. واليهود عبدت عزيرا بنصّ الكتاب. وممّا يدلّ على نبوّته أيضا من الكتاب أنّه ذكر مع الأنبياء في معرض الفضيلة والإكرام في موطنين ، ذكره تعالى مع إبراهيم عليه‌السلام في إحياء الموتى لهما.

وذكره مع عيسى عليه‌السلام في أن عبد من دون الله.

وسبب هاتين القصّتين نذكره الآن بعون الله تعالى.

جاء في الأثر أنّه كان في بني إسرائيل من بعد موسى عليه‌السلام ، نبيّا ، وكان اسمه دانيال ، وإنما سمّي عزيرا لكثرة تعزير (١) اليهود له وإعظامهم لقدره عليه‌السلام. ثم غلوا في تعظيمه حتى عبدوه. وسبب ذلك لأن أماته الله مائة سنة ثم أحياه ، وأراه الآية في طعامه وشرابه الّذي مرّت عليه مائة عام ولم يتسنّه ، أي لم يتغيّر ، وفي حماره الّذي أماته معه وتبدّدت أجزاؤه ، ثم أنشرت وجمعت وحييت وهو ينظر إلى ذلك كلّه.

فقال الجهلة : لم يختصّه بهذه الكرامات إلاّ لأن كان ولده فعبدوه (٢) تعالى الله عمّا يصفون.

فلمّا طغى بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء بغير حقّ ، وبدّلوا أحكام التّوراة وأخبارها ، سلط الله عليهم بخت نصّر البابلي (٣) ، وكان مجوسيا فأتى إلى مدينة بيت

__________________

(١) التعزير هنا : النّصر والاحترام والحياطة. وفي سورة [الأعراف : ٧ / ١٥٧] (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) أي وقّروه ونصروه.

(٢) فذلك قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) تعالى الله عمّا يقول الكافرون علوّا كبيرا.

(٣) للمؤرخين هنا روايات : ـ وفي قصص الأنبياء (ابن كثير) قال أبو عبيدة القاسم بن سلام حدّثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : قدم بخت نصّر دمشق فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي ـ

١١٦

المقدس ودخلها عنوة ، فرأى دما يترشّح فيها من الأرض ، فجمع بني إسرائيل وسألهم عن سبب ذلك الدّم ، فأنكروا سببه خيفة منه أن يقع ما وقع. فقال له بعض من يختصّ به : هنا رجل يزعم أنه نبيّ ، والأنبياء لا يكذبون ، فسله يخبرك! فأمر بإحضاره فجيء به ، فقال له : أيّها الشيخ ، أخبرت أنّك تزعم أنّك نبيّ ، والأنبياء لا يكذبون ، فأخبرني عن سبب هذا الدم.

فقال له : عسى أن تعفيني أيها الملك!.

فقال : لا أعفيك حتى تخبرني ، أو أعذّبك حتى تموت.

فقال له : أمّا إذ لا بدّ من القول ، فهذا دم نبيّ قتله قومه ظلما.

فقال له : ومن ذلك النبيّ الذي قتله قومه ظلما؟! فقال : يحيى بن زكريا عليهما‌السلام.

فقال له : ومن قومه الذين قتلوه؟! فقال : بنو إسرائيل.

فقال : والله لأقتلنّ عليه خيارهم ، ولا أرفع عنهم السّيف حتى يجفّ هذا الدم.

فقتل عليه من خيارهم سبعين ألفا ، وحينئذ جفّ الدم.

__________________

فسأل عنه فأخبروه فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيّب ، وهو يقتضي أنه قتل بدمشق. وأن قصة بخت نصّر كانت بعد المسيح كما قاله عطاء والحسن البصري. والله أعلم.

ـ وفي دائرة المعارف الإسلامية ترجمة حسنة لنبي الله يحيى عليه‌السلام ، وفيها أن الذي انتقم له ملك فارسي اسمه خردوش ، وأنه أرسل قائدا من قواد جيشه قام بهذه المهمة. انظر :First Encyclopaedia of Islam ,Volume VIII ، ٧٨٩١ ، ٨٤١١ ـ ٩٤١١.

وقارن :the Encyclopedia of religion ,Volume ٨ ، ٢١١ ـ ٣١١.

١١٧

ويعضد هذا الخبر ما جاء عنه عليه‌السلام أنّه قال (١) : «دية النبيّ إذا قتله قومه سبعون ألف رجل من خيار قومه».

[عود إلى قصّة عزير]

فلمّا رأى ذلك دانيال عليه‌السلام خرج فارّا بنفسه إلى بلاد مصر ، فبقي فيها أربعين سنة ، ثمّ اشتاق إلى موطنه ومسقط رأسه ، وقبور أسلافه من الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام فركب حمارا له وأتى نحو بيت المقدس ، فلمّا كان بمقربة منه رأى جنّة كانت له وقد بقي فيها بعض علائق من شجر العنب ، فأتاها فوجد فيها عنبا نضجا ، فاقتطف منها وأكل وملأ سلّة كانت معه ، وركب حماره وسار حتى أشرف على مدينة بيت المقدس ، فرآها خرابا يبابا لم يبق فيها رسم ولا طلل. فتحسّر على فقد الخلان وخراب الأوطان ، كما قيل (٢) :

أحبّ بلاد الله ما بين منعج

إليّ وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها عقّ الشّباب تمائمي

وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها

__________________

(١) وفي قصص الأنبياء للثعلبي ، في خبر المرأة التي كلّمت بختنصر في دم يحيى عليه‌السلام (فقتل عليه سبعين ألفا حتى سكن فلما سكن قالت له كفّ يدك فإن الله ، إذا قتل نبيّ ، لا يرضى حتى يقتل من قتله ومن رضي بقتله) ٢٢٣.

(٢) البيتان لرفاعة (وقيل رفاع) بن قيس الأسدي ، أو لأبي النّضير الأسدي ، أو لامرأة من طيئ (انظر سمط اللآلي ٢٧٢ ، والكامل للمبرّد ١٤٢ ، ومعجم البلدان (منعج). ومنعج : واد ، يطلق على أكثر من مكان في الجزيرة العربية (وقارن ب : مراصد الاطلاع ٣ / ١٣٢٣).

ـ وفي اللسان (ع ق ق) : يقال للصبيّ إذا نشأ مع حيّ حتى شبّ وقوي فيهم : عقّت تميمته في بني فلان. والأصل في ذلك أن الصبي ما دام طفلا تعلّق أمه عليه التمائم ، وهي الخرز ، تعوّذه من العين ، فإذا كبر قطعت عنه ، ومنه قول الشاعر :

بلاد بها عقّ الشباب تميمتي

وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها

(كذا روايته : تميمتي) ورواية معجم البلدان :

بلاد بها حلّ الشباب تميمتي

وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها

١١٨

فتحرك قلبه تحسّرا على فقد الخلاّن وخراب الأوطان فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢ / ٢٥٩] يعني كيف تعود هذه البلدة على ما كانت عليه بعد خرابها؟! فاستبعد أن تعود على ما كانت عليه من نباتها وشجرها وبساتينها ، كما يستبعد النّاس أن تعود البلاد كما كانت عليه بعد خرابها ، على مجرى العادة.

وهذا من الكلام المباح الذي يقوله النّاس إذا خربت البلاد وكانوا يعرفونها عامرة من قبل.

وكثيرا ما قيل هذا في ندب الأطلال الخالية والرسوم البالية ، إلا أنّ أهلّ المراقبة يطلبون بهذه الأقوال التي كان غيرها أولى منها كما تقدّم.

فإنّ مثل أولئك لا يستبعدون كائنا في مقدور الله تعالى ، كان معتادا أو غير معتاد ، لما يعلمون من نفوذ إرادته ، ومضاء أمره ، إذا أراد شيئا فإنّما يقول له كن فيكون.

كما عتب الملائكة امرأة إبراهيم عليه‌السلام حيث قالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) [هود : ١١ / ٧٢] ، فقالوا لها : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ١١ / ٧٣].

أي : مثلك يرى في فعل الله عجبا وأنت صدّيقة!؟.

قال المشايخ (١) : العجب أن لا ترى عجبا ، فإذا لم تر عجبا كنت أنت العجب!.

فلما استبعد إصلاحها على مجرى العادة أراه الآية في نفسه ، فأماته ثم أحياه بعد مائة سنة ، ثم أطلعه على ذلك بأن أنشأ له الحمار الذي كان يركبه بعد ما أماته ورمّ حتى صار ترابا ، ثم أنشأه له من التّراب وهو ينظر إليه ، وأبقى عنبه كما كان بعد مائة سنة.

__________________

(١) المعنى أنّ استغراب الأمر العجيب والنظر في كيفيّته وشأنه هو الأمر الطبيعيّ. ومن لم يستغرب ذلك ، ومن لم يتنبّه ولم يهتمّ فهو مثار العجب (لأنه يكون مقصّرا عن التفاعل مع الجديد والغريب والمدهش والنّادر وما يخالف المألوف وجري العادة).

١١٩

ثم التفت إلى جهة مدينة بيت المقدس فرآها أعمر ما كانت قبل ، فندم على قولته.

فكأنّ الله عز وجل عتبه وأدّبه حتى لا يستبعد وقوع مقدور تحت القهر : كان خارقا أو غير خارق.

فهذا هو الّذي يجوز في حقّه عليه‌السلام لا ما اختلقوه.

١٢٠