حديث الطير

السيّد علي الحسيني الميلاني

حديث الطير

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-255-5
الصفحات: ٥٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الجهة الثالثة

محاولات القوم في ردّ حديث الطير

فننتقل الآن إلى محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله ، وفي المنع عن نقله وانتشاره وما صنعوا.

تتلخّص محاولاتهم في وجوه :

الأول : المناقشة في سند الحديث

فإذا راجعتم كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لأبي الفرج ابن الجوزي ، تجدونه يذكر هذا الحديث بسند أو ببعض أسانيده ويضعّفه ويسكت عن بعض الاسانيد الاُخرى (١).

لكن ابن الجوزي أبا الفرج الحنبلي المتوفى سنة ٥٩٧ ه‍

__________________

(١) العلل المتناهية ١ / ٢٢٨ من رقم ٣٦٠ ـ ٣٧٧.

٤١

معروف بالتسرّع بالحكم ، لا بالتضعيف فقط بل حتّى الحكم بالوضع ، ولربّما ضعّف أو كذّب في كتبه أحاديث موجودة في الصحاح ، وهذا ما دعا كبار المحدّثين من المحققين من أهل السنّة إلى التحذير من الإعتماد على حكم ابن الجوزي ، في أي حديث من الأحاديث ، وأنّه لابدّ من التثبّت.

والعجيب أنّهم ربّما ينسبون إلى ابن الجوزي أنّه أدرج حديث الطير في كتاب الموضوعات ، راجعوا كتاب المرقاة في شرح المشكاة للقاري (١) وبعض الكتب الاُخرى ، ينسب إلى ابن الجوزي أنّه حكم على هذا الحديث بالوضع وأدرجه في كتاب الموضوعات.

والحال أنّه غير موجود في كتاب الموضوعات ، نعم ، موجود في كتاب العلل المتناهية ، لكنّه ببعض أسناده ، وإنّما يتكلّم على بعض رجال هذا الحديث في بعض الاسانيد ـ ونحن لا ندّعي أنّ كلّ أسانيده صحيحة ـ ويسكت عن البعض الآخر.

ويأتي من بعده ابن كثير ، فيذكر في تاريخه (٢) حديث الطير ، ويرويه عن عدّة من الأئمّة الأعلام ، يرويه عن الترمذي ، وعن أبي

__________________

(١) مرقاة المفاتيح ١٠ / ٤٦٥ رقم ٦٠٩٤ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤١٤ ه‍.

(٢) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء السابع : ٣٥٠ ـ دار الفكر ـ بيروت.

٤٢

يعلى ، وعن الحاكم ، وعن الخطيب البغدادي ، وعن ابن عساكر ، وعن الذهبي ، وعن غيرهم ، إلى أنْ قال :

وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة منهم : أبو بكر ابن مردويه ، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبدالله الذهبي يقول : ورأيت مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر ابن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ ، ثمّ وقفت على مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلانيّ المتكلّم.

ثمّ يذكر ابن كثير رأيه في هذا الحديث قائلاً : وبالجملة ، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.

أقول : فدليل ابن كثير على ضعف هذا الحديث أنّ قلبه لا يساعد ، قلب ابن كثير لا يساعد على قبول هذا الحديث ، كما أنّ قلب أبي جهل لم يساعد على قبول القرآن والإسلام ، فليكنْ ، وأيّ مانع ؟ قلبه لا يساعد ، لا يقول : إنّه موضوع ، لا يقول : إنّه حديث مكذوب ، لا يقول : في سنده كذا وكذا ، لا يقول : الراوي ضعيف لقول فلان ، لنصّ فلان على ضعفه ، وأمثال ذلك ، فإنّها مناقشات علميّة تسمع ، إنّها مناقشات علميّة قابلة للبحث ، قابلة للنظر ، وأيّ مانع ! يقول : وبالجملة ، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن

٤٣

كثرت طرقه.

الرجوع إلى القلب من جملة أساليبهم في ردّ بعض الأحاديث ، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط ، وإلاّ لطال بنا المجلس.

عندما يريدون أنْ يردّوا حديثاً وقد أعيتهم السبل ، فلم يمكنهم المناقشة في سنده بشكل من الاشكال ، يلجأون إلى القَسَم أحياناً ، كقولهم : والله إنّه موضوع ، وأيّ دليل أقوى من هذا ؟! أوْ يلتجئون إلى قلوبهم : والقلب يشهد بأنّ هذا الحديث موضوع ، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط.

في مستدرك الحاكم حديث عن علي عليه‌السلام : أخبرني رسول الله : « إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين » ، قلت : يا رسول الله فمحبّونا ؟ قال : « من ورائكم ». يقول الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (١).

هذا حديث الحاكم ، وما ذنبنا إنْ كان الحاكم كاذباً بنقل هذا الحديث وفي حكمه بصحّته ، نحن المحبّون لاهل البيت ندخل الجنّة وراء أهل البيت ، هم يدخلون ونحن وراءهم ، لانّنا نحبّ أهل البيت ، وهذا لا يمكن لأحد إنكاره.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٥١ وذيل الصفحة.

٤٤

فيقول الذهبي في تلخيصه للمستدرك في ذيل هذا الحديث : الحديث منكر من القول يشهد القلب بوضعه (١).

ليته ناقش في سند الحديث ، بضعف راو من رواته ، يشهد القلب بوضعه !! ولماذا يشهد قلب الذهبي بوضع هذا الحديث ؟ الحديث يقول : إنّ أوّل من يدخل الجنّة رسول الله وعلي وفاطمة والحسن ومحبّوهم من وراءهم ، أيّ مانع من هذا ؟ وأيّ ضير على الذهبي حتّى يشهد قلبه بأنّ هذا الحديث موضوع ؟ ولماذا ؟ هل حبّ أهل البيت مانع من دخول الجنّة فيكون قلبه يشهد بوضع هذا الحديث ؟ أو يشُك في أنّ رسول الله وعليّاً وفاطمة والحسنين أوّل من يدخل الجنّة ؟ أيشُك في هذا ؟ لماذا قلبه يشهد بوضعه ؟ فتأمّلوا في هذا.

إذن ، كانت المحاولة الأولى ، المناقشة في سند الحديث والحكم بضعف الحديث ، لكن الحديث في الصحاح كما ذكرنا ، وله أسانيد صحيحة ، وقسم كبير من أسانيده أنا بنفسي صحّحتها على ضوء كلمات كبار علماء الحديث وأئمّة الجرح والتعديل وهي في خارج الصحاح.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٥١ وذيل الصفحة.

٤٥

الثاني : تحريف اللفظ

وهذا هو الطريق الثاني لردّ هذا الحديث ، قد قرأنا بعض الألفاظ ، وعرفتم كيف يكون التحريف.

أمّا أحمد بن حنبل ، فقد قرأنا لفظ الحديث من كتاب فضائله أو مناقبه ، فلنقرأ لفظ الحديث في مسنده فلاحظوا :

قال : سمعت أنس بن مالك وهو يقول : أُهديت لرسول الله ثلاثة طوائر ، فأطعم خادمه طائراً ، فلمّا كان من الغد أتت به ـ كلمة الخادم تطلق على المرأة والرجل ـ فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألم أنهك أن ترفعي شيئاً ، فإنّ الله عزّوجلّ يأتي برزق كلّ غد ».

هذا هو الحديث في مسند أحمد (١).

ولك أن تقول : لعلّ هذا الحديث في قضيّة أُخرى لا علاقة لها بحديث الطير.

لكنْ عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد بعض ألفاظه بنفس هذا اللفظ وبنفس السند الذي أتى به أحمد ، وفيه ما يتعلّق بعليّ عليه‌السلام وكونه أحبّ الخلق إلى الله إلى آخره ، نعم ، كنت أتصوّر أنّ هذا

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٥٢ رقم ١٢٦٣١.

٤٦

الحديث وارد في قضيّة لا علاقة لها بحديث الطير الذي نحن نبحث عنه ، هذا تبادر إلى ذهني لأوّل وهلة ، لكنّني دقّقت النظر في الأحاديث فوجدت الحديث حديث الطير ، إلا أنّه جاء به بهذا الشكل ، وهل الذي جاء في مسند أحمد من أحمد نفسه أو النسّاخ أو الطابعين لكتابه ؟ الله أعلم.

وأبو الشيخ الاصفهاني الذي ذكرناه مراراً ، يروي هذا الحديث وفيه ما يتعلّق بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، إلا أنّ ما يتعلّق بأنس ، وكذب أنس ، وخيانة أنس ، هذا محذوف ومحرّف ، لاحظوا :

عن أنس بن مالك قال : أُهدي لرسول الله طير فقال : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير » ، فجاء علي فأكل معه ، ثمّ هو يقول : فذكر الحديث انتهى (١). وكأنّه يريد أنْ يحفظ الأمانة فلا يخون يضع كلمة : فذكر الحديث.

ومن العجيب إسقاط بعضهم كلا الفقرتين ، ما يتعلّق بعلي وما يتعلّق بأنس ، فأسقط كلتا الفقرتين وجاء فقط بذلك العذر الذي ذكر أنس في آخر القضية :

عن أنس عن النبي قال : « لا يلام الرجل على حبّ قومه ».

__________________

(١) طبقات المحدّثين باصبهان ٣ / ٤٥٤.

٤٧

حينئذ يقول ابن حجر العسقلاني : هذا طرف من حديث الطير (١).

الثالث : تأويل الحديث وحمل مدلوله على خلاف ما هو ظاهر فيه

فيحملون أوّلاً لفظ الحديث الذي يقول : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك » ، يحملونه على أنّ المراد اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ، فحينئذ لا اشكال ، لأنّ مشايخ القوم أحبّ الخلق إليه أيضاً ، فيكون علي أيضاً من أحبّ الخلق إليه. « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك » ، أي اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك.

راجعوا شروح مصابيح السنّة ، راجعوا شروح المشكاة (٢) وكتاب التحفة الإثنا عشرية (٣) لوجدتم هذا التأويل موجوداً في كتبهم حول هذا الحديث.

وهل توافقون عليه ؟ وهل هناك مجال لقبول هذا التأويل بلا

__________________

(١) لسان الميزان ٥ / ٥٨.

(٢) المرقاة في شرح المشكاة : ٢١٢.

(٣) التحفة الإثنا عشرية : ٢١٢.

٤٨

أيّ دليل ؟

وقال صاحب التحفة الإثني عشرية : إنّ القضيّة إنّما كانت في وقت كان الشيخان في خارج المدينة المنوّرة ، فلذا لم يحضرا فحضر علي.

راجعوا كتاب التحفة الإثنا عشرية (١) ، وهذا الكتاب عندهم من أحسن الكتب في باب الإمامة ، أو في أبواب العقائد كلّها ، وطبع مراراً وتكراراً طبعات مختلفة ، وطبعوا خلاصته باللغة العربية مع تعاليق ذلك العدو من أعداء الدين ، مراراً وتكراراً في البلاد المختلفة.

أقول : هل كانت هذه القضية في وقت كان أبو بكر وعمر في خارج المدينة المنوّرة ؟ والله لو كانا في خارج المدينة المنوّرة لما كان عندنا أي كلام ، فنحن ما عندنا أي غرض في إثبات شيء أو في نفي شيء ، لكنْ ماذا نفعل مع حديث النسائي ، مع حديث أبي يعلى : إنّه جاء أبو بكر فردّه ، جاء عمر فردّه ، وأضاف صاحب المسند فقال : بأنّ عثمان أيضاً جاء وردّه ؟! فهؤلاء كانوا في المدينة المنوّرة ، وأيّ ذنب لنا لو كان النسائي وغيره ورواة خبر حضورهم

__________________

(١) التحفة الإثنا عشرية : ٢١٢.

٤٩

في المدينة كاذبين عليهم ؟!

الرابع : المعارضة

المعارضة لها وجه علمي ، نحن نوافق على هذا ، لأنّ المعارضة هي الإتيان بحديث معتبر ليعارض به حديث معتبر آخر في مدلوله ، فتلاحظ بينهما قواعد الجرح والتعديل لتقديم البعض على البعض الاخر ، تلك القواعد المقررة في كتب السنّة ، فهذا أُسلوب علمي للبحث والمناظرة ، وأيُّ مانع من هذا ، المعارضة وإلقاء التعارض بين الحديثين ، ثمّ دراسة الحديثين بالسند والدلالة وإلى آخره عمل جميل وعلى القاعدة ، وله وِجهةٌ علمية ، ونحن مستعدون لدراسة ما يذكرونه معارضاً لحديث الطير بلا أيّ تعصّب ، لكنْ أيّ شيء ذكروا ليعارضوا به حديث الطير ؟

في كتاب التحفة الإثنا عشرية استند إلى حديث : « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » في مقابلة حديث الطير.

فوالله لو تمّ هذا الحديث سنداً ودلالة ، حتّى لو ثبت اعتباره عندهم واتّفقوا على صحّته ، فنحن نغضّ النظر عن انفراد القوم به ، وقد قلنا منذ الأول أنّ الحديث الذي يريد كلّ طرف من الطرفين أن يستند إليه لابدّ وأن يكون مقبولاً عند الجانبين ، نحن نغضّ النظر

٥٠

عن هذه الناحية ، وندرس الحديث على ضوء كتبهم وأقوال علمائهم هم فقط ، ولو تمّ لوافقنا ولرفعنا اليد عن حديث الطير المقبول بين الطرفين بواسطة حديث : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ».

ولكنْ ماذا نفعل وهم لا يقبلون بحديث الإقتداء بالشيخين ، وسنقرأ ما يقولونه حول هذا الحديث بالتفصيل في موضعه إن شاء الله تعالى.

الخامس :

بعد أنْ أعيتهم السبل العلمية في الظاهر وهي : المناقشات في السند أو الدلالة ، يلجأون إلى طريقة أُخرى ، وماذا نسمّي هذه الطريقة ؟ لا أدري الآن ، لاقرأ لكم ما وجدته تحت هذا العنوان الذي عنونته أنا ، فأنتم سمّوا ما فعلوا بأيّ تسمية تريدون !!

أذكر لكم قضيّة الحافظ ابن السقا الواسطي المتوفى سنة ٣٧٣ ه‍ :

يقول الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء (١) بعد أن يصف ابن

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٦ / ٣٥١ ـ ٣٥٢ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤٠٤ ه‍.

٥١

السقا بما يلي : الحافظ الإمام محدّث واسط ، بعد أن يلقّبه بهذه الألقاب ينقل عن الحافظ السلفي يقول :

سألت الحافظ خميساً الجوزي عن ابن السقا ؟ فقال : هو من مزينة مضر ولم يكن سقّاءً بل لقب له ، من وجوه الواسطيين وذي الثروة والحفظ ، رحل به أبوه فأسمعه من أبي خليفة وأبي يعلى وفلان وفلان وبارك الله في سنّه وعلمه ، واتفق أنّه أملى حديث الطائر فلم تحتمله نفوسهم ، فوثبوا عليه فأقاموه وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته لا يحدّث أحداً من الواسطيين ، فلهذا قلّ حديثه عندهم.

أقول : ولم يذكر الراوي كلّ ما وقع على هذا المحدّث من ضرب وشتم وإهانة وغير ذلك ، يكتفي بهذه العبارة : وثبوا عليه فأقاموه عن مجلسه وغسلوا موضعه ، كأنّ الموضع الذي كان جالساً فيه تنجّس لاملائه طرق حديث الطير ، وغسلوا موضعه ، فمضى ولزم بيته ولم يخرج.

فماذا تسمّون هذه الطريقة ؟ لا أدري.

هذا ما ذكره الذهبي في ترجمة هذا الرجل في سير أعلام

٥٢

النبلاء ، وفي كتاب تذكرة الحفّاظ (١).

أمّا الحاكم النيسابوري ، فقد كان مصرّاً على صحّة حديث الطير ، وعلى تصحيح حديث الطير.

يقول في كتابه علوم الحديث (٢) : حديث الطير من مشهورات الأحاديث ، وكان على أصحاب الصحاح أن يخرّجوه في الصحاح.

ويقول : ذاكرت به كثيراً من المحدثين.

ويقول : كتبت فيه كتاباً ، أي كتب في جمع طرقه كتاباً.

ثمّ إنّه في المستدرك (٣) يروي هذا الحديث ويقول : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً.

وقد قلت لكم أنّ الرواة عن أنس هم أكثر من ثمانين شخصاً لا ثلاثين شخصاً.

يقول : ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة.

واضطرب القوم تجاه تصحيح الحاكم ، وإخراج الحاكم هذا

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ٣ / ٩٦٦ ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

(٢) معرفة علوم الحديث : ٩٣ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٣٩٧.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ١٣١.

٥٣

الحديث في مستدركه ، وإصراره على صحّة هذا الحديث ، وأصبحت قضيّة حديث الطير والحاكم قضيّة تذكر في أكثر الكتب المتعلّقة بالحاكم وبحديث الطير ، أي حدثت هناك ضجّة من فعل الحاكم هذا ، وقام القوم عليه وقامت قيامتهم ، ولأجل هذا الحديث رماه بعضهم بالرفض فقال : الحاكم رافضي. لكن الذهبي وابن حجر العسقلاني يقولان : الله يحبّ الإنصاف ، ما الرجل برافضي. فراجعوا لسان الميزان ، وراجعوا سير أعلام النبلاء ، وغير هذين الكتابين (١).

ثمّ جاء بعضهم وجعل يرمي كتاب المستدرك بأنّ هذا الكتاب ليس فيه ولا حديث واحد على شرط الشيخين.

وحينئذ يقول الذهبي : هذه مكابرة وغلو (٢).

ثمّ نسبوا إلى الدارقطني أنّه لمّا بلغه أنّ الحاكم قد أخرج حديث الطير في المستدرك انتقد فعل الحاكم هذا.

لكن الذهبي يقول : إنّ الحاكم إنّما ألّف المستدرك بعد وفاة

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٧٤ ، وفيه : قلت : كلاّ ليس هو رافضياً ، بل يتشيّع.

لسان الميزان ٦ / ٢٥١ وفيه : قلت : إنّ الله يحبّ الإنصاف ، ما الرجل برافضي بل شيعي فقط.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٧٥.

٥٤

الدارقطني بمدة (١).

وحينئذ ، إذا راجعتم كتاب طبقات الشافعية للسبكي (٢) رأيتموه ينقل عن الذهبي إنّ الحاكم سُئل عن حديث الطير فقال : لا يصحّ ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله. ثمّ قال شيخنا : وهذه الحكاية سندها صحيح ، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك. يعني : إذا كان الحاكم يعتقد بأنّ الشيخين أفضل من علي ، فلماذا أخرج الحديث في المستدرك ؟ ولماذا صحّحه ؟

حينئذ يقول السبكي : قد جوّزت أنْ يكون زيد في كتابه.

يعني : حديث الطير زيد في كتاب المستدرك !! لاحظوا إلى أي حدٍّ يحاولون إسقاط حديث من الأحاديث ، قد جوّزتُ أن يكون زيد في كتابه ، أنْ لا يكون من روايات الحاكم.

يقول السبكي : وبحثت عن نسخ قديمة من المستدرك فلم أجد ما ينشرح الصدر بعدمه [ أي وجدت الحديث في كلّ النسخ ] وتذكّرت الدارقطني إنّه يستدرك حديث الطير ، فغلب على ظنّي إنّه لم يوضع عليه [ أي إنّ الحديث لم يوضع على الحاكم ، ولم يزده أحد في المستدرك ] ثمّ تأمّلت قول من قال : إنّه [ أي الحاكم ]

__________________

(١) نفس المصدر ١٧ / ١٧٦.

(٢) طبقات الشافعية ٤ / ١٦٨ ـ ١٦٩ ـ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ـ ١٤١٨ ه‍.

٥٥

أخرجه من الكتاب ، فإنْ ثبت هذا صحّت الحكايات ، ويكون خرّجه في الكتاب قبل أن يظهر له بطلانه ، ثمّ أخرجه منه لاعتقاده عدم صحّته كما في هذه الحكاية التي صحّح الذهبي سندها ، ولكنّه بقي [ أي الحديث ] في بعض النسخ ، إمّا لانتشار النسخ بالكتاب ، أو لادخال بعض الطاعنين في الشيخين إيّاه [ أي الحديث ] فيه [ أي في المستدرك ] فكلّ هذا جائز ، والعلم عند الله تعالى.

هذا نصّ عبارة السبكي.

أقول : هذه نماذج من محاولات القوم لاسقاط الحديث ، ولإثبات أنّ الحاكم لم يروه في مستدركه ، وذلك يكشف عن اضطراب القوم أمام تصحيح الحاكم وإخراجه هذا الحديث في كتابه.

وهل اكتفوا بهذا ؟ لا ، وهل استفادوا من هذه الاساليب شيئاً ؟ لا.

فما كان عليهم إلا أنْ يهجموا على الحاكم داره فيضربوه ويكسروا منبره الذي كان يجلس عليه ويحدّث ، ويمنعوه من الخروج من داره.

وهلاّ فعلوا هذا من أوّل يوم ، وقبل أن يتعبوا أنفسهم في التحقيق عن كتاب المستدرك باحتمال أنْ يكون هذا الحديث قد

٥٦

أدرجه بعض الطاعنين ، فما أحسن هذا الطريق لاثبات الخلافة لأسيادهم !!

وهكذا فعلوا مع غير الحاكم ، مع كثير من أئمّتهم !! أما فعلوا مع النسائي في دمشق ؟ أما بقروا بطن الحافظ الكنجي في داخل المسجد لأنّه كان يملي فضائل علي ؟ وأما فعلوا ؟ وأما فعلوا ؟ أمّا بعلماء الطائفة الشيعيّة ، وبالأئمّة الإثني عشر ، فأيّ شيء فعلوا ؟ وكيف عاملوا ؟

وهكذا ثبتت الإمامة والخلافة للشيخين وللمشايخ.

فأيّ داع لكلّ ما قاموا به من المناقشة في السند ، من المناقشة في الدلالة ، من المعارضة ، من تحريف اللفظ ؟ من ضرب وهتك لابن السقا والحاكم ؟ لماذا لا يقلّدون إمامهم وشيخ إسلامهم الذي قال : حديث الطير من الموضوعات المكذوبات (١). فأراح نفسه من كلّ هذا التعب ؟

وهذه فتوى ابن تيميّة ، وتلك فتوى ابن كثير ، وتلك أفعالهم وأعمالهم مع أئمّتهم كالحاكم وغيره ، وتلك تحريفاتهم لألفاظ الحديث النبوي ، وتلك خياناتهم تبعاً لخيانة صاحبهم أنس بن

__________________

(١) منهاج السنة ٧ / ٣٧١.

٥٧

مالك ، وتلك إمامة مشايخهم التي يريدون أن يثبتوها بهذه السبل !!

وعلى كلّ منصف ، كلّ محقّق ، وكلّ حرّ أنْ يستمع القول فيتّبع أحسنه ، والله على ما نقول شهيد ، ونعم الحكم الله ، والخصيم محمّد ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

٥٨