حديث الطير

السيّد علي الحسيني الميلاني

حديث الطير

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-255-5
الصفحات: ٥٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

إليه الطيرين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك » ، ورفع صوته ، فقال رسول الله : « من هذا ؟ » فقال : علي.

لاحظوا نصّ الحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل ، وقارنوا بينه وبين رواية الآخرين.

ولكم أن تقولوا : لعلّ الآخرين تصرّفوا في لفظ الحديث بإسقاط كلمة « ورفع صوته » فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته » ، إنّ معنى « رفع صوته » أنّه عندما كان يدعو كان يدعو بصوت عال ، لنفرض أنّ هذا معنى الحديث إلى هنا « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته » لكن الحقيقة إنّ لفظ أحمد محرّف ، لانّا سنقرأ في بعض الألفاظ : إنّ عليّاً عندما جاء في المرّة الأولى فأرجعه أنس ولم يأذن له بالدخول ، وفي المرّة الثانية كذلك ، في المرّة الثالثة لمّا جاء علي رفع صوته فقال رسول الله : من هذا ؟

فمن هنا يظهر معنى « ورفع صوته » ويتبيّن التحريف ، وإلاّ فأيّ علاقة بين قوله : « اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإلى رسولك ورفع صوته » ، وقوله : فقال رسول الله من هذا ؟ فقال : علي ، أي : قال سفينة : الذي خلف الباب هو علي ، قال : افتح له ، ففتحت ، فأكل مع رسول الله من الطيرين حتّى فنيا.

٢١

فالتصرف في لفظ الحديث عند أحمد أيضاً واضح تماماً ، والتلاعب في هذا اللفظ باد بكلّ وضوح.

أمّا الهيثمي صاحب مجمع الزوائد ، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي (١) :

عن أنس بن مالك قال : كنت أخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقُدّم فرخاً مشويّاً أو فَقدّم فرخاً مشويّاً [ يقتضي أنْ يكون : فقُدّم فرخ مشويّ ، أو فقدّم رسول الله فرخاً مشويّاً ] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ » فجاء علي ودقّ الباب ، فقال أنس : من هذا ؟ قال : علي ، فقلت ـ أي أنس ـ يقول : النبي على حاجة ، وفي بعض الألفاظ : النبي مشغول ، أي لا مجال للدخول عليه ، والحال أنّ النبيّ كان ما زال يدعو : « اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك » ، قال : النبي على حاجة ، فانصرف علي. عاد رسول الله مرّة أُخرى يقول : « اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ » ، فجاء علي فدقّ الباب دقّاً شديداً ، فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : « يا أنس من هذا ؟ » قال : علي ، قال : « أدخله » ، فدخل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد سألت الله ثلاثاً أنْ

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٢٥ ـ دار الكتب العربي ـ بيروت ـ ١٤٠٢ ه‍.

٢٢

يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي هذا الفرخ » ، فقال علي : وأنا يا رسول الله ، لقد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس ، فقال رسول الله : « يا أنس ، ما حملك على ما صنعت ؟ » قال : أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي ، فقال رسول الله : « لا يلام الرجل على حبّ قومه ».

في هذا الحديث جاء علي مرّتين فردّه أنس قائلاً : رسول الله على حاجة ، في المرّة الثالثة دقّ علي الباب دقّاً شديداً.

وفي بعض الألفاظ : رفع صوته فسمع رسول الله صوت علي وقال لأنس : « إفتح الباب ليدخل علي » ، ثمّ اعترض عليه رسول الله ، أي على أنس ، واعتذر أنس كما في الخبر : أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي.

لكن الحديث في مسند أبي يعلى كما يلي : حدّثنا قطن بن نسير ، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، حدّثنا عبدالله بن مثنّى ، حدّثنا عبدالله بن أنس عن أنس قال : أُهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجل مشويّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام » ، فقالت عائشة : اللهمّ اجعله أبي ، وقالت حفصة : اللهمّ اجعله أبي ، قال أنس : فقلت أنا : اللهمّ اجعله سعد بن عبادة ، قال أنس : سمعت حركة الباب ، فإذا علي ، فسلّم ، فقلت : إنّ

٢٣

رسول الله على حاجة ، فانصرف ، ثمّ سمعت حركة الباب فسلّم علي ، فسمع رسول الله صوته ، أي رفع علي صوته [ أُريد أنْ أؤكّد أنّ لفظ أحمد محرّف ] فسمع رسول الله صوته فقال : « أُنظر من هذا ؟ » فخرجت ، فإذا علي ، فجئت إلى رسول الله فأخبرته ، فقال : « ائذن له » ، فأذنت له ، فدخل ، فقال رسول الله : « اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ ».

هذا لفظ أبي يعلى.

ولاحظوا الفوارق بين هذا اللفظ ولفظ الهيثمي ، ثمّ لفظ الترمذي ، ولفظ أحمد بن حنبل.

أمّا في الخصائص للنسائي (١) [ الذي نصّ الحافظ الذهبي على أنّ كتاب الخصائص داخل في السنن ، راجعوا سير أعلام النبلاء (٢) وكذا راجعوا مقدمة تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ] فيروي النسائي هذا الحديث بسند صحيح ، مضافاً إلى أنّ كتابه داخل في السنن الكبرى للنسائي الذي يقولون بأنّ له شرطاً في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين :

عن أنس بن مالك : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عنده طائر ، فقال : « اللهمّ

__________________

(١) الخصائص للنسائي : ٢٩ رقم ١٠ ـ مكتبة المعلا ـ الكويت ـ ١٤٠٦ ه‍.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٤ / ١٣٣ ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ١٤٠٤ ه‍.

٢٤

ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر » ، فجاء أبو بكر فردّه ، ثمّ جاء عمر فردّه ، ثمّ جاء علي فأذن له.

وفي مسند أبي يعلى بنفس السند ، ترون مجيء الشيخين ومجيء عثمان أيضاً ، قال : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير » ، فجاء أبو بكر فردّه ، ثمّ جاء عمر فردّه ، ثمّ جاء عثمان فردّه ، ثمّ جاء علي فأذن له (١).

لاحظوا الفوارق بين الألفاظ ، وقد تعمّدت التدرج في النقل حتّى تلتفتوا إلى أنّهم إذا أرادوا أن ينقلوا القضيّة الواحدة وهي ليست في صالحهم ، كيف يتلاعبون باللفظ ، وكيف ينقصون من القصة ، وكيف يسقطون تلك النقاط الحساسة التي يحتاج إليها الباحث الحر المنصف في تحقيقه عن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي فحصه عن القول الحق من بين الأقوال.

أقول : سند النسائي كما أكّدت سند صحيح ، وهو نفس السند في مسند أبي يعلى ، لكنّ بعضهم يحاول أن يناقش في سند هذا الحديث الأخير الذي نقلته عن النسائي وأبي يعلى ، يحاول أنْ يناقش في هذا السند ، ونحن نرحّب بالمناقشة ، وأيّ مانع لو كانت

__________________

(١) مسند أبي يعلى ٧ / ١٠٥ رقم ٤٠٥٢ ـ دار المأمون للتراث ـ دمشق ـ ١٤٠٦ ه‍.

٢٥

المناقشة مناقشة علميّة ، على كلّ منصف أن يسلّم ، وأيّ مانع لو كانت المناقشة واردة ، وحينئذ لرفعنا اليد عن هذا الحديث وتمسّكنا بغيره من الألفاظ ، أو تمسّكنا بغير هذا الحديث من الأحاديث ، وأيّ مانع ؟ لكن كيف لو كانت المناقشة ظاهرة البطلان ، واضحة التعصّب !!

يحاول بعضهم أنْ يناقش في وثاقة أحد رجال هذا السند ، وهو السُدي ، والسُدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن ، ربّما يناقش فيه بعض ، لكنّه من رجال مسلم ، من رجال الترمذي ، من رجال النسائي ، من رجال أبي داود ، ومن رجال ابن ماجة.

ويقول أحمد بترجمته : ثقة.

ويقول غيره من كبار الرجاليين : ثقة.

حتّى أنّ ابن عدي المتشدّد في الرجال يقول : هو مستقيم الحديث صدوق ، بل إنّه من مشايخ شعبة.

وقد ذكرنا أنّ شعبة أمير المؤمنين عندهم ، وهو لا يروي إلا عن ثقة هكذا يقولون ، يقولون شعبة بن الحجّاج لا يروي إلا عن ثقة ، وممّن يعترف بهذا المعنى أو يدّعي هذا المعنى هو ابن تيميّة ،

٢٦

وينقل السبكي كلامه في كتابه شفاء الأسقام (١).

فإذا كان الرجل من رجال خمسة من الصحاح الستّة ، ويوثّقه أحمد ، ويوثّقه العجلي ، ويوثّقه ابن عدي ، ويوثّقه الآخرون من كبار الرجاليين (٢) ، فأيّ مناقشة تبقى في السُدي ليطعن الطاعن عن هذا الطريق في هذا الحديث الذي هو في نفس الوقت الذي يدلّ على فضيلة لأمير المؤمنين ، يدلّ على ما يقابل الفضيلة لمن يقابل أمير المؤمنين ؟

وهناك قرائن داخل الحديث وقرائن في خارج الحديث لا نحتاج إلى ذكرها كلّها ، بل نكتفي بالاشارة إلى بعض القرائن الداخليّة وبعض القرائن الخارجيّة فقط.

في بعض ألفاظ هذا الحديث يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وأوجههم عندك » ، وهذه الاضافة موجودة في بعض الألفاظ.

وفي بعض الألفاظ : « اللهمّ أدخل عَلَيّ أحبّ خلقك إليّ من الأولين والآخرين ».

وربّما يدلّ هذا الحديث بهذا اللفظ على أفضليّة أمير المؤمنين

__________________

(١) شفاء الأسقام في زيارة خير الآنام : ١٠.

(٢) تهذيب التهذيب ١ / ٣١٣.

٢٧

من الأولين والآخرين ، أمّا الآخرون فالأمر فيهم سهل. أمّا الأولون فإنّه يشمل الأنبياء أيضاً ، يشمل حتّى أُولي العزم منهم ، ويكون هذا الحديث بهذا اللفظ من أدلّتنا على أفضليّة أمير المؤمنين من جميع الأنبياء إلا النبي والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي بعض ألفاظ الحديث يقول أنس : فإذا علي ـ أي فتحت الباب فإذا علي ـ فلمّا رأيته حسدته.

وفي بعض ألفاظ الحديث : فلمّا نظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام قائماً فضمّه إليه وقال : « يا ربّ وإليّ يا رب وإليّ ، ما أبطأ بك يا علي ؟ ».

وفي لفظ آخر بعد تلك العبارات : « ما أبطأ بك يا علي ؟ » قال : يا رسول الله قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس ، قال أنس : فرأيت الغضب في وجه رسول الله ، وقال : « يا أنس ما حملك على ردّه ؟ » قلت : يا رسول الله سمعتك تدعو ، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار.

وكأنّ بهذا العذر زال غضب رسول الله !! ذلك الغضب الشديد الذي رآه أنس في وجهه ، زال بمجرّد اعتذاره بهذا العذر ، حتى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اعتذر هذا العذر قال : لست بأوّل رجل أحبّ قومه !!

وإنّي أعتقد أنّ هذا الكلام من رسول الله مفتعل عليه في

٢٨

حديث الطير : « لا يلام الرجل على حبّ قومه » أو « لست بأوّل رجل أحبّ قومه » ، أعتقد أنّ هذه إضافة من المحدّثين.

لكنْ لو سألتم بأيّ دليل تعتقد ؟

ليس عندي الآن دليل ، وإنّما أقول : كيف غضب رسول الله ذلك الغضب ثمّ زال غضبه بمجرّد اعتذار أنس بهذا العذر الواهي ؟ بل يعتذر له رسول الله مرّةً أُخرى ، ويبدي له عذراً !! ألم يكن يعلم رسول الله بهذا : لا يلام الرجل على حبّ قومه ؟ فلماذا غضب عليه إذن ؟ بل قاله له رسول الله وكأنّه يلاطفه بعد ذاك الغضب الشديد ، كما في هذا الحديث : « لست بأوّل رجل أحبّ قومه ، أبى الله يا أنس إلا أنْ يكون ابن أبي طالب ».

وهذه قرائن داخليّة في الألفاظ ، ولو أردت أن أُعيد عليكم الألفاظ بكاملها من أوّلها إلى آخرها لطال بنا المجلس ، لكن تلك المقاطع التي نحتاج إليها ـ كقرائن داخليّة تؤيّد ما نريد أنْ نستدلّ به من هذا الحديث ـ هذه القرائن انتخبتها واستخرجتها بهذا الشكل.

مضافاً : إلى أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام احتجّ بحديث الطير في يوم الشورى.

ولماذا احتجّ ؟ وعلى من احتجّ ؟

احتجّ على كبار الصحابة الذين انتخبهم عمر ، لأن يستشيروا

٢٩

فيما بينهم ، فيتعيّن الخليفة في ذلك المجلس ، هؤلاء أعلام القوم وأهل الحلّ والعقد.

إذن ، احتجّ علي على هؤلاء ، ومن المحتج ؟ علي أمير المؤمنين ، وهل يحتج علي بما ليس له أصل ؟ وهل يحتج علي بما هو ضعيف سنداً أو كذب أو موضوع ؟ فالمحتج علي ، والمحتج عليه أُولئك الأصحاب المنتخبون من قبل عمر لأن يعيَّن من بينهم خليفة عمر ، واحتجّ علي في ذلك المجلس بحديث الطير.

وأيضاً : سعد بن أبي وقّاص الذي أمره معاوية بن أبي سفيان بسبّ علي ، فأبى سعد من أن يسب ، وسأله معاوية عن السبب ، فاعتذر بأنّه سمع من رسول الله خلالاً أو خصالاً لعلي ، ومادام يذكر تلك الخصال فلن يسب عليّاً ، هذا الحديث الذي قرأناه من قبل ، وفيه تحريفات كثيرة كما ذكرت لكم في ذلك المجلس.

في بعض ألفاظ هذا الحديث : إنّ سعداً اعتذر من أنْ يسبّ عليّاً بخصال ، فذكر الخصال ومنها حديث الطير ، الخصال التي اعتذر بها سعد في هذه الرواية هي : حديث الراية ، وحديث الطير ، وحديث الغدير ، وهذه الرواية موجودة في حلية الأولياء لأبي نعيم ، ومن

٣٠

شاء فليراجع (١).

هذا ، والشواهد والقرائن الخارجيّة الدالّة على أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلى الله وإلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيره ، تلك القرائن كثيرة لا تحصى ، والله يشهد على ما أقول ، وأنتم أيضاً تعلمون ، فلا نطيل المجلس بذكر تلك الشواهد.

بل في الأحاديث التي بحثنا عنها ، والايات التي درسناها فيما سبق ، والتي سنذكرها فيما سيأتي ، كفاية لأن تكون شواهد لهذا الحديث.

وما معنى الأحبيّة إلى الله وإلى الرسول ؟ وأيّ علاقة بين الأحبيّة وبين الإمامة والولاية ؟ أي إرتباط بين الأمرين ؟

أتتصوّرون أنْ تكون الأحبيّة إلى الله وإلى الرسول ، أن يكون الشيء أحب الأشياء إلى الله والرسول ، أو يكون شخص الأحب إلى الله وإلى الرسول ، أن تكون الأحبيّة اعتباطيّة ليس لها معيار ، ليس لها ملاك ، ليس لها ضابط ، أيمكن هذا ؟ أتتصوّرون هذا ؟ أتحتملون هذا ؟ وأنتم بأنفسكم ، كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً ، وجعله أحبّ الأشياء إلى نفسه ، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ

__________________

(١) حلية الأولياء ٤ / ٣٥٦.

٣١

الناس إلى نفسه ، يُسأل لماذا ؟ ولابدّ وأن يكون له ضابط ، قطعاً يكون له سبب ، فالأحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً ، الإنسان لا يحب كلّ صوت ، لا يحبّ كلّ صورة ، لا يحب كلّ شيء ، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحب فكيف الأحبيّة ؟ أن يكون شيء أحبّ الأشياء إلى الإنسان من كلّ الأشياء في العالم ، أن يكون شخص أحبّ الأشخاص إلى الإنسان من كلّ أفراد الإنسان وبني آدم ، ويكون هذا بلا حساب وبلا سبب من الأسباب ؟ أيمكن هذا ويعقل ؟

نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول ، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة ، عن سبب ، عن علّة ، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلا لعلّة ، إلا لحساب ، إلا لسبب ، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم ، فإذا سئلت عن السبب لا يكون عندك سبب ، لا يكون عندك جواب معقول.

الله سبحانه وتعالى يجعل فرداً من أفراد البشر ، وواحداً من خلائقه أحبّ الخلائق إلى نفسه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه ، أترى يكون هذا بلا حساب وهل يعقل ؟

وجميع التصرّفات التي صدرت من المحدّثين والمؤلّفين في هذا الحديث ، وما سنقرأ أيضاً ممّا يحاولونه أمام الإماميّة في

٣٢

استدلالهم بهذا الحديث ، كلّ تلك القضايا أدلة أُخرى وشواهد على أنّ هذا الحديث يدلّ على مقام عظيم لأمير المؤمنين ، يدلّ على شأن كبير ، وإلاّ لما فعلوا ، ولما تصرّفوا ، ولما ضربوا وكسروا المنبر ، ولما أهانوا المحدّث الحافظ الشهير الكبير عندهم ، كما سنقرأ.

ثمّ إنّ الأحبيّة إلى الله والرسول لمّا لا تكون اعتباطاً ، ولابدّ من سبب ، والمفروض أنّ تلك الأحبيّة إلى رسول الله لم تكن لميول نفسانيّة ولم تكن لاغراض شخصيّة ، لأن رسول الله أعلى وأجلّ وأسمى من أن يحب شخصاً ويجعله أحبّ الخلق إليه لمجرّد ميل نفساني ، فما هي تلك الضوابط التي أشرنا إليها ؟

نحن لا علم لنا بتلك الضوابط على نحو الدقّة ، لا نعلم بها ، الأمر أدقّ من هذا ، أدقّ من أن تتوصّل إليه عقولنا وأفهامنا ، الأمر أدقّ من أن نفهم أنّ النبيّ أيّ معيار كان عنده لأن يتّخذ أحداً أحبّ الخلق إليه ، نحن لسنا في ذلك المستوى لأن نعرف ذلك المعيار ، لأنْ نعرف ملكات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى نتمكّن من تعيين من هو أحبّ ، اللهمّ إلا عن طريق تلك الأحاديث الواردة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن طريق الأحاديث المتواترة القطعيّة ، عن طريق الأحاديث المتفق عليها بين الطرفين.

٣٣

فأحبيّة شخص إلى رسول الله لا يمكن أن تكون لميل نفساني ولشهوة خاصّة ، ولغرض شخصي عند رسول الله ، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الآخر والآخرين ، بل هناك ضوابط ، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه أقرب الناس ، تلك الضوابط لابدّ وأن تكون هكذا ، وإلاّ فليس بنبي مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى ، يفعل ويترك وما يفعل وما يترك إلا عن وحي من الله سبحانه وتعالى ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (١).

فإذا كانت الأحبيّة بملاك ، بسبب ، وبحساب ، تلك الأحبيّة تنتهي إلى الاقربيّة المعنويّة ، تنتهي إلى الافضليّة ، تنتهي إلى وجود ما يقتضي أن يكون ذلك الشخص الأحب إلى رسول الله ، أن يكون مقدّماً على غيره في جميع شؤون الحياة.

وإليكم عبارة الحافظ النووي في شرح صحيح مسلم ، وهذا حافظ كبير من حفّاظهم ، وكتابه في شرح صحيح مسلم ومن أشهر كتبهم وأكثرها اعتباراً وشهرة ، يقول في معنى محبّة الله تعالى لعبده ـ والمراد من هذه الكلمة في النصوص الإسلاميّة كتاباً وسنّةً ـ

__________________

(١) سورة النجم : ٣ ـ ٤.

٣٤

فيشرح قائلاً :

محبّة الله سبحانه وتعالى لعبده تمكينه من طاعته ، وعصمته ، وتوفيقه ، وتيسير ألطافه وهدايته ، وإفاضة رحمته عليه ، هذه مباديها ، وأمّا غايتها فكشف الحجب عن قلبه ، حتّى يراه [ أي يرى الله تعالى ] ببصيرته فيكون [ هذا الشخص المحبوب لله سبحانه وتعالى ] كما قال في الحديث الصحيح : فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره (١).

هذه عبارته ، وما ألطفها من عبارة.

فهل من شك حينئذ في استلزام الأحبية للإمامة ؟ إنّ من كان محبوباً لله تعالى يكون له هذه المنزلة ، فكيف من كان أحب الخلق إليه ، عبارة النووي كانت في محبّة الله لأحد ، أمّا كون هذا الشخص وحده هو الأحبّ من كلّ الخلائق إلى الله سبحانه وتعالى فحدّث ولا حرج ، هذا الذي قلت بأنّ أفهامنا تقصر عن درك مثل هذه القضايا ، إلا أنّنا نتكلّم بقدر ما نفهم.

إذن ، لا شكّ ولا ريب في استلزام الأحبيّة للامامة والخلافة والولاية.

__________________

(١) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ١٥ / ١٥١.

٣٥

هذا على ضوء الحديث الذي قرأناه برواته وأسانيده وألفاظه ، وبعض العبارات المتعلّقة بالمطلب ذكرتها لكم.

فتمّ البحث إلى الآن عن دلالة حديث الطير على الإمامة واستلزام الأحبيّة للافضليّة.

ملاك الأحبية على صعيد الواقع التاريخي

وأمّا على صعيد الواقع التاريخي ، أذكر لكم شاهدين فقط على صعيد الواقع التاريخي ، حتّى تعرفوا أنّ استدلالنا بحديث الطير على إمامة أمير المؤمنين لا مجال لأيّ خدشة فيه من أيّ أحد من الأولين والآخرين.

الشاهد الأول :

إنّهم يروون عن عمر بن الخطّاب أنّه قيل له لمّا طعن : لو استخلفت ، فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته.

يقول : لو كان أبو عبيدة الجرّاح حيّاً لاستخلفته ، لا أُريد أنْ أخرج عن موضوع البحث ، وإلاّ فعندي تعليق هنا ، يقول : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته.

فإنْ سأله الله : لماذا وبأيّ ملاك استخلفت أبا عبيدة ؟

يقول : وقلت لربّي إنْ سألني : سمعت نبيّك يقول : أبو عبيدة

٣٦

أمين هذه الاُمّة.

ولي تعليق على هذا الحديث أتركه إلى وقت آخر.

ويقول عمر أيضاً : ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته.

وعندي تعليق هنا ، أتركه لوقته.

يقول : فقلت لربّي إنْ سألني : سمعت نبيّك يقول : إنّ سالماً شديد الحبّ لله.

يقول عمر بن الخطّاب : لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته ، هذا الشخص المولى ، ولاعتذرت إلى الله بأنّي سمعت نبيّك يقول : إنّ سالماً شديد الحبّ لله.

إذن ، أصبح الحب ملاكاً ومعياراً للخلافة ، وهو مولى ، وقد أجمعوا على أنّ الإمام يجب أن يكون من قريش ، لكنْ لماذا كان سالم مولى أبي حذيفة بهذه المثابة في نظر عمر بن الخطّاب ؟ نتركه لوقته. هذا هو الشاهد الأول.

هذا الشاهد موجود في تاريخ الطبري (١) ، وفي تاريخ ابن الأثير الكامل (٢) ، فراجعوا.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٥٨٠ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ١٤٠٨ ه‍.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ / ٦٥ ـ دار صادر ـ بيروت ـ ١٣٩٩ ه‍.

٣٧

الشاهد الثاني :

والأهم من هذا هو الشاهد الثاني ، تجدونه في صحيح البخاري في قضيّة السقيفة نفسها ، في بيعة أبي بكر بالذات ، يقول الراوي والعبارة هكذا :

اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، فقال أبو بكر : نحن الاُمراء وأنتم الوزراء ، فقال عمر : نبايعك أنت ، فأنت سيّدنا وخيّرنا وأحبّنا إلى رسول الله ، فبايعه عمر وبايعه الناس (١).

فأصبحت الاحبية إلى رسول الله هي الملاك على صعيد الواقع ، دعنا عن البحث الصغروي فله مجال آخر ، نستدلّ الآن بهذا الحديث على ما هو في صحيح البخاري صدقاً أو كذباً ، حجة عليهم ونحن نلزمهم بهذه الحجة ، عمر بن الخطّاب يدّعي لأبي بكر إنّه كان أحبّ الخلق إلى النبي ، ولذا ـ أمام الأنصار وغيرهم ـ نادى بأنّ أبا بكر هو المتعيَّن للخلافة ، بأيّ دليل ؟ لانّه أحبّ الخلق إلى رسول الله.

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٧ ـ ٨.

٣٨

لكن حديثنا حديث متواتر قطعي الصدور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مقبول بين الطرفين ، وقد ذكرت لكم رواة هذا الحديث ، وذكرت لكم كيفيّة الإستدلال به ، وفقه هذا الحديث.

الحسد لأمير المؤمنين عليه‌السلام :

ومن فوائد حديث الطير أنّه كان هناك بين أصحاب رسول الله حتّى المقرّبين منهم ، من كان في قلبه حسد بالنسبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأنس بن مالك خادم رسول الله يكذب ، لا مرّةً ولا مرّتين ، يكذب مرّات لاجل الحسد الذي في قلبه على علي أمير المؤمنين ، لكن أنساً كشف عن واقع حاله أكثر فأكثر ، عندما ناشده أمير المؤمنين عليه‌السلام بحديث الغدير فأبى أن يشهد ، وكتم الشهادة ، وكتمان الشهادة ذنب كبير من كبائر المعاصي ، حتّى أنّ أمير المؤمنين دعا عليه ، وابتلي بالبرص.

إنّه لابدّ أنْ نعرف حقائق الأشخاص من خلال السنّة النبويّة ، قبل أن نقرأ تراجمهم وأحوالهم في كتب التراجم ، ففي السنّة وفي الأحاديث الواردة في المصادر المعتبرة ما يستكشف به حقائق حالات الأشخاص أكثر بكثير ، وهذا ممّا لا يخفى على المتضلّعين بمثل هذه البحوث.

٣٩
٤٠