مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الأردبيلي [ المقدّس الأردبيلي ]


المحقق: الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية ـ قم المقدّسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٦

١
٢

كلمة حول الفقه الإسلامي

مع

ترجمة الشارح والماتن قدس سرّهما

٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حديث في التفقه)

محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن ابى عمير ، عن جميل بن دراج ، عن ابان بن تغلب ، عن ابى عبد الله عليه السلام قال : لوددت أنّ أصحابي ضربت رؤسهم بالسياط حتى يتفقهوا (١).

__________________

(١) أصول الكافي ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه حديث ـ ٨

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين.

جاءت رسالة الإسلام وهي تحمل إلى البشريّة آخر اطروحة جادت بها ، يد السّماء على سكّان هذه الأرض ، بعد فترة طويلة من الانقطاع دامت قرونا من الزّمن.

هبطت رسالة الله على الأرض يحملها أعظم انسان عرفته السّماء ، فبشّر بدعوته في مجتمع لم يتنفّس نسمة من الحياة ، ولم يكن له بالحضارة والتّربية الإنسانيّة عهد قريب ولا بعيد ، ولم يمتّ الى المفاهيم السّامية والخلق الرّفيع بصلة في حاضره ولا ماضيه القريب ، فبدأ جهادا شاقا عسيرا متواصلا دائبا ، لا يعرف فتورا ولا كللا ، ولا وهنا ولا مللا ، حتّى نظّف الجزيرة العربيّة من جراثيم الشّرك ، وغسل قلوب الجاهلين الجفاة من ركام (١) الضّغائن والأحقاد ، وطهّر عقولهم من أدران الخرافات والأوهام ، وَوَضَعَ عَنهُم (إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) ، (٢) وجعل منهم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ) يأمرونَ بالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَر. (٣)

__________________

(١) الركام بالضّم الرّمل المتراكم وكذلك السحاب وما أشبهه (مجمع)

(٢) اقتباس من الكتاب العزيز ـ الأعراف ١٥٧

(٣) اقتباس أيضا من الكتاب العزيز ـ آل عمران ١١٠

٥

هكذا شقّت شريعة الله طريقها الى مجتمع بنى الإنسان ، فكانت عقيدة تطمئنّ إليها القلوب ، ونهجا يهتدي به الإنسان في السّلوك ، واطروحة شاملة تنظّم حياة الإنسان من المهد الى اللّحد ، بل وتخطّط له وهو لم يطأ المهد بعد ، كما ويتبعه بعد ان وأراه اللّحد.

وهكذا كان الإسلام عقيدة يتألف منها كيانه (١) الفكرى وأساسه العقيدى ، يقوم عليها صرح عظيم من التشريعات الإلهيّة الّتي تخطّط لحياة الإنسان على وجه الأرض تخطيطا منسجما مع فطرة الإنسان لا يتم له بدونه سعادة وهناء.

وكان من أبده ما عرفه المسلمون الأوائل انّ إسلامهم دين الإنسان قبل أن يكون أي شي‌ء آخر ، فهو يتبع في سعته وضيقه سعة آفاق الوجود الإنساني وضيقها ، ولما كان الوجود الإنساني وجودا واسع الأبعاد ، بعيد الآفاق ، ممتدّ الجوانب ، فلا بدّ للإسلام ان لا يقصر في سعته وتعدّد جوانبه وبعد مساحاته التشريعيّة عن سعة هذا الإنسان.

فكانت هذه البديهة الإسلاميّة تدفع بالمسلمين الى أن يرجعوا إلى الإسلام في كل ما يحدث لهم من شؤون ، أو تطرأ عليهم من مشكلات ، أو تعرضهم من قضايا ، وكان الأمر سهلا حين كانوا والرّسول بين أظهرهم يمدّهم من تعاليم الوحي وهداياته بما يشاؤون ويحتاجون ، وبعد أن أجاب الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم دعوة ربّه بقيت مشكلة الحاجة الى أحكام الإسلام سهلة الحلّ إلى حدّ مّا حتّى منتصف القرن الأوّل الهجري وشيئا من نصفه الثّاني ، حيث كانت هناك باقية من صحابة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم الذين تحمّلوا العلم منه صلى الله عليه وآله وسلم قدر ما وقع إليهم واستطاعوا تحمّله ، فكانوا مرجعا للمسلمين ، يسألونهم عن رأي الإسلام في ما تطرأ عليهم من مشكلات ، وتجدّ لهم من مسائل.

وانما بدأت المشكلة الكبرى بعد أن غادرت (٢) هذه الوجوه مجتمع المسلمين وأسلمت إلى ربّها ، فبقي المسلمون ، وبقيت ركام المشكلات والأحداث تنتظر

__________________

(١) الكيان الطبيعة والخلقة ـ المنجد

(٢) غادره اى تركه وأبقاه ـ المنجد

٦

رأي الإسلام فيها ، وليس عليها من الكتاب دلالة تصريح ، ولا من السّنّة أثر صريح.

وقد كانت شيعة أهل البيت عليهم السلام أخفّ مؤنة من غير هم أمام هذه المشكلات فهم على ما يعتقدونه في أئمّة أهل البيت عليهم السّلام من العصمة والمرجعيّة في بيان الأحكام ، كانوا يراجعونهم في ما يجد لهم من الوقائع والأحداث ، ولكنّهم واجهوا المشكلة نفسها ـ مع شي‌ء من الاختلاف ـ منذ ان بدأ عصر الغيبة وخاصّة بعد انتهاء فترة الغيبة الصغرى (فترة النيابة الخاصّة عن الامام) وشروع الغيبة الكبرى حيث انقطعت الشيعة عن امامهم انقطاعا يشبه بالتّام.

وعلى أىّ حال فقد أصبحت الحاجة الى معرفة الحكم الإسلامي في الأحداث المتجدّدة بل وحتّى الأحداث السّالفة باعتبار أنّ البعد الزّمني بين الأمّة وبين عصر التشريع جعلهم يجهلون حكم كثير من الأحداث الّتي وقعت في عصر النبوة والتشريع أيضا إلا ما اشتهر حكمه وذاع ـ حاجة ماسة لدى الشّيعة والسّنّة على السّواء وكان لا بدّ لها من حلّ ، وكانت اطروحة «الاجتهاد» هي الحلّ.

ولكي نعرف إجمالا من هذه الأطروحة ، لا بدّ من التّعرّف على المشكلة الّتي جاءت الاطروحة لحلّها ، وأسبابها وشرائطها ، وبهذا الصدد نقول :

١ ـ الإسلام شريعة كاملة شاملة جاء ليحكّم مجتمع الإنسان على مدى الدّهور ، ويبلغ بالإنسان الى كماله الأقصى ـ وهذا من بديهيّات الإسلام الذي لا ريب فيه ، فالإسلام اذن :

ألف ـ شريعة عامّة لكلّ النّاس ، من غير اختصاص بفئة دون فئة ، أو قوم دون قوم.

قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلّا كَافَّةً لِلنّاسِ» (١)

وقال أيضا (قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢)

__________________

(١) ٢٨ ، سبأ.

(٢) ١٥٨ ، الأعراف.

٧

ب ـ عامّ لكل الأزمنة ، لا يختصّ تشريعه بزمان خاصّ ، قال أبو عبد الله الصّادق ع : «حلال محمّد حلال أبدا إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ، ولا يجي‌ء غيره» (١)

ج ـ يتصدّى لكلّ قضايا الإنسان صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها ، فلا يهمل من شؤون الإنسان شيئا أبدا.

قال أبو جعفر الباقر (ع) : «انّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه ، وبيّنه لرسوله صلى الله عليه وآله ، وجعل لكل شي‌ء حدّا وجعل عليه دليلا يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا» (٢)

٢ ـ الّذي ورثه المسلمون من النّصوص التّشريعيّة يسير جدّا بالنّسبة إلى العدد الهائل (٣) من المشكلات والأحداث المستجدّة ، أمّا الكتاب فأكثره عقيدة ومواعظ وقصص ، ولا يتعدّى آياته الواردة في الأحكام ، الخمسمائة آية ، بينها العام والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والنّاسخ والمنسوخ. والمجمل والمبيّن الى غير ذلك.

وأمّا السّنّة فما لم يصلنا منها أكثر ممّا وصلنا ، فقد منع الخليفة الثّاني من تدوينها منعا باتا وظلّت السنّة غير مدوّنة حتّى عزم عمر بن عبد العزيز على تدوينها فأمر قاضيه على المدينة أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم أن يجمع الأحاديث فتوفي ابن عبد العزيز وقد جمع ابن حزم كتابا قبل أن يبعث به اليه (٤) وقد أكلت هذه المدة أعمار من حملوا من الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم شيئا من العلم ، فلم يبق من السّنّة إلّا ما حمله عنهم فئة قليلة من التّابعين.

ومن هذا الممر الضيّق عبرت إلينا سنّة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان من الطبيعي أن لا يفي بكثير ممّا تمسّ فيه الحاجة الى تشريع.

٣ ـ اتّساع رقعة الإسلام ، ودخول النّاس في دين الله أفواجا والتطوّر

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٥٨ باب البدع والمقاييس حديث ١٩

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٥٩ باب الرد إلى الكتاب والسنة حديث ٢

(٣) هاله من باب قال يهوله هولا أفزعه فهو هائل (مجمع)

(٤) حاشية الزرقانى على موطّإ مالك ج ١ ص ١٠.

٨

التمدينى السّريع ، وتعقّد العلاقات الاجتماعيّة ، كلّ هذا وغيره سبّب حدوث مشكلات ومسائل جديدة تحتاج الى حلّ إسلامي ، وليس في ظاهر الكتاب ما يشير الى حلّها ، ولا في السنّة الموجودة بأيدي المسلمين ما يكفيهم لحلّها.

وهنا كانت الصّعوبة ، وكان لا بدّ في تذليلها من العثور على ما يملأ فراغ النّصوص التشريعيّة ، وكان لا بدّ أن يكون الحلّ إسلاميّا أيضا ليكون منسجما مع شمول الشّريعة الإسلاميّة وكمالها الّذي لا ريب فيه ، فإنّ ملأ الفراغ التشريعي بما لا يمتّ إلى الإسلام بصلة ، معناه الاعتراف بنقص الشريعة ، مع ان شمول الشريعة وكمالها من أوضح ما اتفقت فيه كلمة المسلمين قاطبة.

وكان الاجتهاد هو الاطروحة المشتملة على كلتا الخصلتين ـ في رأي كثير من فقهاء المسلمين منهم أبو حنيفة وتلميذه أبو يوسف ، ومحمّد بن الحسن الشّيباني ـ فهي من جهة تملأ الفراغ التّشريعي المشار اليه ، ومن جهة أخرى فهي ـ في وجهة نظر أصحابها ـ تستمدّ مشروعيّتها من الإسلام نفسه.

واطروحة الاجتهاد تتلخّص ـ في رأي هذه المدرسة ـ في استعمال القياس والاستحسان للوصول إلى أحكام الشّرع ، ومن وظيفة المجتهد أن يرجع في أخذ الحكم الشّرعي إلى الكتاب والسّنّة أولا ، فإن وجد فيهما ما يفي بمقصوده والّا قال في المسئلة بما يقتضيه رأيه مستعينا في ذلك بالقياس والاستحسان.

أمّا فقهاء مذهب أهل البيت عليهم السلام فقد شجبوا (١) هذه الطّريقة شجبا صارما تبعا لأئمتهم عليهم السلام واعتبروا اتّخاذ هذا الأسلوب في التّشريع إدخالا لغير الإسلام فيه ، ورأوا أنّ اللّجإ الى هذه الطّريقة اعتراف بنقص الشّريعة وعدم وفائها بما يحتاجه النّاس ، وأنّ نسبة هذه الطريقة إلى الإسلام غير مؤيّدة بدليل ، مع أنّها اتّهام له بالتّناقض ، فإنّ ادّعائه الشّمول والكمال من جهة ، مع تشريعه لطريقة الاجتهاد الّتي ليست إلّا اعترافا. بالنّقص في التشريع من جهة أخرى جمع بين متناقضين ، ورسالة الله أسمى من ان تصاب بشي‌ء من ذلك.

__________________

(١) شجبه شجبا : أهلكه ـ المنجد

٩

وقد كان في ما ورثوه عن أئمتهم عليهم السلام من ثروة علميّة هائلة غنى لهم عن اللّجإ إلى الرّأي والقياس ، فما من شي‌ء يحتاج إلى تشريع إلّا وفي أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما يتصدّى لبيان حكمه بوجه من الوجوه.

غير أنّ هذا الميراث العظيم بوحدة لم يكن ليضع عن الطّالبين لاحكام الشرع كلّ جهد ، ولم يكن تحصيل الحكم الشرعي منها على درجة من السّهولة بحيث يتاح (١) ذلك لكل أحد من النّاس بل كانت معرفة الحكم الشرعي من خلال أحاديث أهل البيت عليهم السلام على ما هي عليه من غزارة ووفرة ـ مكتنفة بعدّة صعوبات :

١ ـ إنّ في أحاديث أهل البيت عليهم السلام عامّا وخاصّا ومطلقا ومقيّدا ومجملا ومبيّنا فاستفادة الحكم الشّرعي منها يتوقّف على إحاطة ، كمّيّة وكيفيّة بأحاديثهم أوّلا ، وعلى معرفة القواعد والأساليب الّتي لا بد من اتّباعها في حمل المطلق على المقيّد ، أو العام على الخاصّ ، أو المجمل على المبيّن ثانيا.

٢ ـ إنّ الرّواسب النّفسية والسّوابق والمرتكزات الذّهنيّة والعوامل الذاتيّة تؤثر في فهم النّصوص والعبارات ، ولذلك نرى الأفهام تختلف في ما تتلقّاه من عبارة واحدة ، وعليه فلا بدّ من اكتشاف القواعد والأساليب الأوّليّة الّتي تجري عليها الأذهان السّليمة في التّفاهم بالعبارات ، ولا بدّ من الاستعانة بها في فهم الأحاديث.

٣ ـ إنّ في التّشريع الإسلامي جانبا متغيّرا متطوّرا لم يتعرّض الإسلام فيه بتشريع تفصيلي ثابت لارتباطه بالجوانب المتغيّرة من حياة الإنسان ، بل جاء فيه بتشريعات عامّة وترك لوليّ الأمر مسئوليّة تفاصيله ، وهو ما يسمى ب «منطقة الفراغ» ولا بدّ لوليّ الأمر أن يتوفر على شرائط منها ، العلم الكامل بالشريعة ، والعدالة البالغة حدّ الملكة.

٤ ـ ما يجده المراجع للأحاديث المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام من التعارض بينها في بعض الأحايين ، والسّبب في ذلك أحد أمور.

__________________

(١) يقال : تاح له الشي‌ء واتيح له الشي‌ء من باب صار قدّر له ويسّر (مجمع)

١٠

ألف ـ ضياع القرائن المكتنف بها النصّ ، أو السّياق الذي ورد فيه ، نتيجة للتقطيع أو الغفلة في مقام رواية الحديث.

ب ـ تصرّف الرّواة في ألفاظ النّصّ ونقلهم له غير مكترثين بألفاظه وغير محافظين على حرفيّته.

ج ـ ظروف التّقيّة الشّديدة الّتي عاشها الأئمّة عليهم السلام ، ممّا جعلهم يضطرّون في بعض الاحايين إلى اتخاذ مواقف قوليّة أو عمليّة مخالفة لآرائهم ، انسجاما مع الوضع السّائد وحفاظا على وجود الشريعة ودعاتها.

د ـ أسلوب التدرّج الّذي كان يسلكه أئمتنا في مجال بيان الأحكام الشرعيّة وتبليغها للنّاس مراعاة لحال السائل أو للظّروف المكتنفة به.

ه ـ عمليّة الدّسّ والتّزوير الّتي قام بها بعض المغرضين والمعادين لمذهب أهل البيت عليهم السلام على ما أثبته لنا التّاريخ ، وورد التّصريح به والتحذير منه في روايات الأئمّة عليهم السلام أنفسهم.

فلا بد لمن يتصدّى لأخذ الأحكام الشّرعيّة من الرّوايات من القدرة على حلّ التّعارض بين الرّوايتين ، أو إجراء القواعد الّتي لا بد من تطبيقها بين المتعارضتين :

٥ ـ من الطّبيعي أنّ أحاديث أهل البيت عليهم السلام لم تصل إلينا بالمباشرة ، وانّما وصلتنا عن طريق الرّواة والنّاقلين ، ومن المقطوع به تفاوت حال الرّواة من حيث الوثاقة وعدمها والحفظ والضّبط وعدمهما ، مع العلم بأنّه لا يمكن الرّكون إلّا إلى نقل الحافظ الأمين.

وحينئذ فمعرفة النّاقلين والرّواة بأشخاصهم وأوصافهم أمر لا بدّ منه في العمل بالحديث.

ثم ان احاديث أهل البيت عليهم السلام ليست هي وحدها مصدرا للأحكام الشرعيّة ، بل هي إلى جانب الكتاب والسّنّة النّبويّة في المصدرية للأحكام ، فتبقى على عهدة من يريد التّصدّي لمعرفة الأحكام الشّرعيّة ان يحيط بهما فهما واستيعابا مع أنّ الرّجوع إلى السّنّة النبويّة مكتنف ببعض الصّعوبات الّتي أشرنا إليها فيما تقدم.

ثم إذا ضممنا إلى هذين المصدرين (الكتاب والسّنّة) العقل والإجماع

١١

فلا بدّ بالنّسبة إلى المصدر الأوّل ـ (العقل) ـ من التّوثّق من مصدريّته للأحكام الشرعيّة وكيفيّة دلالته عليها والشرائط الّتي لا بدّ من توفرها في ذلك ، ولا بدّ بالنّسبة للثاني (الإجماع) من التّوثق من مصدريّته لحكم الشرع ، وكيفيّة ذلك ، والشرائط الّتي لا بدّ من توفرها في ذلك ، بالإضافة إلى الإحاطة بأقوال الفقهاء ، من القدامى والمحدثين.

وقد أشار الشّهيد الثّاني إلى الشرائط المعتبرة في المفتي فقال :

اعلم أنّ شرط المفتي كونه مسلما مكلّفا عدلا فقيها ، وإنّما يحصل له الفقه إذا كان قيّما بمعرفة الأحكام الشرعيّة مستنبطا لها من أدلّتها التّفصيلية ـ من الكتاب والسّنّة والإجماع وأدلّة العقل ـ وغيرها ممّا هو محقّق في محلّه ولا يتم معرفة ذلك إلّا بمعرفة ما يتوقّف عليه إثبات الصّانع وصفاته الّتي يتم بها الأيمان والنبوّة والإمامة والمعاد من علم الكلام.

ومعرفة ما يكتسب بها الأدلّة من النّحو والصرف واللّغة العربيّة وشرائط الحدّ والبرهان من علم المنطق.

ومعرفة أصول الفقه وما يتعلّق بالأحكام الشرعيّة من آيات القرآن.

ومعرفة الحديث المتعلّق بها ، وعلومه متنا وإسنادا ، ولو بوجود أصل صحيح يرجع إليه عند الحاجة إلى شي‌ء منه.

ومعرفة مواضع الخلاف والوفاق بمعنى أن يعرف في المسئلة الّتي يفتي بها أنّ قوله لا يخالف الإجماع ، بل يعلم أنّه وأفق بعض المتقدّمين أو يغلب على ظنّه أنّ المسئلة لم يتكلّم فيها الأوّلون بل تولدت في عصره أو ما قاربه.

وان يكون له ملكة نفسانيّة وقوّة قدسيّة يقتدر بها على اقتناص الفروع من أصولها وردّ كلّ قضيّة إلى ما يناسبها من الأدلّة.

وهذه شرائط المفتي المطلق المستقل أوردناها على طريق الإجمال وتفصيلها موكول إلى أصول الفقه» (١) هذه هي أهمّ الصّعوبات الّتي لا بدّ من تذليلها في معرفة الاحكام الشرعيّة من مصادرها والقدرة على اجتياز هذه الصّعوبات والقيام بعمليّة استنباط الحكم

__________________

(١) منية المريد في آداب المفيد والمستفيد ص ١٧١.

١٢

الشرعي من مصادره على الوجه المطلوب ، هو الذي يطلق عليه في عرف علماء الشّيعة الاجتهاد ، ولهذا فتعريف الاجتهاد عندهم هو «ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الشرعيّة (١)»

* * *

. والكتاب الّذي بأيدينا نموذج من هذه المحاولة الاستنباطيّة اشترك في إنجازه مجتهدان من أكبر اعلام الفقه الإمامي ، أحدهما : العلامة الحلّي ، وهو صاحب المتن المسمّى ب «إرشاد الأذهان إلى أحكام الايمان» وثانيهما : المقدّس الأردبيلي شارح ذلك المتن ومؤلّف الكتاب الحاضر : «مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان».

وسوف نحاول فيما يلي أن نترجم لشخصيّتهما ترجمة موجزة فنبدء بصاحب المتن :

العلامة الحلّي :

قال ابن داود الحلّي في رجاله :

«الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي شيخ الطّائفة وعلّامة وقته وصاحب التّحقيق والتدقيق كثير التصانيف ، انتهت رئاسة الإماميّة إليه في المعقول والمنقول» (٢)

وقال المحدّث النوري صاحب المستدرك على وسائل الشيعة : «الشيخ الأجل الأعظم بحر العلوم والفضائل والحكم ، حافظ ناموس الهداية ، وكاسر ناقوس الغواية ، حامي بيضة الدّين ، ما حي آثار المفسدين الذي هو بين

__________________

(١) الاجتهاد والتقليد من التنقيح ص ٢٠

(٢) رجال ابن داود القسم الأوّل ، العدد ٤٦١. وفي الخلاصة في ترجمة نفسه : الحسن بن يوسف بن على بن مطهّر (بالميم المضمومة والطّاء الغير المعجمة والهاء المشدّدة والرّاء) أبو منصور الحلي مولدا ومسكنا

١٣

علمائنا الأصفياء كالبدر بين النجوم ، وعلى المعاندين الأشقياء أشدّ من عذاب السموم وأحدّ من الصّارم المسموم ، صاحب المقامات الفاخرة والكرامات الباهرة ، والعبادات الزاهرة والسّعادات الظاهرة لسان الفقهاء والمتكلّمين والمحدّثين والمفسّرين ، ترجمان الحكماء والعارفين والسالكين المتبحرين ، النّاطق عن مشكاة الحق المبين ، الكاشف عن اسرار الدّين المتين ، آية الله التامة العامّة ، وحجّة الخاصّة على العامّة ، علّامة المشارق والمغارب ، وشمس سماء المفاخر والمناقب والمكارم والمآرب ، الشيخ جمال الدين ابى منصور الحسن بن سديد الدّين يوسف بن زين الدّين علي بن المطهّر الحلي ، أفاض الله على مرقده شآبيب الرحمة والرّضوان» (١)

وقال العلامة ميرزا عبد الله الأفندي (٢) ، في كتابه «رياض العلماء» :

الامام الهمام العالم العامل الفاضل الكامل الشّاعر الماهر ، علّامة العلماء ، وفهّامة الفضلاء ، استاد الدّنيا ، المعروف فيما بين الأصحاب ب «العلّامة» عند الإطلاق الموصوف بغاية العلم ، ونهاية الفهم والكمال ، وهو ابن أخت المحقّق ، وكان قده آية الله لأهل الأرض ، وله حقوق عظيمة على زمرة الإماميّة ، والطائفة الشيعة الحقّة الاثنى عشريّة لسانا وبيانا ، تدريسا وتأليفا ، وكان جامعا لأنواع العلوم ، مصنّفا في أقسامها ، حكيما متكلّما ، فقيها محدّثا ، أصوليا ، أديبا ، شاعرا ماهرا ، وقد رأيت بعض إشعاره ببلدة أردبيل ، وهي تدل على جودة طبعه في أنواع النظم أيضا ، وافر التّصنيف ، متكاثر التّأليف ، أخذ واستفاد عن جمّ غفير من علماء عصره من العامّة والخاصّة ، وأفاد وأجاد على جمع كثير من فضلاء دهره من الخاصّة والعامّة» (٣)

هذه نماذج من إطراء علماء الشيعة لهذا الامام الفذّ ويبدو أنّ عظمة الرّجل بلغت من الوضوح والاشتهار بحيث لم يسع للمتعصّبين من علماء السّنّة إنكارها ، كابن حجر العسقلاني فقد ذكره في «لسان الميزان» بما لفظه الحسين. «ابن

__________________

(١) الفائدة الثالثة من خاتمة المستدرك ص ٤٥٩ من الجزء ٣ ط حجر

(٢) المولود في حدود سنة ١٠٦٦ والمتوفى في حدود سنة ١١٣٠ (الكنى ج ٢ ص ٤١)

(٣) رياض العلماء ، حرف الحاء المهملة ، نقلا عن مقدّمة الألفين.

١٤

يوسف بن المطهّر الحلّي عالم الشيعة وامامهم ومصنّفهم ، كان آية في الذّكاء ، شرح مختصر ابن الحاجب شرحا جيّدا ، سهل المأخذ ، غاية في الإيضاح ، واشتهرت تصانيفه في حياته ، وهو الذي ردّ عليه الشيخ تقى الدين بن تيمية في كتابه المعروف ب «الرّد على الرافضي» وكان ابن المطهّر مشتهر الذّكر وأحسن الأخلاق ، ولما بلغه بعض كتاب ابن تيمية ، قال : لو كان يفهم ما أقول أجبته» (١)

ولقد وهم ابن حجر إذ عبر عن العلامة ب «الحسين» مع انّ اسمه «الحسن» من دون خلاف كما وهم أيضا في موضع آخر من كتابه إذ قال : «يوسف بن الحسن ابن المطهّر الرافضي المشهور كان رأس الشيعة في زمانه» (٢) إذ جعل اسم الوالد موضع الولد والصحيح : حسن بن يوسف.

ولعل العلامة الحلي رضوان الله عليه ثاني رجلين لم يعهد لهما بين علماء الإماميّة مثل في عصر الغيبة الكبرى ، أوّلهما شيخ الطائفة الطّوسي ، وابرز ما اشترك فيه هذان العلمان ـ من خصائص ـ هو هذه الموسوعيّة الفريدة الّتي جعل كلا من هذين العلمين على رأس مرحلة جديدة من تاريخ الفكر الشيعي ، وكما أنّ ريادة (٣) الشيخ الطّوسي وإمامته الفذة للفكر الإمامي تجلّت في ركود حركة الاجتهاد في مدرسة الشيعة لمدة قرن من الزمن تقريبا ، نظرا لما كان يحتلّه (٤) الشيخ في نفوس العلماء من قدسيّة واحترام جعلت آرائه ونظريّاته فوق حدّ النّقاش والنّقد في تصوّرهم ، كذلك ظهرت نفس المكانة للعلّامة في ظاهرة اخرى ، وهي ما جرت عليه عادة الفقهاء الشيعة من الحكم على عصر ما بعد العلامة بأنّه عصر جديد وتسمية الفقهاء الّذين سبقوا عصر العلامة ب «المتقدّمين» والفقهاء الّذين تأخّروا عن عصر العلامة ب «المتأخرين».

ومن ظواهر هذه العظمة الفريدة الّتي اختصّ بها الامام الحسن بن يوسف ، اشتهاره بين علماء الطائفة بألقاب كبيرة المدلول ، جليلة المضمون ، لم يعهد

__________________

(١) لسان الميزان ج ٢ ص ٣١٧ ط حيدرآباد.

(٢) نفس المصدر ج ٦ ص ٣١٩ ط حيدرآباد.

(٣) أصل الرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلاء ومساقط الغيث يقال راد يرود ريدا وروادا وريادا (مجمع)

(٤) احتل المكان وبالمكان نزله (المنجد)

١٥

إطلاقها على غيره من علماء الطائفة مثل «آية الله على الإطلاق» و «العلّامة» و «الامام»

مولده

ولد ره في الحلّة ، وهي وقتئذ مناخ العلماء ، ومجمع أهل الفضل ، وكان والده من كبار علماء الإماميّة في عصره ، وهو الشيخ سديد الدّين يوسف بن زين الدّين على بن المطهّر الحلّي ، وأمّه أخت المحقق الحلي صاحب الشرائع بنت أبي يحيى الحسن بن يحيى صاحب الجامع ابن الحسن بن سعيد الهذلي.

واما تاريخ ولادته ، فقد ذكره العلامة ره بنفسه في جوابه للسّيد المهنّا بن سنان المدني ، قال ره :

«واما مولد العبد فالّذي وجدته بخط والدي قدس الله روحه ما صورته :

ولد ولدي المبارك أبو منصور الحسن بن يوسف بن مطهّر ليلة الجمعة في الثلث الأخير من اللّيل ٢٧ (١) رمضان ، من سنة ٦٤٨ ه‍.

مشايخه في القراءة والرّواية :

تلمذ الإمام العلّامة على عدة من كبار علماء وقته في مختلف الفنون التي كانت سائدة في ذلك الحين ، وفيما يلي ، أسماؤهم :

١ ـ الشيخ سديد الدين يوسف ، والد العلامة ، وقد كان من علماء الشيعة في عصره ، قال ابن داود الحلي ره في ترجمة العلّامة : وكان والده قدّس الله روحه فقيها محققا مدرّسا عظيم الشّأن» (٢) قرأ عليه في العلوم الآليّة والفقه والأصول والحديث.

٢ ـ المحقق الحلّي جعفر بن الحسن ، خال العلّامة ، قال ابن داود : جعفر بن الحسن بن يحيى شيخنا نجم الدّين أبو القاسم المحقّق المدقق ، الإمام العلّامة واحد عصره ، كان السن أهل زمانه واقومهم بالحجة وأسرعهم استحضارا ـ الى ان يقول ـ وله تلاميذ فقهاء فضلاء رحمه الله» (٣) وقال العلامة

__________________

(١) وفي الخلاصة : والمولد تاسع عشر شهر رمضان

(٢) رجال ابن داود ، القسم الأوّل ، العدد (٤٦١)

(٣) نفس المصدر ، القسم الأوّل ، العدد ٣٠٠.

١٦

في حقه «وهذا الشيخ كان أفضل أهل عصره في الفقه» (١) أخذ العلامة عنه الفقه والأصول ، وروى الحديث.

٣ ـ المحقّق الفيلسوف نصير الدّين الطوسي قدس سرّه (٢) ، قال العلامة «وكان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقليّة والنقليّة ، وله مصنّفات كثيرة في العلوم الحكميّة والأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة ، وكان أشرف من شاهدناه في الأخلاق نوّر الله ضريحه قرأت عليه الهيئات الشّفاء لأبي على بن سينا ، وبعض التذكرة في الهيئة تصنيفه رحمه الله ثم أدركه الموت المحتوم قدّس الله روحه» (٣)

٤ و ٥ ـ السّيّدان الجليلان رضي الدين علي وجلال الدين احمد ابنا موسى بن طاوس الحسنيّان قدّس الله روحهما ، قال العلّامة : «وهذان السّيّدان زاهدان عابدان ورعان ، وكان رضي الدّين على ره صاحب كرامات حكى لي بعضها ، وروى لي والدي عنه البعض الآخر. (٤)

٦ ـ الشيخ السّعيد نجيب الدّين يحيى بن احمد بن سعيد قال ابن داود : «يحيى بن احمد بن سعيد شيخنا الإمام العلامة الورع القدوة ، وكان جامعا لفنون العلم الأدبية والفقهية والأصوليّة ، وكان أورع الفضلاء وأزهدهم له تصانيف جامعة للفوائد ، منها كتاب «الجامع للشرائع» في الفقه ، وكتاب «المدخل» في أصول الفقه وغير ذلك مات في ذي الحجة سنة ٦٩٠ قدس الله روحه» (٥)

٧ ـ الشيخ مفيد الدين محمد بن جهيم ، قال العلّامة حينما جاء الخواجه نصير الدّين الطوسي إلى الحلّة فاجتمع عنده فقهاء الحلّة ، أشار الى الفقيه نجم الدّين جعفر بن سعيد ، وقال : من أعلم هؤلاء الجماعة؟ فقال له : كلهم فاضلون

__________________

(١) اجازة العلامة لبني زهرة البحار ج ١٠٧ ص ٦٣.

(٢) المتولد سنة ٥٩٧ والمتوفى سنة ٦٧٢ هجرية قمريّة

(٣) اجازة العلامة لبني زهرة ، البحار ج ١٠٧ ص ٦٢

(٤) نفس المصدر ص ٦٣

(٥) رجال ابن داود ، القسم الأول العدد ١٦٦٠.

١٧

علماء ان كان واحد منهم مبرزا في فنّ كان الآخر مبرزا في فن آخر فقال : من أعلمهم بالأصولين؟ فأشار الى والدي سديد الدّين يوسف بن المطهّر والى الفقيه مفيد الدّين بن محمد بن جهيم فقال : هذان اعلم الجماعة بعلم الكلام وأصول الفقه. (١)

٨ ـ الشيخ السعيد الحسين بن على بن سليمان البحراني قدّس الله روحه.

٩ ـ الشيخ كمال الدّين ميثم بن على بن ميثم البحراني شارح نهج البلاغة المتوفى سنة ٦٧٩ ه‍. (٢)

١٠ ـ الشيخ نجم الدّين على بن عمر الكاتبي القزويني ، المعروف ب «دبيران» قال العلامة : «كان من فضلاء العصر وأعلمهم بالمنطق وله تصانيف كثيرة ، قرأت عليه شرح الكشف إلا ما شذ ، وكان له خلق حسن ومناظرات جيّدة ، وكان من أفضل علماء الشافعيّة عارفا بالحكمة (٣)

١١ ـ الشيخ برهان الدّين النسفي ، قال العلامة «وهذا الشيخ كان عظيم الشأن زاهدا مصنّفا في الجدل استخرج مسائل مشكلة قرأت عليه بعض مصنفاته في الجدل وله مصنّفات متعدّدة. (٤)

١٢ ـ الشيخ أبو على الحسن بن إبراهيم الفاروقي الواسطي ، قال العلامة «وهذا الشيخ كان رجلا صالحا من فقهاء السنّة وعلمائهم» (٥)

١٣ ـ الشيخ تقىّ الدّين عبد الله بن جعفر بن على بن الصبّاغ الكوفي ، قال العلامة «وهذا الشيخ كان صالحا من فقهاء الحنفيّة بالكوفة» (٦)

١٤ ـ الشيخ شمس الدّين محمد بن محمد بن أحمد الكيشي ، قرأ عليه في

__________________

(١) الإجازة لبني زهرة ، البحار ج ١٠٧ ص ٦٤.

(٢) مقدّمة شرح نهج البلاغة لابن ميثم ص ٩ ، ومقدمة إحقاق الحق ص ٤٧.

(٣) الإجازة الكبيرة لبني زهرة البحار ج ١٠٧ ص ٦٦.

(٤) البحار ج ١٠٧ ص ٦٧.

(٥) نفس المصدر ص ٦٧.

(٦) نفس المصدر ص ٦٧.

١٨

العلوم العقليّة والنقليّة وروى عنه ، قال في إجازته : «وهذا الشيخ كان من أفضل علماء الشّافعيّة وكان من أنصف النّاس في البحث ، كنت اقرأ عليه وأورد عليه اعتراضات في بعض الأوقات فيفكّر ثم يجيب تارة ، وتارة أخرى يقول حتى نفكّر في هذا عاود في هذا السؤال ، فأعاوده يوما ويومين وثلاثة فتارة يقول يجيب وتارة يقول هذا عجزت عن جوابه» (١)

هذا وهناك مشايخ آخرون له قده وردت الإشارة إليهم في بعض المصادر ، تركنا ذكرهم تجنبا للأسهاب. (٢)

سيرته وبعض قضاياه

كان الإمام العلّامة رحمه الله ، مثلا عاليا في التقوى وكمال النّفس ، وقد عرفت منه قضايا تدلّ على ورع نادر النظير ، قال العلامة الكبير السيّد مهدي بحر العلوم ، (بعد إطراء له على شيخنا الامام والماع (٣) الى صلته بالسّلطان خدابنده ـ) انه مع ذلك كان شديد التورّع ، كثير التواضع ، خصوصا مع الذّرّيّة الطّاهرة النبوية ، والعصابة العلوية كما يظهر من المسائل المدنيّة وغيرها ، وقد سمعت من مشايخنا رضوان الله عليهم انه كان يقضى صلاته إذا تبدّل رأيه في بعض ما يتعلّق بها من المسائل حذرا من احتمال التقصير في الاجتهاد ، وهذا غاية الاحتياط ومنتهى الورع والسّداد ، وليت شعري كيف كان يجمع بين هذه الأشياء الّتي لا يتيسّر القيام ببعضها لأقوى العلماء والعبّاد ، ولكن (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)» (٤)

وقد كان من كماله النّفسي وسمو روحه أنّه لم يواجه أحدا ممّن تهجّم عليه وسبّه من علماء أهل السنّة إلّا بالردّ الحسن الجميل ، وقد كان أشدّهم عليه ابن تيمية الذي بلغ من تعصّبه في الجدل وعدم منطقيته في الرّدّ على العلّامة ان انتقده علماء السّنّة أنفسهم.

__________________

(١) نفس المصدر ص ٦٦.

(٢) أسهب الكلام ، وفي الكلام أطال (المنجد)

(٣) الالمعى من الرجال الزكي المتوقد (مجمع البحرين)

(٤) عن مقدمة إحقاق الحق ص ٤٤.

١٩

قال ابن حجر عند تعرّضه للعلّامة الحلّي ـ «وصنّف كتابا في فضائل على رضي الله عنه نقضه الشيخ تقى الدّين بن تيمية في كتاب كبير وقد أشار الشيخ تقيّ الدّين السّبكى إلى ذلك في أبياته المشهورة حيث قال.

وابن المطهّر لم يظهر خلائفه ولابن تيمية ردّ عليه ، اى الرّدّ واستيفاء أجوبة ، لكنّا نذكر بقيّة الأبيات في ما يعاب به ابن تيمية من العقيدة ، طالعت الرّد المذكور فوجدته كما قال السّبكى في الاستيفاء ، لكن وجدته كثير التّحامل إلى الغاية في ردّ الأحاديث التي يوردها ابن المطهّر ، وان كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات ، لكنّه ردّ في ردّه كثيرا من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التّصنيف مظانّها ، لانّه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره ، والإنسان عامد للنسيان ، وكم من مبالغة لتوهين كلام الرّافضي أدّته أحيانا الى تنقيص علىّ رضى الله عنه». (١)

وحينما كتب ابن تيمية منها ج السنّة ردّا على كتاب العلامة منهاج الكرامة ولعله نفس ما أشار إليه ابن حجر ـ كتب إليه العلامة أبياتا أولها :

لو كنت تعلم كل ما علم الورى

طهرا لصرت صديق كل العالم

لكن جهلت فقلت ان جميع من

يهوى خلاف هواك ليس بعالم (٢)

ومع ان ابن تيمية لم يراع أدب المناظرة في شي‌ء من جدله الذي ردّ به على الإمام العلّامة فإنه لم يعهد من الامام ابن المطهّر رضوان الله عليه ان يحمل عليه في شي‌ء من كلامه بما يشابه تعابير ابن تيمية.

وقد جاء في هامش الدّرر لابن حجر ما لفظه :

بخطّ السخاوي : قال لي شيخنا تغمدّه الله برحمته ـ ابن حجر ـ : انه بلغه انّ ابن المطهّر لما حجّ اجتمع هو وابن تيمية وتذاكرا ، وأعجب ابن تيمية كلامه

__________________

(١) لسان الميزان ج ٦ ص ٣١٩ ط حيدرآباد

(٢) مقدمة كتاب الألفين ص ٦٣.

٢٠