تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-2501-03-1
الصفحات: ٤٧٢

وتعلق بقوله تعالى : ( اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود ) وليس هذا من الرئاسة الدنياوية في شيء.

وبعد ، فهو مخصوص بقرابة النبي عليه‌السلام بالأثر السالف عن الرضا.

وبعد ، فإن المفسرين قالوا عند قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قالوا : الشفاعة ، وإذا كان الرسول شافعا في عموم الناس فأولى أن يشفع في ذريته ورحمه ، وكذا قيل في قوله تعالى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) إنها الشفاعة.

وتعلق بقوله تعالى : ( واتل عليهم نبأ ابني آدم ) وليس هذا مما حاوله من سابق تقريره في شيء.

وتعلق في قصة نوح وكنعان ، وليس هذا مما نحن فيه في شيء ، أين كنعان من سادات الإسلام؟!

وتعلق بقوله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) وللإمامية في هذا مباحث سديدة ، إذ قالوا : من سبق كفره ، ظالم لا محالة فيما مضى ، فلا يكون أهلا للرئاسة ، فهذه واردة على الجاحظ لا له.

ورووا في شيء من ذلك الرواية من طرق القوم ، وساق ما لا صيور له فيما نحن بصدده » (١).

٢ ـ وجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة :

إنه ليس المراد من « المودة » هو « المحبة المجردة » ، لا سيما في مثل

__________________

(١) بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية : ٣٩١ ـ ٣٩٧.

٣٢١

الآية المباركة ( ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة ... ) فإنه قد جعلت « المودة » ـ بناء على اتصال الاستثناء ـ أجرا للرسالة ، ومن المعلوم أنه لولا التساوي والتناسب بين الشيء ومقابله لم يصدق على الشيء عنوان « الأجر » ، وحينئذ فإذا لاحظنا عظمة الرسالة المحمدية عند الله وعند البشرية اهتدينا إلى عظمة هذا الأجر وهو « المودة في القربى ».

وكذا بناء على الانقطاع ، لأن الروايات قد دلت على أن المسلمين اقترحوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدفعوا إليه في مقابل أداء الرسالة من الأموال ما يكون معه في سعة فأجاب ـ بناء على هذا القول ـ بالرد وأنه لا يسألهم أجرا أصلا ، ثم قال : ولكن « المودة في القربى » فجعلها هي الشيء المطلوب منهم والواجب عليهم ..

فإيجاب المودة ـ في مثل هذا المقام ، دون غيرها مما كان بالإمكان أن يطلبه منهم ـ يدل على أن هذا الأمر أهم الأشياء عند الله والرسول.

وعلى الجملة .. ليس المراد مجرد المودة والمحبة ، بل هي المحبة المستتبعة للانقياد والطاعة ، قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (١) والاتباع يعني إطاعة الأمر كما في الآية المباركة : ( وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ) (٢).

والاتباع ، والانقياد التام ، ، والإطاعة المطلقة ، هو معنى الإمامة والولاية ... قال العلامة الحلي : « الرابعة : قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) روى الجمهور ...

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٣١. وراجع التفاسير كالرازي ٨ | ١٧.

(٢) سورة النور ٢٤ : ٥٤.

٣٢٢

ووجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة » (١).

وقال أيضا : « البرهان السابع : قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) روى أحمد بن حنبل ...

وغير علي من الصحابة والثلاثة لا تجب مودته ، فيكون علي أفضل فيكون هو الإمام ، ولأن مخالفته تنافي المودة وبإمتثال أوامره تكون مودته ، فيكون واجب الطاعة ، وهو معنى الإمامة » (٢).

٣ ـ وجوب المحبة المطلقة يستلزم الأفضلية :

وأيضا ، فإن عليا ممن وجبت محبته ومودته على نحو الإطلاق ، ومن وجبت محبته كذلك كان هو الأحب ، ومن كان أحب الناس إلى الله ورسوله كان أفضلهم ، ومن كان أفضل كان هو الإمام ... فعلي عليه‌السلام هو الإمام بعد رسول الله.

أما المقدمة الأولى فواضحة جدا من الآية المباركة.

وأما المقدمة الثانية فواضحة كذلك ، ومما يدل على أن عليا عليه‌السلام أحب الخلق إلى الله ورسوله : حديث الطائر ، إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد أهدي إليه طائر ـ : « اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، فجاء علي فأكل معه » رواه عنه من الصحابة :

١ ـ علي أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ عبد الله بن عباس.

٣ ـ أبو سعيد الخدري.

__________________

(١) نهج الحق : ١٧٥.

(٢) منهاج الكرامة ـ المطبوع في آخر المجلد الثاني من « منهاج السنة » ـ : ٧٤.

٣٢٣

٤ ـ سفينة.

٥ ـ أبو الطفيل عامر بن واثلة.

٦ ـ أنس بن مالك.

٧ ـ سعد بن أبي وقاص.

٨ ـ عمرو بن العاص.

٩ ـ أبو مرازم يعلى بن مرة.

١٠ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.

١١ ـ أبو رافع.

١٢ ـ حبشي بن جنادة.

ورواه عنهم من التابعين عشرات الرجال.

ومن مشاهير الأئمة والحفاظ والعلماء في كل قرن ، أمثال :

أبي حنيفة ، إمام المذهب.

وأحمد بن حنبل ، إمام المذهب.

وأبي حاتم الرازي.

وأبي عيسى الترمذي.

وأبي بكر البزار.

وأبي عبد الرحمن النسائي.

وأبي الحسن الدارقطني.

وأبي عبد الله الحاكم النيسابوري.

وأبي بكر ابن مردويه.

وأبي نعيم الأصفهاني.

وأبي بكر البيهقي.

٣٢٤

وأبي عمر ابن عبدالبر.

وأبي محمد البغوي.

وأبي الحسن العبدري.

وأبي القاسم ابن عساكر.

وابن حجر العسقلاني.

وجلال الدين السيوطي.

وعلى الجملة ، فهذا الحديث نص في أن عليا أحب الخلق إلى الله ورسوله (١).

وأما المقدمة الثالثة فهي واضحة جدا كذلك ، وقد نص غير واحد منه على ذلك أيضا :

قال ولي الدين ابن العراقي ، في كلام له نقله الحافظ القسطلاني وابن حجر المكي عنه : « المحبة الدينية لازمة للأفضلية فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر » (٢).

وقال الرازي بتفسير ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) : « والمراد من محبّة الله تعالى له إعطاؤه الثواب » (٣).

ومن الواضح : أن من كان الأحب إلى الله كان الأكثر ثوابا ، والأكثر ثوابا هو الأفضل قطعا.

وقال ابن تيمية : « والمقصود أن قوله : ( وغير علي من الثلاثة لا تجب

__________________

(١) وهو يشكلّ الجزئين الثالث عشر والرابع عشر من كتابنا الكبير : « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار » وهما تحت الطبع.

(٢) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية ، الصواعق المحرقة : ٩٧.

(٣) تفسير الرازي ٨ | ١٧.

٣٢٥

مودته ) كلام باطل عند الجمهور ، بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنة من مودة علي ، لأن وجوب المودة على مقدار الفضل ، فكل من كان أفضل كانت مودته أكمل ...

وفي الصحيح : إن عمر قال لأبي بكر يوم سقيفة ـ بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله » (١).

وقال التفتازاني : « إن ( أحب خلقك ) يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر منه ، عملا بأدلة أفضليتهما » (٢)

وعلى الجملة ، فإن هذه المقدمة واضحة أيضا ولا خلاف لأحد فيها.

وأما المقدمة الرابعة فبديل العقل والنقل ، وبه صرّح غير واحد من أعلام أهل الخلاف ، حتى أنهم نقلوا عن الصحابة ذلك كما تقدم في بعض الكلمات في فصل الشبهات ، وقال الشريف الجرجاني في الشورى وأنه لماذا جعلت في هؤلاء الستة دون غيرهم :

« وإنما جعلها شورى بينهم ، لأنه رآهم أفضل ممن عداهم وأنه لا يصلح للإمامة غيرهم » (٣).

وقال ابن تيمية : « تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم » (٤).

وقال محب الدين الطبري : « قولنا : لا ينعقد ولاية المفضول عند وجود الأفضل » (٥).

__________________

(١) منهاج السنة ٧ | ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) شرح المقاصد ٥ | ٢٩٩.

(٣) شرح المواقف ٨ | ٣٦٥.

(٤) منهاج السنة : ٣ | ٢٧٧ الطبعة القديمة.

(٥) الرياض النضرة ـ باب خلافة أبي بكر ـ ١ | ٢١٦.

٣٢٦

وكذا قال غيرهم ... ولا حاجة إلى ذكر كلماتهم.

وإلى هذا الوجه أشار العلامة الحلي في كلامة السابق.

وقال المحقق نصير الدين الطوسي في أدلة أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ووجوب المحبة ».

فقال العلامة بشرحه : « هذا وجه تاسع عشر وتقريره : إن عليا عليه‌السلام كان محبته ومودته واجبة دون غيره من الصحابة ، فيكون أفضل منهم. وبيان المقدمة الأولى : إنه كان من أولى القربى ، فتكون مودته واجبة لقوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) » (١).

٤ ـ وجوب المحبة المطلقة يستلزم العصمة :

وأيضا : فإن إطلاق الأمر بمودتهم دليل على عصمتهم ، وإذا ثبتت العصمة ثبتت الإمامة ، وهذا واضح.

أما أن إطلاق الأمر بمودتهم ـ الدال على الإطاعة المطلقة ـ دليل على عصمتهم ، فيكفي فيه كلام الفخر الرازي بتفسير قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم ) (٢).

فإنه قال :

« إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأن كان بتقدير إقدامه على الخطأ

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٣١٠.

(٢) سورة النساء ٤ : ٥٩.

٣٢٧

يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وإنه محال فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أن ( أولي الأمر ) المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوما » (١).

فهذا محل الشاهد من كلامه ، وأمّا من « اُولي الأمر » الذين أمرنا بإطاعتهم؟ فذاك بحث آخر ..

وعلى الجملة ، فوجوب الإطاعة والاتباع على الإطلاق ـ المستفاد من وجوب المحبة المطلقة ـ مستلزم للعصمة.

وقد ذكر هذا الوجه غير واحد من علمائنا :

قال البياضي العاملي رحمه‌الله : « جعل الله أجر رسالة نبيه في مودة أهله في قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ).

قالوا : المراد القربى في الطاعات ، أي : في طاعة أهل القربى.

قلنا : الأصل عدم الإضمار ، ولو سلم فلا يتصور إطلاق الأمر بمودتهم إلا مع عصمتهم.

قالوا : المخاطب بذلك الكفار ، يعني : راقبوا نسبي منكم ، يعني القرشية.

قلنا : الكفار لا تعتقد للنبي أجرا حتى تخاطب بذلك.

__________________

(١) تفسير الرازي ١٠ | ١٤٤.

٣٢٨

على أن الأخبار المتفق عليها تنافي الوجهين ، ففي صحيح البخاري ... » (١).

وقال السيد الشبر : « وجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة ، لأن المودة إنما تجب مع العصمة ، إذ مع وقوع الخطأ منهم يجب ترك مودتهم كما قال تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) (٢). وغيرهم عليهم‌السلام ليس بمعصوم اتفاقا. فعلي وولداه الأئمة » (٣).

دحض الشبهات المثارة على دلالة الآية على الإمامة :

أقول :

وهذا كلام السيد الشهيد التستري في الرد على ابن روزبهان ، الذي أشكل على العلامة الحلي ..

* قال ابن روزبهان : « ونحن نقول : إن مودته واجبة على كل المسلمين ، والمودة تكون مع الطاعة ، ولا كل مطاع يجب أن يكون صاحب الزعامة الكبرى ».

فأجاب السيد رحمه‌الله : « وأما ما ذكره من أنه لا يدل على خلافة علي عليه‌السلام فجهالة صرفة أو تجاهل محض! لظهور دلالة الآية على أن مودة علي عليه‌السلام واجبة بمقتضى الآية ، حيث جعل الله تعالى أجر الإرسال إلى ما يستحقبه الثواب الدائم مودة ذوي القربى ، وإنما يجب

__________________

(١) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ١ | ١٨٨.

(٢) سورة المجادلة ٥٨ : ٢٢.

(٣) حق اليقين في معرفة أصول الدين ١ | ٢٧٠.

٣٢٩

ذلك مع عصمتهم ، إذ مع وقوع الخطأ عنهم يجب ترك مودتهم لقوله تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) الآية. وغير علي ليس بمعصوم بالاتفاق ، فتعين أن يكون هو الإمام.

وقد روى ابن حجر الباب الحادي عشر من صواعقه عن إمامه الشافعي شعرا في وجوب ذلك برغم أنف الناصب ، وهو قوله :

يا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكـم من عظيم القدر أنكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

على أن إقامة الشيعة للدليل على إمامة علي عليه‌السلام على أهل السنة غير واجب بل تبرعي ، لاتفاق أهل السنة معهم على إمامته بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية الأمر أنهم ينفون الواسطة وأهل اسنة يثبتونها ، والدليل على المثبت دون النافي كما تقرر في موضعه ، إلا أن يرتكبوا خرق الإجماع بإنكار إمامته مطلقا ، فحينئذ يجب على الشيعة إقامة الدليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل » (١).

وقال الشيخ المظفر في جواب ابن روزبهان بعد كلام له : « فيتعين أن يكون المراد بالآية : الأربعة الأطهار ، وهي تدل على أفضليتهم وعصمتهم وأنهم صفوة الله سبحانه ، إذ لو يكونوا كذلك لم تجب مودتهم دون غيرهم ، ولم تكن مودتهم بتلك المنزلة التي ما مثلها منزلة ، لكونها أجرا للتبليغ والرسالة الذي لا أجر ولا حق يشبهه.

ولذا لم يجعل الله المودة لأقارب نوح وهود أجرا لتبليغهما ، بل قال

__________________

(١) إحقاق الحق ـ في الرد على ابن روزبهان ـ ٣ | ٢٣.

٣٣٠

لنوح : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله ) وقال لهود : ( وقل لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ).

فتنحصر الإمامة بقربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لا تصح إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، لا سيما بهذا الفضل الباهر مضافا إلى ما ذكره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من أن وجوب المودة مطلقا يستلزم وجوب الطاعة مطلقا ، ضرورة أن العصيان ينافي الود المطلق ، ووجوب الطاعة مطلقا يستلزم العصمة التي هي شرط الإمامة ، ولا معصوم غيرهم بالإجماع ، فتنحصر الإمامة بهم ولا سيما مع وجوب طاعتهم على جميع الأمة.

وقد فهم دلالة الآية على الإمامة الصحابة ، ولذا اتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضهم فقالوا : ما يريد إلا أن يحثنا على قرابته بعده ، كما سمعته من بعض الروايات السابقة (١) وكل ذي فهم يعرفها من الآية الشريفة ، إلا أن القوم أبوا أن يقروا بالحق ويؤدوا أجر الرسالة ، فإذا صدرت من أحدهم كلمة طيبة لم تدعه العصبية حتى يناقضها ... » (٢)!

* وبالتأمل في الوجوه التي ذكرناها وما نص عليه علماؤنا ، يظهر الجواب عن كلام السعد التفتازاني حيث ذكر في مباحث الأفضلية قائلا :

« القائلون بأفضلية علي رضي‌الله‌عنه تمسكوا بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) الآية ... وقوله تعالى : ( قل لا

__________________

(١) المعجم الكبير ١٢ | ٢٦ ، وغيره.

(٢) دلائل الصدق لنهج الحق ٢ | ١٢٥ ـ ١٢٦.

٣٣١

أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قال سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين نودهم؟ قال : علي وفاطمة وولداها. ولا يخفى أن من وجبت محبته بحكم نص الكتاب كان أفضل. وكذا من ثبتت نصرته للرسول بالعطف في كلام الله تعالى عنه على اسم الله وجبريل ، مع التعبير عنه بـ « صالح المؤمنين » وذلك قوله تعالى : ( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ). فعن العباس ـ رضي‌الله‌عنه ـ أن المراد به علي ... ».

قال : « والجواب : أنه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتصافه بالكمالات واختصاه بالكرامات ؛ إلا أنه لا يدل على الأفضلية ـ بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله ـ بعد ما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر ثم عمر ، والاعتراف من علي بذلك!

على أن في ما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصل ، مثل : إن المراد بأنفسنا نفس النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم كما يقال : دعوت نفسي إلى كذا. وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ فلا اختصاص به » (١).

أقول :

قد عرفت أن الآية المباركة تدل على وجوب محبة علي عليه‌السلام ، ووجوب المحبة المطلقة يدل على أنه الأحب عند الله ورسوله ، والأحبية دالة على الافضلية.

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ | ٢٩٥ ـ ٢٩٩.

٣٣٢

وأيضا : وجوب المحبة المطلقة يستلزم العصمة وهي شرط الإمامة.

وأما دعوى أفضلية أبي بكر وعمر فأول الكلام ... كدعوى عدم الاختصاص بعلي عليه‌السلام ، لقيام الإجماع على عدم عصمة أبي بكر وعمر ...

* وقد اضطرب ابن تيمية في هذا المقام ، فقال : « إنا نسلم أن عليا تجب مودته وموالاته بدون الاستدلال بهذه الآية ، لكن ليس في وجوب موالاته ومودته ما يوجب اختصاصه بالإمامة والفضيلة. وأما قوله : والثلاثة لا تجب مودتهم ؛ فممنوع ، بل يجب أيضا مودتهم وموالاتهم ، فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ، ومن كان يحبه الله وجب علينا أن نحبه ، فإن الحب في الله والبغض في الله واجب ، وهو أوثق عرى الإيمان ، وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين ، وقد أوجب الله موالاتهم ، بل قد ثبت أن الله رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن ، وكل من رضي‌الله‌عنه فإنه يحبه ، والله يحب المتقين والمحسنين والمسقطين والصابرين ... » (١).

فإن الرجل قد خصم نفسه باعترافه بوجوب محبة : المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين ... بل مطلق المؤمنين ... فإن أحدا لا ينكر شيئا من ذلك ، ومن يقول بأن المؤمن ـ إذا كان مؤمنا حقا ـ لا يجب أن نحبه لا سيما إذا كان مع ذلك من أهل التقوى والإحسان والصبر؟!

لكن الكلام في المحبة المطلقة ، وفي الأحبية عند الله ورسوله ، المستلزمة للأفضلية وللعصمة ووجوب الطاعة ... هذه الأمور التي لم يقل أحد بوجودها في غير علي عليه‌السلام ، لا سيما العصمة ، إذ قام الإجماع

__________________

(١) منهاج السنة ٧ | ١٠٣ ـ ١٠٤.

٣٣٣

على عدمها في غيره.

ثم إن ابن تيمية شرع يستدل ببعض الأخبار التي يروونها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن أحب الناس إليه عائشة!! قيل : فمن الرجال؟ قال : أبوها! وأن عمر قال لأبي بكر في السقيفة : أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله!!

وكل عاقل يفهم ما في الاستدلال بمثل هذه الأخبار!!

* ولقد أحسن الآلوسي حيث لم يستدل بشيء من أخبارهم في هذا البحث ، فإنه قد انتحل كلام عبد العزيز الدهلوي واعتمده في الجواب عن استدلال الإمامية ، إلا أنه بتر كلامه ولم يأت به إلى الآخر! وهو ما سنشير إليه :

قال الآلوسي : « ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه ، قال : علي كرم الله تعالى وجهه وأجب المحبة ، وكل واجب المحبة واجب الطاعة ، وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة. ينتج : علي رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة. وجعلوا الآية دليل الصغرى.

ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث :

أما أولا : فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها : لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي. وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول. وقيل في هذا المعنى : إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة ، فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقرابتهم. وأيضا فيه منافاة ما لقوله تعالى :

٣٣٤

( وما تسألهم عليه من أجر ).

وأما ثانيا : فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة ، فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات : إن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية ، مع أنه لا يجب طاعة كل منهم.

وأما ثالثا : فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة ، أي الزعامة الكبرى ، وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ، ونص : ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) يأبى ذلك.

وأما رابعا : فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى : أهل البيت واجبو الطاعة ، ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا تنتج النتيجة التي ذكروها ، ولو سلمت جميع مقدماتها ، بل تنتج أهل البيت صاحبوا الإمامة ، وهم لا يقولون بعمومه.

إلى غير ذلك من الأبحاث. فتأمل ولا تغفل » (١).

أقول :

هذا كله كلام الدهلوي بعينه! وقد جاء بعده في « التحفة الاثنا عشرية » الاستدلال بأحاديث.

* قال الدهلوي : « روى أبو طاهر السلفي في مشيخته عن أنس ، قال : قال رسول الله : حب أبي بكر وشكره واجب على كل أمتي.

وروى ابن عساكر عنه نحوه. ومن طريق آخر عن سهل بن سعد

__________________

(١) روح المعاني ٢٩ | ٣٣.

٣٣٥

الساعدي.

وأخرج الحافظ عمر بن محمد بن خضر الملا في سيرته عن النبي : أنه قال : إن الله تعالى فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كما فرض عليكم الصلاة والصوم والحج.

وروى ابن عدي ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، أنه قال : حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق.

وروى ابن عساكر ، عن جابر : إن النبي قال : حب أبي بكر وعمر من الإيمان ، وبغضهما كفر.

وروى الترمذي أنه أتي بجنازة إلى رسول الله فلم يصل عليه وقال : إنه كان يبغض عثمان فأبغضه الله ».

ثم إنه التفت إلى عدم جواز إلزام الإمامية بما اختص أهل السنة بروايته ، فأجاب قائلا : « إنه وإن كانت هذه الأخبار في كتب أهل السنة فقط ، لكن لما كان الشيعة يقصدون إلزام أهل السنة بروايتهم فإنه لا بد من لحاظ جميع روايات أهل السنة ، ولا يصح إلزامهم برواية منها.

وإن ضيقوا على أهل السنة ، أمكن إثبات وجوب محبة الخلفاء الثلاثة من كتاب الله واقوال العترة ، فقوله تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) نزل ـ بالإجماع ـ في حق المقاتلين للمرتدين ، وقد كان الثلاثة أئمة هؤلاء المقاتلين ، ومن أحبه الله وجبت محبته. وعلى هذا القياس »!

هذا آخر كلام الدهلوي (١).

__________________

(١) التحفة الاثنا عشرية : ٢٠٥.

٣٣٦

أقول :

إن من الواضح عدم جواز إلزام الخصم إلا بما يرويه خاصة أو ما اتفق الطرفان على روايته ، هذا إذا كان الخبر المستدل به معتبرا عند المستدل ، فإن لم يكن الخبر معتبرا حتى عند المستدل به فكيف يجوز له إلزام الطرف الآخر به؟!

ليت الدهلوي استدل ـ كابن تيمية ـ بكتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين ، فإن الأحاديث التي استدل بها كلها باطلة سندا ، وهذا هو السر في إعراض الآلوسي عنها وإسقاطه لها.

إن أحسن هذه الأحاديث ما أخرجه الترمذي في كتابه ـ وهو يعد أحد الصحاح الستة ـ من امتناع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصلاة على الجنازة ؛ قال الترمذي :

« حدثنا الفضل بن أبي طالب البغدادي وغير واحد ، قالوا : حدثنا عثمان بن زفر ، حدثنا محمد بن زياد ، عن محمد بن عجلان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بجنازة رجل يصلي عليه فلم يصل عليه ، فقيل : يا رسول الله! ما رأيناك تركت الصلاة على أحد قبل هذا؟! قال : إنه كان يبغض عثمان فأبغضه الله »!

لكن هذا الحديث ساقط سندا حتى عند راويه الترمذي! قال :

« هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ومحمد بن زياد

٣٣٧

صاحب ميمون بن مهران ضعيف في الحديث جدا » (١).

ثم إن الجوزي أورده في ( الموضوعات ) بطريقين ، وقال : « الطريقان على محمد بن زياد. قال أحمد بن حنبل : هو كذاب خبيث يضع الحديث. وقال يحيى : كذاب خبيث. وقال السعدي والدارقطني : كذاب. وقال البخاري والنسائي والفلاس وأبو حاتم : متروك الحديث. وقال ابن حبان : كان يضع الحديث على الثقات ، لا يحل ذكره في الكتب إلا على وجه القدح فيه » (٢).

فيظهر أنا لترمذي حيث قال : « ضعيف جدا » لم يقل الحق كما هو حقه!!

وظهر أن الحق مع الآلوسي حيث ترك الاستدلال به وهو أحسن ما ذكر الدهلوي ، فالعجب من الدهلوي كيف يستدل بحيث هذه حاله ، ويريد إلزام الشيعة به ، وفي مسألة أصولية؟!

ولو وجدت مجالا لبينت حال بقية هذه الأحاديث ، لكن لا حاجة إلى ذلك بعد معرفة حال أحسنها سندا!!

فلنعد إلى الوجوه التي وافق فيها الآلوسي الدهلوي وأخذها منه ، فنقول :

أما الأول : فجوابه : إن الصغرى تامة كما تقدم بالتفصيل ، وقلنا بأن طلب الأجر إنما هو بناء على اتصال الاستثناء ، وقد عرفت حقيقة هذا الأجر وعوده إلى المسلمين أنفسهم ، فلا شبهة ولا تهمة. وأما بناء على

__________________

(١) صحيح الترمذي ٥ | ٥٨٨.

(٢) الموضوعات ٢ | ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٣٣٨

انقطاع الاستثناء فلا إشكال أصلا.

وأما الثاني : فإن الإمامية أجمعت على وجوب محبة العلوية ، بل كل مؤمن من المؤمنين ، ولكن الآية المباركة دالة على وجوب المحبة المطلقة لعلي والزهراء والحسنين ، فلا نقض ، ولذا لمي قل أحد منهم بوجوب محبة غير الأربعة والمعصومين محبة مطلقة ... والكلام في المحبة المطلقة لا مطلق المحبة ، فما ذكراه جهل أو تجاهل!

وأما الثالث فيظهر جوابه مما ذكرناه ، فإنا نريد المحبة المطلقة المستلزمة للعصمة ، فأينما كانت ؛ كانت الإمامة الكبرى ، وأينما لم تكن ؛ لم تكن!

وأما الرابع فيظهر جوابه مما ذكرنا أيضا.

* * *

٣٣٩

خلاصة البحث

فالحق مع السيد رحمه‌الله ، إذ قال :

« هل حكم بافتراض المودة لغيرهم محكم التنزيل؟! ».

بقي أن نذكر الوجه في تفسيره « الحسنة » في قوله تعالى : ( ومن يقترف حسنة ) بـ « المودة » ... فنقول :

هذا التفسير ورد عن الأئمة الأطهار من أهل البيت ، كالحسن السبط الزكي عليه‌السلام في خطبته التي رواها الحاكم وغيره ، وورد أيضا في غير واحد من تفاسير أهل السنة ، عن ابن عباس والسدي وغيرهما ، قال القرطبي : « قوله تعالى ( ومن يقترف حسنة ) أي : يكتسب ، وأصل القرف الكسب ، يقال ... قال ابن عباس : ( ومن يقترف حسنة ) : المودة لآل محمد صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، ( نزد له حسنا ) أي : نضاعف له الحسنة بعشر فصاعدا ، ( إن الله غفور شكور ) قال قتادة : غفور للذنوب شكور للحسنات. وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه‌السلام شكور لحسناتهم » (١).

وقال أبو حيان : « وعن ابن عباس والسدي : أنها المودة في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وقال السدي : غفور لذنوب آل محمد عليه‌السلام شكور لحسناتهم » (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٦ | ٢٤.

(٢) البحر المحيط ٧ | ٥١٦.

٣٤٠