تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ١

السيّد علي الحسيني الميلاني

تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: وفا
الطبعة: ٤
ISBN: 964-2501-03-1
الصفحات: ٤٧٢

ثم ما ألطف ما جاء في الحديث جوابا لقول أم سلمة : « ألست من أهل البيت؟ » قال : « أنت من أزواج رسول الله »!! فإنه يعطي التفصيل مفهوما ومصداقا بين العنوانين : عنوان « أهل البيت » وعنوان « الأزواج » أو « نساء النبي ».

فتكون الآيات المبدوءة ـ في سورة الأحزاب ـ بـ : ( يا نساء النبي ) خاصة بـ « الأزواج » والآية ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) خاصة بالعترة الطاهرة.

وحديث مروره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بباب فاطمة وقوله : الصلاة أهل البيت ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ) .. رواه كثيرون كذلك لا نطيل بذكر رواياته.

* * *

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٢.

٢٠١

الفصل الثاني

في سقوط القولين الآخرين

وبهذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بين المسلمين يسقط القولان الآخران ، لأن المفروض أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسر بنفسه ـ قولا وفعلا ـ الآية المباركة ، وعيّن من نزلت فيه ، فلا يسمع ـ والحال هذه ـ ما يخالف تفسيره كائنا من كان ، فكيف والقائل بالقول الأول هو « عكرمة »؟!

وقد كان هذا الرجل أشد الناس مخالفة لنزول الآية في العترة الطاهرة فقط.

فقد حكي عنه أنه كان ينادي في الأسواق بنزولها في زوجات النبي فقط (١) أنه كان يقول : « من شاء باهلته أنها نزلت في نساء النبي خاصة » (٢).

وقد كان القول بنزورها في العترة هو الرأي الذي عليه المسلمون ، كما يبدو من هذه الكلمات ، بل جاء التصريح به في كلامه حيث قال : « ليس بالذي تذهبون إليه ، إنما هو نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣).

إلا أن من غير الجائز الأخذ بقول عكرمة في هذا المقام وأمثاله!

* * *

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٢ | ٧ ، تفسير ابن كثير ٣ | ٤١٥ ، أسباب النزول : ٢٦٨.

(٢) الدر المنثور ٥ | ١٩٨ ، تفسير ابن كثير ٣ | ٤١٥.

(٣) الدر المنثور ٥ | ١٩٨.

٢٠٢

ترجمة عكرمة :

فإن عكرمة البربري من أشهر الزنادقة الذين وضعوا الأحاديث للطعن في الإسلام! وإليك طرفا من تراجمه في الكتب المعتبرة المشهورة (١) :

١ ـ طعنه في الدين :

لقد ذكروا أن هذا الرجل كان طاعنا في الإسلام ، مستهزئا بالدين ، من أعلام الضلالة ودعاة السوء.

فقد نقلوا عنه أنه قال : إنما أنزل الله متشابه القرآن ليضل به!

وقال في وقت الموسم : وددت أني اليوم بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يمينا وشمالا!

وأنه وقف على باب مسجد النبي وقال : ما فيه إلا كافر!

وذكروا أنه كان لا يصلي ، وأنه كان في يده خاتم من الذهب ، وأنه كان يلعب بالنرد ، وأنه كان يستمع الغناء.

٢ ـ كان من دعاة الخوارج :

وأنه إنما أهل أفريقية رأي الصفرية ـ وهم من غلاة الخوارج ـ منه ، وقد ذكروا أنه نحل ذلك الرأي إلى ابن عباس!

وعن يحيى بن معين : إنما لم يذكر مالك عكرمة ، لأن عكرمة كان

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٥ | ٢٨٧ ، الضعفاء الكبير ٣ | ٣٧٣ ، تهذيب الكمال ٢٠ | ٢٦٤ ، وفيات الأعيان ١ | ٣١٩ ، ميزان الاعتدال ٣ | ٩٣ ، المغني في الضعفاء ٢ | ٨٤ ، سير أعلام النبلاء ٥ | ٩ ، تهذيب التهذيب ٧ | ٢٦٣ ـ ٢٧٣.

٢٠٣

ينتحل رأي الصفرية.

وقال الذهبي : قد تلكم الناس في عكرمة ، لأنه كان يرى رأي الخوارج.

٣ ـ كان كذابا :

كذب على سيده ابن عباس حتى أوثقه علي بن عبدالله بن عباس على باب كنيف الدار. فقيل له : أتفعلون هذا بمولاكم؟! قال : إن هذا يكذب على أبي.

وعن سعيد بن المسيب ، أنه قال لمولاه : يا برد ، إياك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس.

وعن القاسم : إن عكرمة.

وعن ابن سيرين ويحيى بن معين ومالك : كذاب.

وعن ابن ذويب : كان غير.

وحرم مالك الرواية عنه.

وأعرض عنه مسلم بن الحجاج.

وقال محمد بن سعد : ليس يحتج بحديثه.

٤ ـ ترك الناس جنازته :

ولهذه الأمور وغيرها ترك الناس جنازته ؛ قيل : فما حمله أحد ، حتى اكتروا له أربعة رجال من السودان.

* * *

٢٠٤

ترجمة مقاتل :

ومقاتل حاله كحال عكرمة ، فقد أدرجه كل من : الدارقطني ، والعقيلي ، وابن الجوزي ، والذهبي في ( الضعفاء ) ... وتكفينا كلمة الذهبي : « اجمعوا على تركه » (١).

ترجمة الضحاك :

وأما القول الآخر فقد عزاه ابن الجوزي إلى الضحاك بن مزاحم فقط :

وهذا الرجل أدرجه ابن الجوزي نفسه كالعقيلي في ( الضعفاء ) وتبعهما الذهبي فأدرجه في « المغني في الضعفاء » ... ونفوا أن يكون لقي ابن عباس ، بل ذكر بعضهم أنه لم يشافه أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعن يحيى بن سعيد : كان الضحاك عندنا ضعيفا.

قالوا : وكانت أمه حاملا به سنتين! (٢).

هذا ، ولكن في نسبة هذا القول ـ كنسبة القول الأول إلى ابن السائب الكلبي ـ كلام فقد نسب إليهما القول باختصاص الآية بالخمسة الأطهار في المصادر وهو الصحيح ، كما حققنا ذلك في الرد على السالوس.

* * *

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٧ | ٢٠١.

(٢) تهذيب الكمال ١٣ | ٢٩١ ، ميزان الاعتدال ٢ | ٣٢٥ ، المغني في الضعفاء ١ | ٣١٢.

٢٠٥

الفصل الثالث

في دلالة الآية المباركة على عصمة أهل البيت

وكما أشرنا من قبل ، فإن أصحابنا يستدلون بالآية المباركة ـ بعد تعيين المراد بأهل البيت فيها بالأحاديث المتواترة بين الفريقين ـ على عصمة أهل البيت ... وقد جاء ذكر وجه الاستدلال لذلك مشروحا في كتبهم في العقائد والإمامة ، وفي تفاسيرهم بذيل الآية المباركة ، ويتخلص في النقاط التالية :

١ ـ « إنما » تفيد الحصر ، فالله سبحانه حصر إرادة إذهاب الرجس عنهم.

٢ ـ « الإرادة » في الآية الكريمة تكوينية ، من قبيل الإرادة في قوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) (١) لا تشريعية من قبيل الإرادة في قوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (٢) ، لأن التشريعية تتنافى مع نص الآية بالحصر ، إذ لا خصوصية لأهل البيت في تشريع الأحكام لهم.

وتتنافى مع الأحاديث ، إذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طبق الآية عليهم دون غيرهم.

٣ ـ « الرجس » في الآية هو « الذنوب ».

وتبقى شبهة : إن الإرادة التكوينية تدل على العصمة ، لأن تخلف المراد عن إرادته عز وجل محال ، لكن هذا يعني الالتزام بالجبر وهو ما لا تقول

__________________

(١) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٨٥.

٢٠٦

الإمامية به.

وقد أجاب علماؤنا عن هذه الشبهة ـ بناء على نظرية : لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين ـ بما حاصله :

إن مفاد الآية أنّ الله سبحانه لما علم أن إرادة أهل البيت تجري دائما على وفق ما شرّعه لهم من التشريعات ، لما هم عليه من الحالات المعنوية العالية ، صح له تعالى أن يخبر عن ذاته المقدسة أنه لا يريد لهم بإرادته التكوينية إلا إذهاب الذنوب عنهم ، لأنه لا يوجد من أفعالهم ، ولا يقدرهم إلا على هكذا أفعال يقومون بها بإرادتهم لغرض إذهاب الرجس عن أنفسهم ...

ثم إنه لولا دلالة الآية المباركة على هذه المنزلة العظيمة لأهل البيت ، لما حاول أعداؤهم من الخوارج والنواصب إنكارها ، بل ونسبتها إلى غيرهم ، مع أن أحدا لم يدّع ذلك لنفسه سواهم.

* * *

٢٠٧

الفصل الرابع

في تناقضات علماء السنة تجاه معنى الآية

وجاء العلماء .. وهم يعلمون بمدلول الآية المباركة ومفاد الأحاديث الصحيحة الواردة بشأنها. وهم من جهة لا يريدون الاعتراف بذلك ، لأنه في الحقيقة نسف لعقائدهم في الأصول والفروع ... ومن جهة أخرى ينسبون أنفسهم إلى « السنة » ويدعون الأخذ بها والاتباع لها ... فوقعوا في اضطراب ، وتناقضت كلماتهم فيما بينهم ، بل تناقضت كلمات الواحد منهم ...

فمنهم من وافق الإمامية ، بل ـ في الحقيقة ـ تبع السنة النبوبة الثابتة في المقام وأخذ بها.

ومنهم من وافق عكرمة الخارجي ومقاتل المجمع على تركه.

ومنهم من أخذ بقول الضحاك الضعيف ، خلافا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبار الصحابة.

فهم على طوائف ثلاث :

ونحن نذكر من كل طائفة واحدا أو اثنين :

فمن الطائفة الاولى :

أبو جعفر الطحاوي (١) قال : « باب بيان مشكل ما روي عن

__________________

(١) أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة المصري الحنفي ـ المتوفى سنة ٣٢١ هـ ـ توجد ترجمته مع الثناء البالغ في : طبقات أبي إسحاق الشيرازي : ١٤٢ ، والمنتظم ٦ | ٢٥٠ ، ووفيات الأعيان ١ | ٧١ ، وتذكرة الحفاظ ٣ | ٨٠٨ ،

٢٠٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المراد بقوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) من هم؟

حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا بكير بن مسمار ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا عليهم‌السلام ، وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي.

فكان في هذا الحديث أن المراد بما في هذه الآية هم : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين.

حدثنا فهد ، ثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا جرير بن عبد الحميد ، عن الأعمش ، عن جعفر ، عن عبد الرحمن البجلي ، عن حكيم بن سعيد ، عن أم سلمة ، قالت : نزلت هذه الآية في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين عليهم‌السلام ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ).

ففي هذا الحديث الذي في الأول ».

ثم إنه أخرج بأسانيد عديدة هذا الحديث عن أم سلمة ، وفيها الدلالة الصريحة على اختصاص الآية بأهل البيت الطاهرين ، وهي الأحاديث التي جاء فيها أن أم سلمة سألت : « وأنا معهم؟ » فقال رسول الله صلى الله عليه وآله

__________________

والجواهر المضية في طبقات الحنفية ١ | ١٠٢ ، وغاية النهاية في طبقات القراء ١ | ١١٦ ، وحسن المحاضرة وطبقات الحفاظ : ٣٣٧ ، وغيرها.

وقد عنونه الحافظ الذهبي بقوله : « الطحاوي الإمام العلامة ، الحافظ الكبير ، محدث الديار المصرية وفقيهها » قال : « ذكره أبو سعيد ابن يونس فقال : عداده في حجر الأزد ، وكان ثقة ثبتا فقيها عاقلا لم يخلف مثله » قال الذهبي : « قلت : من نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه ... » سير أعلام النبلاء ١٥ | ٢٧ ـ ٣٢.

٢٠٩

وسلم : « أنت من أزواج النبي ، وأنت على خير ـ أو : إلى خير ـ ».

وقالت : « فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهل البيت؟ فقال : إن لك عند الله خيرا. فوددت أنه قال نعم ، فكان أحب إليّ مما تطلع عليه الشمس وتغرب ».

وقالت : « فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه رسول الله وقال : إنك على خير ».

قال الطحاوي : « فدل ما روينا من هذه الآثار ـ مما كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أم سلمة ـ ممّا ذكرنا فيها لم يرد به أنها كانت مما أريد به مما في الآية المتلوة في هذا الباب ، وأن المراد بما فيها هم : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلموعلي وفاطمة والحسن والحسين دون من سواهم ـ يدل على مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله لأم سلمة في هذه الآثار من قوله لها : ( أنت من أهلي ) :

ما قد حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي وسليمان الكيساني ، قالا : حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، أخبرني أبو عمار ، حدثني واثلة ... فقلت : يا رسول الله ، وأنا من أهلك؟ فقال : وأنت من أهلي.

قال واثلة : فإنها من أرجى ما أرجو!

وواثلة أبعد منه عليه‌السلام من أم سلمة منه ، لأنه إنما هو رجل من بني ليث ، ليس من قريش. وأم سلمة موضعها من قريش موضعها الذي به منه.

فكان قوله لواثلة : أنت من أهلي ، على معنى : لاتباعك إياي وإيمانك بي ، فدخلت بذلك في جملتي.

وقد وجدنا الله تعالى قد ذكر في كتابه ما يدل على هذا المعنى بقوله :

٢١٠

( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي ) (١) فأجابه في ذلك بأن قال : ( إنه ليس من أهلك ) إنه يدخل في أهله من يوافقه على دينه وإن لم يكن من ذوي نسبه.

فمثل ذلك أيضا ما كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جوابا لأم سلمة : « أنت من أهلي » يحتمل أن يكون على هذا المعنى أيضا ، وأن يكون قوله ذلك كقوله مثله لواثلة.

وحديث سعد وما ذكرناه معه من الأحاديث في أول الباب معقول بها من أهل الآية المتلوة فيها ، لأنا قد أحطنا علما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما دعا من أهله عند نزولها لم يبق من أهلها المرادين فيها أحد سواهم ، وإذا كان ذلك كذلك استحال أن يدخل معهم فيما أريد به سواهم. وفيما ذكرنا من ذلك بيان ما وصفنا.

فإن قال قائل : فإن كتاب الله تعالى يدل على أن أزواج النبي هم المقصودون بتلك الآية ، لأنه قال قبلها في السورة التي هي فيها : ( يا أيها النبي قل لأزواجك ... ) (٣) فكان ذلك كلّه يؤذن به ، لأنّه على خطاب النساء لا على خطاب الرجال ، ثمّ قال : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ) الآية.

فكان جوابنا له : إن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله : ( إنما يريد الله ) الآية .. خطاب لأزواجه ، ثم أعقب ذلك بخطابه لأهله بقوله تعالى : ( ليذهب يريد الله ) الآية ، فجاء به على خطاب الرجال ، لأنه قال فيه : ( ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم ) وهكذا خطاب الرجال ، وما قبله فجاء

__________________

(١) سورة هود ١١ : ٤٥.

(٢) سورة هود ١١ : ٤٦.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٢٨.

٢١١

به بالنون وكذلك خطاب النساء.

فعقلنا أن قوله : ( إنما يريد الله ) الآية ، خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ، ليعلمهم تشريفه لهم ورفعه لمقدارهم أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى.

ومما دل على ذلك أيضا ما حدثنا ... عن أنس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول : الصلاة يا أهل البيت ( إنما يريد الله ) الآية.

وما قد حدثنا ... حدثني أبو الحمراء ، قال : صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

في هذا أيضا دليل على أن هذه الآية فيهم. وبالله التوفيق » (١).

ومن الطائفة الثانية :

ابن الجوزي (٢) والذهبي (٣) .. فإنها تبعا عكرمة البربري الخارجي ، ومقاتل بن سليمان ، على ما هو مقتضى تعصبهما وعنادهما لأهل البيت عليهم‌السلام!

ومن الطائفة الثالثة :

ابن كثير .. فإنه بعد أن ذكر فرية عكرمة قال : « فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن ، فصحيح ؛ وإن أريد أنهن المراد فقط

__________________

(١) مشكل الآثار ١ | ٣٣٢ ـ ٣٣٩.

(٢) وهذا ظاهر كلامه في زاد المسير ٦ | ٣٨١ ، حيث ذكر هذا القول أولا وجعل يدافع عنه!

(٣) سير أعلام النبلاء ٢ | ٢٠٧.

٢١٢

دون غيرهن ، ففي هذا نظر. فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك ».

ثم أورد عدة كثيرة من تلك الأحاديث التي هي نص في اختصاص الآية بالرسول والوصي والحسنين والصديقة الطاهرة عليهم الصلاة والسلام ، وأن قول عكرمة مخالف للكتاب والسنة ...

غير أن تعصبه لم يسمح له بالإذعان لذلك ، حتى قال بدخول الزوجات في المراد بالآية! متشبثا بالسياق ، فقال : « ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم داخلات في قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) فإن سياق الكلام معهن ... » (١).

اعتراف ابن تيمية بصحة الحديث :

والعجب أن ابن تيمية لا يقول بهذا ولا بذاك! بل يذعن بصحة الحديث كما استدل العلامة الحلي ـ رحمه‌الله ـ ، قال العلامة :

« ونحن نذكر هنا شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ، ليكون حجة عليهم يوم القيامة ، فمن ذلك :

ما رواه أبو الحسن الأندلسي(٢) في « الجمع بين الصحاح الستة » :

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ٣ | ٤١٥.

(٢) وهو : رزين بن معاوية العبدري ، صاحب « تجريد الصحاح » المتوفى سنة ٥٣٥ كما في سير أعلام النبلاء ٢ | ٢٠٤ حيث ترجم له ووصفه بـ : الإمام المحدث الشهير ، وحكى عن ابن عساكر : « كان إمام المالكيين بالحرم ». وترجم له أيضا في : تذكرة الحفاظ ٤ | ١٢٨١ ، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين ٤ | ٣٩٨ ، والنجوم الزاهرة ٥ | ٢٦٧ ، ومرآة الجنان ٣ | ٢٦٣ ، وغيرها.

٢١٣

موطّأ مالك ، وصحيحي البخاري ومسلم ، وسنن أبي داود ، وصحيح الترمذي ، وصحيح النسائي : عن أم سلمة ـ زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) أنزل في بيتها : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ، ألست من أهل البيت؟ فقال : إنك على خير ، إنك من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالت : وفي البيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، فجللهم بكساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ».

فقال ابن تيمية :

« فصل : وأما حديث الكساء فهو صحيح ، رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة ، قال : خرج النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم أهل البيت ويطهركم تطهيرا ).

وهذا الحديث قد شركه فيه فامة وحسن وحسين ـ رضي الله عنهم ـ فليس هو من خصائصه ، ومعلوم أن المرآة لا تصلح للإمامة ، فعلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة ، بل يشركهم فيها غيرهم.

ثم إن مضمون هذا الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا.

وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله

٢١٤

عنهم الرجس وطهرهم ؛ تطهيرا واجتناب الرجس واجب على المؤمنين ، والطهارة مأمور بها كل مؤمن ..

قال الله تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ) (١) وقال : ( خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها ) (٢) وقال تعالى : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) (٣).

فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور ، والصديق ـ رضي‌الله‌عنه ـ قد أخبر ألله عنه بأنه ( الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) (٤).

وأيضا : فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ( رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) (٥) لابد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور ، فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما ينال بذلك وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم.

فما دعا به النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأولين.

والنبي دعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك ، مما هو أعظم من

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٦.

(٢) سورة التوبة ٩ : ١٠٣.

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٢٢.

(٤) سورة الليل ٩٢ : ١٧ ـ ٢١.

(٥) سورة التوبة ٩ : ١٠٠.

٢١٥

الدعاء بذلك ، ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأولين ، ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير ، دعا لهم النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به ، لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب ، ولينالوا المدح والثواب » (١).

هذا نص كلام ابن تيمية ، وأنت ترى فيه :

١ ـ الاعتراف بصحة الحديث الدال على نزول الآية المباركة في أهل الكساء دون غيرهم.

٢ ـ الاعتراف بأنه فضيلة.

٣ ـ الاعتراف بعدم شمول الفضيلة لغير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام.

فأين قول عكرمة؟! وأين السياق؟! وأين ما ذهب إليه ابن كثير؟!

سقوط كلمات ابن تيمية :

وتبقى كلمات ابن تيمية ، فإنه بعد أعرض عن قول عكرمة ، وعن قول من قال بالجمع ، واعترف بالاختصاص بالعترة ، أجاب عن الاستدلال بالآية المباركة بوجوه واضحة البطلان :

* فأول شيء قاله هو : « هذا الحديث قد شركه فيه فاطمة ... ».

وفيه : إن العلامة الحلي لم يدع كون الحديث من خصائص علي عليه‌السلام ، بل الآية المباركة والحديث يدلان على عصمة « أهل البيت » وهم : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين ..

__________________

(١) منهاج السنة ٥ | ١٣ ـ ١٥.

٢١٦

والمعصوم هو المتعين للإمامة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أن المرأة لا تصلح للإمامة.

* ثم قال : « ثم إن مضمون هذا الحديث أن النبي دعا لهم ... بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس ... فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور ».

وهذا من قلة فهمه أو شدة تعصبه :

أما أولا : فلأنه ينافي صريح الآية المباركة ، لأن « إنما » دالة على الحصر ، وكلامه دال على عدم الحصر ، فما ذكره رد على الله والرسول.

أما ثانيا : فلأن في كثير من « الصحاح » أن الآية نزلت ، فدعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ... فالله عز وجل يقول : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ... ) والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعين « أهل البيت » وأنهم هؤلاء دون غيرهم.

وأما ثالثا : فلأنه لو كان المراد هو مجرد الدعاء لهم بأن يكونوا « من المتيقن » و « الطهارة مأمور بها كل مؤمن » « فغاية هذا أن يكون دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور » فلا فضيلة في الحديث ، وهذا يناقض قوله من قبل « فعلم أن هذه الفضيلة ... »!!

وأما رابعا : فلأنه لو كان « غاية ذلك أن يكون دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور » فلماذا لم يأذن لأم سلمة بالدخول معهم؟!

أكانت « من المتيقن الذين أذهب الله عنهم الرجس ... » فلا حاجة لها إلى الدعاء؟! أو لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد منها أن تكون « من المتيقن ... »؟!

أما خامسا : فلو سلمنا أن « غاية هذا أن يكون دعاء لهم ... » لكن إذا

٢١٧

كان الله سبحانه « يريد » والرسول « يدعو » ـ ودعاؤه مستجاب قطعا ـ كان « أهل البيت » متصفين بالفعل بما دلت عليه الآية والحديث.

* فقال : « والصديق قد أخبر الله عنه ... ».

وحاصله : إن غاية ما كان في حق « أهل البيت » هو « الدعاء » وليس في الآية ولا الحديث إشارة إلى « استجابة » هذا الدعاء ، فقد يكون وقد لا يكون ، وأما ما كان في حق « أبي بكر » فهو « الأخبار » فهو كائن ، فهو أفضل من « أهل البيت »!!

وفيه :

أولا : في « أهل البيت » في الآية شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ريب في أفضليته المطلقة.

وثانيا : في « أهل البيت » في الآية فاطمة الزهراء ، وقد اعترف غير واحد من أعلام القوم بأفضليتها من أبي بكر :

فقد ذكر العلامة المناوي بشرح الحديث المتفق عليه بين المسلمين : « فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني » : « استدل به السهيلي (١) على أن من سبها كفر ، لأنه يغضبه ، وأنها أفضل من الشيخين ».

وقال : « قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها ، فيكونون بواسطتها بضعة منه ، ومن ثم لما رأت اُمّ الفضل في النوم أن بضعة منه وضعت في حجرها أولها رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بأن تلد

__________________

(١) عبد الرحمن بن عبد الله ، العلامة الأندلسي ، الحافظ العلم ، صاحب التصانيف ، برع في العربية واللغات والأخبار والأثر ، وتصدر للإفادة ، من أشهر مؤلفاته : الروض الأنف ـ شرح « السيرة النبوية » لابن هشام ـ توفي سنة ٥٨١ ، له ترجمة في : مرآة الجنان ٣ | ٤٢٢ ، النجوم الزاهرة ٦ | ١٠١ ، العبر ٣ | ٨٢ ، الكامل في التاريخ ٩ | ١٧٢.

٢١٨

فاطمة غلاما فيوضع في حجرها ، فولدت الحسن فوضع في حجرها. فكل من يشاهد الآن من ذريتها بضعة من تلك البضعة وإن تعددت الوسائط ، ومن تأمل ذلك انبعث من قلبه داعي الإجلال لهم وتجنب بغضهم على أي حال كانوا عليه.

قال ابن حجر : وفيه تحريم أذى من يتأذى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتأذّيه ، فكل نم وقع منه في حق فاطمة شيء فتأذّت به فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتأذّى بشهادة هذا الخبر ، ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها ، ولهذا عرف بالإستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا ( ولعذاب الآخرة أشد ) (١) » (٢).

وثالثا : في « أهل البيت » في الآية : الحسن والحسين ، وإن نفس الدليل الذي أقامه الحافظ السهيلي وغيره على تفضيل الزهراء دليل على أفضلية الحسنين ، بالإضافة إلى الأدلة الأخرى ، ومنها « آية التطهير » و « حديث الثقلين » الدالين على « العصمة » ، ولا ريب في أفضلية المعصوم من غيره.

ورابعا : في « أهل البيت » في الآية : أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي ـ مع أدلة غيرها لا تحصى ـ تدل على أفضليته على جميع الخلائق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وخامسا : كون المراد من الآية ( الأتقى ... ) « أبو بكر » هو قول انفرد القوم به ، فلا يجوز أن يعارض به القول المتفق عليه.

وسادسا : كون المراد بها « أبو بكر » أول الكلام ، وقد تقدم الكلام على ذلك.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١٢٧.

(٢) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ٤ | ٤٢١.

٢١٩

* قال : « وأيضا : فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ... فما دعا به النبي ... ».

وحاصله : أفضلية « السابقين الأولين ... » من « أهل البيت » المذكورين.

ويرد عليه : ما ورد على كلامه السابق ، فإن هذا فرع أن يكون الواقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو صرف « الدعاء » .. وقد عرفت أن الآية تدل على أن الإرادة الإلهية تعلقت بإذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيرا ، فهي دالة على عصمة « أهل البيت » وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلن للأمة الإسلامية أنهم : هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين.

ثم إن الآية : ( السابقون الاولون ... ) (١) المراد فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويشهد بذلك تفسير قوله تعالى : ( والسابقون السابقون * أولئك المقربون ) (٢) بعلي عليه‌السلام.

فعن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « السّبّق ثلاثة ، السابق إلى موسى : يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى : صاحب ياسين ، والسابق إلى محمد صلى الله عليه [ وآله ] وسلم علي بن أبي طالب ».

قال الهيثمي : « رواه الطبراني ، وفيه : حسين بن حسن الأشقر ، وثّقه ابن حبان ، وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله حديثهم حسن أو صحيح » (٣).

قلت :

« الحسين بن حسن الأشقر » من رجال النسائي في ( صحيحه ) وقد

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠٠.

(٢) سورة الواقعة ٥٦ : ١٠ و١١.

(٣) مجمع الزوائد ٩ | ١٠٢.

٢٢٠