شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤

غيره كما كان يوقّره في نفسه ، وفي شروحه ، لكنه ـ مع ذلك ـ إذا التبس عليه فهم لكلامه ، أو رأيه أوضح لنا ذلك في صراحة دون غموض أو التواء.

فقد كان الناظر يقول عن سيبويه : «إمام الصناعة سيبويه رحمه‌الله تعالى» ، «وكفى بقول سيبويه قولا» ويقول «ويكفي أن سيبويه قال به» ، ثم يقول في جعل سيبويه الفعل المقدر الناصب للاسم المخصوص : أعني «ويظهر أن تقديره أولى من تقدير أخص» ، ثم يعلل لذلك الذي استظهره.

وعن الجانب الآخر يقول في بعض المسائل : لكن أشكل عليّ ما ذكر عن سيبويه ، وقوله : ولا يظهر لي تجويز سيبويه.

ثانيا : ناظر الجيش وأبو علي الفارسي :

لإيضاح الفارسي ، وبصرياته ، وتذكرته ، وحلبياته مكانة عند ناظر الجيش. وقد ترددت هذه الكتب في أكثر من موضع في هذا الشرح. وعلى الرغم من ذلك قال في رأي أبي علي في زيادة مثل :

أما جعل الفارسي (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] و (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) [الرعد : ٣٥] من قبيل ما ألغي ، فغير مسلم ؛ لأن المثل يستعمل مرادا به الصفة والحال إذا كان لكل منهما شأن ، وفيه غرابة وذلك على سبيل الاستعارة كما قرر ذلك أصحاب علم البيان.

ثالثا : ناظر الجيش وابن جني :

لابن جني ، وكثير من آرائه ، وتوجيهاته ـ منزلة عند النحاة ، وقد اعتدّ به صاحبنا في مواضع غير قليلة من تمهيده ؛ لكنه قال في بعضها :

«و.... ابن جني ذهب إلى أن المضاف إلى الياء لا يتصف بإعراب ولا بناء. فأثبت قسما من الأسماء لا معربا ، ولا مبنيّا. ولا يخفى ضعف هذا الرأي ، وأنه لا ينبغي التشاغل بمثله ..».

٦١

رابعا : ناظر الجيش والزمخشري :

يعد الزمخشري واحدا من الذين أثروا العربية ، وفنونها بكثير من المؤلفات ، والآراء. وهو كذلك واحد من الذين دارت بين ابن مالك وبينهم معارك لغوية وصلت في بعض الأحيان ـ من ابن مالك ـ إلى منبوذ القول ، أو شديد اللهجة والتعبير.

وقد كان ناظر الجيش معتدلا بحق في مواقفه من هذا العالم المعتزلي العقيدة المتعصب لعقله ، كان ناظر الجيش منصفا له مجلّا إياه مدافعا عنه.

يقول عقب مسألة ذكر فيها رأي الزمخشري :

«فانظر إلى هذا الرجل كيف يهديه الله تعالى إلى سبيل الرشاد ، ويطلعه على الأسرار ، وينطق لسانه بما فيه الحكمة والصواب ، وبهذا المعنى الذي قرّره يظهر لك التفاوت بين في والباء في هذا المحل ؛ لأن الباء لا تفيد ما أفادته في من كون هذا التدبير كالمنبع والمعدن ، وإنما تفيد السببية لا غير».

وفي مسألة أخرى يقول ناظر الجيش : قال ابن مالك «وقال الزمخشري في : م الله : ومن الناس من يزعم أنها من أيمن ، قلت : لم يعرف من الذي زعم ذلك وهو سيبويه رحمه‌الله تعالى. وفي عدم معرفة الزمخشري بأن صاحب هذا القول سيبويه ، دليل على أنه لم يعرف من كتابه إلا ما يعرف بتصفح ، وانتقاء لا بتدبر واستقصاء ؛ فما أوفر تبجحه ، وأيسر ترجحه عفا الله عنّا وعنه!» فقال ناظر الجيش في ذلك : «.. وليس فيه إلا تعرضه إلى الغضّ من الزمخشري ، وتجهيله إياه بكتاب سيبويه. وليس هذا من طريقة المصنف ؛ فإنه ـ بحمد الله تعالى ـ مكفوف اللسان عمن هو دون الزمخشري في الرتبة ، فكيف بمن هو عالي الرتبة؟ ولكن ـ كما قيل ـ الجواد قد يكبو ، والصارم قد ينبو ، والعجب أن ما قاله في حق الزمخشري من أنه لا يعرف من الكتاب إلا ما يعرف بتصفح وانتقاء ، لا بتدبر واستقصاء ، قاله الشيخ أثير الدين في حقه إما بهذا اللفظ ، أو بمعناه ، أو ما يقرب منه حسب ما تقف عليه في باب إعراب الفعل إن شاء الله تعالى وهذا يحقق قول القائل : كما تدين تدان.

٦٢

فكأن المصنف جوزي بالوقوع في حقه عما وقع به في حق الزمخشري».

خامسا : ناظر الجيش وابن الحاجب :

كتب ابن الحاجب ، من كافيته في النحو وشرحه عليها ، وشافيته في الصرف ، وأماليه المختلفة وشرحه على مفصل الزمخشري ، كل ذلك كان له قدره عند النحويين عامة وعند ناظر الجيش خاصة.

وقد وقف ناظر الجيش من ابن الحاجب موقف المجلّ في بعض الأحيان ، وموقف المعارض. فمن مواقف الإجلال قوله في حد التمييز : وحدّ ابن الحاجب أفضل من حدّ ابن مالك ، وقوله : وقد نبه ابن الحاجب على ذلك بأخصر عبارة وألطف إشارة ؛ حيث قال بعد يا أيها الرجل ، ويا هذا الرجل ويا أيهذا الرجل : والتزموا رفع الرجل لأنه المقصود وتوابعه لأنها توابع معرب. وفي موقف آخر قال عنه : ورأي ابن الحاجب في هذه المسألة كرأي المصنف فيها وقد استدرك المنتقدون على ابن الحاجب رحمه‌الله تعالى.

سادسا : ناظر الجيش وابن عصفور :

أما ابن عصفور فهو أكثر النحويين إجلالا لدى ناظر الجيش ، وقد وقف على كتبه كلها ؛ وقف على مقربه وشرحه ، وشرحه لجمل الزجاجي ، وشرحه لإيضاح الفارسي فانتقى منها ما وافق المقام ولكن مع يقظة وانتباه ؛ فحينا كان يحكم بالصواب وقوة الرأي وحينا كان يحكم بغير ذلك وحينا كان يدفع رأي ابن عصفور وحينا كان يقره ويرضاه. ومن هنا طال وقوف ناظر الجيش مع ابن عصفور مادحا أو قادحا.

فمن المدح قوله : ويقال : إن بعض ملوك العرب سأل ابن عصفور عن هذه المسألة ـ وكان ذلك بحضرة جمع من النحاة ـ فشرع في ذكر ما ينتصب بعامل واجب الحذف إلى أن أتى على جميع ما تضمنته أبواب العربية من ذلك في مجلسه على الفور دون تروّ فقضى له حينئذ بالعجب وشهد له بالتبريز في هذا الفن. وكثيرا ما كان يقول : والذي ذكره ابن عصفور أقرب إلى الحق ،

٦٣

أو يقول : وحدّ ابن عصفور أحسن من حدّ ابن مالك.

وأما قوله قادحا إياه : فهو قوله : وهو كلام عجيب لا يخفى ضعفه.

سابعا : ناظر الجيش وابن مالك :

نظر صاحبنا في شرح ابن مالك على تسهيله ، فوجد أن الناظر فيه لا يرضيه الاقتصار عليه ولا يقنعه ما يجده لديه ، بل تتشوق نفسه إلى زيادات ... يضاف إلى ذلك أن صاحبنا وجد من أبي حيان تحاملا شديدا على ابن مالك ، حتى صارت المناضلة عن المصنف لازمة والانتصار له متعينا ؛ ومع ذلك كله لم يكن ناظر الجيش مقتصرا على المناضلة والانتصار للمصنف ؛ بل إنه كان يقف من ابن مالك خصما إذا رآه بعيدا عن صواب القول ، وأحيانا كان يفضل الشيخ عليه ، أو غيره من النحاة.

وهذه ـ أولا ـ بعض ملامح توقير ابن مالك : قال ناظر الجيش :

أ ـ هذا كله كلام المصنف رحمه‌الله تعالى ولا مزيد عليه في الحسن واللطف.

ب ـ وإذا اعتبرت ما فعله المصنف علمت أنه سلك مسلكا حسنا وأنه موفق معان.

ج ـ انتهى كلام المصنف ، وهو ـ كما قيل ـ كالماء ؛ إلا أنه زلال ، والسحر ؛ إلا أنه حلال ، فرحمه‌الله تعالى ، ورضي عنه ، وأرضاه ، بمنه ، وكرمه.

د ـ انتهى كلامه رحمه‌الله تعالى. وهو كما قيل :

من السّحر الحلال لمجتنيه

ولم أر قبله سحرا حلالا

وما أكثر ترديده صدر هذه العبارة السابقة إثر كل كلام ينقله عنه.

وأما ملامح غير التوقير : فمن أمثلتها قوله : وقد أشكل عليّ هذا الموضع ، وتعذّر عليّ الجمع بين ما قاله في التسهيل وما قاله في شرح الكافية وما قاله في الألفية. وقوله : هذا هو الصحيح ، ولا يعرف ذلك من كلام المصنف لا في المتن ولا في الشرح.

وقوله : فأنا أورد كلام ابن عصفور في هذا الموضع فإنه أوضح من كلام المصنف.

٦٤

ثامنا : ناظر الجيش وأبو حيان :

في مقدمة «تمهيد القواعد» أوضح لنا «ناظر الجيش» أن شيخه أبا حيان تحامل في الرد والمؤخذات تحاملا بيّنا على ابن مالك ، وأنه بالغ في ذلك حتى صارت المناضلة عن المصنف لازمة ، وخرج شرح أبي حيان ـ التذييل والتكميل ـ بسبب هذه الإطالة عن مقصود الشرح ، فتفتحت فيه ـ كما رأى الناظر ـ الثغرات ، وصار في حاجة إلى تقويم.

ونظرة فاحصة متأنية في أبواب التحقيق تقرر لنا ذلك ، أو تؤكده ، وتضيف شيئا آخر : هو أن ناظر الجيش لم تكن كل غايته تخطئة أبي حيان ، ولكنه كان ينقده نقدا موضوعيّا : يؤيده حين يراه على صواب ، ويرفض رأيه حين يجده قد خالف القوم ، أو انحرف عنهم. ولا نعدم في كثير من الأحيان تعليلات ناظر الجيش لذلك.

وسيأتي قريبا موقفهما من الاستشهاد بالحديث الشريف. فأبو حيان قد ردّ استشهادات ابن مالك ، وتعنف في الرد ، والقول ، فجاء الناظر ، ودافع باعتدال عن ابن مالك مبينا ما في ذلك من آراء ، وتوجيهات ، ووقف مع ابن مالك موقف المطمئن. وفي أبواب الكتاب والشرح كله كثير من المسائل والقضايا التي ناقش الناظر فيها شيخه أبا حيان ، ووقف منه مواقف مختلفة إما مادحا وإما قادحا.

وهذه بعض منها : فمن المدح قوله : والذي ذكره الشيخ في الآية الشريفة ظاهر ، وقوله : وهذا التعليل الذي ذكره الشيخ أحسن من تعليل المصنف ، وقوله : وقد أكثر المصنف من ذكر الشواهد على ذلك ولا حاجة إلى إيرادها ؛ لأن هذا كما قال الشيخ لا يحتاج إلى مثال ؛ لأن دواوين العرب ملأى منه.

وقوله : ما ذكره الشيخ حق لا شبهة فيه. وقد كنت أيام الاشتغال وقفت على كلام المصنف رحمه‌الله في شرح الكافية فرأيته ذكر هذه المسألة كما ذكرها هنا واستشهد بالبيت المذكور ؛ فحصل في خاطري أن القسم وجوابه هو جواب الشرط وأنه لا حذف أصلا وجزمت بذلك ؛ لكن لما رأيت الشيخ ذكره في شرحه اقتصرت على نسبته إليه.

٦٥

ومن القدح قوله : ولا أعلم ما الذي أوجب له مخالفة النحاة فيما قالوه ، مع أنه لم يستدل على ذلك بشيء.

ومن ذلك ما قاله أبو حيان وقذفه لابن مالك بأنه لم يعرف له شيخ ، انبرى ناظر الجيش ورمى أبا حيان بمثل ما رمى به ابن مالك يقول ناظر الجيش :

وقد كان الشيخ يلمزه ـ ابن مالك ـ أيضا بأنه لا يعرف له شيخ أخذ عنه هذا الفن ، أعني فنّ العربية ، وهو عجب ؛ فإن ذلك يدل على علوّ رتبته وسموّ همته ، وعلى قوة أتاها الله تعالى له .... وقد كان الشيخ مكبّا على هذا الكتاب ـ التسهيل ـ بعد أن كتبه بخطه ، وشحن هوامشه بالأمثلة والشواهد. وكان عمدته وغالب أوقاته ينظر فيه وطالما شاهدته وهو يخرجه من كمّه حين يسأل عن مسألة ، فينظر فيه ويجيب ... ثم إن الناس يذكرون أن الشيخ لم يقرأ كتاب سيبويه على أحد أيضا ببلاد المغرب ، وأنه بعد قدومه إلى الديار المصرية قرأه على الشيخ بهاء الدين بن النحاس مصححا ألفاظه ، ومحررا لها مع قصد الرواية ، أما قراءة بحث وتدبّر فلا.

وأما قوله عن الزمخشري : إنه وافر التبجح كثير الترجح معظم نفسه ، فالزمخشري في صوب آخر يضاد ما ذكره الشيخ عنه .... وبعد : فرضي الله تعالى عنهم أجمعين ...

وبعد ....

فهذه نماذج مختلفة سقناها ؛ لنبين موقف صاحبنا ناظر الجيش من ـ بعض ـ النحاة منذ أول كتاب جمع قواعد النحو ـ وهو كتاب سيبويه ـ حتى أبي حيان شيخ ناظر الجيش ، وقد عكست لنا طريقته في العرض والمناقشة وتقرير المسألة واستخلاص الجواب ـ طول باعه ، وغزارة مادته ، وسعة اطلاعه ، ودقة منهجه ، ونقده الذي يقصد به الوصول إلى الحقيقة بعيدا عن الهوى لعالم معين أو لآخر.

بقي أن نتعرف موقف صاحبنا من الأدلة النحوية ومذهبه النحوي وما لشرحه من ميزات وما عليه من مآخذ. وهذا هو حديث الفصول القادمة.

٦٦

الفصل الثامن

موقف ناظر الجيش من قضية الاستشهاد والأدلة النحوية

* معروف بين النحاة والمتخصصين أن مصادر الاستشهاد في لغتنا هي القرآن الكريم ، والقراءات القرآنية ، والحديث الشريف ، والشعر ، وأمثال العرب ، وأقوالهم. وقد أكثر المتقدمون في الاستشهاد بها في مؤلفاتهم واقتصر آخرون على بعضها. حتى جاء المتأخرون وفسّروا هذا بما يرضي ميولهم. فمثلا في الاستشهاد بالحديث قال بعضهم : لا يجوز الاستشهاد به ؛ لأنه قد روي بالمعنى ، كما قالوا : إن بعض الشعر لا يجوز الاستشهاد به ؛ لأن قائله من طبقة أو عصر لا يجوز الاحتجاج به. أمّا ناظر الجيش وموقفه من هذه القضايا فقد كان موفقا أيما توفيق فيما ذهب إليه.

أولا : القرآن الكريم :

لا مرية بين القوم في أن القرآن الكريم منذ أن وجد ـ وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ـ هو قمة الفصاحة وغاية البيان ؛ لذا لم تختلف كلمتهم حول صحة أن يحتج بكلمه وآياته من غير فرق بين ما وافق الاستعمال الجاري فيما وصل إلينا من شعر العرب ، ومنثورهم ، وما جاء على وجه انفرد به.

إن ألفاظ القرآن الكريم ـ كما قال الراغب في مفرداته ـ هي لبّ كلام العرب ، وزبدته ، وواسطته ، وكرائمه ، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء ، وما عداها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة.

وقد وقف بعضهم في قضية الاستشهاد بالقرآن الكريم ، وقالوا : إنه يشتمل على ألفاظ غير قياسية. ونحن نعجب من هؤلاء ؛ يثبتون اللغة بشعر مجهول ولا يثبتونها بالقرآن العظيم! قال ابن حزم : «ولا عجب أعجب ممّن إن وجد لامرئ القيس ، أو لزهير ، أو لجرير ، أو الحطيئة ، أو الطرماح ، أو لأعرابي أسدي ، أو سلمي ، أو تميمي ، أو من سائر أبناء العرب ـ لفظا في شعر ، أو نثر

٦٧

جعله في اللغة ، وقطع به ، ولم يعترض فيه ، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها ـ كلاما لم يلتفت إليه ، ولا جعله حجة وجعل يصرفه عن وجهه ، ويحرفه عن موضعه ، ويتحيل في إحالته عما أوقعه الله عليه» (١).

أما موقف ناظر الجيش من شواهد القرآن الكريم : فقد أخذ منه قمة شواهده ، فكثرت لديه تلك الشواهد كثرة واضحة ، واشتمل شرحه على الآلاف من الآيات القرآنية. وكانت له مواقف مع بعض النحاة في تخريج بعض الآيات والشواهد القرآنية من ذلك قوله في باب الاستغاثة : قال المصنف في الشرح «والمعروف في اللغة تعدي فعله بنفسه نحو : استغاث زيد عمرا قال الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ..) [الأنفال : ٩] وقال تعالى : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ ..) [القصص : ١٥] ، والنحويون يقولون : استغاث به فهو مستغاث به وكلام العرب بخلاف ذلك ..».

قال ناظر الجيش بعد إيراده ذلك : «... ولك أن تقول : قد تعرض النحاة إلى ذكر الأفعال التي تتعدى بنفسها تارة وبالحرف أخرى ، ولم يذكروا أن فعل الاستغاثة من تلك الأفعال ، ثم قد ثبت بالكتاب العزيز تعديه بنفسه ، فوجب أنه إذا ورد متعديا بحرف أن يدعى فيه التضمين ـ استعان ـ».

ثانيا : القراءات القرآنية :

إذا كانت القراءات القرآنية قد جاءت وفق اللهجات العربية فإن بعض النحاة واللغويين قد رمى بعضها بالخطأ ، وأبعدها عن الصواب انطلاقا من قياسها بمقاييسهم التي وضعوها وذلك حينما لا يجدون لها في العربية وجها تخرّج عليه.

قال السيوطي : «كان قوم من النحاة المتقدمين يعيبون على عاصم ، وحمزة ، وابن عامر قراءات بعيدة في العربية ، وينسبونهم إلى اللحن وهم مخطئون في ذلك ؛ فإن قراءاتهم ثابتة بالأسانيد المتواترة الصحيحة التي

__________________

(١) البحث اللغوي ، ودراسات في العربية وتاريخها : القياس الأصلي (ص ٣١).

٦٨

لا مطعن فيها ، وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية (١).

وكان ناظر الجيش معتدلا في هذا الجانب واستشهد بالقراءات الواردة كلها ، متواترها وشاذها ، من ذلك قوله :

اختار المصنف جواز قراءة ابن عامر ... قتل أولادهم شركائهم [الأنعام : ١٣٧] ، وقال أبو حيان : «هو الصحيح وإن كان أكثر النحويين لا يجيزونه في الكلام وذكروا أنه مختص بالشعر».

قال أبو حيان : «وأما من صرح بأنها غلط فهو قدح في التواتر ؛ بل جميع القراءات السبع متواترة فعلى كل قراءة منها جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب ، ومنكر التواتر فيها يكون في إسلامه دخل».

قال ناظر الجيش : «وهو كلام حسن صادر عن حسن الاعتقاد صحيح الاستمساك حافظ لنظام الشريعة المطهرة ...».

ثالثا : الحديث الشريف :

اختلفت نظرة اللغويين والنحاة إلى الحديث الشريف المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما جعل بعضهم يستشهدون به في قضاياهم ، وبعضهم الآخر يستبعدونه فلا يستندون إليه في إثبات ألفاظ اللغة ، ووضع قواعدها. قال العلامة السكندري : «مضت ثمانية قرون والعلماء من أول أبي الأسود الدؤلي إلى ابن مالك لا يحتجون بلفظ الحديث في اللغة إلا الأحاديث المتواترة» (٢).

وقضية الاستشهاد بالحديث الشريف قد أخذت على يد ابن مالك اهتماما لم يتحقق لها من قبل. وجاء أبو حيان فأشعلها ـ كما يقولون ـ ثورة ، وقال في ابن مالك ما قال. وهيأ الله لابن مالك من القوم من يردّ إليه حقه فكان ناظر الجيش تلميذ أبي حيان.

ونرى أن نبرز للبحث والباحثين تلك النصوص التي وردت بين ابن مالك ، وأبي حيان ، وناظر الجيش في هذه القضية.

__________________

(١) الاقتراح (ص ٤٩).

(٢) مجلة مجمع اللغة العربية (١ / ٢٩٩).

٦٩

ونودّ أن نقرر أولا أن ناظر الجيش كان يجلّ شيخه ، ويوقره ، لكن لمّا وقع من الشيخ ما وقع ، رد عليه الناظر بنية إحقاق الحق وتقرير الصواب.

نصّ ردّ أبي حيان على ابن مالك في استشهاده بالحديث :

قال أبو حيان (١) : «فأما استدلاله بالأثر فنقول : قد لهج هذا المصنف في تصانيفه كثيرا بالاستدلال بما وقع في الحديث في إثبات القواعد الكلية في لسان العرب بما روي فيه ، وما رأيت أحدا من المتقدمين ، ولا المتأخرين سلك هذه الطريقة غير هذا الرجل ؛ على أن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب ـ كأبي عمرو بن العلاء ، وعيسى بن عمر ، والخليل ، وسيبويه من أئمة البصريين ، والكسائي ، والفراء ، وعلي بن مبارك الأحمر ، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين ـ لم يفعلوا ذلك ، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين ، وغيرهم من نحاة الأقاليم ، كنحاة بغداد وأهل الأندلس.

وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء ، فقال : إنما ترك العلماء ذلك ؛ لعدم وثوقهم أن ذلك نفس لفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك أن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى. قال : وقد وقع اللحن كثيرا في ما روي في الحديث ؛ لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو فوقع اللحن في نقلهم وهم لا يعلمون. وأطال الكلام في ذلك إلى أن قال : إن المصنف يستدل بالآثار متعقبا بزعمه على النحويين ، وما أمعن النظر في ذلك ولا صحب من [له] التمييز في هذا الفنّ والاستبحار والإمامة ؛ ولذلك تضعف استنباطاته من كلام سيبويه ، وينسب إليه مذاهب ، ويفهم من كلامه مفاهيم لم يذهب سيبويه إليها ، ولا أرادها.

وقال لي قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الحموي ، وكان ممن قرأ على المصنف وقد جرى ذكر ابن مالك واستدلاله بما أشرنا إليه ، قال :

__________________

(١) انظر ذلك في باب عوامل الجزم (آخر الباب) في شرح التسهيل لناظر الجيش.

٧٠

قلت : يا سيدي هذا الحديث روته الأعاجم ، ووقع فيه بروايتهم ما تعلم أنه ليس من لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجب بشيء. قال : وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة ؛ لئلا يقول مبتدئ : ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر ، ولا يستدلون بما ورد في الحديث بنقل العدول كالبخاري ، ومسلم وأضرابهما؟! فإذا طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث» (١) انتهى.

ردّ ناظر الجيش على شيخه أبي حيان في هذه القضية :

قال ناظر الجيش : وأقول : أما إنكاره على المصنف الاستدلال بما ورد من الأحاديث الشريفة معتلّا لذلك بأن الرواة جوزوا النقل بالمعنى :

فيقال فيه : لا شك أن الأصل في المروي أن يروى باللفظ الذي سمع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والرواية بالمعنى وإن جازت فإنما تكون في بعض كلمات الحديث المحتمل لتغيير اللفظ بلفظ آخر يوافقه معنى ؛ إذ لو جوزنا ذلك في كل ما يروى لارتفع الوثوق من جميع الأحاديث بأنها هي بلفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أمر لا يجوز توهمه فضلا عن أن يعتقد وقوعه. ثم إن المصنف إذا استدل على مسألة بحديث لا يقتصر على ما في الحديث الشريف ؛ بل يستدل بكلام العرب من نثر ، ونظم ، ثم يردف ذلك بما في الحديث إما تقوية لما ذكره من كلام العرب ، وإما استدلالا على أن المستدل عليه لا يختص جوازه بالشعر ؛ بل إنه يجوز في الاختيار أيضا. ولا يخفى عن اللبيب أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه في ابن صياد : «إن يكنه فلن تسلّط عليه ، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله» يبعد فيه أن يكون مغيرا ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ملّككم إيّاهم ولو شاء ملّكهم إيّاكم».

وبعد : فرحمهم‌الله تعالى بمنه ، وكرمه (٢).

__________________

(١) شرح التسهيل لناظر الجيش (باب عوامل الجزم) وانظره في التذييل في الجزء الخامس ورقة (٧٢) (مخطوط) والاقتراح (ص ٥٢).

(٢) تمهيد القواعد باب عوامل الجزم.

٧١

وبعد :

فقد ظهر لنا مما تقدم من الحجج التي ركن إليها كل من الفريقين. الذين يجوزون ، والذين لا يجوزون الاستشهاد بالحديث. ويعدّ ناظر الجيش ـ في رده هذا على أبي حيان ـ أول من كشف القناع أو النقاب عن وجه هذه القضية ، وأول من فصّل فيها وعلّل. هذا ، وإذا كان أبو حيان قد سار مع ابن الضائع فإن ناظر الجيش قد وافق ابن مالك في مذهبه هذا ...

ولكل من الفريقين ـ بعد ذلك ـ أتباع (١).

بقي أن نذكر أن شواهد الحديث الشريف في هذا الشرح الكبير بلغت أو قاربت الخمسمائة حديث ، وهذا نموذج منها مقرون بشرح وتخريج ناظر الجيش له :

قال المصنف : وممن رأى زيادة من في الإيجاب الكسائي وحمل على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون» فقال : أراد : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون ، وكان المصنف قد قال في المتن : «وتزاد لتنصيص العموم ، أو لمجرد التوكيد بعد نفي ، أو شبهه» قال الناظر : «وأما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون» فقد كفى المصنف مؤونة الجواب عنه إذ قال في باب الأحرف الناصبة الاسم الرافعة الخبر لما ذكر أن ضمير الشأن يكون اسما لإن ، وأنه يحذف معها كثيرا قال : وعليه يحمل «إن من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون» لا على زيادة من خلافا للكسائي» (٢).

رابعا : الشعر :

لقيت الشواهد الشّعرية ـ كغيرها ـ من النحاة تفضيلا ، ورفضا ، وقبولا ، واهتم بعضهم بها اهتماما لم يتحقق لغيرها فإذا ما جاء ـ بعضهم ـ يشرح شواهد كتاب في النحو ، أو الصرف ـ جعل جلّ اهتمامه ـ أو كلّه ـ

__________________

(١) وانظر : الاقتراح (ص ٥٢ ـ ٥٥) ، والبحث اللغوي (ص ٣٢ ـ ٣٩) ، ودراسات في العربية وتاريخها (ص ٣٤ ـ ٤٠) ، ومقدمة خزانة الأدب للبغدادي.

(٢) انظر ذلك في باب حروف الجر.

٧٢

بالشواهد الشعرية حتى كدنا إذا قيل : هذا كتاب يشرح الشواهد عرفنا أنه في شرح الشواهد الشعرية.

وقد ذهب علماء اللغة ـ وهم يستشهدون بشعر العرب ـ إلى تقسيم الشعراء أربع طبقات :

الأولى : طبقة الشعراء الجاهليين ، وهم من كانوا قبل الإسلام ، ومن هؤلاء : امرؤ القيس ، وزهير ، وطرفة ، وعدي بن زيد ، وعلقمة الفحل ..

الثانية : طبقة الشعراء المخضرمين ، ويعنى بهم الّذين أدركوا الجاهلية والإسلام. ومنهم : الأعشى ميمون بن قيس ، وحسان بن ثابت.

الثالثة : طبقة الشعراء الإسلاميين ، وهؤلاء هم الذين كانوا في صدر الإسلام ، وفي طليعتهم جرير ، والفرزدق.

أما الطبقة الرابعة والأخيرة : فهي طبقة المولدين ، وهم شعراء ما بعد الطبقة الثالثة إلى زماننا هذا ، ومنهم : بشار ، والمتنبي ، وأبو نواس.

وقد أجمع علماؤنا على الاستشهاد بشعر الطبقتين الأولى ، والثانية ، وأما الثالثة فقد اختلفوا في شعرها.

والصحيح جواز الاستشهاد بشعر هذه الطبقة. أما الطبقة الأخيرة فالصحيح أنه لا يستشهد بكلام شعرائها.

وأما صاحبنا ـ ناظر الجيش ـ فقد وجدناه ـ في أثناء دراستنا وتحقيقنا ـ قد أورد ، واستشهد بشعر من تلك الطبقات على اختلافها ، وأنه قد أكثر من الاستشهاد بالشعر ؛ حتى بلغت شواهد الشعر عنده أربعة آلاف بيت أو زادت على ذلك.

وكان موقفه من تلك الشواهد كالآتي :

١ ـ الإشارة غالبا إلى الشاهد في البيت الذي يورده في أكثر الأبيات المستشهد بها.

٢ ـ توضيح معاني بعض مفردات البيت.

٧٣

٣ ـ ذكر قائل البيت إذا ذكره ابن مالك أو أبو حيان.

٤ ـ الاكتفاء بذكر شطر واحد أحيانا إذا كان فيه الشاهد.

وهذا مثال من الشواهد الشعرية يبين موقف ناظر الجيش من تلك الشواهد.

يقول : واعلم أن ابن عصفور حكم على «عن وعلى» بالاسمية إذا باشرهما حرف جرّ كما قال المصنف ، كقول القائل :

[ف] دع عنك نهبا صيح في حجراته

ولكن حديثا ما حديث الرّواحل

وكقول الآخر :

[و] هوّن عليك فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها

وفي ما ذكره نظر.

فإن «عنك» في «دع عنك» و «عليك» في «هوّن عليك» ليسا مفعولي الفعلين اللّذين هما : دع وهوّن وإن كانا من متعلقاتهما ؛ إنما مفعول دع : نهبا ، وأما مفعول هوّن فمحذوف يدل عليه المعنى. التقدير هوّن عليك ما تلقاه. ولو كانت «عن» في البيت لتعدية الفعل الذي قبلها إلى ما بعدها لكان التقدير : دع إياك أي : نفسك ، وليس المعنى على هذا. وكذا كان يكون التقدير في البيت الآخر : هون إياك أي : نفسك. وهذا لا يقال (١).

خامسا : النّثر :

قال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى «الألفاظ والحروف» : «كانت قريش أجود العرب انتقادا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق ، وأحسنها مسموعا وأبينها إبانة عمّا في النفس ، والذين عنهم نقلت اللغة العربية ، وبهم اقتدي ، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب ، وهم : قيس ، وتميم ، وأسد ؛ فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه ، وعليهم اتكل في الغريب ، وفي الإعراب ، والتصريف ، ثم هذيل ، وبعض

__________________

(١) انظر ذلك في باب حروف الجر في هذا الكتاب الذي بين يديك.

٧٤

كنانة ، وبعض الطائيين ، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم» (١).

أما الشواهد النثرية فتشمل نوعين من اللغة :

الأول : ما جاء في شكل خطبة ، أو وصية ، أو مثل ، أو حكمة أو نادرة. ويعدّ هذا النوع من آداب العرب ذات الأهمية ويأخذ في الاستشهاد مكانة مكانة الشعر ، وشروطا كشروطه.

الآخر : ما نقل عن بعض الأعراب ومن يستشهد بكلامهم في حديثهم دون أن يتحقق له ذيوع وانتشار كالذي تحقق للأول.

ولهذا شروط في الزمان وفي المكان :

فمن ناحية الزمان : حددت نهاية الفترة التي يستشهد بها بآخر القرن الثاني الهجري بالنسبة لعرب الأمصار. وأما عرب البادية فآخر القرن الرابع. ويرتبط المكان بفكرة البداوة والحضارة ؛ فكلما كانت القبيلة بدوية أو أقرب إليها كانت لغتها أفصح ، والثقة فيها أكبر ، وكلما كانت متحضرة أو قريبة منها كانت أساليبها وألفاظها محلّ شك ، ومثار شبهة ؛ ولذلك تجنّبوا الأخذ عنها ؛ ذلك لأن انعزال القبيلة في بطن الصحراء يصون لغتها عن أي مؤثر خارجي ، واختلاط قبيلة يفسد لغتها ويحرف لسانها (٢).

وقد استشهد ابن مالك وتبعه ناظر الجيش ـ بكل ما ورد عن العرب من نثر فصيح : سواء ما جاء في شكل خطبة أو حكمة وما جاء في صورة نقل عن بعض الأعراب وإن لم يشتهر ؛ فكله فصيح وكله يحتج به ، ولا تكاد تخلو صفحة ـ أو صفحتان ـ من شرح التسهيل لابن مالك أو ناظر الجيش إلا وفيها قول مأثور عن العرب أو حكمة وردت عنهم ، من ذلك قولهم : إن الذود إلى الذود إبل ، وقول عمر رضي‌الله‌عنه : لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك ، وهديت فيه لرشدك ـ أن ترجع إلى الحق.

__________________

(١) المزهر : (١ / ٢١١).

(٢) وانظر الخصائص (٢ / ٢ ـ ١٢) ، واللغة والنحو (ص ٢٤).

٧٥

الفصل التاسع

ناظر الجيش

مذهبه النحوي ـ بعض اختياراته

* أولا : مذهبه النحوي :

بالبحث والتنقيب في شرح التسهيل لناظر الجيش رأينا أن موقفه من مذاهب النحو كان كنحاة عصره ، ينظر في مدارس البصرة ، والكوفة ، وبغداد ـ تلك التي اختارت قضاياها من المدرستين السابقتين عليها ـ ويختار منها ما يراه يوافق اتجاهه ويتبعه ما استطاع من أدلة ، وشواهد أو حجج ، وبراهين ، وتعليلات.

وجدير بالذكر أن نقول : إن صاحبنا أكثر ما ارتضاه كان من المذهب البصري وهو ـ غالبا ـ يعلل لما يختار ، وأخرى لا يفعل ، وأحيانا نلمح المذهب الذي أراد وإن لم يشر ، وفي بعض مسائله كان يتخير أحد الرأيين ـ البصرة والكوفة ـ دون أن يعرض أمامنا الرأي الآخر.

وهذه نماذج من المسائل التي أخذ فيها برأي البصريين :

١ ـ الفعل مشتق من المصدر.

٢ ـ الاسم بعد «لو لا» يرتفع بالابتداء.

٣ ـ إذا أضيفت غير إلى متمكن لم يجز بناؤها.

٤ ـ المنادى المفرد المعرفة مبني على الضم.

٥ ـ لا يجوز بناء ما فيه «أل» في الاختيار.

٦ ـ الميم المشددة في اللهم عوض من «يا» في أول الاسم.

٧ ـ لا يجوز ترخيم المضاف.

٨ ـ لا يجوز ترخيم الثلاثي بحال.

٩ ـ لا يحذف في الترخيم من الرباعي إلا آخره.

٧٦

١٠ ـ لا يجوز ندبة النكرة ، ولا الموصول.

١١ ـ لا تلحق علامة الندبة الصفة.

١٢ ـ لا تكون من لابتداء الغاية في الزمان.

١٣ ـ ربّ حرف جر.

١٤ ـ الجر بعد واو ربّ بربّ المقدرة.

١٥ ـ «منذ» بسيطة.

١٦ ـ المرفوع بعد «مذ» و «منذ» مبتدأ.

١٧ ـ لا يجوز حذف حرف القسم وإبقاء عمله من غير عوض إلا في اسم «الله» خاصة.

١٨ ـ «اللام» في قولك : لزيد أفضل من عمرو لام الابتداء.

١٩ ـ أيمن الله في القسم مفرد.

٢٠ ـ لا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه مطلقا.

٢١ ـ «كلا» و «كلتا» مفردان لفظا مثنيان معنى.

٢٢ ـ لا يجوز توكيد النكرة توكيدا معنويّا.

٢٣ ـ لا يجوز زيادة واو العطف.

٢٤ ـ لا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا مع الفصل أو التوكيد.

٢٥ ـ لا تقع «أو» بمعنى الواو ولا بمعنى بل.

٢٦ ـ لا يجوز العطف ب «لكن» بعد الإيجاب.

٢٧ ـ «كي» تكون ناصبة ، وجارة.

٢٨ ـ الضمير في «لو لاي» و «لو لاك» و «لو لاه» في موضع جر.

٢٩ ـ لا يجوز حذف نون التثنية لغير الإضافة.

٧٧

ومما أخذ فيه برأي الكوفيين :

١ ـ يجوز الفصل بين المتضايفين بالمفعول.

٢ ـ جواز العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجارّ.

وهناك مسائل وافق فيها المذهبين معا ، ومن أبرزها :

١ ـ قوله : «باب حروف الجر» ، ثم قوله : «حروف الإضافة».

٢ ـ قوله : «الاسم مشتق من السمو» وهو العلو ، ثم قوله : «الاسم مشتق من السمة» وهي العلامة.

ثانيا : اختياراته النحويّة :

أخذ النحاة ـ أيام ناظر الجيش ـ نحوهم من أئمة النحو ورجاله المبرزين ، فتخصصوا في قراءة كتبهم ، والتنقيب فيها ، ومناقشتها ... وإذا كانت بعض هذه الكتب تموج بآراء البصرة ، والكوفة ، وبغداد ، إلى جانب آراء خاصة واجتهادات انفرد بها بعضهم ـ فإنه لم يكن أمام هؤلاء النحاة إلا أن يوازنوا بين ما يجدون. فما وجدوه مستقيما ـ في رأيهم ـ أخذوا به ، وأيدوه مستندين في ذلك إلى القرآن الكريم والحديث الشريف ، وشواهد الشعر ، والنثر ، والقياس ، والسماع والتعليل.

وإلا لم يلتفتوا إليه دون نظر إلى قدر صاحب هذا الرأي ، أو منزلته عند غيرهم. ينضاف إلى ذلك أنهم لم يكونوا يقتصرون على تأييد ، أو توجيه آراء سواهم ، وإنما كانوا ـ أحيانا ـ يصدرون آراء خاصة ، وبحوثا ينفردون بها مما أعطى النحو ، والنحاة في تلك الفترة طابعا مميزا.

وناظر الجيش واحد من هؤلاء .. وتلك أبرز اختياراته ، واجتهاداته (١) :

١ ـ «معنى «من» هو ابتداء الغاية ، وهذا المعنى لازم لها ، ثم قد يقصد بها معنى آخر منضمّا إلى معنى الابتداء ، ويدل على ذلك المعنى الزائد سياق

__________________

(١) انظر المبحث السابق.

٧٨

الكلام».

٢ ـ «من» المصاحبة لأفعل التفضيل للبيان ؛ لأن المذكور بعدها بيّن به المفضل عليه.

٣ ـ «من ، في قوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الجمعة : ٩] ليست بمعنى في ، وإنما هي باقية على معناها من ابتداء الغاية ، والجار والمجرور في موضع الحال من الصلاة ، وهذا هو المراد ، ولا يتأتى المراد إذا جعلت بمعنى في. والله أعلم».

٤ ـ «في قوله تعالى : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] من للتبعيض ، وليست زائدة ؛ لأنهم لم يؤمروا بغض الأبصار ، وإنما يغض منها ما كان في النظر به امتناع شرعي».

٥ ـ «ليست الباء للتعليل في قوله تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص : ٢٠] بل التعليل هو : (لِيَقْتُلُوكَ ،) وإنما الباء ظرفية أي : يأتمرون فيك أي : يتشاورون في أمرك لأجل القتل ، ولا يكون للائتمار علتان».

٦ ـ «معنى الحرف إنما يكون حاصلا لما باشره الحرف».

٧ ـ «والذي يظهر أن ربّ للتكثير ، وأنها تستعمل للتقليل قليلا».

٨ ـ «ولو قيل : إن سيبويه قد سوّى بين ربّ وبين كم الخبرية. ولا شك أن «كم» لها صدر الكلام ؛ فلتكن ربّ لشبهها بها كذلك ـ لكان قولا!».

٩ ـ «لا حاجة إلى التخريجات المتكلفة بعد ثبوت الكلام بنقل الأئمة المعتبرين».

١٠ ـ «القسم : جملة إنشائية يؤتى بها لتوكيد جملة خبرية».

١١ ـ «والحق أن النصب ـ في القسم ـ إنما هو بفعل القسم المقدر تعدى بنفسه إلى ما كان تعديا إليه بالحرف على القاعدة المعروفة».

٧٩

١٢ ـ «إضافة الأعداد إلى المعدودات ، والمقادير إلى المقدرات بمعنى من ، نحو : ثلاثة أثواب ، ومائة درهم ، وذراع حرير ؛ لأن الثلاثة ، والمائة ، والذراع يحتمل كل منها أن يكون من جنس ما أضيف له ، ويحتمل أن يكون من غيره».

١٣ ـ «.. وكلام الرجل الواحد إذا كان مطلقا في موضع ، ومقيدا في آخر حمل المطلق على المقيد».

١٤ ـ «والذي يظهر أن التبعية في العطف على الجوار لا مانع منها ، من حيث الصناعة. وأقوى الأدلة عليها الآية الشريفة أعني آية الوضوء ؛ لأن قراءة وأرجلكم [المائدة : ٦] بالجر ثابتة بالتواتر ، وغسل الأرجل واجب بالأدلة القاطعة ، فوجب أن يكون (وأرجلكم) في قراءة من جرّ معطوفة على ما تقدم من منصوب (فاغسلوا) فيكون مستحقّا للنصب مع أنه قد جر ، ولا وجه لجرّه إلا أن يكون على الجوار».

١٥ ـ «ثبت بالكتاب العزيز تعدي الفعل استغاث ، بنفسه ؛ فوجب أنه إذا ورد متعديا بحرف أن يدّعى فيه التضمين».

١٦ ـ في وزن : أسماء قال : «والحقّ أن دعوى أن الوزن فعلاء لا يدفع دعوى أن الوزن أفعال ، وكذا العكس ولكل وزن اعتبار ، لكن الخلاف قد نقل ، والنقول لا ترد».

٨٠