شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤

______________________________________________________

ولنرجع إلى لفظ الكتاب :

وقوله : وهو إما مصرح بلفظه أي المفسّر ، وذلك نحو : زيد لقيته.

وقوله : أو مستغنى عنه أي مستغنى عن لفظه بحضور معناه في الحس كقوله تعالى : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)(١) ، و (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ)(٢) ، أو بحضور معناه في العلم ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(٣) ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ)(٤) ، (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ)(٥).

وقوله : أو بذكر [١ / ١٧٠] ما هو له جزء أي : أو مستغنى عنه بذكر ما صاحب الضمير جزؤه ، فهذا عائد على صاحب الضمير ، والضمير في له عائد على المذكور ، وذلك كقول الشاعر :

٢٦٠ ـ أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر (٦)

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٦. قال أبو حيان : «الضّمير في (هى) عائد على قوله : (بِأَهْلِكَ سُوءاً) ولمّا كنّت عن نفسها بقوله : (بأهلك) ولم تقل بي ، كنّى هو عنها بضمير الغيبة في قوله (هِيَ راوَدَتْنِي) ولم يخاطبها بقوله : أنت راودتني ، ولا أشار إليها بقوله : هذه راودتني ، كلّ هذا على سبيل الأدب» (التذييل والتكميل : ٢ / ٢٥٣).

(٢) سورة القصص : ٢٦.

(٣) سورة القدر : ١.

(٤) سورة ص : ٣٢.

(٥) سورة فاطر : ٤٥.

(٦) البيت من بحر الطويل من قصيدة لحاتم الطائي ذكر جزءا منها ابن قتيبة في الشعر والشعراء : (١ / ٢٥٣) ، وهي كلها في ديوان حاتم (ص ٥١).

وماوية التي ذكرت في البيت : امرأة شريفة في العرب جاءها الرجال يخطبونها ، ومنهم حاتم الطائي والنابغة ، فطلبت منهم جميعا شعرا يذكرون فيه مناصبهم وأفعالهم ، فعادوا ثم ذهبت إليهم متخفية ، لترى أفعالهم ، فأعجبت بحاتم حين رأته ينصب القدور ويمد الموائد للضيوف والناس ، ثم جاءها حاتم ، وأنشدها هذه القصيدة التي منها بيت الشاهد وفيها يقول (قبل بيت الشاهد) :

أماويّ إنّ المال غاد ورائح

ويبقى من المال الأحاديث والذّكر

أماويّ إنّي لا أقول لسائل

إذا جاء يوما حلّ في مالنا نزر

اللغة : الثّراء : الغنى وكثرة المال. حشرجت : الحشرجة تكون عند صعود الروح إلى بارئها وقت الموت.

والمعنى : أن المال لا يفيد في شيء حتى في طول عمر الإنسان ، وهو أقصى أمنيته فلا داعي للشح به. وشاهده واضح من الشرح.

وانظر البيت في شرح التسهيل (١ / ١٥٧) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٥٤) ، وفي معجم الشواهد (ص ١٥٠).

٥٤١

______________________________________________________

وذكر الفتى مغن عن ذكر النفس ؛ لأنها جزؤه ، فعاد إليها فاعل حشرجت ، والضمير المجرور بالياء ومنه قولهم : «من كذب كان شرّا له» (١) فأضمروا في كان ضمير الكذب ؛ لأنه جزء مدلول كذب ، ومثله قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٢) فهذا عائد على العدل؛لأنه جزء مدلول (اعْدِلُوا.)

ومنه قول الشاعر :

٢٦١ ـ وإذا سئلت الخير فاعلم أنّها

حسنى تخصّ بها من الرّحمن (٣)

فأعاد الضمير إلى المسألة ؛ لأنها جزء مدلول سئلت.

ومنه قول الشاعر :

٢٦٢ إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى الخلاف (٤)

فالهاء من إليه عائد على السفه ؛ لأنه جزء مدلول السفيه.

وقوله : أو كلّ أي : أو يذكر ما صاحب الضمير له أي للمذكور كل ؛ فإن الجزء يدل على الكل كما يدل الكل على الجزء.

قال المصنف : ومن ذلك ـ والله أعلم ـ (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ)(٥) ؛ فإن الذهب والفضة بعض المكنوزات ، فأغنى ذكرهما عن ذكر الجميع ، كأنه قيل : ـ

__________________

(١) شرح المفصل لابن يعيش (٧ / ١٥٢).

(٢) سورة المائدة : ٨.

(٣) البيت من بحر الكامل قاله كعب الغنوي من مقطوعة قصيرة يوصي فيها ابنه عليّا وهي في الأمالي (٢ / ٣٤٦). وشاهد البيت واضح.

والبيت ليس في معجم الشواهد ، وهو في شرح التسهيل (١ / ١٥٧) ، وفي التذييل والتكميل (١ / ٥١٣).

ترجمة كعب الغنوي : هو كعب بن سعد بن عمرو الغنوي ، شاعر جاهلي حلو الديباجة ، له أشعار كثيرة مبعثرة في كتب الأدب والتراجم ، أشهر شعره بائيته في رثاء أخ له قتل في حرب ذي قار.

توفي كعب سنة (١٠) قبل الهجرة. ترجمته في الأعلام (٦ / ٨٢).

(٤) البيت من بحر الوافر ، ومع كثرة مراجعه لم ينسب إلى قائل ، ولم يذكر له ثان.

وروي أمر مكان نهي ، وشاهده قوله : جرى إليه. قال ثعلب في مجالسه (١ / ٦٠) : قوله : جرى إليه أي جرى إلى السفه ، واكتفى بالفعل من المصدر. ويقصد بالفعل اسم الفاعل.

والبيت في معجم الشواهد (ص ٢٤٠) ، وهو في شرح التسهيل (١ / ١٥٧) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٥٥).

(٥) سورة التوبة : ٢٤ وهي قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.)

٥٤٢

______________________________________________________

والذين يكنزون أصناف ما يكنز ولا ينفقونها. ومن هذا أيضا قول الشاعر :

٢٦٣ ـ ولو حلفت بين الصّفا أمّ معمر

ومروتها بالله برّت يمينها (١)

فأعاد الضمير إلى مكة ؛ لأن الصفا جزء منها. وذكر الجزء مغن عن ذكر الكل في بعض الكلام.

ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ)(٢) ؛ فيكون الضمير للدنيا وإن لم يجر ذكرها في هذه السورة ؛ لأن ما جرى ذكره بعضها ، والبعض يدل على الكل.

وقوله : أو نظيره أي : ويذكر ما هو نظير لصاحب الضمير ، ومثّلوه بقولهم : عندي درهم ونصفه أي ونصف (٣) درهم آخر ، ومنه قول الشاعر :

٢٦٤ ـ قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا (٤)

إلى حمامتنا أو نصفه فقد (٥)

أي : ونصف حمام آخر مثله في العدة. ـ

__________________

(١) البيت من بحر الطويل ، ولم ينسب إلى قائل.

اللغة : الصّفا والمروة : من شعائر الله في الأراضي المقدسة ، ويلزم الحاج السعي بينهما. برّت يمينها : صدقت فيها.

قال أبو حيان ردّا على ما ذكره ابن مالك في البيت : «ولا يتعيّن هذا ؛ إذ يحتمل أن يعود الضّمير على الصفا على معنى الصخرة ؛ لأنهما مشتركان في معنى الطواف بهما ، فهما طرفان ينتهى في الطّواف إليهما ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة» (التذييل والتكميل : ٢ / ٢٥٥).

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٥٨) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٥٥) ، وليس في معجم الشواهد.

(٢) سورة الرحمن : ٢٦.

(٣) سيأتي ما ذكره ابن عصفور في عائد الضمير في هذا القول وأمثاله.

(٤) كلمة لنا سقطت من نسخة الأصل سهوا.

(٥) البيت من بحر البسيط من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني يمدح فيها النعمان بن المنذر ، ويعتذر إليه من هجاء ـ أو وشاية ـ هجاه به ، وقد عد بعضهم المعلقات عشرا ، وجعلوا منها قصيدة النابغة هذه ، ومطلعها (وهي في الديوان ص ١٩) :

يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

وأما قصة بيت الشاهد فمشهورة ، وهي أن النابغة يدعو النعمان إلى الحزم واليقظة قبل أن يبطش به ، وأن يكون في حكمه كهذه التي عدت الحمام وهو طائر في السماء فكان كما عدت.

وشاهده واضح من الشرح ، وهو في معجم الشواهد (ص ١١٧) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٥٦).

٥٤٣

______________________________________________________

وقول الآخر :

٢٦٥ ـ وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب (١)

أي : قيد فحلنا.

وقوله : أو مصاحب بوجه ما :

قال المصنف : «وقد يستغنى عن ذكر صاحب الضّمير بذكر ما يصاحبه بوجه ما» وذكر لذلك صورا ثلاثا (٢) :

الأولى : الاستغناء بمستلزم عن مستلزم ، ومنه قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ)(٣). فعفي يستلزم عافيا ؛ فأغنى ذلك عن ذكره ، وأعيدت الهاء من إليه عليه. ومن قول الشاعر [١ / ١٧١] :

٢٦٦ ـ فإنّك والتّأبين عروة بعد ما

دعاك وأيدينا إليه شوارع

لكالرّجل الحادي وقد تلع الضّحى

وطير المنايا فوقهنّ أواقع (٤)

__________________

(١) البيت من بحر الطويل من قصيدة في الفخر والعزة للأخنس بن شهاب ، وهي في المفضليات : (١ / ٧٥٠) ، وبعضها في شرح الحماسة (٢ / ٧٢٠).

والشاعر يصف قومه بالعزة ؛ فلا أحد يستطيع أن يتعرض لهم بسوء وهم يتركون فحولهم ترعى في كل مكان دون أن يقيدوها ، بينما غيرهم يقيد فحوله خوفا وجبنا. والسّارب : الذاهب في الأرض.

والشاهد قوله : ونحن خلعنا قيده ؛ حيث عاد الضمير على الفحل وهو نظير المذكور في البيت.

والبيت في معجم الشواهد (ص ٣٧) ، وفي التذييل والتكميل.

ترجمة الأخنس : هو الأخنس بن شهاب بن ثمامة التغلبي ، شاعر جاهلي من أشراف تغلب وشجعانها ، حضر وقائع حرب البسوس ، وله فيها شعر ، ويدعى فارس العصا وهي فرسه. توفي نحو (٧٠ ق. ه).

وترجمته في الأعلام (٢ / ٢٥٦).

(٢) انظر في هذه الصور الثلاث : شرح التسهيل (١ / ١٥٨ ، ١٥٩).

(٣) سورة البقرة : ١٧٨.

(٤) البيتان من بحر الطويل لم ينسبا فيما وردا من مراجع ، وهما في الوصف ، وقد أتى كل بيت شاهدا منفردا.

اللغة : التّأبين : من معانيه أن تعيب الإنسان في وجهه ويروى مكانه التأنيب ، وهو من معانيه أيضا.

دعاك : استغاث بك. شوارع : جمع شارعة أي مرتفعة ممتدة. الحادي : من الحداء ، وهو سوق الإبل والغناء لها. تلع الضّحى : أي ارتفع وعلت الشمس. أواقع : جمع واقعة وأصله وواقع فأبدلت الواو همزة.

المعنى : يصف الشاعر رجلا استغاث به عروة فلم يغثه ، بل شمت فيه وتركه يتجرع الموت من أيدي

٥٤٤

______________________________________________________

فالحادي يستلزم إبلا محدوة ، فأغنى ذلك عن ذكرهن ، وأعاد ضمير فوقهن عليهن (١).

الثانية : الاستغناء بذكرها يصاحب صاحب الضمير ذكرا أو استحضارا ، كذكر الخير وحده متلوّا بضمير اثنين مقصود بهما المذكور وضده ، كقول الشاعر :

٢٦٧ ـ وما أدري إذا يمّمت أمرا

أريد الخير أيهّما يليني (٢)

فأعاد الضمير على الشر أيضا وإن لم يذكر ؛ لأنه يصاحب الخير في الذكر والاستحضار.

الثالثة : الاستغناء بذكر المصاحب في الاستحضار لا في الذكر ، وذلك نحو قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ)(٣). فهي عائدة على الأيدي لأنها تصاحب الأعناق في الأغلال ؛ فأغنى ذكر الأعناق عن ذكرها.

ومثله قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ)(٤) أي من عمر غير المعمر ، فأعيد الضمير على غير المعمر ؛ لأن ذكر المعمر مذكر به لتقابلهما ، فكان مصاحبه في الاستحضار الذهني. ـ

__________________

رجال شجعان. وصار حال هؤلاء يشبه حال رجل له إبل سلمها للموت يأكلها واحدا بعد الآخر.

وقد استشهد شراح الألفية (الأشموني : ٢ / ٢٨٤) بالبيت الأول على عمل المصدر المقترن بأل وهو قليل ، كما استشهد شراح التسهيل بالبيت الثاني على ذكر مصاحب بوجه ما على ما يعود إليه الضمير كما هو في الشرح. وانظر البيتين في شرح التسهيل (١ / ١٥٨) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٥٧) ، وفي معجم الشواهد (ص ٢٢٣).

(١) قال ابن مالك بعده : ومثل هذا قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] ففاعل توارت ضمير الشمس ، ولم تذكر ؛ لكن أغنى عن ذكرها ذكر العشي وأول وقت الزوال. قال : ويجوز أن يكون فاعل توارت : ضمير الصافنات (شرح التسهيل : ١ / ١٧٦).

(٢) البيت من بحر الوافر للمثقب العبدي ، من قصيدة له مشهورة رقيقة في الغزل والوصف (المفضليات للضبي : ص ٥٧٤) وبيت الشاهد آخر أبياتها وليس بعده إلا قوله :

أألخير الّذي أنا أبتغيه

أم الشّرّ الّذي هو يبتغيني

وشاهده واضح ، والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٥٩) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٥٧) ، وفي معجم الشواهد (ص ٤٠٩) ، وفي الشعر والشعراء (١ / ٤٠٢).

ترجمة الشاعر : المثقب العبدي هو محصن بن ثعلبة قديم جاهلي ، عاش في زمن عمرو بن هند ومدحه ، وله معان أخذها عنه الشعراء بعده ، وله مفضليات وأبيات في الحكم والأمثال ، وأشهر قصائده في ذلك القصيدة التي منها الشاهد. (انظر ترجمته وأخباره في الشعر والشعراء : ١ / ٤٠٢).

(٣) سورة يس : ٨.

(٤) سورة فاطر : ١١.

٥٤٥

[مفسّر ضمير الغائب وتأخيره جوازا]

قال ابن مالك : (وقد يقدّم الضّمير المكمّل معمول فعل أو شبهه على مفسّر صريح كثيرا إن كان المعمول مؤخّر الرّتبة ، وقليلا إن كان مقدّمها ، وشاركه صاحب الضّمير في عامله).

______________________________________________________

ـ ثم ها هنا تنبيهان :

ناقش الشيخ المصنف في تمثيله بقوله تعالى : (هِيَ راوَدَتْنِي)(١) ، و (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ)(٢) لما لم يذكر مفسره ، قال :

«فإنّ الضّمير في (هى) عائد على قوله : (بِأَهْلِكَ سُوءاً)(٣) والضّمير في (اسْتَأْجِرْهُ) عائد على موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالمفسّر في الاثنين مصرّح بلفظه» انتهى (٤).

الثاني : لم يجعل ابن عصفور الضمير في : عندي درهم ونصفه ـ عائدا على نظير المذكور كما قال المصنف ؛ بل جعله عائدا على الدرهم المذكور باعتبار اللفظ ، لا باعتبار المعنى ، وكذا جعل الضمير في : نصفه فقد ، وفي : ونحن خلعنا قيده (٥).

قال ناظر الجيش : قد تقدم الإعلام بأن مفسر الضمير قد يؤتى به مؤخرا عن الضمير ، وإن كان ذلك على خلاف الأصل (٦).

وينبغي أن يعلم أن الضمير منه ما يفسره ما بعده ، فعلى هذا يكون تأخير المفسر في هذا القسم واجبا لا لأمر اقتضى وجوب تأخيره ؛ بل لأن من الضمير ما وضعه أن يفسره ما بعده.

إذا تقرر هذا فيقال : إن تأخير المفسر منه واجب ومنه جائز.

وقد بدأ بذكر مواضع الجواز ، وثنى بذكر مواضع الوجوب ، وإذا عرفت مواضع ـ

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٦.

(٢) سورة القصص : ٢٦.

(٣) سورة يوسف : ٢٥.

(٤) التذييل والتكميل (٢ / ٢٥٣).

(٥) انظر نصه في شرح الجمل لابن عصفور (٢ / ١٠٠). وقد وقع لي ما رآه ابن عصفور في مرجع هذه الضمائر وأنا أقرأ هذه الأمثلة ، وكنت سأذكره إلا أنني وجدت النحوي الكبير سبقني به.

وفي نسخة الأصل كتب هنا : بلغت قراءة.

(٦) تقدم الإعلام بذلك.

٥٤٦

______________________________________________________

القسمين علم أن ما عداها باق على الأصل ، فيمتنع فيه التأخير.

أما مواضع الجواز :

فاعلم أن المفسر [١ / ١٧٢] المؤخر إما أن يكون رتبته التقديم ، وإما أن يكون رتبته التأخير ، فهما قسمان :

أما القسم الأول : فإليه الإشارة بقوله : ويقدّم الضّمير المكمّل إلى قوله : إن كان المعمول مؤخر الرّتبة ؛ لأن المعمول الذي اتصل به الضمير إذا كان مؤخر الرتبة كان المفسر عن ذلك الضمير مقدم الرتبة. ومراده أنه يجوز تأخير المفسر كثيرا إذا كان الضمير مكملا معمول فعل ، ورتبة ذلك المعمول التأخير عن المفسر المؤخر في اللفظ ، ويدخل تحت هذه العبارة صور وهي :

ضرب غلامه زيد (١) ، وغلامه ضرب زيد ، وضرب غلام أخيه زيد (٢) ، وغلام أخيه ضرب زيد ، وما أراد أخذ زيد (٣) ، وضرب جارية يحبّها زيد (٤).

لأن المضاف إليه يكمل المضاف ، ومعمول الصلة يكمل الموصول ، كما يكمل ما بفاعل أراد الممثل به ، ومعمول الصفة يكمل الموصوف كما يكمل جارية بفاعل يحبها.

ونظير المثال الأول (٥) قوله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى)(٦).

ونظير الثاني (٧) قول العرب : في بيته يؤتى الحكم (٨) ، وشتّى تؤوب ـ

__________________

(١) في هذا المثال مفسر الضمير هو زيد ، وموقعه من الإعراب فاعل ، ومرتبة الفاعل التقديم ، ومعمول الضمير هو غلام ؛ حيث أضيف إليه وبإضافته إليه صار مكملا له ، وموقعه مفعول به. ومرتبته التأخير عن الفاعل ، والعامل في المفسر وفيما أضيف إليه الضمير واحد وهو الفعل المقدم ، والمثال الذي بعده يشبهه.

(٢) لا يفترق عن الأولين ، غير أن المفعول مضاف إلى مضاف إلى الضمير.

(٣) في هذا المثال مفسر الضمير هو زيد أيضا ، والضمير فاعل أراد ، وجملة أراد صلة الموصول وهو ما مفعول ، والأصل فيه التأخير ، والعامل في المفسر هو العامل في المفعول.

(٤) في هذا المثال جملة يحبها التي بها الضمير صفة لجارية ، والصفة تكمل الموصوف والموصوف هو المفعول.

(٥) وهو قوله : ضرب غلامه زيد بتقديم الضمير على مفسره ، مع تأخير عامله عن العامل.

(٦) سورة طه : ٦٧.

(٧) وهو قوله : غلامه ضرب زيد بتقديم الضمير على العامل والمفسر معا.

(٨) مثل من أمثال العرب حكوه على لسان الحيوان ، وأصله كما في مجمع الأمثال (٢ / ٤٤٢) : أن أرنبا وثعلبا احتكما إلى ضب وهو في جحره ، فطلبا منه الخروج إليهما ، فقال المثل. ويضرب لمن يريد شيئا فالواجب أن يذهب إليه.

٥٤٧

______________________________________________________

الحلبة (١).

فإن : في بيته في موضع نصب بيؤتى ، والهاء عائدة على الحكم ، وقد تقدما على العامل والمفسر. وشتى حال من الحلبة ، وفيها ضمير عائد عليهم ، وقد تقدم على العامل والمفسر.

قال المصنف : «والكوفيّون لا يجيزون مثل هذا ، وسماعه من فصحاء العرب صحيح ؛ فهو حجة عليهم» (٢).

ونظير المثال الرابع (٣) قول الشاعر :

٢٦٨ ـ شرّ يوميها وأغواه لها

ركبت عنز بحدج جملا (٤)

لأن شر يوميها ظرف لركبت.

ونظير المثال الخامس (٥) قول رجل :

٢٦٩ ـ ما شاء إن شاء ربّي والّذي هو لم

يشأ فلست تراه ناشئا أبدا (٦)

__________________

(١) مثل من أمثال العرب. وأصله في مجمع الأمثال (٢ / ١٥٠) : أن الحلبة يوردون إبلهم ، وهم مجتمعون ، فإذا صدروا تفرقوا ، والمثل يضرب في اختلاف الناس وتفرقهم في الأخلاق.

(٢) انظر المسألة بالتفصيل في كتاب الإنصاف (١ / ١٥٨) : هل يجوز تقديم الحال على الفعل العامل فيها.

قال ابن الأنباري : ذهب الكوفيّون إلى أنّه لا يجوز تقديم الحال على الفعل العامل فيها مع الاسم الظّاهر ، نحو : راكبا جاء زيد. ويجوز مع الضّمير نحو : راكبا جئت ، وذهب البصريّون إلى أنّه يجوز تقديم الحال مع العامل فيها على الاسم الظّاهر والمضمر .... ثم احتج لكل من الفريقين ورجح رأي البصريين.

(٣) وهو قوله : غلام أخيه ضرب زيد.

(٤) البيت من بحر الرمل ، قاله بعض شعراء جديس ، وقد سبق الاستشهاد به.

وشاهده هنا قوله : شرّ يوميها وأغواه لها ـ ركبت عنز. حيث فسر الضمير بمتأخر في اللفظ وجاز ذلك لأن الضمير مكمل لمعمول فعل. والتقدير : ركبت عنز في شر يوميها.

(٥) وهو قوله : ما أراد أخذ زيد. ولم يمثل المصنف وتبعه الشارح للمثال الثالث والسادس من كلام العرب. وأدرج أبو حيان الثالث في الرابع (التذييل والتكميل : ٢ / ٢٥٩) وانظر ذلك التقسيم في شرح التسهيل (١ / ١٦٠) وما بعدها.

(٦) البيت من بحر البسيط ، وهو من الحكم. ومفرداته ومعناه واضحان ، وإن كان قائله مجهولا.

والشاهد فيه قوله : ما شاء إن شاء ربي ؛ حيث تقدم الضمير على مفسره ، وجاز هذا لأن الضمير في معمول فعل عمل في المفسر وهو ليس فيه صراحة وإنما في الصلة ومعمول الصلة يكمل الموصول. والبيت

٥٤٨

______________________________________________________

ومثال الضمير المكمل معمول شبه الفعل قولك : هند ضارب غلامه زيد من أجلها ، ومررت بامرأة ضارب غلامه أخوها.

ولا أعلم ممّاذا احترز بقوله : صريح.

وأما القسم الثاني : فإليه الإشارة بقوله : قليلا إن كان مقدّمها ، أي : ويقدم الضمير المكمل معمول فعل أو شبهه على مفسر صريح قليلا إن كان المعمول مقدم الرتبة ؛ لأن المعمول المكمل بالضمير إذا كان مقدم الرتبة كان المفسر الذي أخر عن ذلك الضمير مؤخر الرتبة ، أي : واقع في رتبته التي هو فيها.

ومراده : أن تقديم الضمير على مفسره إذا كان بهذه الحيثية يقل لما يلزم منه من عود الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة ؛ بخلاف القسم الأول ؛ فإنه وإن عاد فيه الضمير على متأخر في اللفظ ، فهو متقدم في الرتبة.

ومثال ذلك قول حسان بن ثابت رضي‌الله‌عنه يرثي مطعم بن عدي :

٢٧٠ ـ ولو أنّ مجدا أخلد الدّهر واحدا

من النّاس أبقى مجده الدّهر مطعما (١)

[١ / ١٧٣] وقال غيره :

٢٧١ ـ كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد

ورقّى نداه ذا النّدى في ذرا المجد (٢)

__________________

في شرح التسهيل لابن مالك (١ / ١٦٠) ، والتذييل والتكميل (٢ / ٢٦٠) ، وليس في معجم الشواهد.

(١) البيت من بحر الطويل ، من مقطوعة لحسان بن ثابت يرثي فيها مطعم بن عدي ، ومناسبتها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يطوف بالكعبة فخشي أذى قريش بعد وفاة عمه أبي طالب ، فأرسل إلى نفر من قريش ليجيره فلم يفعلوا ، فأرسل إلى المطعم بن عدي ، فأجاره هو وبنوه حتى طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم إن المطعم هذا هلك ، فقال حسان يرثيه ويذكر وفاءه للنبي عليه‌السلام (الديوان : ص ٢٤٣).

ويستشهد النحاة بهذا البيت وما بعده على عود الضمير من الفاعل على مفسر متأخر في اللفظ والرتبة وهو المفعول به.

ويمنع النحاة ـ إلا بعضهم ـ مثل هذا البيت مما فيه عود الضمير من الفاعل إلى المفعول ، وذلك لعود الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة. وفي البيت وما بعده كلام كثير في الشرح.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦٠) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٦٠) وما بعدها ، وفي معجم الشواهد (ص ٣٢٩).

(٢) البيت من بحر الطويل ، وهو في المدح بالحلم والكرم ، ولم أعثر على قائله.

اللغة : كسا : من الكسوة ، ويكون في الملبوسات أصلا. حلمه : الحلم الأناة والعقل. والسؤدد : المجد والسيادة. رقّى : جعله يرقى أي يصعد. النّدى : الكرم. ذرا : الذرا جمع ذروة وهي أعلى الشيء.

٥٤٩

______________________________________________________

وقال آخر :

٢٧٢ ـ لمّا رأى طالبوه مصعبا ذعروا

وكاد لو ساعد المقدور ينتصر (١)

وقال آخر :

٢٧٣ ـ لقد جاز من يعنى به الحمد إن أبى

مكافأة الباغين والسّفهاء (٢)

وقال آخر :

٢٧٤ ـ وما نفعت أعماله المرء راجيا

جزاء عليها من سوى من له الأمر (٣)

وأنشد ابن جني :

٢٧٥ ألا ليت شعري هل يلومنّ قومه

زهيرا على ما جرّ من كلّ جانب (٤)

__________________

والمعنى : صاحب الحلم يسود قومه لعفوه عنهم ، وكذلك الكريم لجوده عليهم.

وشاهده : كما في البيت قبله : عود الضمير من الفاعل (حلمه) إلى المفعول (ذا الحلم).

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦١) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٦٠) ، وفي معجم الشواهد (ص ١١٠).

(١) البيت من بحر البسيط قائله ـ كما في مراجعه ـ أحد أصحاب مصعب بن الزبير بن العوام رضي‌الله‌عنهما يرثي به مصعبا لما قتل سنة (٧٠ ه‍).

اللغة : ذعروا : خافوا وفزعوا. المقدور : القدر. المعنى : يصف الشاعر حال أولئك الذين قتلوا مصعبا وأنهم ندموا على ما فعلوا ؛ بل إن مصعبا كان على وشك أن ينتصر عليهم ، وفيه كما في البيت قبله من شاهد.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦١) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٦٠) ، وفي معجم الشواهد (ص ١٦٣).

(٢) البيت من بحر الطويل ، ولم يرد في معجم الشواهد ، وقد ورد في شروح التسهيل غير منسوب.

المعنى : يدعو الشاعر الإنسان أن يكون جازيه على عمله الله سبحانه وتعالى ؛ فيحمده وحده على كل حال ، ولا ينتظر مكافأة غيره من الناس ، فكثير منهم ينكر الخير.

والشاهد فيه قوله : لقد جاز من يعنى به الحمد ؛ حيث عاد الضمير من المفعول وهو الاسم الموصول إلى الفاعل وهو الحمد ، والضمير هنا ليس في المفعول نفسه ، ولكنه في صلته.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦١) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٦١).

(٣) البيت من بحر الطويل ، وهو من الحكم ، حيث يقول صاحبه : لا تنفع أعمال الإنسان إذا قصد بها غير الله سبحانه وتعالى : فالواجب أن يقصد المرء بعمله الله فقط. وهذا البيت شاهده كما في الأبيات قبله من عود الضمير من الفاعل إلى المفعول في قوله : وما نفعت أعماله المرء.

وهذ البيت مما اختص به شرح التسهيل لناظر الجيش ، فلم يرد في معجم الشواهد،ولا ورد في شرح ابن مالك أوأبي حيان.

(٤) البيت من بحر الطويل ، قائله أبو جندب بن مرة الهذلي ، كما في مراجعه وكما في ديوان الهذليين (ص ٨٧) من القسم الثالث.

٥٥٠

______________________________________________________

وأنشد أيضا :

٢٧٦ ـ جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمّار (١)

قال المصنف (٢) : «والنّحويون إلا أبا الفتح يحكمون بمنع مثل هذا ، والصحيح جوازه لوروده عن العرب في الأبيات المذكورة وغيرها ، ولأن جواز نحو : ضرب غلامه زيدا أسهل من جواز نحو : ضربوني وضربت الزّيدين ، ونحو : ضربته زيدا على إبدال زيد من الهاء.

وقد أجاز الأول البصريون (٣) وأجيز الثاني بإجماع حكاه ابن كيسان (٤). ـ

__________________

ومعنى البيت : يقول أبو جندب : على قوم زهير أن يلوموا زهيرا ؛ فإنه السبب في إيذائي لهم واعتدائي عليهم.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦١) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٦١) ، وفي معجم الشواهد (ص ٥٦).

ترجمة أبي جندب : هو أبو جندب بن مرة ، أحد شعراء هذيل المعدودين ، وهو أخو عروة وأخو خويلد بن مرة المشهور بأبي خراش الذي سبقت ترجمته.

وانظر ترجمة أبي جندب وأخباره في الشعر والشعراء (٢ / ٦٦٨).

(١) البيت من بحر البسيط ، قائله سليط بن سعد كما في مراجعه. ولم تذكر مراجعه بيتا قبله أو بيتا بعده.

اللغة : أبا الغيلان : بكسر الغين كنية رجل آذوه بنوه وأهله. سنمّار : رجل رومي بنى قصر الخورنق للنعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة بظاهر الكوفة ، فلما فرغ من بنائه ألقاه النعمان من أعلى القصر ؛ لئلا يبني مثله لغيره فخر ميتا ، فصار مثلا عند العرب لسوء المكافأة. والشاهد والمعنى واضحان.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦١) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٦١) ، وفي معجم الشواهد (ص ١٦٤).

(٢) أي في شرح التسهيل (١ / ١٦١).

(٣) المسألة بالتفصيل في كتاب الإنصاف (١ / ٥٨) : أيّ العاملين في التّنازع أولى بالعمل؟ قال ابن الأنباري : «ذهب الكوفيّون في إعمال الفعلين نحو أكرمني وأكرمت زيدا ، وأكرمت وأكرمني زيد ـ إلى أنّ إعمال الفعل الأول أولى ، وذهب البصريّون إلى أنّ إعمال الفعل الثّاني أولى». ثم احتج لكل من الفريقين ورجح رأي البصريين.

وقد نقد أبو حيان المصنف في هذا الدليل قائلا : «لا تنظّر مسألة : ضرب غلامه زيدا بمسألة : ضربوني وضربت الزّيدين ؛ لأن الأخيرة خارجة عن القياس في مسائل استثنيت بتأخّر مفسر الضّمير فيها ، وما كان خارجا عن القياس لا يقاس عليه ولا يشبّه به» (التذييل والتكميل : ٢ / ٢٦١).

(٤) شرح التسهيل (١ / ١٦١) ، وحاشية الصبان (١ / ٦١).

ونقده أبو حيان أيضا في هذا الدليل قائلا : «لا إجماع في المسألة ، بل فيها خلاف : ذهب الأخفش إلى جواز ذلك ، وذهب غيره إلى أنّه لا يجوز».

ثم قال : «وكثيرا ما يدّعي المصنّف الإجماع فيما فيه الخلاف» (المرجع السابق).

٥٥١

______________________________________________________

وكلاهما فيه ما في : ضرب غلامه زيدا ، من تقديم ضمير على مفسّر مؤخر الرتبة ؛ لأن مفسر واو ضربوني معمول معطوف على عاملها ، والمعطوف ومعموله أمكن في استحقاق التّأخر من المفعول بالنسبة إلى الفاعل ؛ لأن تقديم المفعول على الفاعل يجوز في الاختيار كثيرا ، وقد يجب (١) ، وتقديم المعطوف وما يتعلق به على المعطوف عليه بخلاف ذلك ، فيلزم من أجاز : ضربوني وضربت الزّيدين ـ أن يحكم بأولية جواز : ضرب غلامه زيدا لما ذكرناه.

وكذلك يلزم من أجاز إبدال ظاهر من مضمر لا مفسر له غيره نحو : ضربته زيدا ، واللهمّ صلّ عليه الرءوف الرحيم ؛ لأن البدل تابع والتابع مؤخر بالرتبة ، ومؤخر في الاستعمال على سبيل اللزوم ، والمفعول ليس كذلك ؛ إذ لا يلزم تأخره» انتهى (٢).

وقال في شرح الكافية : الفعل المتعدّي يدلّ على فاعل ومفعول ؛ فشعور الذهن بهما مقارن لشعوره بمعنى الفعل ، فإذا افتتح كلام بفعل ووليه مضاف إلى ضمير ـ علم أن صاحب الضمير فاعل إن كان المضاف منصوبا ، ومفعول إن كان المضاف مرفوعا ، فلا ضرر في تقديم الفاعل المضاف إلى ضمير المفعول ، كما لا ضرر في تقديم المفعول المضاف إلى ضمير الفاعل (٣).

قال الشيخ (٤) : «وأجاز ذلك قبل أبي الفتح من الكوفيّين أبو عبد الله الطّوال» (٥).

قال الشيخ : «ولعمري إنه قد كثر مجيء ذلك في الشعر ، فالأحوط جوازه في الشّعر دون الكلام. وقد رام بعض النحويين تأويل ذلك كله ، والتأويل فيه بعد» ـ

__________________

(١) مثال تقديم المفعول جوازا في الاختيار قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) [القمر : ٤١] ومثال تقديمه وجوبا مسائل

منها : اشتمال الفاعل على ضمير يعود عليه ، كقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤].

ومنها : حصر المفعول في الفاعل ، كقول الشاعر (من الطويل) :

تزوّدت من ليلى بتكليم ساعة

فما زاد إلّا ضعف ما بي كلامها

(٢) شرح التسهيل (١ / ١٦٢).

(٣) انظر نصه في شرح الكافية الشافية لابن مالك (٢ / ٥٨٥ ، ٥٨٦) تحقيق د / عبد المنعم هريدي (جامعة أم القرى ـ مكة المكرمة) وبعده قال : وكلاهما وارد عن العرب.

(٤) أي في التذييل والتكميل (٢ / ٢٦٥) ، وكذلك الأشموني على الألفية (٢ / ٥٩).

(٥) بتخفيف الطاء والواو ، والطاء مضمومة.

٥٥٢

______________________________________________________

انتهى (١).

ومثال الضمير المكمل معمول شبه الفاعل في هذا القسم قولك : هند ضارب غلامه زيدا من أجلها [١ / ١٧٤].

وأما قول المصنف : وشاركه صاحب الضّمير في عامله ـ فهو قيد في جواز المسألة والمعنى ، وشارك المعمول للفعل أو شبهه صاحب الضمير أي المفسر في عامله ، أي : ويكون صاحب الضمير معمولا للعامل الذي عمل في المعمول المكمل بالضمير كالأمثلة المتقدمة (٢).

فلو لم تحصل المشاركة المذكورة لم يجز التقديم ؛ نحو : ضرب غلامها جار هند ؛ لأن هند مؤخر الرتبة من جهتين (٣). ولا تعلق لها بضرب بخلاف ضرب غلامها هندا ؛ فإن صاحب الضمير في هذا المثال قد شارك المكمل بالضمير في عامله ، وصاحب الضمير في المثال الأول وهو ضرب غلامها جار هند ـ غير مشارك له في العامل.

وهذا بخلاف ما إذا كان المعمول المكمل بالضمير مؤخر الرتبة ؛ فإنه لا يشترط مشاركة صاحب الضمير له في العامل ، فيجوز أن يقال : ضرب غلامها جار هند ، ومنهم من منع التقديم في ذلك أيضا.

فعلى هذا إذا اتصل الضمير العائد على الفاعل بالمفعول ، فقد يشارك الفاعل المفعول في العامل وقد لا يشاركه.

وإذا اتصل الضمير العائد على المفعول بالفاعل ، فقد يشارك المفعول الفاعل في العامل ، وقد لا يشاركه أيضا. فالصور أربع : ـ

__________________

وأبو عبد الله الطوال : هو محمد بن أحمد بن عبد الله الطوال النحوي ، من أهل الكوفة ، أحد أصحاب الكسائي ، حدث عن الأصمعي وقدم بغداد ، وسمع عنه أبو عمرو الدوري المقرئ.

قال ثعلب عنه : كان حاذقا بإلقاء العربية. توفي سنة (٢٤٣ ه‍). (انظر ترجمته في بغية الوعاة : ١ / ٥٠).

(١) التذييل والتكميل (٢ / ٢٦٥).

(٢) المعنى أن يكون عاملهما واحدا ، أي عامل المفسر وعامل المضاف إليه الضمير مثل : ضرب غلامه زيد.

(٣) الأولى : أنها مضاف إليه والمضاف إليه مؤخر في الرتبة عن المضاف.

الثانية : أن المضاف إليها مفعول وهو مؤخر في الرتبة عن الفاعل.

ويضاف إلى علة المنع ما ذكره الشارح من اختلاف الفاعل.

٥٥٣

[مفسّر ضمير الغيبة وتأخره لزوما]

قال ابن مالك : (ويتقدّم أيضا غير منويّ التّأخير إن جرّ بربّ ، أو رفع بنعم ، أو شبهها ، أو بأوّل المتنازعين ، أو أبدل منه المفسّر ، أو جعل خبره ، أو كان المسمّى ضمير الشّأن عند البصريّين [١ / ١٧٥] ، وضمير المجهول عند الكوفيّين).

______________________________________________________

الأولى : ضرب غلامه زيد وهي جائزة بلا خلاف (١).

الثانية : ضرب غلامها بعل هند وفيها خلاف. فالمجيز يقول : لما عاد الضمير على ما أضيف إليه الفاعل ، والمضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد ـ كان بمنزلة عود الضمير على الفاعل.

والمانع نظر إلى تأخر مفسر الضمير لفظا ورتبة ، مع عدم تعلق الفعل به ، فمنع.

لكن الصحيح الجواز ، وقد أفهمه كلام المصنف ؛ لأنه لما قال : إن كان المعمول مؤخر الرّتبة لم يعتد بالمشاركة ، كما فعل في المسألة الثانية بل أطلق.

الثالثة : ضرب غلامه زيدا وقد علمت أنها ممنوعة (٢) إلا عند أبي الفتح والمصنف.

الرابعة : ضرب غلامها بعل هند ، وهي ممنوعة بلا خلاف.

وقد تقدم ذكر علة المنع (٣).

وقال المصنف : «ومما حكم بجوازه لشبهه بضرب غلامه زيدا : ضربت جارية يحبّها زيدا ، فتقدم يحبها وهو مسند إلى ضمير يعود إلى زيد ، وإن كان متأخرا لفظا ورتبة ؛ لأن يحبّها مكمل لجارية ؛ إذ هو صفتها ، فجاز تأخر مفسر ضميرها ، كما جاز تأخّر مفسر الضمير المضاف إليه في نحو : ضرب غلامه زيدا» (٤).

قال ناظر الجيش : لما أنهى الكلام على المفسر الجائز التأخير شرع في ذكر المفسر الواجب التأخير. وأفاد قول المصنف ويتقدم أيضا غير منويّ التّأخير أن الضمائر

__________________

(١) لاتحاد العامل ، ولأن المفسر هو الفاعل نفسه ، وهو وإن كان مؤخرا في اللفظ إلا أنه مقدم في الرتبة.

(٢) لما فيها من عود الضمير على متأخر في اللفظ والرتبة ، وهو لا يجوز إلا في مواضع ليست هذه منها.

(٣) وهي أن هندا مؤخر الرتبة من جهتين ، ولا تعلق لها بضرب أي العامل ، وهو شرط في المسألة.

(٤) انظر شرح التسهيل (١ / ١٦٢).

٥٥٤

______________________________________________________

التي يذكرها موضوعة على أن يفسرها ما بعدها ، فرتبتها أن تكون مقدمة على المفسر.

وذكر أن الضمير يفسره ما بعده في ستة مواضع :

الأول : المجرور برب ، مثاله قول الشاعر :

٢٧٧ ـ واه رأبت وشيكا صدع أعظمه

وربّه عطبا أنقذت من عطبه (١)

الثاني : المرفوع بنعم أو شبهها يعني ببئس (٢) مثاله قول الشاعر :

٢٧٨ ـ نعم امرأ هرم لم تعر نائبة

إلّا وكان لمرتاع بها وزرا (٣)

الثالث : المرفوع بأول المتنازعين (٤) مثاله قول الشاعر :

٢٧٩ ـ جفوني ولم أجف الأخلّاء إنني

لغير جميل من خليلي مهمل (٥)

__________________

(١) البيت من بحر البسيط ، غير منسوب في مراجعه وهو في الفخر.

اللغة : واه : من وهى الحائط إذا ضعف وهم بالسقوط ، وهو مجرور برب محذوفة. رأبت : من رأبت الإناء أي شعبته وأصلحته. وشكيا : سريعا وهو صفة لمحذوف أي رأبا سريعا. صدع أعظمه : أي أصلحت حاله المائل الفاسد. العطب : بكسر الطاء الهالك ، وبفتحها بمعنى الهلاك.

والشاعر يفتخر بنجدته ، فهو يساعد المحتاج ويقف بجانب الضعيف ، ويصلح الفاسد من أحوال الناس.

وشاهده واضح من الشرح ، والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦٢) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٦٧) ، وفي معجم الشواهد (ص ٦٣).

(٢) ويكون مفسره تمييزا مفردا كما مثل.

(٣) البيت من بحر البسيط ، نسبته بعض المراجع إلى زهير بن أبي سلمى. شرح شذور الذهب (ص ١٩١) ، شرح التسهيل لابن مالك : (١ / ١٦٣) ، التذييل والتكميل : (٢ / ٢٦٧).

وورد بلا نسبة في بعضها (حاشية الصبان : ٣ / ٣٢ ، التصريح : ١ / ٣٩٢).

والبيت فيه روح هرميات زهير التي كتبها في هرم بن سنان المزني والتي بقيت وذهب ما أخذه أجرا لها ، ومع ذلك فالبيت ليس في ديوان زهير.

اللغة : لم تعر نائبة : لم تنزل حادثة عظيمة. المرتاع : الفزع الخائف. وزرا : ملجأ وعونا ، والمعنى بعد ذلك واضح. وشاهده : عود الضمير المرفوع ، بنعم على متأخر لفظا ورتبة.

وذهب الكوفيون إلى أنه لا فاعل مضمر في نعم ، بل الاسم المرفوع بعد نعم (المخصوص) هو الفاعل بها. والبيت في معجم الشواهد (ص ١٤٣) ، وفي مراجع أخرى ذكرناها.

(٤) هذا عند البصريين ، وأما الكوفيون فيمنعونه : قال الكسائي : يحذف الفاعل ، وقال الفراء : يفسر ويؤخر عن المفسر. فإن استوى العاملان في طلب الرفع وكان العطف بالواو نحو : قام وقعد أخوك ـ فهو فاعل بهما.

(٥) البيت من بحر الطويل ، وهو في مراجعه غير منسوب مع كثرة الاستشهاد به.

٥٥٥

______________________________________________________

الرابع : ما أبدل منه مفسره ، كقوله : اللهمّ صلّ عليه الرّءوف الرّحيم (١) ، حكاه الكسائي. وذكر ابن عصفور أن في ذلك خلافا ، وأن الأخفش يجيزه وغيره يمنعه ، وأن الصحيح الجواز (٢).

الخامس : ما جعل المفسر خبرا له ، ومثال قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)(٣).

قال الزمخشري : «هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلّا بما يتلوه من بيانه وأصله : إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ثم وضع هي موضع الحياة ؛ لأن الخبر يدلّ عليها ويبيّنها.

قال : ومنه : هي النّفس تحمل ما حمّلت ، وهي العرب تقول ما شاءت» (٤).

قال المصنف : «وهذا من جيد كلامه ، وفي تنظيره بهي النّفس وهي العرب ـ ضعف لإمكان جعل النّفس والعرب بدلين ، وتحمل وتقول خبرين» انتهى (٥).

ومفسر هذه الخمسة مفرد. ولكل واحد منها موضع إن شاء الله تعالى (٦).

وأما السادس : فمفسره جملة كما سيأتي : وهو ضمير الشأن إن ذكر لفظه ، ـ

__________________

(١) في نسخة (ب) : كقولنا. وخرج مثل ذلك الكسائي على أنه نعت لا بدل (المغني : ١ / ٤٩٢).

(٢) انظر نص ذلك في شرح الجمل لابن عصفور (٢ / ٩٩). ونقله عنه الأشموني (١ / ٦٠).

(٣) سورة المؤمنون : ٣٧.

(٤) انظر نصه في الكشاف له (٣ / ٣٢).

(٥) شرح التسهيل (١ / ١٦٣). قال ابن هشام :

«وفي كلام ابن مالك أيضا ضعف ؛ لإمكان وجه ثالث في المثالين لم يذكره وهو كون هي ضمير القصّة». (المغني : ٢ / ٤٩٠).

(٦) انظر باب التنازع ، قال ناظر الجيش : «تقديم الضمير إذا كان على شريطة التفسير مجمع على جوازه في باب نعم ، وفي باب ربّ ، وفي باب البدل ، وفي باب الابتداء ، وفي باب التنازع ثم مثل لكلّ».

٥٥٦

[ضمير الشأن وأحكامه]

قال ابن مالك : (ولا يفسّر إلّا بجملة خبريّة مصرّح بجزأيها ؛ خلافا للكوفيّين في نحو : ظننته قائما زيد ، وإنه ضرب أو قام).

______________________________________________________

نحو : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(١). وضمير القصة إن أنث لفظه ، نحو : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ)(٢) ، وهذا عند البصريين ، وسماه الكوفيون ضمير المجهول ؛ لأنه لا يدرى عندهم ما يعود عليه (٣). وإنما يفتتح المتكلم كلامه بالضمير المذكور إذا قصد أن يستعظم السامع حديثه قبل الأخذ فيه.

ولا خلاف في أنه اسم يحكم على موضعه بالإعراب على حسب العامل.

وزعم ابن الطراوة (٤) أنه حرف ، وأنكر كونه اسما ، وفي كلام الشيخ جنوح إلى مذهبه (٥) وليس هذا مما يتشاغل به (٦).

واعلم أن ضمير الشأن كما خالف بقية الضمائر في أنه لا يفسر بمفرد ، خالفها أيضا في أنه لا يعطف عليه ، ولا يؤكد ، ولا يبدل منه ، ولا يتقدم خبره عليه (٧).

قال ناظر الجيش : شرط الجملة المفسّرة للضمير المذكور المخبر به عنه ، أن تكون خبرية ، فلا تكون إنشائية ولا طلبية ، وأن يكون مصرحا بجزأيها ، فلا يجوّز ـ

__________________

(١) سورة الإخلاص : ١.

(٢) سورة الحج : ٤٦.

(٣) انظر : التذييل والتكميل (٢ / ٢٧١) ، والهمع (١ / ٦٧).

(٤) انظر : مذهب ابن الطراوة في المرجعين السابقين.

(٥) قال أبو حيان : «وأقول : اتحاد المفهوم في كان زيد قائم ، وكان زيد قائما ، وإنّ زيد قائم ، وإن زيدا قائم ـ دليل على صحة مذهب ابن الطراوة». (انظر : التذييل والتكميل ١ / ٥٣١).

(٦) تشاغل به أبو حيان فشرح ضمير الشأن في أكثر من ثلاث صفحات ، وذلك في سفره الكبير (التذييل والتكميل (٢ / ٢٧١) وما بعدها).

(٧) انظر فروقا خمسة حكاها ابن هشام بين هذا الضمير وبين غيره من الضمائر في المغني (٢ / ٤٩٠) وملخصها قال : وهذا الضمير مخالف للقياس من خمسة أوجه :

١ ـ عوده على ما بعده لزوما ، ثم شرح ذلك.

٢ ـ أن مفسره لا يكون إلا جملة ....

٣ ـ أنه لا يتبع بتابع ....

٤ ـ أنه لا يعمل فيه إلا الابتداء أو أحد نواسخه ....

٥ ـ أنه ملازم للإفراد ، فلا يثنى ولا يجمع ....

٥٥٧

[أحكام أخرى تخص ضمير الشأن]

قال ابن مالك : (وإفراده لازم وكذا تذكيره ما لم يله مؤنّث ، أو مذكّر شبيه به مؤنّث ، أو فعل بعلامة تأنيث ، فيرجّح تأنيثه باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشّأن).

______________________________________________________

البصريون حذف بعض الجمل المذكورة ؛ لأنها مؤكدة له ، ومدلول به على فخامة مضمونها. واختصارها مناف لذلك ؛ فلا يجوز [١ / ١٧٦] كما لا يجوز ترخيم المندوب ، ولا حذف حرف النداء قبله.

قال المصنف (١) : «وبهذا يعلم أنّ ما أجازه الكوفيّون من : إنّه ضرب ، وإنّه قام ونحوهما ـ غير مستقيم ولا سليم ؛ لافتتاحه بمزيد الاعتناء بالمحدّث عنه ، واختتامه بحذف ما لا بدّ منه» (٢).

وأما تجويزهم نحو : ظننته قائما زيد ، على أن يكون الهاء ضمير الشأن ـ فمردود أيضا ؛ لأن سامعه يسبق إلى فهمه كون زيد مبتدأ مؤخرا ، وكون ظننت ومفعوليها خبرا مقدما ، وذلك مفوت للغرض الذي لأجله جيء بضمير الشأن ؛ لأن من شرطه عدم صلاحية الضمير لغير ذلك ، حتى يحصل به من فخامة الأمر ما قصده المتكلم.

قال ناظر الجيش : لا يجوز أن يكون ضمير الشأن مثنّى ولا مجموعا ؛ لأنه كناية عن الشأن في التذكير ، وعن القصة في التأنيث ، وهما مفردان ، فوجب إفراد ما هو كناية عنهما ، فيقال : إنه أخواك منطلقان ، وإنها جاريتاك حسنتان ، وإنه إخوتك صالحون ، وإنها إماؤك مطيعات. ولا تؤنث إلا إذا وليه مؤنث ، كقوله تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٣) ، أو مذكر شبه به مؤنث نحو : «إنّها قمر جاريتك» (٤) ، أو فعل بعلامة تأنيث مسند إلى مؤنث ، كقوله تعالى : ـ

__________________

(١) شرح التسهيل (١ / ١٦٤).

(٢) وعلل ابن هشام ضعفه ، فقال : «فيه فسادان : التّفسير بالمفرد ، وحذف مرفوع الفعل».

(المغني : ٢ / ٤٩٠).

(٣) سورة الأنبياء : ٩٧.

(٤) إعراب إنها قمر جاريتك : إنّها : إن واسمها. قمر جاريتك : خبر مقدم ومبتدأ مؤخر ، والجملة خبر إن. ويجوز أن يعرب قمر مبتدأ (على رأي الكوفيين) وجاريتك فاعل سد مسد الخبر. ومثل هذا المثال الآية السابقة.

٥٥٨

______________________________________________________

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ)(١).

ومثله قول الشاعر :

٢٨٠ ـ على أنّها تعفو الكلوم وإنّما

يوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي (٢)

فهذا وأمثاله التأنيث فيه أجود من التذكير ؛ لأن مع التأنيث مشاكلة تحسن اللفظ مع كون التأنيث لا يختلف ؛ إذ القصة والشأن بمعنى واحد ، والتذكير مع ذلك جائز ، كما قال أبو طالب :

٢٨١ ـ وإلّا يكن لحم غريض فإنّه

تكبّ على أفواههنّ الغرائر (٣)

وكما قال غيره :

٢٨٢ نخلت له نفسي النّصيحة إنّه

عند الشّدائد تذهب الأحقاد (٤)

__________________

(١) سورة الحج : ٤٦.

(٢) البيت من بحر الطويل ، من مقطوعة قالها أبو خراش الهذلي يرثي فيها أخاه عروة ، وكان قد قتل بمكان اسمه قوس ونجا ابنه خراش وكانا معا يقول (ديوان الهذليين : ٢ / ٥٨).

حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا

خراش وبعض الشّر أهون من بعض

اللغة : تعفو : تبرأ وتذهب. الكلوم : جمع كلم وهو الجرح. جل : عظم.

والمعنى : أن الجروح والمصائب تنسى على مر الأيام ، وإن عظمت ـ والإنسان لا يتذكر ولا يعيش إلا مصائب الوقت وأحداثه.

وشاهده واضح. والأبيات في شرح ديوان الحماسة أيضا (٢ / ٧٨٦) وفي الأمالي لأبي علي :

(١ / ٣٢١) ، كما أن الشاهد في معجم الشواهد (ص ٢٠٥) ، وفي شرح التسهيل (١ / ١٦٤) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٧٦).

(٣) البيت من بحر الطويل ، قائله أبو طالب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرثي فيه خاله أبا أمية بن المغيرة من قصيدة له في الديوان (ص ٧٧) وما بعدها ، وقبل بيت الشاهد قوله :

ضروب بنصل السّيف سوق سمانها

إذا عدموا زادا فإنّك عاقر

اللغة : نصل السّيف : حده. سوق سمانها : سيقانها السمينة. عاقر : ذابح. لحم غريض : طري.

تكبّ : تصب وتلقى. الغرائر : جمع غريرة ، وهي الزكيبة يكون فيها الحنطة والدقيق وغيرها.

والبيتان غاية في المدح بالكرم : تعطي اللحم ، فإن لم يكن لحم فمما يعيش به الإنسان من دقيق وغيره.

وشاهده قوله : فإنه تكب ، حيث ذكر ضمير الشأن وإن جاء بعده فعل مؤنث.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦٤) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٧٦) ، وليس في معجم الشواهد.

(٤) البيت من بحر الكامل ، وهو من مقطوعة لعويف بن معاوية بن حصن ، شاعر مجيد مقل من شعراء الدولة الأموية ، يسمى عويف القوافي. وهذه المقطوعة قالها في عيينة ابن أسماء ، وكان متزوجا أخت

٥٥٩

______________________________________________________

فلو كان المؤنث الذي في الجملة بعد مذكر لم يشبه به مؤنث فضلة أو كالفضلة ـ لم يكترث بتأنيثه فيؤنث لأجله الضمير ، بل حكمه حينئذ التذكير ، كقوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ)(١).

وكقول الشاعر :

٢٨٣ ـ ألا إنّه من يلع عاقبة الهوى

مطيع دواعيه يبؤ بهوان (٢)

وكذلك لا يكترث بتأنيث ما ولي الضمير من مؤنث شبه به مذكر ، نحو «إنّه شمس وجهك» ولا بتأنيث فاعل فعل ولي الضمير بلا علامة تأنيث ، نحو «إنّه قام جاريتك» هذا كله كلام المصنف (٣).

وقال الشيخ (٤) : «أصحابنا ذكروا أن ضمير الأمر أو القصة يجوز أن يأتي بعدهما المذكّر والمؤنث ، فتقول : هو زيد قائم ، وهي زيد قائم ، وهي هند ذاهبة ، وهو هند ذاهبة [١ / ١٧٧] قال : وأما الكوفيون فزعموا أن المخبر عنه إن كان مذكرا فالضمير ضمير أمر ، أو مؤنثا فالضمير ضمير قصة ، ولا يجوز عندهم خلاف ذلك ، وقد رد عليهم بقراءة من قرأ : أولم تكن لهم آية أن يعلمه علمؤا بنى إسرائيل (٥).

فآية خبر مقدم لأن يعلمه ، وأن يعلمه هو المبتدأ ، وهو مذكر ، والضمير في تكن ـ

__________________

عويف هذا ثم طلقها فعاداه عويف. ولما سجن الحجاج عيينة في جبايات له وصله عويف وعطف عليه ، وقال هذه المقطوعة.

وانظر القصة بالتفصيل وبقية الأبيات في الأمالي (٢ / ٢١٨) ، والتنبيه على الأمالي (ص ١١٩) ، وشرح ديوان الحماسة (١ / ٢٦٣).

وشاهده كالذي قبله ، والبيت ليس في معجم الشواهد ، وهو في شرح التسهيل (١ / ١٦٤) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٧٧).

(١) سورة طه : ٧٤.

(٢) البيت من بحر الطويل ، غير مذكور في معجم الشواهد ولم ينسب فيما ورد من مراجع.

اللغة : عاقبة الهوى : نتيجته التي عامة ما تكون وخيمة. مطيع دواعيه : مستجيبا لأسبابه. يبؤ بهوان : يرجع بخسران مبين.

المعنى : يذكر أن العاقل من يعرف نتائج الأمور ، فلا يقرب الورد حتى يعرف الصدر ، بخلاف غيره فإنه يبوء بالهوان. والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٦٥) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ٢٧٧).

(٣) في شرح التسهيل (١ / ١٦٥).

(٤) في التذييل والتكميل (٢ / ٢٧٨).

(٥) سورة الشعراء : ١٩٧.

٥٦٠