شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤

[أحكام ضمائر التثنية والجمع]

قال ابن مالك : (ويلي الكاف والهاء في التّثنية والجمع ما ولي التّاء ، وربّما كسرت الكاف فيهما بعد ياء ساكنة أو كسرة ، وكسر ميم الجمع بعد الهاء المكسورة باختلاس قبل ساكن وبإشباع دونه أقيس ، وضمّها قبل ساكن وإسكانها قبل متحرّك أشهر. وربّما كسرت قبل ساكن مطلقا).

______________________________________________________

قال ناظر الجيش : قال المصنف (١) : «قد تقدم أن تاء الضمير توصل مضمومة بميم وألف للمخاطبين والمخاطبتين ، وبميم مضممومة ممدودة للمخاطبين ، وبنون مشددة للمخاطبات ، وإن تسكين ميم الجمع إن لم يلها ضمير متصل أعرف ، وإن وليها لم يجز التسكين خلافا ليونس. فإلى جميع ذلك أشرت بقولي : ويلي الكاف والهاء في التّثنية والجمع ما ولي التّاء. فكما قيل فعلتما وفعلتم وفعلتن ، يقال لكما معهما وإنكم معهم وإنكن معهن.

ومن كسر هاء المفرد إتباعا للكسرة والياء الساكنة كسر هاء التثنية والجمع ، ومن لم يكسر لم يكسر.

وبعض العرب يكسر كاف التثنية والجمع بعد كسرة أو ياء ساكنة ؛ إلحاقا بالهاء نحو : مررت بكما وبكم وبكن ، ورغبت فيكما وفيكم وفيكن. قال الشاعر :

٢٠٢ ـ وإن قال مولاهم على كلّ حادث

من الدّهر ردّوا بعض أحلامكم ردّوا (٢)

__________________

(١) شرح التسهيل (١ / ١٣٣).

(٢) البيت من بحر الطويل من قصيدة مشهورة للحطيئة في مدح بني سعد وبها عدة شواهد وأبيات محفوظة جرت مجرى الأمثال :

يسوسون أحلاما بعيدا أناتها

وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدّ

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا

وانظر القصيدة في ديوان الحطيئة (ص ١٤٤).

والمعنى : إذا قال ابن عمهم تفضلوا بأحلامكم عند ما يحدث جليل من الأمر فعلوا. وإذا كان ابن مالك قد قرر كسر هذه الكاف في هذا البيت دون حكم على ذلك ، فإن ابن جني حكم عليه بالغلط الفاحش يقول (المحتسب : ١ / ٢٧٠) : «وناس من بكر بن وائل يجرون الكاف مجرى الهاء إذ كانت مهموسة مثلها وكانت علامة إضمار كالهاء ، وذلك غلط منهم فاحش ؛ لأنها لم تشبهها في الخفاء الّذي من أجله جاز ذلك في الهاء ، وإنّما ينبغي أن يجري الحرف مجرى غيره إذا أشبهه في علّته ثمّ أنشد البيت قائلا : وهذا خطأ عند ـ

٤٨١

______________________________________________________

روي بكسر الكاف من أحلامكم» انتهى.

ثم إذا كسرت الهاء فلميم الجمع بعدها حالتان :

إحداهما : أن يكون بعدها ساكن ، فيجوز في الميم وجهان : الكسر وهو أقيس ؛ لأن الخروج من الكسر إلى الضم ثقيل ، ولأنهم قصدوا الإتباع. والضم وهو أشهر ، ولذا قرأ به أكثر القراء ومثال ذلك : (بِهِمُ الْأَسْبابُ)(١) ، (يُوَفِّيهِمُ اللهُ)(٢).

ولا يخفى أن حركة الميم قبل الساكن مختلسة ؛ لأن الإسكان لا يجوز لملاقاة ساكن بعدها ، والإشباع يؤدي إلى حذف الحرف لالتقاء الساكنين.

الثانية : أن يكون بعدها متحرك. فحقها الإشباع (٣) وهو أقيس ، والإسكان وهو أشهر نحو : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ)(٤) ، (تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)(٥).

وإنما كان الإشباع أقيس لأن الضمير لما استعمل للمثنى ؛ زيد على اللفظ الذي للمفرد حرفان ، وهما الميم والألف ، ولما استعمل للجمع المؤنث زيد عليه نون مشددة ، ولا شك أنهما حرفان ، فوجب أن يزاد عليه حرفان. وإذا كان للجمع المذكر وهما الواو والميم : فمن أثبتها فعلى الأصل ، ومن قصد التخفيف حذف الواو وسكن الميم. ـ

__________________

ـ أهل النّظر مردود».

وبيت الشاهد في معجم الشواهد (ص ١٠٠) ، وشرح التسهيل : (١ / ١٣٤) ، والتذييل والتكميل : (٢ / ١٧٢).

ترجمة الشاعر : هو جرول بن أوس ، ولقب بالحطيئة لقصره ، كان من بني عبس ولكنه كان ينتسب إلى قبائل مختلفة أثناء تجواله. مدح الأشراف وأخذ عطاياهم. ومن بخل عليه هجاه. واشتهر بالهجاء لأنه هجا كل الناس حتى أباه وأمه ونفسه. مات سنة (٣٠ ه‍) ، فهو جاهلى إسلامي أسلم بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

حبسه عمر بن الخطاب لهجائه الناس ثم أخرجه من الحبس عند ما أرسل إليه (من البسيط) :

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة

فاغفر عليك سلام الله يا عمر

انظر ترجمته في الشعر والشعراء (١ / ٣٢٨). بروكلمان (١ / ١٦٨).

(١) سورة البقرة : ١٦٦. قال ابن خالويه في مثله : «قرئ بكسر الهاء والميم وبضمّهما ، وبكسر الهاء وضمّ الميم ثم احتجّ لكلّ». انظر الحجة في القراءات السبع له (ص ٨٠).

(٢) سورة النور : ٢٥.

(٣) أي مضمومة إتباعا لحركة الهاء قبلها.

(٤) سورة الأنفال : ١٦.

(٥) النحل : ٢٧. وأولها : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.)

٤٨٢

______________________________________________________

وعلم من قول المصنف : وكسر ميم الجمع بعد الهاء المكسورة : أن الميم بعد الهاء المضمومة لا تكسر بل تضم.

أما كون الميم توصل بواو بعد الهاء المضمومة ، أو لا توصل فتختلس الحركة أو تسكن ، فقد عرف مما تقدم.

وأشار المصنف بقوله : وربّما كسرت قبل ساكن مطلقا إلى أنه قد تكسر الميم قبل ساكن (١) وإن لم يكن قبلها كسرة ولا ياء ساكنة كقول القائل :

٢٠٣ ـ فهم بطانتهم وهم وزراؤهم

وهم القضاة ومنهم الحكّام (٢)

وقول الآخر [١ / ١٤٨] :

٢٠٤ ـ ألا إنّ أصحاب الكنيف وجدتهم

هم النّاس لمّا أخصبوا وتموّلوا (٣)

__________________

(١) والأولى أن تضم إتباعا لضمة الهاء قبلها كقوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة : ٦١].

(٢) البيت من بحر الكامل وقائله مجهول وهو في المدح.

قال فيه ابن جني (المحتسب : ١ / ٤٦) : قوله : وهم القضاة يحتمل كسر الميم وجهين : أحدهما أن يكون ذلك لالتقاء الساكنين ، والآخر أن يكون ذلك على لغة من قال عليهمي ، فحذف الياء لالتقاء الساكنين من اللفظ وهو ينويها في الوقف. ووجه ثالث أن يكون على لغة من قال عليهم بكسر الميم من غير ياء.

وانظر البيت في شرح التسهيل (١ / ١٣٤) ، والتذييل والتكميل (٢ / ١٧٥) ، وفي معجم الشواهد (ص ٣٥٤).

(٣) البيت من بحر الطويل مطلع قصيدة لعروة بن الورد ، قدمها محقق الديوان بمقدمة طويلة. ملخصها شكوى عروة من قومه وغدرهم به بعد أن أعزهم عروة وأغناهم عن الناس.

وانظر القصيدة والشاهد في «ديوانا عروة بن الورد والسّموأل» (ص ٥٦).

اللغة : الكنيف : الحظيرة من الشجر تحظر على الناس ويقصد بأصحاب الكنيف قومه. أخصبوا وتموّلوا : أي صاروا في خصب ومال وفيرين.

وشاهده كالذي قبله.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٣٤) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ١٧٥) ، وفي معجم الشواهد (ص ٢٨٠).

ترجمة عروة : هو عروة بن الورد من بني عبس ، ويلقب بعروة الصعاليك ، كان جاهليّا لئيما اشترك أبوه في حرب داحس ، ومن أجل ذلك مدحه عنترة. قدّر بنو عبس عروة شاعرا وقدروا عنترة شجاعا.

له ديوان شعر مطبوع مع شعر السموأل.

انظر ترجمته في الشعر والشعراء (٢ / ٦٧٩) ، بروكلمان (١ / ١٠٩).

٤٨٣

[نون الوقاية وأحكامها وما ذا تلحق]

قال ابن مالك : (فصل (١) : تلحق قبل ياء المتكلّم إن نصب بغير صفة ، أو جرّ بمن أو عن أو قد أو قط أو بجل أو لدن نون مكسورة للوقاية ، وحذفها مع لدن وأخوات ليت جائز ، وهو مع بجل ولعلّ أعرف من الثّبوت ، ومع ليس وليت ومن وعن وقد وقط بالعكس ، وقد تلحق مع اسم الفاعل وأفعل التّفضيل ، وهي الباقية في فليني لا الأولى وفاقا لسيبويه).

______________________________________________________

قال المصنف : «كذا أنشدهما ابن جنّي في المحتسب بكسر ميم هم القضاة وهم النّاس» (٢).

قال ناظر الجيش : إيراد هذا الفصل في هذا الباب ظاهر ؛ لأن النون المذكورة إنما تلحق قبل ياء المتكلم ، فالكلام فيها متعلق بباب المضمر.

واعلم أن الياء إذا كانت منصوبة (٣) لحقت النون قبلها كائنا العامل فيها ما كان ؛ ولا يستثنى من العوامل إلا ما كان صفة ، فإنه لا يجوز معه لحاق النون ولا تلحق قبل الياء المجرورة إلا إذا كان الجر بأحد كلم ست وهي «من ، وعن ، وقد ، وقط ، وبجل ، ولدن» ، فعلى هذا لحاق هذه النون على ثلاثة أقسام : واجب ، وجائز ، وممتنع.

والجائز على ثلاثة أقسام : قسم يرجح فيه اللحوق ، وقسم عكسه ، وقسم يستوي فيه الأمران.

وتفصيل القول في ذلك : أن الناصب للياء إما فعل ، وإما اسم فعل ، وإما اسم هو صفة. وإما حرف وهو إن وأخواتها.

فإن كان الناصب صفة امتنعت النون نحو أنت المكرمي (٤). ـ

__________________

(١) كلمة فصل : ناقصة من نسخة (ب).

(٢) انظر : شرح التسهيل (١ / ١٣٤) ، وانظر البيتين في المحتسب لابن جني (١ / ٤٥ ، ٤٦).

(٣) قوله : إذا كانت منصوبة : أي في محل نصب لأن الضمائر كلها مبنية.

(٤) هذا عند سيبويه في الوصف المقترن بأل المضاف إلى الضمير ، وعند الأخفش وهشام أيضا اللذين يريان أن الوصف عامل في الضمير النصب مطلقا. وأما عند المبرد والرماني ـ موافقين للفراء ـ فالضمير في

٤٨٤

______________________________________________________

وإن كان فعلا وجبت ، ماضيا كان الفعل أو مضارعا أو أمرا ، متصرفا كان أو غير متصرف ، وكذا إن كان الناصب اسم فعل ، فالنون واجبة أيضا نحو رويدني وعليكني. وإن كان الناصب أحد الأحرف المتقدمة الذكر (١) جاز الأمران لكن الأكثر في ليت اللحوق والترك نادر. والأكثر في لعل تركها واللحوق نادر.

وأما أخواتهما الباقية فيستوي فيها الأمران.

وأما الياء المجرورة (٢) فإن جرت بشيء غير الكلم الست المتقدمة الذكر (٣) امتنع لحوق النون.

وإن جرّت بشيء مما تقدم ؛ فقد جعل المصنف النون معه على ثلاثة أقسام كما كانت مع الأحرف الناصبة.

فثبوتها مع من وعن وقد وقط أكثر من الحذف ، والحذف مع بجل أكثر من الثبوت ، والأمران مستويان مع لدن.

فتلخص : أن النون تمتنع مع الناصب إذا كان صفة ، ومع الجار إذا كان غير الكلمات الستة ، وأنها تجب مع الناصب إذا كان غير صفة وغير حرف ، وأنها راجحة الثبوت على الحذف إذا نصبت بليت ، أو جرت بمن أو عن أو قد أو قط ، وأنها راجحة الحذف على الثبوت إذا نصبت بلعل أو جرت ببجل ، وأنها مستو فيها الأمران إذا نصبت بأخوات ليت ولعل أو جرت بلدن ، ولا يخفى تطبيق كلام المصنف على ما قلناه.

وإنما كسرت النون المذكورة لأجل [١ / ١٤٩] الياء.

وإنما سميت نون الوقاية لأنها وقت الفعل من الكسر. هذا هو المشهور ولم يرضه المصنف. ـ

__________________

موضع خفض بالإضافة. (حاشية الصبان : ٢ / ٢٤٦).

(١) وهي إن وأخواتها.

(٢) مراده بالمجرورة أيضا أي التي في محل جر.

(٣) بأن تجر بالإضافة مثلا سواء كان المضاف اسما جامدا أو صفة خالية من أل عند سيبويه وعند المبرد والرماني مطلقا.

ومراده بالكلمات الستة المتقدمة الذكر أنها : من وعن وقد وقط وبجل ولدن.

٤٨٥

______________________________________________________

قال : «لأن الكسر يلحق الفعل مع ياء المخاطبة لحاقا هو أثبت من لحاق الكسر لأجل ياء المتكلم ؛ لأن ياء المتكلم فضلة فهي في تقدير الانفصال بخلاف ياء المخاطبة فإنها عمدة ، ولأن ياء المتكلم قد يغني عنها الكسرة التي قبلها ثم يوقف على المكسورة بالسكون نحو : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)(١) وياء المخاطبة لا يعرض لها ذلك» (٢).

قال : «وإنما سميت نون وقاية لأنها وقت محذورين في فعل الأمر لو اتصل بالياء دونها : أحدهما : «التباس ياء المتكلم بياء المخاطبة». والثاني : «التباس أمر المذكر بأمر المؤنثة» (٣). فلما صحبت النون الياء مع فعل الأمر صحبتها مع أخويه ومع اسم الفاعل وجوبا ؛ ليدل لحاقها على نصب الياء ، ولحقت إن وأخواتها جوازا لشبهها بالأفعال» (٤).

قال : «وقد يقال : إن لحاقها المضارع أصل ، وذلك أنها صانته عن خفاء الإعراب وتوهم صيرورته مبنيّا (٥) ، فاحترز بالنون من ذلك كما احترز منه حين اتصل بالمضارع ألف الضمير وواوه وياؤه. فجيء بالنون بعدهن نائبة عن الضمة ، ولم يحتج إلى ذلك في نحو غلامي ، بل اكتفي بتقدير الإعراب لأصالته فيه ، فلا يذهب الوهم إلى زواله دون سبب جلي» (٦).

ثم قال : «وقد يؤيد اعتبار وقاية الفعل من الكسر بأن الكسر الذي وقيه الفعل إنما ـ

__________________

(١) سورة الفجر : ١٥ وفيها حذف ياءين واكتفي بالكسرة قبلهما.

(٢) شرح التسهيل (١ / ١٣٥).

(٣) معناه أنك إذا قلت : اضربي ـ دون نون وقاية ، ومعناه أمر المخاطب أن يضربك ـ اضربني ـ فإنه يلتبس بأمر المؤنثة لأن الصيغة واحدة فيهما ، ويتبع ذلك أيضا التباس ياء المتكلم بياء المخاطبة ، وحين تلحق النون أحد الفعلين زال الالتباس.

(٤) المرجع السابق. وعلل أبو حيان الجواز بقوله : «وإنما لحقت نون الوقاية لإن وأخواتها ؛ لأنها لمّا عملت عمل الفعل أجريت مجراه في لحاق نون الوقاية تكميلا للشبه. وإنما جاز حذفها فيما عدا ليت لأنّ لحاقها لهن أضعف من لحاقها للفعل إذ هي محمولة على الفعل ولاجتماع الأمثال في إنّ وأخواتها والمتقاربات في لعل ، ولأنها طرف والطرف يسرع إليه الإعلال» (التذييل والتكميل : ١ / ٤٥٣).

(٥) أي حين يقال في محمد يكرمني : محمد يكرمي.

(٦) شرح التسهيل (١ / ١٣٥).

٤٨٦

______________________________________________________

هو كسر يلحق الاسم مثله ، وهو كسر ما قبل ياء المتكلم لا كسر ما قبل ياء المخاطبة ؛ فإنه خاص بالفعل فلا حاجة إلى صون الفعل منه. وهذا فرق حسن لكنه مرتب على ما لا أثر له في المعنى ؛ بخلاف الذي اعتبرته فإنه مرتب على صون من خلل ولبس فكان أولى» (١) انتهى.

ثم ها هنا تنبيهات :

الأول : أن النون قد لا يقصد بها الوقاية من الكسر ؛ بل المحافظة على بقاء سكون آخر تلك الكلمة التي تتصل النون بها ، كما في من وأخواتها.

الثاني : قد تقدم أن النون كما تلحق الفعل المتصرف تلحق غير المتصرف ، فتلحق هب أخت ظن ، وعسى ، وليس ، وفعل التعجب ؛ إلا أن ليس لشبه لفظها بلفظ ليت جاز خلوها منها ، كما يخلو ليت أيضا ؛ ولهذا سوى المصنف في متن الكتاب بينها وبين ليت في قلة الحذف معها (٢).

قال المصنف (٣) : ولم يرد ليسي إلا في نظم كقول الراجز :

٢٠٥ ـ عددت قومي كعديد الطّيس

إذ ذهب القوم الكرام ليسي (٤)

وأما فعل التعجب فنقل الشيخ أن مذهب الكوفيين فيه لحاق النون جوازا لا لزوما.

قال : «واختاره بعض أصحابنا فيقول : ما أجملني وما أجملي وما أظرفني وما أظرفي». قال الشيخ : «وما أجازه الكوفيّون هو سماع عن العرب. وقد استعمله بعض مشايخنا النّحاة الأدباء في شعره [١ / ١٥٠] فقال :

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) قال في المتن عن نون الوقاية : «وحذفها مع لدن وأخوات ليت جائز ، وهو مع بجل ولعلّ أعرف من الثّبوت ومع ليس وليت ومن وعن وقد وقط بالعكس».

(٣) شرح التسهيل (١ / ١٤٩).

(٤) البيتان من الرجز المشطور ، وهما في زيادات ديوان رؤبة (ص ١٧٥).

اللغة : عديد : بمعنى عدد. الطيس : الرمل أو التراب. ليسي : أصله ليس الذاهب إياي ، فاستتر الاسم واتصل الضمير بالخبر.

والشاهد في البيتين واضح. وانظر مراجعهما في معجم الشواهد (ص ١٧٥) ، وشرح التسهيل (١ / ١٣٦ ، ١٥٥) ، والتذييل والتكميل (٢ / ١٨٥). وسيأتيان بعد ذلك أيضا.

٤٨٧

______________________________________________________

٢٠٦ ـ يا حسنا ما لك لم تحسن

إلى نفوس في الهوى متعبة

طرّزت بالورد وبالسّوسن

صفحة خدّ بالسّنا مذهبة

يا حسنه إذ قال ما أحسني

ويا لذاك اللّفظ ما أعذبه

قلت له كلّك عندي سنا

وكلّ ألفاظك مستعذبة (١)

في أبيات ذكرها (٢).

الثالث : قال المصنف : «حكى سيبويه : «عليكني وعليك بي» (٣) وسمع الفراء بعض بني سليم يقول : «مكانك» يريد انتظرني في مكانك. وإذا أعملت رويد في الياء ، قلت : رويدني أي أمهلني ، وكذلك يفعل بكل متعد من أسماء الأفعال».

الرابع : قال المصنف : كان مقتضى الدليل استواء ليت وأخواتها في لحاق النون لشبهها بالأفعال المتعدية ، لكن استثقل لحاقها بأواخر غير ليت لأجل التضعيف ، فحسن حذفها تخفيفا وثبوتها للشبه المذكور ، ولم يكن في ليت معارض للشبه فلزمها ثبوتها في غير ندور (٤) ، ولم يرد الحذف إلا في نظم كقول زيد الخيل (٥) :

٢٠٧ ـ كمنية جابر إذ قال ليتي

أصادفه وأفقد بعض مالي (٦)

__________________

(١) الأبيات من بحر الرجز التام وهي في الغزل. (انظر حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين محمد بن موسى الدميري ، طبعة دار التحرير سنة ١٩٦٥ م (٢ / ٢٥١) بحث عقرب).

وشاهده قوله : إذ قال ما أحسني ؛ حيث جاء فعل التعجب دون نون الوقاية متصلا بياء المتكلم على مذهب الكوفيين وهو عند البصريين شاذ.

(٢) التذييل والتكميل (٢ / ١٧٨). وانظر طرفا من هذا الخلاف في كتاب الإنصاف (١ / ٧٩ ، ٨٠).

(٣) الكتاب (٢ / ٣٦١). ونص ما قاله : «وحدّثنا يونس أنّه سمع من العرب من يقول : عليكني من غير تلقين ، ومنهم من لا يستعمل ني ولا نا في ذا الموضع استغناء بعليك بي وعليك بنا».

(٤) شرح التسهيل (١ / ١٣٨). وإنما لزم ثبوتها في غير ندور مع ليت للخلو من التضعيف كما في أخواتها.

(٥) هو زيد بن مهلهل من طيئ ، جاهلي أدرك الإسلام ووفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفد طيئ سنة تسع من الهجرة ليسلموا جميعا ، ولما أسلم زيد سماه الرسول «زيد الخير». وقال له النبي : «ما وصف لي أحد في الجاهليّة فرأيته في الإسلام إلّا رأيته دون الصّفة ليسك» يريد غيرك. وقطع له النبي أرضا. وكان لزيد ولدان شهدا حروب الردة مع خالد بن الوليد.

(ترجمته وأخباره في الشعر والشعراء (١ / ٢٩٢) ، وفيات الأعيان : ٦ / ٤٧).

(٦) البيت من بحر الوافر قاله زيد الخيل كما هو مذكور في الشرح وفي مراجع البيت.

وقد استشهد بالبيت على سقوط نون الوقاية من ليت ضرورة ، هذا كلام ابن مالك هنا. إلا أنه قال

٤٨٨

______________________________________________________

ولما نقص شبه لعل بالفعل من أجل أنها تعلق في الغالب ما قبلها بما بعدها (١) ، ومن أجل أنها تجر على لغة ضعف موجب لحاق النون المذكورة لها ، فكثر «لعلّي» كقوله تعالى حكاية : (لَعَلِّي أَبْلُغُ)(٢) ، و (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ)(٣).

وقلّ «لعلني» ومنه قول الشاعر :

٢٠٨ ـ فقلت أعيراني القدوم لعلّني

أخطّ بها قبرا لأبيض ماجد (٤)

قال الشيخ : «ما ذهب إليه المصنف من حذف نون الوقاية من إنّ وأنّ وكأنّ ولكنّ هو مذهب الأكثرين. وذهب بعضهم إلى أنّ الساقط هو النون الثانية ، والأولى مدغمة في نون الوقاية» (٥).

الخامس : قال المصنف (٦) : «لحاق النون مع لدن أكثر من عدم لحاقها ، وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات وليس هو كذلك بل هو جائز في الكلام الفصيح ، ومن ذلك قراءة نافع (٧) :

__________________

في الألفية : وليتني فشا وليتي ندرا ... إلخ ، وفرق بين الندور والضرورة. والبيت في معجم الشواهد (ص ٣١٥) ، وفي شرح التسهيل (١ / ١٣٦) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ١٨٦).

(١) هو معنى التعليل الذي ذكره الأخفش والكسائي في معانيها ، ومثّلا له بقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] انظر الهمع (١ / ١٣٤).

ومثال جرها على لغة عقيل ما قاله كعب بن سعد الغنوي (من الطويل) :

فقلت ادع أخرى وارفع الصّوت جهرة

لعلّ أبي المغوار منك قريب

وقول الآخر (من الوافر) لعلّ الله فضّلكم علينا. انظر شرح الأشموني (٢ / ٢٠٤).

(٢) سورة غافر : ٣٦. (٣) سورة يوسف : ٤٦.

(٤) البيت من بحر الطويل استشهد به كثيرون ولم ينسبوه.

اللغة : أعيراني : روي في مكانه أعيروني من العارية وهو الانتفاع بالشيء ثم رده. القدوم : بفتح فضم مخفف آلة ينخر بها الخشب. قبرا لأبيض ماجد : أراد أن يصنع جرابا لسيفه.

وشاهده واضح من الشرح ومثله قول حاتم الطائي (من الطويل) :

أريني جوادا مات هزلا لعلني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا

وانظر الشاهد في معجم الشواهد (ص ١١٥) ، شرح التسهيل (١ / ١٣٧) ، التذييل والتكميل (٢ / ١٥٥).

(٥) التذييل والتكميل (٢ / ١٨٤).

(٦) شرح التسهيل (١ / ١٣٦).

(٧) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أحد القراء السبعة. كان إمام أهل المدينة والذين صاروا إلى قراءته ورجعوا إلى اختياره ، وهو من الطبقة الثالثة بعد الصحابة ، قرأ عليه مالك رضي‌الله‌عنه كما قرأ هو على ميمون مولى أم سلمة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان له راويان : ورش وقنبل. وتوفي نافع سنة (١٥٩ ه‍) بالمدينة.

٤٨٩

______________________________________________________

(مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)(١) بتخفيف النون وضم الدال.

ولا يجوز أن يكون نون لدني نون الوقاية ويكون الاسم لد ؛ لأن لد متحرك الآخر ، والنون في لدن وأخواته إنما جيء بها لصون أواخرها من زوال السكون ، فلا حظ فيها لما آخره متحرك ، وإنما يقال في لد مضافا إلى الياء لدي. نص على ذلك سيبويه (٢).

وقرأ أبو بكر (٣) مثل نافع إلا أنه أشم الدال ضمّا ، وقرأ الباقون بضم الدال وتشديد النون مدغمين نون لدن في نون الوقاية.

السادس : قال المصنف : معنى بجل : حسب ، وكذلك معنى قد وقط ، ومن قال : بجلي وقدي وقطي بلا نون ، فلشبهها بحسب ، إلا أن بجل أشبه لأنه ثلاثيّ مثله ، ولمساواته له في اشتقاق فعل منه ؛ إذ قيل أبجله وأحسبه بمعنى كفاه ، فلذلك فاق عدم النون مع بجل ثبوتها بخلاف قد وقط. وفي الحديث : «قط قط بعزّتك وكرمك» (٤) يروى بسكون الطاء وبكسرها مع ياء ودون ياء ، ويروى قطني قطني بنون الوقاية وقط التنوين وبالنون أشهر [١ / ١٥١].

قال الراجز :

٢٠٩ ـ امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني (٥)

__________________

(١) سورة الكهف : ٧٦. وفي الآية قراءات ثلاثة ذكرها الشارح هي في الحجة لابن خالويه (ص ٢٢٨) ، وتقريب النشر (ص ١٣٧).

(٢) الكتاب (٢ / ٣٧١) وكانت لد عنده نظير مع في التمثيل.

(٣) هو شعبة بن عياش بن سالم الأزدي الكوفي الخياط ، من مشاهير القراء ، وكان نظير حفص في الرواية عن عاصم ، كما كان عالما فقيها في الدين ، وقد ولد سنة (٩٥ ه‍) وتوفي سنة (١٩٣ ه‍).

ترجمته في الأعلام (٣ / ٢٤٢) ، وغاية النهاية (١ / ٣٢٥).

(٤) الحديث في صحيح مسلم (٨ / ١٥٢) مرويّا عن أنس بن مالك ، ونصه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد حتّى يضع فيها ربّ العزّة تبارك وتعالى قدمه ، فتقول : قط قط وعزتك ويزوي بعضها إلى بعض».

وهو في صحيح البخاري (٣ / ١١٩) ، وفي مسند الإمام (٢ / ١٦٩ ، ٥٠٧).

(٥) البيتان من بحر الرجز المشطور ، وهما بلا نسبة مع كثرة مراجعهما ، وهما في وصف حوض امتلأ بالماء وفاض.

وقطني بمعنى حسب ، وهو موضع الشاهد حيث اتصلت به نون الوقاية وهو الكثير.

والبيتان في شرح التسهيل : (١ / ١٣٧) ، وهما في معجم الشواهد (ص ٥٥٢).

٤٩٠

______________________________________________________

وقال آخر في قدني :

٢١٠ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي

ليس الإمام بالشّحيح الملحد (١)

قال الشيخ (٢) : ما ذكره المصنف من أن الياء مجرورة بالإضافة إليها مع قد ؛ هو مذهب سيبويه والخليل (٣) ، ونقل الكوفيون في قد وقط وجهين عن العرب :

أحدهما : أنهما اسما فعل وهما مبنيان على السكون ، وينصبون بهما فيقولون : قط زيدا درهم ، وإذا اتصل بهما ضمير المتكلم لحقتهما نون الوقاية.

والثاني : أن من العرب من يقول : قد عبد الله درهم ، وقط عبد الله درهم ؛ فيرفعهما ويجر ما بعدهما بإضافتهما إليه ، ويكونان بمعنى حسب ، وإذا أضاف إلى نفسه لا تلحق نون الوقاية كما لا تلحق حسب ، وقد ذكر المصنف في باب أسماء الأفعال : أنهما يكونان اسمي فعل في أحد الوجهين (٤) ، وذكر في باب تتميم الكلام : أنّ قد تكون اسما لكفى (٥).

قال (٦) : والذي أختاره أن من قال من العرب قدني وقطني فإنهما عنده اسم فعل والياء في موضع نصب ، ومن قال قدي وقطي فهما بمعنى حسب والياء في موضع جر ، كما فعل الكوفيون. انتهى.

ومثال الحذف مع من وعن قول الشاعر : ـ

__________________

(١) البيتان من بحر الرجز المشطور ، وقد سبق الاستشهاد بهما في باب الجمع.

ويستشهد بهما هنا على حذف نون الوقاية من قد بمعنى حسب عند إضافتها لياء المتكلم وهو ضرورة.

والبيتان في معجم الشواهد (ص ٤٦٦) ، وفي شرح التسهيل : (١ / ٧٠ ، ١٣٧) ، (٤ / ١٠٧) ، وفي التذييل والتكميل : (١ / ٢٦٨) ، (٢ / ١٨٣ ـ ١٨٧).

(٢) التذييل والتكميل : (١ / ٤٤٩).

(٣) كتاب سيبويه : (١ / ٣٧٢) بتحقيق هارون.

(٤) تسهيل الفوائد (ص ٢١٢). والوجه الآخر كونها بمعنى حسب ، فعلى الوجه الأول تقول : قطني وقدني بالنون بمعنى يكفيني. وعلى الثاني تحذف النون كما تقول : حسبي. وقد اجتمع الوجهان في البيت المذكور قريبا.

(٥) تسهيل الفوائد (ص ٢٤٢) وفيه يقول ابن مالك : «فصل : تكون قد اسما لكفى فتستعمل استعمال أسماء الأفعال وترادف حسبا فتوافقها في الإضافة إلى غير ياء المتكلّم».

(٦) القائل هو أبو حيان. انظر التذييل والتكميل : (١ / ١٨٠).

٤٩١

______________________________________________________

٢١١ ـ أيّها السّائل عنهم وعني

لست من قيس ولا قيس مني (١)

قال الشيخ : «ظاهر كلام المصنّف أنّ حذف النّون من : من وعن وقد وقط ؛ جائز في الكلام ، ونصّ أصحابنا على أنّ الحذف لا يكون إلّا في الضرورة» انتهى (٢).

وبقي الكلام من الفصل على مسألتين :

الأولى : أن نون الوقاية قد تلحق مع اسم الفاعل وأفعل التفضيل ، وهذا كالاستثناء من الأصل المتقدم ؛ وهو أن نون الوقاية لا تلحق مع الصفة ناصبة كانت أو جارة.

فمثال اسم الفاعل ما أنشده الفراء (٣) من قول الشاعر :

٢١٢ ـ وما أدري وظنّي كلّ ظنّ

أمسلمني إلى قوم شراحي (٤)

__________________

(١) البيت من بحر الرمل ، وعدم معرفة قائله طعن في صحته ونسبته ، ورمي بأنه مصنوع من بعض النحاة لهذه القاعدة.

وقيس إن أريد به القبيلة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ، وإن أريد به الرجل فهو مصروف.

واستشهد به على شذوذ حذف نون الوقاية من : من وعن المتصل بهما ياء المتكلم.

والبيت على شهرته ليس في معجم الشواهد ، وهو في الدرر (١ / ٤٣) ، وفي شرح المفصل (٣ / ١٢٥) ، وفي حاشية الصبان (١ / ١٢٤) ، وفي شرح التسهيل (١ / ١٣٨) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ١٨٧).

(٢) كلام ابن مالك الذي أخذ منه أبو حيان ذلك هو ما قاله في المتن ؛ حيث لم يحكم على الإلحاق بالوجوب ، وما قاله في الشرح وهو قوله : ومن قال بجلي وقدي وقطي بلا نون شبّهها بحسب ... ثم تمثيله بالبيتين اللذين فيهما قد ومن وعن بدون نون الوقاية وتصديره لهما بقوله :

وقال الشاعر في الحذف .. دون أن يذكر بعدهما وهو من الشذوذ أو الضرورة ، لكنه في الألفية حكم على الحذف في من وعن بالضرورة وعليه في قد وقط بالقلة. يقول :

 ... واضطرارا خفّفا

منّي وعنّي بعض من قد سلفا

وفي لدنّي لدني قلّ وفي

قدني وقطني الحذف أيضا قد يفي

(٣) معاني القرآن للفراء (٢ / ٣٨٦).

(٤) البيت من بحر الوافر ورد في مراجعه منسوبا إلى يزيد بن محمد الحارثي.

اللغة : شراحي : مرخم شراحيل دون نداء ، وهو شاهد آخر في هذا البيت. وفي البيت يقول الفراء : «وإنّما تكون هذه النّون (نون الوقاية) في فعل ويفعل مثل ضربني ويضربني. وربّما غلط الشّاعر فيذهب إلى المعنى فيقول : أأنت ضاربني فيوهم أنه أراد هل تضربني ؛ فيكون ذلك على غير صحّة».

٤٩٢

______________________________________________________

وأنشد ابن طاهر (١) في تعليقه على كتاب سيبويه :

٢١٣ ـ وليس بمعييني وفي النّاس ممتع

صديق إذا أعيا عليّ صديق (٢)

قال : وأنشد غيرهما :

٢١٤ ـ وليس الموافيني ليرفد خائبا

فإنّ له أضعاف ما كان آملا (٣)

قال المصنف (٤) : «ومعييني والموافيني يرفعان توهم كون نون مسلمني تنوينا ؛ لأن ياء المنقوص المنون لا ترد عند تحريك التنوين لملاقاة ساكن نحو : أغاد ابنك أم رائح؟ وياء معييني الثانية ثابتة في : وليس بمعييني ، فعلم أن النون الذي وليه ليس تنوينا وإنما هو نون الوقاية ؛ ولذلك ثبت مع الألف واللام في الموافيني.

وأيضا فإن التنوين إذا اتصل بما هو معه كشيء واحد ، حذف تنوينه نحو : وابن ـ

__________________

ثم أنشد البيت المذكور ومعه بيت آخر وقال : «لم يقل أمسلمي وهو وجه الكلام». (معاني القرآن : ٢ / ٣٨٦).

وانظر البيت في معجم الشواهد (ص ٨٩) ، وفي شرح التسهيل (١ / ١٣٨) ، وفي التذييل والتكميل (١ / ١٨٧).

(١) هو أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري ، له تعليقات على كتاب سيبويه ضمنها ابن خروف شرحه عليه. وقال السيوطي : وقفت على حواشيه على الكتاب بمكة المكرمة (بغية الوعاة : ١ / ٢٨).

سبقت ترجمته بالتفصيل.

(٢) البيت من بحر الطويل وهو في العزة والكرامة لشاعر مجهول.

اللغة : معييني : من قولهم : أعياه الأمر إذا أعجزه. ممتع : بفتح أوله وثالثه اسم مكان من قولهم : رجل ماتع أي كامل في خصائل الخير ، وقيل اسم فاعل من قولهم : أمتعني الله بك.

ومعنى البيت : إذا صد عني بعض الأصدقاء طلبت صديقا غيره حسن العشرة وفي الناس خير كثير.

والشاهد فيه واضح من الشرح. وانظر البيت في شرح التسهيل : (١ / ١٣٨) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ١٨٨) ، وفي معجم الشواهد (ص ٢٤٧).

(٣) البيت من بحر الطويل ولم ينسب فيما ورد من مراجع ، وهو في الفخر بالكرم.

اللغة : الموافيني : اسم فاعل من وافاك يوافيك موافاة إذا جاءك وأتاك. ليرفد : بالبناء المجهول ، مأخوذ من الرفد بالفتح مصدر رفدته إذا أعطيته ، والرفد بالكسر هو العطاء. آملا : راجيا وطالبا.

وشاهده قوله : وليس الموافيني حيث لحقت نون الوقاية اسم الفاعل المضاف إلى ياء المتكلم. ويرى ابن عصفور في ذلك رأيا آخر مذكورا في الشرح.

والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٥٢) ، وفي التذييل والتكميل (٢ / ١٨٨) ، وفي معجم الشواهد (ص ٢٦٥).

(٤) انظر شرح التسهيل : (١ / ١٣٨).

٤٩٣

______________________________________________________

زيداه ولا [١ / ١٥٢] يقال : وابن زيدناه فتحرك التنوين ؛ بل تحذف لأن زيادة الندبة والمندوب كشيء واحد ، وكذا ياء المتكلم مع متلوها كشيء واحد ؛ ولذا كسر ما قبلها كما كسر ما قبل ياء النسب.

وأيضا فمقتضى الدليل مصاحبة النون الياء مع الأسماء المعربة لتقيها خفاء الإعراب ؛ فلما منعوها ذلك كان كأصل متروك فنبهوا عليه في بعض أسماء الفاعلين ، ومن ذلك قراءة بعض القراء : (هل أنتم مطلعون) بتخفيف الطاء وكسر النون (١).

وفي البخاري (٢) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لليهود :

«هل أنتم صادقوني؟» (٣) كذا في ثلاثة مواضع في أكثر النسخ المعتمد عليها» انتهى.

وإنما احتاج المصنف إلى إقامة الدليل على ما ذكر ؛ لأن غيره يدعي أن النون في أمسلمني نون التنوين لا نون الوقاية. قال ابن عصفور في المقرب (٤) : ـ

__________________

(١) سورة الصافات : ٥٤ وانظر القراءة في المحتسب لابن جني (٢ / ٢٢٠) قراءة عمار بن أبي عمار ـ قال عن القراءة : إنها لغة ضعيفة وهو أن يجري اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع لقربه منه فيجري مطلعون مجرى يطلعون وعليه قال بعضهم :

وما أدري وظنّي كلّ ظن

أمسلمني ......

إلخ يريد أمسلمي ، وهذا شاذ كما ترى ؛ فلا وجه للقياس عليه.

(٢) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبد الله ، حبر الإسلام والحافظ لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولد في بخارى سنة (١٩٤ ه‍) ، ونشأ يتيما وقام برحلة طويلة في طلب الحديث سنة (٢١٠ ه‍) ، فزار خراسان ومصر والعراق والشام ، وسمع من نحو ألف شيخ.

صنف صحيح البخاري ، وهو أوثق الكتب الستة المعول عليها في الحديث ، وأصح كتب الأحكام الشريفة بعد القرآن الكريم. وقد طبع عدة مرات.

توفي بسمرقند سنة (٢٥٦ ه‍). ترجمته في الأعلام (٦ / ٢٥٨).

(٣) الحديث في صحيح البخاري في كتاب الطب (٧ / ١٣٩). ونصه : عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : لمّا فتحت خيبر هديت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة فيها سمّ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود» فجمعوا له. فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي سائلكم عن شيء ، فهل أنتم صادقوني عنه؟». قالوا : نعم يا أبا القاسم ... إلخ.

والحديث أيضا في مسند الإمام أحمد بن حنبل (٢ / ٤٥١).

(٤) انظر نص ذلك في المقرب ومثل المقرب (ص ١٨٩ ، ١٩٠) (عادل عبد الموجود). وبقية كلامه : «بل تقول ضاربك وضارباك وضاربوك».

٤٩٤

______________________________________________________

وإذا كان معمول اسم الفاعل ضميرا متصلا لم يثبت فيه نون ولا تنوين ، وقد يثبتان في الضرورة نحو قوله : «وما أدري وظنّي» البيت المتقدم الإنشاد ، ونحو قول الآخر :

٢١٥ ـ ولم يرتفق والنّاس محتضرونه

جميعا وأيدي المعتفين رواهقه (١)

ومثال أفعل التفضيل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غير الدّجّال أخوفني عليكم» (٢).

قال المصنف (٣) : «لما كان لأفعل التفضيل شبه بالفعل معنى ووزنا ، وخصوصا بفعل التعجب ـ اتصلت به النون المذكورة ، قال : والأصل في الحديث : أخوف مخوّفاتي عليكم ؛ فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه ، فاتصل أخوف بالياء معمودة بالنون ، كمل فعل بأسماء الفاعلين المذكورين ، وأفعل على هذا الوجه مصوغة من فعل المفعول كقولهم : «أشغل من ذات النّحيين» (٤) ، و «أزهى من ديك» ، وقوله عليه الصلاة والسّلام : «أخوف ما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّون» (٥).

ويجوز أن يكون من أخاف ؛ لأن صوغ أفعل التفضيل من فعل على أفعل مطرد عند سيبويه ، فيكون المعنى على هذا : غير الدّجّال أشدّ إخافة عليكم من الدّجّال ، ـ

__________________

(١) البيت من بحر الطويل ولم ينسب فيما ورد من مراجع.

وفي البيت ومعناه والشاهد فيه يقول ابن يعيش : الشاهد فيه : الجمع بين النون والمضمر والوجه محتضروه ، يصفه بالبذل والعطاء يقول : غشيه المعتفون وهم السائلون واحتضره الناس للعطاء. فسيبويه يجعل الهاء فيه كناية ، ويزعم أن ذلك من ضرورة الشعر. وكان أبو العباس المبرد يذهب إلى أنها هاء السكت وكان حقها أن تسقط في الوصل ، فاضطر الشاعر ، فأجراها في الوصل مجراها في الوقف ، وحركها لأنها لما ثبتت في الوصل أشبهت هاء الإضمار نحو غلامه. وكلاهما ضعيف والأول أمثل ؛ لأن فيه ضرورة واحدة وفي هذا ضرورتان (شرح المفصل : ٢ / ١٢٥).

وانظر : البيت في التذييل والتكميل (٢ / ١٨٩) ، وفي معجم الشواهد (ص ٢٤٧).

(٢) الحديث في صحيح مسلم في كتاب الفتن (٨ / ١٩٧). وبقيته : «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كلّ مسلم ...» إلخ.

(٣) شرح التسهيل (١ / ١٣٩).

(٤) مثل من أمثال العرب (مجمع الأمثال : ٢ / ١٨٤) يضرب لمن هو في شغل وفي عمل منهمك.

(٥) نص الحديث في مسند الإمام أحمد بن حنبل (٦ / ٤٤١) ... عن أبي الدرداء قال : عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمّة المضلّون».

٤٩٥

______________________________________________________

ويجوز أن يكون من باب وصف المعاني على سبيل المبالغة بما يوصف به الأعيان ، كما يقال : شعر شاعر ، وخوف خائف ، وموت مائت ، وعجب عاجب ، ثم يصاغ أفعال باعتبار ذلك المعنى ، فيقال : شعرك أشعر من شعره ، وخوفي أخوف من خوفك ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «أشعر كلمة تكلّمت بها العرب كلمة لبيد :

٢١٦ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل»

[وكلّ نعيم لا محالة زائل](٢)

ومنه أيضا قول الشاعر :

٢١٧ ـ يداك يد خيرها يرتجى

وأخرى لأعدائها غائظه

فأمّا الّتي يرتجى خيرها

فأجود جودا من اللّافظه

وأمّا التي يتّقى شرّها

فنفس العدوّ بها فائظه (٣)

وتقدير الحديث مسلوكا به هذا السبيل.

خوف غير الدّجّال أخوف خوفي عليكم ؛ فحذف المضاف إلى غير ، وأقيم غير مقامه ، وحذف المضاف إلى الياء ، وأقيمت الياء مقامه ، فاتصل أخوف بالياء ـ

__________________

(١) الحديث في صحيح مسلم (٧ / ٤٩) وقد سبق الاستشهاد به في أول هذا التحقيق وقد روي بروايات مختلفة هناك.

(٢) البيت من بحر الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة العامري ، وقد سبق الاستشهاد به وشاهده هنا واضح من الشرح.

(٣) أبيات ثلاثة من بحر المتقارب ، وهي لطرفة بن العبد يصف فيها ممدوحه بالكرم والشجاعة. والأبيات ليست في ديوان طرفة المحقق (طبعة بيروت).

اللغة : اللّافظة : قيل البحر لأنه يلفظ بكل ما فيه من العنبر والجواهر ، والهاء فيه للمبالغة. وقد فسر بتفسيرات أخرى. فائظة : من فاظت نفسه إذا قاربت الموت ، ومعنى الأبيات واضح.

وشاهده قوله : فأجود جودا ... إلخ ، حيث وصف الجود بالجواد من باب وصف المعاني بما توصف به الأعيان على سبيل المبالغة في الوصف. والبيت في شرح التسهيل (١ / ١٤٠) ، وفي معجم الشواهد (ص ٢٠٧).

ترجمة الشاعر : هو طرفة بن العبد بن سفيان ، شاعر جاهلي له معلقة مشهورة : «لخولة أطلال ببرقة ثهمد» كان في حسب من قومه ، وقد مات أبوه وهو صغير ، فنهب أعمامه ماله كما نهب أخواله مال أمه ، ومن هنا تحدث عن الظلم كثيرا في شعره. وقد مات طرفة بعد العشرين بقليل ، وسبب موته أنه هجا عمرو ابن هند ، ثم ذهب إليه في الحيرة ، فكتب عمرو إلى عامله بالبحرين أن يقتل هذا الشاعر وكان معه خاله المتلمس ، وكان قد ظن الرجلان أن عمرا يكتب لهما بخير ، ففض المتلمس كتابه فنجا من الموت ، أما طرفة فقد قتله عامل البحرين. ترجمته في الشعر والشعراء (١ / ١٩١) ، معجم الشعراء (ص ٥).

٤٩٦

______________________________________________________

معمودة بالنون على ما تقرر (١).

المسألة الثانية (٢) [١ / ١٥٣] :

بقاء نون الوقاية أو حذفها إذا لقيت مثلها ودعت الحاجة إلى حذف أحدهما :

قال المصنف : «لما كان للفعل بهذه النون صون ووقاية مما ذكر ، حوفظ على بقائها فيه مطلقا ، أي إذا لقيها مثلها ودعت الحاجة إلى حذف فهي الباقية عند سيبويه (٣) في قول الشاعر :

٢١٨ ـ تراه كالثّغام يعلّ مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني (٤)

أراد فلينني فحذفت الأولى وبقيت الثانية. ـ

__________________

(١) شرح التسهيل (١ / ١٣٩).

(٢) المسألة الأولى تقدم ذكرها ، وهي إلحاق نون الوقاية لاسم الفاعل وأفعل التفضيل.

(٣) قال سيبويه (٣ / ٥١٩). «تقول هل تفعلنّ ذاك ، تحذف نون الرّفع ؛ لأنّك ضاعفت النون وهم يستثقلون التضعيف فحذفوها ؛ إذ كانت تحذف ، وهم في ذا الموضع أشد استثقالا للنونات ، وقد حذفوها فيما هو أشد من ذا. بلغنا أن بعض القراء قرأ : أتحجوني ، وكان يقرأ : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) وهي قراءة أهل المدينة ؛ وذلك لأنهم استثقلوا التضعيف» ثم أنشد البيت الذي سيأتي.

(٤) البيت من بحر الوافر ، قاله عمرو بن معدي كرب الزبيدي يخاطب امرأته وقد عيرته بالشيب.

تقول حليلتي لما رأتني

شرائح بين قدري وجون

وروي بيت الشاهد رأته مكان تراه. وضمير الغيب عائد على شعره.

اللغة : شرائح : خبر مبتدأ محذوف. أي شعرك شرائح ومعناه أنواع. قدري : منسوب إلى القدرة ، وهي لون معروف قريب من البياض. جون : بفتح أوله من الأضداد يطلق على الأبيض والأسود. الثغام : كسحاب جمع ثغامة وهو نبت له نور أبيض يشبه به الشيب. يعل : بالبناء للمجهول يطيب شيئا بعد شيء. الفاليات : جمع فالية وهي التي تبحث عما في رأس الصبي من قاذورات. فليني : أصلها فلينني.

وهو موضع الشاهد ؛ حيث اجتمعت نون النسوة ونون الوقاية في كلمة ، فحذفت الأولى وهي نون النسوة للتخفيف ، وذلك على مذهب سيبويه.

انظر مراجع البيت في معجم الشواهد (ص ٤٠٤) ، شرح التسهيل (١ / ١٤٠) ، والتذييل والتكميل (٢ / ١٩١).

ترجمة الشاعر : هو عمرو بن معدي كرب الزبيدي ، من فرسان العرب المشهورين بالبأس في الجاهلية ، أدرك الإسلام وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة ، وأسلم ثم ارتد وأسلم مرة أخرى ، شهد القادسية وأبلى بلاء حسنا ، والتقى بعمر بن الخطاب. مات شهيدا في فتح نهاوند.

انظر : أخباره في الشعر والشعراء (١ / ٣٧٩).

٤٩٧

[الحديث عن ضمائر الرفع المنفصلة]

قال ابن مالك : (فصل : من المضمر منفصل في الرّفع منه للمتكلّم أنا محذوف الألف في وصل عند غير تميم ، وقد يقال : هنا وأن ، ويتلوه في الخطاب تاء حرفيّة كالاسميّة لفظا وتصرّفا ، ولفاعل نفعل نحن ، وللغيبة هو وهي وهم وهنّ ، ولميم الجمع في الانفصال ما لها في الاتّصال).

______________________________________________________

كما أنها هي الباقية في : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي)(١) ، وقد تقدم الكلام على ذلك» انتهى (٢).

وذهب بعضهم إلى أن المحذوف في فليني نون الوقاية (٣). ويشعر كلام المصنف بالخلاف ؛ لأنه قال : «وهي الباقية في فليني لا الأولى وفاقا لسيبويه».

قال الشيخ : «والّذي أختاره أنّ المحذوف نون الوقاية ؛ لأن نون الإناث ضمير ونون الوقاية حرف» (٤).

قال ناظر الجيش : لما أنهى الكلام على المضمر المتصل مستكنّه وبارزه ، شرع في الكلام على المنفصل :

وهو قسمان : مرفوع الموضع ومنصوبه ، وليس لهم منفصل مجرور ، بل المجرور كله متصل.

أما المرفوع فأصوله خمسة ألفاظ ، وهي : أنا ، نحن ، أن ، هي ، هو ، وبقية الألفاظ فروع عنها كما سيبين.

أما أنا فذهب البصريون (٥) إلى أن أصله الهمزة والنون ، وأن الألف فيه زائدة يؤتى بها للوقف ، كما يؤتى بهاء السكت ؛ بدليل حذفها في الوصل ، وبأن الهاء ـ

__________________

(١) سورة الزمر : ٦٤. وقد سبق ذكر القراءات المختلفة في هذه الآية في هذا التحقيق.

(٢) شرح التسهيل (١ / ١٤٠) ، وسبق في هذا التحقيق ذكر أدلة ترجيح أن الباقي بعد الحذف نون الوقاية.

(٣) في مغني اللبيب (٢ / ٦٢٠): «إذا دار الأمر بين كون المحذوف أوّلا أو ثانيا فكونه ثانيا أولى». وذكر مسألة نون الوقاية مع نون الإناث ، وأنشد البيت السابق : تراه كالثغام ... إلخ ، ثم قال : هذا هو الصّحيح. وفي البسيط أنّه مجمع عليه لأنّ نون الفاعل لا يليق بها الحذف.

(٤) التذييل والتكميل (٢ / ١٩٢).

(٥) التذييل والتكميل (٢ / ١٩٤) ، الهمع (١ / ٦٠).

٤٩٨

______________________________________________________

تعاقبها ، كقول حاتم الطائي (١) : هذا فزدي أنه (٢).

وذهب الكوفيون إلى أن الألف أصل أيضا ؛ بدليل إثباتها في قول حميد بن ثور :

٢١٩ ـ أنا سيف العشيرة فاعرفوني

حميدا قد تذرّيت السّناما (٣)

قال ابن عصفور : «وحمل البصريّون ذلك على أنّه ضرورة» (٤).

قال المصنف (٥) : «الصحيح أن أنا بثبوت الألف وصلا ووقفا هو الأصل وهي لغة بني تميم ، وبذلك قرأ نافع قبل همزة قطع ك (أنا أحى) (٦) ، و (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ)(٧). وقرأ بها أيضا ابن عامر (٨) في قوله تعالى : ـ

__________________

(١) هو حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي وأمه من طيئ أيضا ، ضربت العرب به المثل في الكرم ، حيث كانت له قدور عظام كل يوم بفنائه ، وكانت الناس تأتيه ويسألونه حمل الديات والعطايا فلا يخيب ظنهم ، وكان حاتم شجاعا أيضا ، فإذا قاتل غلب وإذا غنم نهب. كما كان شاعرا جيد الشعر ، وشعره كله سلس رقيق ، ومن أولاد حاتم عدي وسفيان. وقد قدما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلما مع قومهما. (الشعر والشعراء (١ / ٢٤٧) ، معجم الشعراء ص ٢٠٢).

(٢) فزدي معناه فصدي ؛ أبدلت الصاد زايا لسكونها ووقوع دال بعدها ، والفصد شق العرق ، وفصد الناقة شق عرقها ليستخرج منها الدم فيشربه ، وأنه أصله أنا أبدلت الألف هاء للسكت. ورواه السيوطي : هذا فروي أنه (الهمع : ١ / ٦٠).

(٣) البيت من بحر الوافر ، وهو في الفخر ، وقد اختلف في قائله : فنسب إلى حميد بن ثور ، وهو في ديوانه (ص ١٣٣) بيت مفرد ، وكذلك نسب في لسان العرب (مادة : أنن) وفي أساس البلاغة (مادة ذري) ونسبه صاحب معجم الشواهد إلى حميد بن بجدل ؛ شاعر إسلامي من بني كلب ، وينتهي نسبه إلى قضاعة.

اللغة : تذرّيت السّناما : ارتفع شأني وعلا أمري.

والبيت يستشهد به الكوفيون على أن الألف في أنا أصل بدليل عدها من حروف الكلمة عروضيّا.

(٤) انظر نص ذلك في شرح الجمل لابن عصفور (٢ / ١١١) (الشغار ويعقوب). وقد ذكر بيت حميد بن ثور ، ثم علق عليه بقوله : «إنّ ذلك ضرورة».

(٥) شرح التسهيل (١ / ١٤١).

(٦) سورة البقرة : ٢٥٨ ، والقراءة في تقريب النشر (ص ٩٧) وفي الحجة لابن خالويه (ص ٩٩) يقول : قرئ بإثبات الألف وطرحها ، والحجة لمن أثبتها أنه أتى بالكلمة على أصلها ؛ لأن الألف في أنا كالتاء في أنت ؛ والحجة لمن طرحها أنه اجتزأ بفتحة النون ، ونابت الهمزة عن إثبات الألف.

قال : وهذا في الإدراج ، أما في الوقف فلا خلف في إثباتها.

(٧) سورة الكهف : ٣٩.

(٨) هو عبد الله بن عامر بن يزيد أبو عمران اليحصبي الشامي ، أحد القراء السبعة ، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك. وقد ولد بالبلقاء عام (٨ ه‍) في قرية رحاب ، وانتقل إلى دمشق بعد فتحها. وتوفي فيها سنة (١١٨ ه‍). قال الذهبي : مقرئ الشاميين صدوق في رواية الحديث. انظر ترجمته في الأعلام (٤ / ٢٢٨) ، وغاية النهاية (١ / ٤٢٣ ، ٤٢٥).

٤٩٩

______________________________________________________

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)(١) والأصل لكن أنا ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى النون وأدغمت النون في النون ، ولمراعاة الأصل كان نون أنا مفتوحا في لغة من لفظ به دون ألف ؛ إذ جعل الفتحة دليلا عليها ، كما أن من حذف ألف أما في الاستفتاح ، قال : أم والله ؛ ولو كان وضع أنا في الأصل من همزة ونون فحسب لكانت النون ساكنة ، لأنها آخر مبني بناء لازما وقبلها حركة ، وما كان هكذا فحقه السكون ؛ كمن وعن وأن ولن ، ولو حرك على سبيل الشذوذ ، لم يعبأ بحركته بحيث يلزم صونها في الوقف بزيادة ألف أو هاء سكت» انتهى (٢). وهو كلام جيد [١ / ١٥٤].

ومن قال هنا فقد أبدل الهمزة هاء ، وهو كثير وعكسه قليل.

ومن قال آن بالمد فإنه قلب أنا ، كما قال بعض العرب في رأى ونأى : راء وناء.

قال المصنف (٣) : «ولا ينبغي أن يكون آن بالمدّ من الإشباع لأنّ الإشباع ؛ لا يكون غالبا إلا في الضرورة. ومن قال أن بالسكون فقد أذهب الحركة».

قال المصنف : «وفيه من الشّذوذ ما في قول من قال : لم فعلت؟ كما قال الشّاعر :

٢٢٠ ـ يا أسديّا لم أكلته لمه

لو خافك الله عليه حرّمه (٤)

__________________

(١) سورة الكهف : ٣٨. قال ابن جني في المحتسب في القراءات الشاذة (٢ / ٢٩).

«قرأ أبيّ بن كعب والحسن : لكن أنا هو الله ربي ، وقرأ عيسى الثقفي : لكن هو الله ربي. ساكنة من غير ألف.

وقراءة السبعة إلا ابن عامر : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) بحذف ألف أنا نطقا ، وأصله لكن أنا ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى النون وأدغمت النون في النّون. وقرأ ابن عامر بإثبات الألف».

قال العكبري : (التبيان : ٢ / ٨٤٨): «وإعرابه : أنا مبتدأ ، وهو مبتدأ ثان ، والله مبتدأ ثالث ، وربّي الخبر ، والياء عائدة على المبتدأ الأول ، ولا يجوز أن تكون لكن المشددة العاملة نصبا ؛ إذ لو كان كذلك لم يقع بعدها هو ؛ لأنه ضمير مرفوع».

(٢) شرح التسهيل (١ / ١٤١).

(٣) المرجع السابق.

(٤) البيتان من بحر الرجز المشطور نسبا في اللسان (مادة روح : ٣ / ١٧٦٧) إلى سالم بن دارة الغطفاني وهما كالآتي :

يا نقسيّ لم أكلته لمه

لو خافك الله عليه حرّمه

فما أكلت لحمه ولا دمه

وأصل لم : لما ، وهي ما الاستفهامية دخل عليها حرف الجر ، فحذفت الألف ثم سكنت الميم للضرورة وهو الشاهد. ومراجع البيت في معجم الشواهد (ص ٥٣٥) ، وهو في شرح التسهيل لابن مالك (١ / ١٤١).

٥٠٠