شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]

شرح التّسهيل المسمّى تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد - ج ١

المؤلف:

محمّد بن يوسف بن أحمد [ ناظر الجيش ]


المحقق: علي محمّد فاخر [ وآخرون ]
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤

١٠١

١٠٢

١٠٣
١٠٤

شرح التّسهيل

المسمّى

تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد

القسم الثاني

«التحقيق»

١٠٥
١٠٦

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرّحمن الرّحيم (١)

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

قال سيدنا وأستاذنا وشيخنا الإمام العلامة حجة العلماء ، قدوة البلغاء ، إمام القراء والنحاة والأدباء ، لسان العرب ، ترجمان الأدب ، عمدة المفسرين ، محب الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف التميمي الشافعي. بارك الله فيه ونفع المسلمين به وختم له بخير ولآله وعترته الطاهرين (٢).

الحمد لله مطلق ألسنة الحامدين بأحلى مقال ، ومبعد كلام الراشدين عن التحريف من غير اعتقال (٣) ، الرافع رتب ذوي العلم في سماء الشرف والجلال ، الناصب لهم ألوية (٤) الفخر عالية الظهور سابغة الظلال ، المنعم على المجدين في طلبه بتسهيل الفوائد ونيل الآمال ، وتنويل الفرائد (٥) من عوارف فضله وإفضاله في الحال والمآل.

نحمده حمدا نواليه على مرّ الأيام والليال ، ونشكره على نعمه التي لا تزال دائمة الاسترسال ، آمنة بدوام الشكر من الانقطاع والزوال.

والصلاة والسّلام على صاحب القدر الأعز الأعلى ، والفخر الأسمق ، المؤيد بالنصر الأنجز (٦) ، والكلام المفحم الأوجز ، سيدنا ونبينا محمد مبلغ رسالة ربه

__________________

(*) بداية الصفحة الثانية من الجزء الأول من مخطوطة معهد إحياء المخطوطات العربية وهي هنا الأصل.

(١) هذه المقدمة من نسخة الأصل فقط (معهد إحياء المخطوطات مصورة من بلاد المغرب) ، وقد خلت منها نسخة دار الكتب المصرية (٥٠١٢ ه‍) التي بدئت بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر ووفق وأعن بفضلك ، الحمد لله مطلق ألسنة الحامدين ... إلخ.

(٢) في المصباح المنير (عقل) ... واعتقل لسانه بالبناء للفاعل والمفعول إذا حبس عن الكلام ، أي : منع فلم يقدر عليه ، ومنه العقال وهو الرباط الذي يعقل به ، وجمعه : عقل.

(٣) في القاموس (لوي) : اللواء واللواي : العلم جمعه ألوية وجمع الجمع ألويات ، وألواه : رفعه.

(٤) تنويل الفرائد : تحقيق الآمال العظيمة ، وفي القاموس (نول) : نوّلته ونوّلت عليه وله : أعطيته ، والنائل : العطاء. وفيه أيضا (فرد) : الفريد ، والفريدة : الجوهرة النفيسة والدر ، إذا نظم وفصل.

(٥) قوله : الفخر الأسمق : أي العالي ، والنصر الأنجز : هو الحاضر ، من قولهم : نجز الوعد : حضر ، ونجز حاجته : قضاها ، فهو لازم ومتعدّ (القاموس : نجز).

١٠٧

بأفصح لسان ، وأفسح مجال ، وعلى آله وصحبه البررة الكرام ، ذوي التقدم والإقدام ، في الحرب السجال ، صلاة دائمة بلا انتقال ، موصولة من غير انفصال ما انحصر الكلم العربي في الحروف والأسماء والأفعال.

وبعد :

فإن كتاب تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد ، للعلّامة حجة العلماء ، قدوة البلغاء إمام القراء والنحاة والأدباء ؛ جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله ابن مالك الطائي الجيّانيّ (١) ، رحمة الله عليه ـ جامع مفيد ومختصر سعيد ، قل أن تسمح بمثله القرائح أو تطمح إلى النسج على منواله المطامح ، بهر مصنفه به الألباب ، وأتى فيه بالعجب العجاب ، وأبرز مخبآت المسائل بيض الوجوه كريمة الأحساب ، أبدع فيه التأليف ، ووشاه بحسن الترصيع والترصيف (٢) ، وجمع فيه متفرقات علم النحو الشريف ؛ فرتب قواعده ، وأحكم معاقده ، وأوضح مراشده ، وسهل مصادره وموارده ، وأودع المعاني العزيزة الألفاظ الوجيزة ، وقرب المقاصد البعيدة بالأقوال السديدة ؛ فهو يساجل المطولات على صغر حجمه ، ويباهل المختصرات ؛ لغزارة علمه (٣) ، ويطلع كالقمر سنا ، ويشرق كالشمس بهجة وضيا ، جزى الله مؤلفه عن صنيعه جزاء موفورا وجعل عمله متقبلا وسعيه مشكورا.

هذا .. ولقد أردفه بشرح (٤) كشف منه المغمّى وجلا المعمّى ، وفتح به مقفل أبوابه ، ويسر لطالبيه (٥) سلوك شعابه ، وضمنه ما يملأ الأسماع والنواظر (٦) ،

__________________

(١) هو ابن مالك المشهور ، والذي قال عنه السيوطي (بغية الوعاة : ١ / ١٣٦) : شهرته واسعة تغني عن التعريف به ، ومن أراد أن يذكره للناس ويعرفهم به كمن أراد أن يذكر لهم الشمس في وضح النهار ، ولد سنة (٦٠٠ ه‍) على الأصح ، وتوفي سنة (٦٧٢ ه‍).

انظر في ترجمته : بغية الوعاة (١ / ١٣٦) ، الأعلام للزركلي (٧ / ١١١) ، وترجمته مفصلة في قسم الدراسة وسيلقيه شارحنا بالمصنف.

(٢) المراد : زينه ونمقه وألفه أحسن تأليف وهو من قولهم : سيف مرصّع بالجواهر أي محلى. وقولهم : تراصفوا في الصف : أي تراصوا ، والرّصف : حجارة مرصوف بعضها إلى بعض (القاموس : رصع ، رصف).

(٣) قوله : يساجل المطولات : أي يباريها ويفاخرها ، وهما يتساجلان : أي يتباريان (القاموس : سجل) وقوله : يباهل المختصرات ، من قولهم : باهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا : تلاعنوا.

(٤) في نسخة دار الكتب (ب) : ولقد قام بشرح ، وهما سواء.

(٥) في نسخة (ب) : ومهد لطالبيه ، وهما سواء أيضا.

(٦) في نسخة (ب) : وضمنه بما يملأ ... إلخ

١٠٨

ولم يسمع مقال القائل : كم ترك الأول للآخر؟ (١). إلا أن القدر لم يساعده على إتمامه وعاقه عن ذلك المقضي من محتوم حمامه ؛ فتركه مختل النظام [١ / ٣] فاقد التمام ، لا يتوصل إلى حل غير الشروح من أصله إلا بعد إعمال فكر ومراجعة كتب ، ولا يظفر بتمثيل ما استغلق منه إلا بعد استفراغ الجهد في الطلب ، إلى أن أتاح الله تعالى إكمال ذلك على يدي إمام زمانه (٢) وعالم أوانه ، وحيد دهره في علم العربية ، وفريد عصره في الفنون الأدبية ، شيخنا أثير الدين أبي حيان : محمد بن يوسف الجيّاني الغرناطي (٣). أمتع الله تعالى بفوائده الجمة ، وأهدى إلى روحه روح الرضا والرحمة ، ففتح مغالقه المعضلة ، وفك تراكيبه المشكلة ، وعمل على تفصيل مبانيه المجملة ، فتم بذلك التكميل الأرب ، وأقبل المشتغلون ينسلون إليه من كل حدب ، ثم اقتضت هممه العلية ومقاصده المرضية أن يضيف إلى ما شرح شرح بقية الكتاب (٤) ؛ ليكون مصنفا مستقلّا وغماما على المتعطشين مستهلّا ؛ فوضع كتابا كبيرا سابغ الذيول جمّ النقول ، غزير الفوائد كثير الأمثلة والشواهد أطال فيه الكلام ونشر الأقسام ، إلا أنه جمع فيه بين الدر والصدف ، ومزج بسنا ضوئه غبش السّدف (٥) ، وتحامل في الرد والمؤاخذات تحاملا بيّنا وبالغ حتى صار المناضلة عن المصنف لازمة والانتصار له متعينا.

ولقد خرج الكتاب المذكور بسبب الإطالة عن مقصود الشرح ، وصار فيه للمتأمل سبيل إلى القدح ، مع أن المعتني بحمل الكتاب لا يحظى منه بطائل

__________________

(١) الاستفهام هنا : مقصود به النفي ، والجملة شطر بيت لأبي تمام سيأتي في خطبة الكتاب.

(٢) أول النسخة (ج) والناقصة من أولها وآخرها ، وهي بدار الكتب تحت رقم : ٣٤٩ نحو ، وهي في خمسة مجلدات.

(٣) هو أبو حيان الشهير والذي يعرفه كل من درس النحو ، صاحب البحر المحيط في التفسير والتذييل والتكميل في النحو الذي اعتمد عليه شارحنا كثيرا ولشهرته في زمانه ، وبعد زمانه ، سيلقبه شارحنا بالشيخ حين يتحدث عنه.

قال فيه الصفدي :

إن مات فالذكر له خالد

يحيا به من قبل أن ينشرا

انظر ترجمته في بغية الوعاة : (١ / ٢٨٠) ، الأعلام : (٨ / ٢٦) وترجمته مفصلة في قسم الدراسة.

(٤) في نسخة (ب) : أن يضيف إلى ما وضعه شرح بقية الكتاب.

(٥) الغبش : محركة ، بقية الليل أو ظلمة آخره ، كالغبش بالضم ، والسدف : الظلمة أو اختلاط الضوء والظلمة معا كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار. (القاموس : غبش ، سدف).

١٠٩

ولا يظفر ببغيته إلا بعد قطع مهامه وطي مراحله.

وأما شرح المصنف : فالناظر فيه لا يرضيه الاقتصار عليه ولا يقنعه ما يجده لديه ؛ بل تتشوف نفسه إلى زيادات الشرح الكبير ، ويرى أنه إن لم يحظ بها علما كان منسوبا إلى التقصير ؛ فرأيت أن أضرب بقدح وأرجو أن يكون القدح المعلّى (١) من القدحين ، وأن أضع على هذا التصنيف ما هو جامع لمقاصد الشرحين وأتوخى الجواب عما يمكن من مؤاخذات الشيخ ومناقشته بالبحوث الصحيحة والنقود الصريحة ، مع ذكر زيادات انفرد بها هذا الكتاب وتنقيحات يرغب فيها المتيقظون من الطلاب ؛ فشرعت في ذلك مستمدّا من الله تعالى أن يوفقني لسبيل الرشاد ، وأن يهديني للتبصر والسداد ، وأن يعينني بتوفيقه على بلوغ الغرض وإكمال المراد. وسميته : تمهيد القواعد (٢) ، راجيا أن المقتصر عليه يستغني به عن مراجعة سواه ويدرك منتهى أمله من هذا العلم وغاية متمنّاه.

وأنا أسأل الواقف عليه أن يصفح عما فيه من الزلل ، وأن ينعم بإصلاح ما يشاهده من خلل ، والله سبحانه وتعالى المرغوب إليه في العصمة من الخطل ، والتوفيق في كلا الأمرين القول والعمل.

وقد كنت شرعت في ذلك والزمان غض ، والشباب غير مبيض (٣) ، فلما عاقت عنه العوائق ، وتقاصر العزم لما نبا الطلبة عن تلك الطرائق ، وشغلتني الخدم (٤) ، وتحقق ما رأيته من قصور الهمم ، أحجمت عن إتمامه من غير فترة (٥) وتركت العمل فيه وإن كانت [١ / ٤] الرغبة في ذلك مستمرة ، إلى أن

__________________

(١) في اللسان (علا) : المعلّى : بفتح اللام : القدح السابع في الميسر وهو أفضلها إذا فاز حاز سبعة أنصباء من الجزور.

(٢) في اللسان (مهد) : تمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها ، فكأنه يقصد بتسميته : تمهيد القواعد ، أي : إصلاح قواعد النحو وتفسيرها للدارسين.

(٣) يقصد أول حياته حين فتوته وشبابه ، والغض من الأشياء : الناضر الطري ، والغضة من النساء : الرقيقة الجلد الظاهرة الدم.

وهو يشير إلى أنه ألف كتابه في زمانين : زمان الشباب وزمان الشيب والأخير كان بعد أن جاوز الستين عاما. انظر ذلك مفصلا في قسم الدراسة.

(٤) الخدم : بكسر الخاء وفتح الدال جمع خدمة وهو ما يقدم الرجل للناس مروءة.

(٥) الفترة : الانكسار والضعف ، وفتر الشيء يفتر فتورا : سكن بعد حدة.

١١٠

منّ الله تعالى على الإسلام والمسلمين بمن أحيا موات العلم في العالمين ، وغمر بصدقاته جميع الطالبين ، واعتنى بأمور العلماء وإن كانوا عن مصالحهم غافلين. ومن أضحى وأزر الدين به قويّ ، وظما الإسلام بملاحظته رويّ (١) ، وزند النجم بآرائه السعيدة وريّ ، ذي المقر الأشرف العالي المولوي السيدي المالكي المخدومي الكاملي الأتابكي ، كافل أمور المسلمين (٢) ، سيد ولاة أمور الدين ، أتابك العساكر المنصورة ، نظام الملك الشريف ، والد الملوك والسلاطين ، ولي أمير المؤمنين : يلبغا العمري الأشرفي (٣).

لا زال عصره فاضلا ، ونصره متواصلا ، وحكمه عادلا ، وبره شاملا ، ولا برحت أموره مقتبلة ممتثلة ، والقلوب بمحبته ومهابته ممتلية ، والنفوس بعوارفه وعواطفه متملية :

١ ـ من شرّد الإعدام عن أوطانه

بالجود حتّى استطرف الإعدام

وتكفّل الأيتام عن آبائهم

حتّى وددنا أنّنا أيتام (٤)

__________________

(١) الظما : بلا همز : ذبول الشفة من العطش ويقصد بما ذكره بعد ذلك انتعاش البلاد وصلاح أحوال الناس وقيامهم بأمور دينهم.

(٢) في نسخة (ب) ، (ج) : المخدومي الكاملي الأتابكي السيفي حامل أمور المسلمين .... إلخ.

(٣) هو يلبغا بن عبد الله الخاصكي الناصري الأمير الكبير المشهور ، أول ما أمره الناصر حسن ، وصار أتابك السلطنة ونائبها سنة (٧٦٢) ، ثم كان يلبغا رأس من قام على أستاذه الناصر حسن ، حتى قتل فتسلطن بعده المنصور محمد ابن حاجي ، ثم خلعه يلبغا ، وجعل في السلطنة السلطان الأشرف شعبان بن حسن ، وصار يلبغا صاحب الأمر والنهي والحل والعقد ، وهو السلطان في الباطن والأشرف بالاسم ، ثم حدث خلاف بينه وبين السلطان شعبان ، حتى تحاربا وانتصر السلطان عليه وأسره ثم أمر بقتله ، فقتله بعض مماليكه. وكان ذلك سنة (٧٦٨ ه‍).

وكان ليلبغا صدقات كثيرة على طلبة العلم ومعروف كثير في بلاد الحجاز ، وقد استكثر من المماليك وأكرمهم وجعلهم أعوانه ، وكان في زمانه غزو الفرنج لبلاد الإسكندرية.

اقرأ ترجمته وأخباره في : الدرر الكامنة (٥ / ٢١٥) ، النجوم الزاهرة (١١ / ١ ، ٧ ، ٤٠) ، الخطط التوفيقية (١ / ١٠٥ ، ١٠٦).

(٤) البيتان من بحر الكامل لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي من قصيدة يمدح فيها الخليفة المأمون ومطلعها :

دمن ألمّ بها فقال سلام

كم حلّ عقدة صبره الإلمام

اللغة : الإعدام : الفقر والحاجة. استطرف الإعدام : عدّه الناس طريفا ؛ لأن الممدوح يغنيهم.

والبيتان غاية في المدح والكرم والإحسان ، ويستشهد بهما هنا لذلك ، وانظر القصيدة بتمامها في ديوان أبي تمام (٢ / ٧٣) طبعة دار الكتاب العربي. وستأتي ترجمة يسيرة له بعد قليل ، في الكلام على خطبة الكتاب.

١١١

فلما أقبل الناس بفضله على الطلب وتأكدت أسباب إقبالهم على هذا الفن بأنواعه ، الذي يبلغ به الآمل منتهى الأمل والأرب. وتجددت به معاهد العلم بعد الدروس ، وتبينت بإحسانه معالم الفضائل وملازمة الدرس والدروس (١). وأصبحت الأمة إلى الطلب يهرعون ، وتباشر بصدقاته العميمة الشاغلون والمشتغلون (٢) ، وعزا كل منهم وليس شأنه بعد طلب الرزق إلا طلب العلم ؛ لأنه قد أغنته هذه الصدقات الجمة فشمر عن الساعد وأرهف العزم ، فعند ذلك بادرت إلى الشروع في إتمام هذا الكتاب رغبة في انتفاع الطلاب ، وجزيل الأجر والثواب ، وأسهرت الجفن في إكماله ، وأيقظت العزم من سنة الكرى ، وإن كان لم يقف في سائر أحواله ، وتوجهت إلى ذلك مستعينا بالله تعالى ؛ فإنه ذو الفضل الجزيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________________

(١) الدروس : الأولى مصدر درس الرسم دروسا : عفا ، ودرسته الريح. والثانية : جمع مفرده درس ويكون للعلم.

(٢) في الأصل : وتباشر بصدقاته المشتغلون. والزيادة من نسخة (ب) ، (ج).

١١٢

الكلام على خطبة الكتاب (١)

(هذا) إنما أشار إلى ما أجمع عليه رأيه ووجه إليه عزمه ؛ لأنه رتب في نفسه أمرا وقصد إيراده على وجه مخصوص ، وكيفية معتبرة فصار مقصوده من ذلك لقوة أسبابه عنده وتمكنه من إبرازه ـ في حكم الوجود الحاضر فعومل في الإشارة إليه معاملته.

وقد تكلم الناس على كلمة (هذا) من قول سيبويه ـ رحمه‌الله «تعالى» (٢) ـ : هذا باب علم ما الكلم من العربيّة (٣). فقيل : استعملها غير مشير بها ؛ ليشير بها عند الحاجة وقيل : أشار إلى شيء وإن لم يكن موجودا ؛ لأنه متوقع قريب ، وقيل : أشار إلى ما في نفسه من مقصود الباب. وذلك حاضر عنده (٤). فقد يقال : هذه الأقوال هنا أيضا ، ولكن الأولى ما أشرنا إليه (٥) ، وإياه قصد صاحب القول الثالث.

وأما ما قيل من أن سيبويه وضع الباب أولا ثم وضع الترجمة ، فلا يتأتى هذا ؛ لقول المصنف في آخر الخطبة : (وها أنا ساع فيما انتدبت إليه) ، فدل على أنه وضعها أولا.

(كتاب) هو مصدر في الأصل فقد يقال : المراد به هنا المكتوب [١ / ٥]

__________________

(١) شرح ناظر الجيش هذه الخطبة المثبتة في التسهيل شرحا عظيما وافيا بالمراد ، بلا اختصار مخل أو تطويل ممل ، لم يثبتها ابن مالك في شرحه على التسهيل وبالتالي لم يشرحها ، وكان الأولى بأبي حيان في شرحه أن يثبتها ويشرحها ، ولكنه لم يفعل.

(٢) كلمة «تعالى» من نسخة (ب) ، (ج).

وسيبويه إمام النحاة بلا مجادل وعلمهم المشهور يعرفه كل من خطا خطوة في طريق النحو ، وهو عمرو بن عثمان أبو بشر الملقب بسيبويه. كتبت فيه كتب كثيرة ، وشرح كتابه شراح كثيرون ، ولد بإحدى قرى شيراز سنة (١٤٨ ه‍) ورحل إلى بغداد والبصرة وكان إمام النحاة البصريين إلا أنه مات شابّا سنة (١٨٠ ه‍). ترجمته مفصلة في كتب التراجم كلها. وانظر : نزهة الألباء (ص ٦٠) ، بغية الوعاة (٢ / ٢٢٩) الأعلام (٥ / ٢٥٢).

(٣) انظر : كتاب سيبويه (١ / ١٢) ، (طبعة هارون) وقد صدّر سيبويه أبواب الكتاب كلها بكلمة : هذا.

(٤) انظر في هذه الآراء الثلاثة شرح كتاب سيبويه للسيرافي (١ / ٤٥) الهيئة المصرية العامة للكتاب تحقيق د / رمضان عبد التواب. وانظر أيضا هامش كتاب سيبويه (١ / ١٢) تحقيق عبد السّلام هارون.

(٥) وهو أن ابن مالك يريد ما في نفسه من مقصود الباب ، وما عقد عليه عزمه من تأليف العلم وتصنيفه.

١١٣

فهو مصدر أريد به المفعول ، والظاهر أن الكتاب اسم لما يصنف ؛ سمي كتابا لجمعه مقاصد العلم الذي صنف فيه.

(في النّحو) هو علم بأصول يتعرف منها أحوال الكلمة العربية ، التي بها يعرف أحكام التكلم إفرادا وتركيبا (١).

وإنما قيل : علم بأصول يتعرف منها ، ولم يقل : علم أحوال الكلم ليدخل فيه العلم بما هو ، كالمقدمات ، كالكلمة والكلم والكلام والإعراب والبناء وأنواعهما وأقسام المعارف والنكرات ، ونحو ذلك ؛ فإن هذه الأمور أصول يتعرف منها الأحوال ، وليست علما بالأحوال أنفسها. وإنما قيل : التي يعرف بها أحكام التكلم ؛ ليخرج علم المعاني وعلم العروض مثلا ؛ فإن الأول : يتعرف منه أحوال الكلم بالنسبة إلى المطابقة لمقتضى الحال وعدم المطابقة ، والثاني : يتعرف منه أحوال الكلم بالنسبة إلى كونها موزونة بأوزان خاصة.

وإنما قيل : إفرادا وتركيبا ؛ ليشمل علمي الإعراب والتصريف (٢).

(جعلته) أي صيرته لأن الأمر (٣) الكلي الذي في نفسه من العلم (٤) قد كان يمكن أن يصيره على غير هذه الصفة ، ويحتمل أن يريد معنى وضعته واخترعته.

(بعون الله) أي إعانته ، والباء فيه إما للاستعانة ، كما في : كتبت بالقلم ، وإما للحال ، أي مستعينا بالله ، والأول أظهر.

(مستوفيا) أي غير تارك شيئا. يقال : استوفى حقه ، إذا أخذه تامّا ، ويقال : توفى حقه أيضا ، فاستفعل فيه بمعنى تفعل كاستكبر وتكبر.

(لأصوله) أصل الشيء ما ينبني عليه ذلك الشيء. فالكتاب المذكور حاو للأصول ، أي للقوانين وهي الأمور الكلية المنطبقة على جزئياتها فالجزئيات إذا مبنية عليها.

__________________

(١) انظر في هذا التعريف : التذييل والتكميل لأبي حيان (١ / ١٤) ، تحقيق د / حسن هنداوي (دار القلم ـ دمشق). وقد نسب أبو حيان هذا التعريف إلى القاسم بن الموفق الأندلسي (٥٧٥ ـ ٦٦١ ه‍).

(٢) كان الأولى أن يقول : علمي التصريف والإعراب ، وهو النحو ؛ ليكون اللف والنشر مرتبا.

(٣) تعليل لتفسير جعل بمعنى صير.

(٤) كلمة : من العلم ساقطة من نسخة (ب).

١١٤

(مستوليا) أي بالغا الغاية في الإحاطة بالمقصود.

(على أبوابه وفصوله) الأبواب : المداخل لغة ، والمراد بها هنا ما تضمنه من أحكام المسائل.

والفصل : هو الحاجز بين شيئين لاختلافهما بوجه ما. وأصله لغة : القطع ، كأنه يفصل ما بعده عما قبله أي يقطعه. والمراد به هنا ما تضمنه من أحكام تفرد عن غيرها لاختلاف ما ، ولو اقتصر على الأبواب لشملت الأحكام أجمع ، فيكون عطف الفصول على الأبواب لهذا الاعتبار من عطف الخاص على العام.

وفي قوله : مستوفيا ، ومستوليا ، وكذا في أصوله ، وفصوله ـ الجناس اللاحق لاتفاق الكلمتين في عدد الحروف والهيئات والترتيب واختلافهما في حرف واحد وليس بين المختلفين تقارب في المخرج (١) إلا أن الاختلاف بين : مستوفيا ، ومستوليا في حرف أوسط ، فهو نظير قوله تعالى : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)(٢) وبين : أصوله وفصوله ، في حرف أول : فهو نظير قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)(٣).

وفي : أصوله وفصوله أيضا ، السجع المتوازي لتواطؤ الفاصلتين على حرف واحد مع اتفاقهما في الوزن فهو نظير قوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [١ / ٦] (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ)(٤).

(فسمّيته لذلك) أي لما اتصف الكتاب بهذه الصفة استحق أن يسمى هذه التسمية فالتسمية بهذا الاسم مسببة عن الاتصاف بهذا الوصف (٥) ، ولذلك أتى

__________________

(١) فإذا كان بينهما تقارب في المخرج كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦] فإنه يسمى الجناس المضارع وسيذكره. وإن اتفقت الكلمتان في كل شيء سمي الجناس التام ، وهو إما مماثل إن اتفقا في النوع كاسمين ، وإما مستو إن كانا في نوعين.

(٢) سورة غافر : ٧٥.

(٣) سورة الهمزة : ١. والجميع يطلق عليه جناس لاحق.

(٤) سورة الغاشية : ١٣ ، ١٤. وإن اختلفت الفاصلتان في الوزن سمي السجع المطرف كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) [نوح : ١٣ ، ١٤].

(٥) كلمات : بهذا الوصف : ساقطة من الأصل وهو تحريف.

١١٥

بالفاء لإشعارها بترتيب الثاني على الأول ، وبقوله (١) : لذلك ، للدلالة على العلّيّة.

(تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد) الأولى أن لا يؤول المصدران باسم فاعل ؛ بل يجريان على ظاهرهما ؛ ليجعل متن الكتاب نفس هذين المعنيين فتحصل المبالغة.

وفي هاتين الفقرتين (٢) السجع المرصّع لتقابل كلماتها وزنا وتقفية فهو نظير قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٣) ، ومنه قول الحريري (٤) :

فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه (٥).

(فهو جدير) يقال : فلان جدير بكذا ، أي : يستحق ذلك استحقاقا لا منازعة فيه ، ومثله : حقيق وخليق ، والفاء في قوله : فهو ، تشعر بالسببية ؛ فيكون جعل تسمية الكتاب بما تقدم ، علة لما ذكر وليس في التسمية مناسبة لذلك.

والذي يظهر أن المصنف كأنه يقول : إنما سميته بذلك ؛ لاشتماله على معنى الاسم المسمى به حقيقة. وإذا كان مشتملا على ذلك كان جديرا بما يذكره.

(بأن يلبّي دعوته الألبّاء) معنى يلبي أي : يجيب دعوته بقوله : لبّيك.

وفي قوله : دعوته : استعارة مكني عنها واستعارة تخييلية ؛ وذلك أنه شبه

__________________

(١) أي : وأتى بقوله ، فهو معطوف على ما قبله ، ومعنى قوله : للدلالة على العلية ، أي : من أجل ذلك.

(٢) في نسخة (ب) : القرينتين ، وهي الفقرتان أيضا.

(٣) سورة الغاشية : ٢٥ ، ٢٦. ولا يشترط في السجع المرصع عدد معين من الكلمات ، كما لا يشترط التساوي بين الفقرتين.

(٤) هو القاسم بن علي بن محمد بن عثمان بن الحريري أبو محمد ، ولد بالبصرة في حدود (٤٤٦ ه‍).

قرأ الأدب والنحو وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة. تولى ديوان الخلافة طوال حياته ، ثم أسند هذا المنصب لأولاده من بعده. وله مصنفات عجيبة في الأدب والنحو ، منها : كتاب المقامات الذي شهر به ، وكتاب : درّة الغوّاص في أوهام الخواصّ ، وكتاب ملحة الإعراب ، وهي قصيدة في النحو ، ثم شرح هذا الكتاب. توفي عن سبعين عاما سنة (٥١٠ ه‍). والتلقيب بالحريري نسبة إلى عمل الحرير أو بيعه. انظر ترجمته في نزهة الألباء (ص ٣٧٩) ، معجم الأدباء (١٦ / ٢٦١) ، الأعلام (٦ / ١٢).

(٥) الفقرتان من المقامة الأولى للحريري (١ / ٥٣) ، وفيها يتحدث عن شخص فيقول : رأيت في بهرة الحلقة شخصا سخت الخلقة عليه أهبة السياحة وله رنة النياحة فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. وقد أحاطت به أخلاق الزمر إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر ؛ فدلفت إليه ؛ لأقتبس من فوائده وألتقط بعض فرائده ... إلخ شرح مقامات الحريري للشريشي (المؤسسة المصرية).

١١٦

الكتاب بالإنسان وأضمر التشبيه في النفس ، فلم يذكر سوى المشبه خاصة ، وهو الضمير المضاف إليه دعوة. وهذا هو الاستعارة المكني عنها ، ودل على أن مراده التشبيه المذكور بإثبات شيء من خصائص المشبه به للمشبه ، وهو الدعوة التي لا تكون إلا للإنسان. وهذا هو الاستعارة التخييلية.

ويجوز أن يجعل ما اشتمل عليه الكتاب : من حسن الاختيار ، وجودة السبك ، وكثرة المسائل ، وتبريزه على غيره من الكتب المختصرة في جذب النفوس إليه ، واستمالة الأهواء نحوه ـ مشبها بدعوة إنسان ذي كمال يدعو الناس إلى الاشتمال عليه ؛ فتكون الاستعارة حينئذ تخييلية ، ثم يكون قوله : يلبي ، ترشيحا لها ؛ لأنه قرنها بما يلائم المستعار منه.

(وتجتنب منابذته النّجباء) الاجتناب : الترك. والنبذ : الإلقاء من اليد ، ومنه المنبوذ للصبي تلقيه أمه في الطريق ، والمنابذة : مفاعلة من : تنابذوا الأمر ، إذا ألقاه كل منهم على الآخر ؛ تنكبا عنه وإعراضا.

والنجابة : الكرم والرشد في الأفعال. والنجيب : البيّن النجابة ، والمعنى : وتترك الرغبة عنه النجباء أي : المتّسمون بسمات الفلاح.

(ويعترف العارفون برشد المغرى بتحصيله) الرشد : ضد الغي ، والمغرى : اسم مفعول من أغري بكذا إذا ألصق به والمراد به هنا العاكف على الشيء الملازم الذي هو كاللاصق بالشيء العكوف عليه. ومثل : ويعترف العارفون ، مما ألحق عند علماء البديع بالجناس ؛ لاشتراك اعترف وعارف ، في الحروف الأصول. ومنه قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ)(١).

(وتأتلف قلوبهم على تقديمه وتفضيله) ، وتأتلف أي : وتجتمع قلوبهم ، وتتفق على أن محصله ذو [١ / ٧] تقدم وفضل.

(فليثق متأمّله ببلوغ أمله) هذا منه ترغيب في الاشتغال بهذا الكتاب ، وتطييب لنفس العاكف عليه ووعد له بحصول مقصوده من هذا العلم ؛ لأن

__________________

(١) سورة الروم : ٤٣.

١١٧

من علم بحصول مقصوده من هذا العلم جد واجتهد وأقبل على ذلك الشيء ، فهذا الكلام يهز السامع ويجذب الراغب في اقتضاء العلم ، ويحثه على الاستمساك بالكتاب المذكور ، وفي طيه مدحه هذا التصنيف والتفخيم لقدره ، ولهذا أردفه بقوله : (وليتلقّ بالقبول ما يرد من قبله).

وأما قوله : (وليكن لحسن الظّنّ آلفا ولدواعي الاستبعاد مخالفا) فكأنه ـ رحمه‌الله تعالى ـ لما وصف كتابه بما وصف ، ووعد متأمله بما وعد ، ملزما له بقبول ما يرد عليه منه ، استشعر من النفوس منازعته في هذه الدعوى ، وأنها لا توافق فيما ذكره ـ بل تستبعد ـ اشتمال الكتاب على هذه الصفات الجلى. وتنكر أن يرتقي رتبة متأخر في العلم إلى هذا الحد ، فقصد العظة والإرشاد لمن يتلجلج ذلك في صدره ، وأمره بالإلف لحسن الظن ، والمخالفة لما تحدث النفس به من استبعاد صدور مثل ذلك من متأخر.

ويجوز أن يكون قوله : (وليكن لحسن الظّنّ آلفا) مقصودا به ما قلناه ، وأن يكون قوله : (ولدواعي الاستبعاد مخالفا) مقصودا به تحريك طالب العلم ، فهو يحذره أن تتقاعس نفسه مستهولا ما يقدم عليه من المصنفات المعتبرة ، فأمره أن يخالف ما عنده من دواعي الاستبعاد ؛ لأنه إذا استبعد أمرا تقاعد عن تعاطيه فيفوته بسبب ذلك شيء كثير ولا يحصل على طائل. ويرجح هذا المعنى قوله بعد : (فقلّما حلي متحلّ بالاستبعاد ـ أي : باستبعاد حصول العلم له ـ إلا بالخيبة والإبعاد) ، لكن قوله بعد ذلك : (وإذا كانت العلوم منحا إلهيّة) إلى آخره ، يرجح المعنى الأول (١) ؛ فينبغي التعويل عليه ؛ ليحصل ارتباط الكلام ويكون كله نسقا وعلى هذا يكون المراد بالاستبعاد في كلامه استبعاد لظان وفاء صاحب الكتاب بما التزمه في كتابه المذكور.

(فقلّما حلي متحلّ بالاستبعاد إلّا بالخيبة والإبعاد) المراد بقلما : النفي ولهذا فرغ العامل معها لما بعد إلا والمعنى : ما حلي متحلّ بالاستبعاد إلا بكذا وكذا.

__________________

(١) وهو أنه يجب على طالب العلم ألا يكسل عن طلبه ظانّا منه أنه ـ وهو متأخر ـ لن يبلغ به المجد والعلا.

١١٨

قال في الصحاح (١) : «حلي بعيني وفي عيني ـ بالكسر ـ يحلى حلاوة إذا أعجب» قال : «وقولهم : لم يحل منه بطائل أي لم يستفد منه كبير فائدة ، ولا يتكلّم به إلّا مع الجحد» انتهى. ولا يظهر واحد من هذين المعنيين هنا ، فإن كان (حلي) يستعمل بمعنى : تحلّى بكذا أي اتصف به ـ فلا إشكال ، وإلا فقد يكون أصل التصنيف ، فقلما تحلّى ثم عرض التغيير للكلمة في الكتابة.

(وإذا كانت العلوم منحا إلهيّة ومواهب اختصاصيّة ، فغير مستبعد أن يدّخر لبعض المتأخّرين ما عسر على كثير من المتقدّمين). العلوم هنا جمع علم مرادا به اسم ذات المعلوم لا المصدر. ولذلك جمعه ، ويدّخر : يفتعل ، من دخر الشيء إذا أحرزه وحفظه. وهذا الكلام كالجواب عما هو كالسؤال المقدر ، وذلك أنه لما ادعى في كتابه دعوى يلزم منها أنه اشتمل [١ / ٨] في هذا الفن على ما لم يشتمل عليه غيره ، والتزم للمقبل عليه بحصول أمله من هذا العلم ، آمرا له أن يتلقى كل ما يرد عليه منه بالقبول. توهم أن قائلا يقول : يبعد أن يفوق متأخر على متقدم ، وأن يأتي بمصنف لم يسبق إليه ، مع عظمة قدر من تقدم من علماء هذه الصناعة.

فرد هذا الوهم بأن المواهب من الله عزوجل والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، لا مانع لما أعطى.

وهذا الكلام وإن كان مطلقا بالنسبة إلى كل ذي موهبة من العلم ، فيه رمز وإشارة إلى أنه ، أعني المصنف ـ رحمه‌الله تعالى ـ من المتأخرين الذين ذخر لهم ذلك. وإنما ترك التصريح بذلك أدبا ؛ لأن الإنسان لا ينبغي له تزكية نفسه.

فإن قيل : إذا كان الإنسان لا ينبغي له ذلك فكيف أشار إليه ولوح به؟

قلت : لإيراده الكلام مورد الاعتراف ؛ فإن الله سبحانه وتعالى تفضل عليه بأن جعله من المختصين بمواهبه المشرفين بمنحه ، بعد إسناد المواهب كلها إلى الله تعالى ، وأنه يختص بها من أراد ، ففي طي كلامه إقرار بنعم الله تعالى عليه واعتراف

__________________

(١) هو كتاب الصحاح للجوهري (توفي سنة ٣٩٨ ه‍) ، معجم كبير من ستة أجزاء ومواده مرتبة على نظام القافية ؛ بل يعد هذا المعجم إمام هذه المدرسة.

وانظر ما اقتبسه الشارح منه مادة حلا : (٦ / ٢٧١٩) طبعة بيروت. وقد حذف الشارح منه شيئا قليلا.

١١٩

بما خصه به منها.

ونظير هذا الرمز والتلويح ما فعله شيخ الإسلام وعلّامة الوقت ، الشيخ : تقيّ الدّين ، عرف بابن دقيق العيد (١) ـ رحمه‌الله تعالى ، ورضي عنه ـ في خطبة شرحة للإلمام (٢) ؛ حيث قال في أثنائها : «والأرض لا تخلو من قائم لله بالحجّة. والأمّة الشّريفة لا بدّ فيها من سالك إلى الحقّ على واضح المحجّة». فالظاهر أنه ما عنى إلا نفسه بالنسبة إلى زمانه الذي هو فيه وإنه لجدير بذلك.

ثم في هذا الكلام من المصنف حث وترغيب في النظر في كلام المتأخرين والاشتغال به ، ونهي عن أن يقتصر المحصل على كلام المتقدمين ويرفض كلام من بعدهم ؛ فإنه قد يعثر في كلام المتأخر على ما لا يعثر عليه في كلام المتقدم ، ولا شك أن للمتقدم فضيلة السبق والاختراع والتدوين ، وللمتأخر فضيلة الجمع والإكثار وتقييد ما لعله أطلق وتفصيل ما لعله أجمل ، مع الاختصار التام وتيسير ما هو على المحصل صعب المرام ، فيتعين الجنوح إلى كلامهم ، والتعريج على مصنفاتهم ؛ فربما فات من لم يشتمل عليها مقصود كبير ، ولهذا قال الجاحظ (٣) ما معناه : «من أضرّ

__________________

(١) هو محمد بن علي بن وهب بن مطيع ، أبو الفتح تقي الدين القشيريّ ، المعروف كأبيه وجده بابن دقيق العيد. قاض مجتهد من أكابر العلماء بالأصول ، أصل أبيه من منفلوط بمصر ، انتقل إلى قوص ، وولد له ابنه محمد. فنشأ بقوص وتعلم بدمشق والإسكندرية والقاهرة ، وولي قضاء الديار المصرية سنة (٦٩٥ ه‍) ، واستمر فيها إلى أن توفي سنة (٧٠٢ ه‍).

من مصنفاته : الإلمام في أحاديث الأحكام ، الإمام في شرح الإلمام ، شرح الأربعين النووية ، شرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه ، وكان مع غزارة علمه ظريفا. له أشعار وملح وأخبار. انظر ترجمته في الأعلام (٧ / ١٧٣).

(٢) كتاب الإلمام في أحاديث الأحكام للشيخ تقي الدين محمد بن علي المعروف بابن دقيق العيد ، جمع فيه متون الأحاديث المتعلقة بالأحكام مجردة عن الأسانيد ثم شرحه وبرع فيه وسمي الشرح بالإمام.

ويقال إن بعض الحسدة أعدمه ؛ لأنه كتاب جليل القدر لو بقي لأغنى الناس عن تطلب كثير من الشروح. وقد شرح الإلمام شراح كثيرون ولخصه بعضهم انظر : (كشف الظنون ١ / ١٥٨). و (لوحة رقم ١٢٢ من كتاب : إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون).

(٣) هو أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ من أهل البصرة. ولد سنة (١٥٠ ه‍) ، كان كثير الاطلاع صابرا عليه. له أساتذة مشهورون كالأصمعي والأخفش. قال عنه عالم : لا أحسد الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس : عمر بن الخطاب وأبو الحسن البصري والجاحظ.

ومصنفاته كثيرة جدّا ، حتى كتبها ياقوت في معجمه في أربع صفحات ومن أشهرها : البيان والتبيين ، ـ

١٢٠