الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]

الإنصاف في مسائل الخلاف بين النّحويين : البصريّين والكوفييّن - ج ١

المؤلف:

كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمّد بن أبي سعيد الأنباري النحوي [ ابن انباري ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-34-275-X
الصفحات: ٣٤٣
الجزء ١ الجزء ٢

١٤

مسألة

[القول في نعم وبئس ، أفعلان هما أم اسمان]؟ (١)

ذهب الكوفيون إلى أن «نعم ، وبئس» اسمان مبتدآن. وذهب البصريون إلى أنهما فعلان ماضيان لا يتصرّفان ، وإليه ذهب علي بن حمزة الكسائي من الكوفيين.

أما الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا : الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الخفض عليهما ؛ فإنه قد جاء عن العرب أنها تقول «ما زيد بنعم الرجل» قال حسّان بن ثابت :

[٥٠] ألست بنعم الجار يؤلف بيته

أخا قلّة أو معدم المال مصرما

______________________________________________________

[٥٠] هذا البيت كما قال المؤلف ـ لحسان بن ثابت الأنصاري ، والجار : أراد به ههنا الذي يستجير به الناس من الفقر والحاجة فينزلون في حماه ويستظلون بظله ويجعلون عليه قضاء حاجاتهم ، ويؤلف بيته ـ ببناء الفعل للمعلوم : أي يجعل المقل يألف بيته ، وذلك ببسط الكف وبذل العرف وبشاشة الوجه ونحو ذلك ، وأخو القلة : الفقير الذي لا يجد كفايته ، والمصرم : أراد به المعدم الذي لا يجد شيئا ، وأصله من الصرم الذي هو القطع ، ومنه قالوا : ناقة صرماء ، وناقة مصرمة ، للتي انقطع لبنها وجف ، وذلك أن يصيب الضرع شيء فيكوى بالنار فلا يخرج منه لبن أبدا. والاستشهاد بالبيت في قوله «بنعم الجار» فإن الكوفيين استندوا إلى ظاهر هذه العبارة فزعموا أن «نعم» اسم بمعنى الممدوح بدليل دخول حرف الجر عليه ، وقد علمنا أن حرف الجر لا يدخل إلا على الأسماء ، وربما استدلوا بقول الراجز :

صبحك الله بخير باكر

بنعم طير وشباب فاخر

والبصريون يقولون : إن نعم وبئس فعلان جامدان ، بدليل دخول تاء التأنيث عليهما ، في

__________________

(١) انظر في هذه المسألة : التصريح للشيخ خالد (٢ / ١١٧ بولاق) وشرح الأشموني (٤ / ١٩٢ وما بعدها بتحقيقنا) وحاشية الصبان (٣ / ٢٣ بولاق) وشرح رضي الدين على الكافية (٢ / ٢٨٩ وما بعدها) وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل (ص ١٠٢٨ أوربة) وأسرار العربية للمؤلف (ص ٤١ ط ليدن) وشرحنا على شرح قطر الندى لابن هشام (ص ٢٧ ط سنة ١٩٥٩) وشرح ابن عقيل على الألفية (٢ / ١٢٧ بتحقيقنا).

٨١

وحكي عن بعض فصحاء العرب أنه قال «نعم السّير على بئس العير» وحكى أبو بكر بن الأنباري عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن سلمة عن الفراء أن أعرابيا بشّر بمولودة فقيل له : نعم المولودة مولودتك! فقال «والله ما هي بنعم المولودة : نصرتها بكاء ، وبرّها سرقة» فأدخلوا عليهما حرف [٤٨] الخفض ، ودخول حرف الخفض يدل على أنهما اسمان ؛ لأنه من خصائص الأسماء.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنهما اسمان أن العرب تقول : «يا نعم المولى ويا نعم النصير» فنداؤهم نعم يدلّ على الاسمية ؛ لأن النداء من خصائص الأسماء ، ولو كان فعلا لما توجّه نحوه النداء. قالوا : ولا يجوز أن يقال : إن المقصود بالنداء محذوف للعلم به ـ والتقدير فيه : يا الله نعم المولى ونعم النصير أنت ـ فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه كما حذف حرف النداء لدلالة المنادى عليه ؛ لأنا نقول : الجواب عن هذا أن المنادى إنما يقدر محذوفا إذا ولي حرف النداء فعل أمر وما جرى مجراه ، كقراءة الكسائي وأبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وأبي عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وحميد الأعرج :

______________________________________________________

نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت» وأنت تقول : بئست المرأة حمالة الحطب ، وبدليل اقتران ضمائر الرفع المتصلة بهما ، تقول : نعما ، ونعموا ، وضمائر الرفع المتصلة لا تقترن بغير الأفعال ، وأما حرف الجر فقد يدخل في اللفظ على الفعل وعلى الحرف أيضا ، لكنه في التقدير داخل على الاسم ، فمثال دخوله على الفعل المتفق على فعليته قول الراجز (انظر الشاهد رقم ٦٤ الآتي) :

والله ما ليلي بنام صاحبه

ولا مخالط الليان جانبه

ومثال دخوله على الحرف قولك «عجبت من أن تلعب» والفريقان متفقان على مجيء مثل ذلك عن العرب ، وهما أيضا متفقان على أن هذا الظاهر غير مرضي ، وأن الباء في قول الراجز «بنام صاحبه» لا بدّ أن تكون داخلة في التقدير على اسم محذوف ، وتقدير الكلام والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه ، فمدخول الباء في البيت جملة تقع مقول قول محذوف ، وهذا القول المحذوف صفة لموصوف محذوف أيضا ، وهذا الموصوف المحذوف هو مدخول الباء عند التحقيق ، فإذا كان هذا تأويل الفريقين في قول الراجز «بنام صاحبه» فليكن هو تأويل قول حسان «بنعم الجار» أي بجار مقول فيه نعم الجار ، وليكن هو تأويل قول الآخر «بنعم طير» إن سلمنا صحة هذه الرواية ، أي بطير مقول فيه نعم طير ، لكن هذه الرواية غير صحيحة ، والرواية الصحيحة «بنعم طير» بضم النون وسكون العين ـ وهي رواية الكسائي ، وإذا كان دخول حرف الجر في ظاهر اللفظ على كلمة لا يدل دلالة قاطعة على كونها اسما ، وكذلك غير حرف الجر من الحروف التي قلنا : إنها من خصائص الأسماء كحروف النداء ، وقد رأينا الاستعمال العربي الذائع يصل تاء التأنيث وضمائر الرفع الساكنة بكلمتي نعم وبئس من غير ضرورة ولا حاجة إلى تأويل ؛ فليكن الصحيح في هذه المسألة هو مذهب البصريين ، فاعرف ذلك.

٨٢

(ألا يا اسجدوا لله) أراد يا هؤلاء اسجدوا ، وكما قال الأخطل :

[٥١] ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر

وإن كان حيّانا عدّى آخر الدّهر

وقال الآخر ، وهو ذو الرّمّة :

[٥٢] ألا يا اسلمي يا دارميّ على البلى

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر

______________________________________________________

[٥١] هذا البيت كما قال المؤلف من كلام الأخطل التغلبي ، واسمه غياث بن الغوث ، وقد أنشده ابن منظور (ع د ى) ونسبه إليه ، وقوله «عدى» أراد به متباعدين لا أرحام بينهم ولا حلف ، وقد روي في بيت الأخطل هذا اللفظ بكسر العين وبضمها ، وأنكر الأصمعي الضم إلا أن تقول «عداة» بالتاء في آخره ، وقوله «آخر الدهر» منصوب على تقدير نزع الخافض ، وأصله إلى آخر الدهر ، فحذف الحرف وأوصل الاسم الذي يشبه الفعل إلى المجرور فنصبه ، والاستشهاد بالبيت في قوله «ألا يا اسلمي» فإن الفريقين الكوفيين والبصريين متفقون على أن «يا» حرف نداء ، وعلى أن حرف النداء مما يختص بالدخول على الاسم ، وقد دخل في هذا البيت على ما هو فعل أمر بالاتفاق ، فوجب أن يكون التقدير دخوله على اسم محذوف ، وكأنه قد قال : ألا يا هند ، اسلمي ، يا هند هند بني بكر ، ونظير ذلك مما لم ينشده المؤلف قول الآخر :

ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد

وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد

وقول الكوفيين «إن هذا خاص بما إذا وقع بعد حرف النداء فعل أمر» غير صحيح فقد دخلت «يا» في اللفظ على أفعال غير فعل الأمر ، وعلى الحرف أيضا ، نحو قول الراجز :

يا ليتني وأنت يا لميس

في بلدة ليس بها أنيس

وقول الآخر :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

وقول الآخر :

يا ليت أنا ضمنا سفينه

حتى يعود الوصل كينونه

وقول الآخر :

يا رب مثلك في النساء غريرة

بيضاء قد متعتها بطلاق

وقد ورد مثل ذلك في أفصح الكلام ، فمن دخول «يا» على فعل الأمر قول الله تعالى : ألا يا اسجدوا لله ومن دخول «يا» على الحرف قوله سبحانه : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) وقوله : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ) وقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) وقوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ).

[٥٢] هذا البيت من كلام ذي الرمة ، واسمه غيلان بن عقبة ، وهو من شواهد الأشموني (رقم ١١) وابن هشام في المغني (رقم ٤٠٢) وفي أوضح المسالك (رقم ٨٢) وابن عقيل (رقم ٦٢) والبلى ـ بكسر الباء مقصورا ـ مصدر بلي الثوب ونحوه يبلى بلاء وبلى ؛ إذا رث وقدم ، ومنهلا : اسم الفاعل من قولك انهل المطر ، أي انسكب وانصب ، والجرعاء : رملة مستوية لا تنبت شيئا ، والقطر : المطر ، والاستشهاد به في قوله «يا اسلمي» حيث دخل

٨٣

وقال الآخر ، وهو المرقّش :

[٥٣] ألا يا اسلمي لا صرم لي اليوم فاطما

ولا أبدا ما دام وصلك دائما

وقال الآخر :

[٥٤] ألا يا اسلمي قبل الفراق ظعينا

تحيّة من أمسى إليك حزينا

وقال الآخر ، وهو الكميت :

[٥٥] ألا يا اسلمي يا ترب أسماء من ترب

ألا يا اسلمي حيّيت عنّي وعن صحبي

______________________________________________________

حرف النداء في اللفظ على الفعل المتفق على فعليته ، ولم يخرجه ذلك عن الفعلية ؛ لأن الكلام على تقدير اسم يدخل يا عليه ، وأصل الكلام : ألا يا دار مية اسلمي دارمي ـ الخ ، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.

[٥٣] هذا البيت كما قال المؤلف للمرقش ، والصرم ـ بالفتح وبالضم أيضا ـ الهجران والقطيعة وبت أواصر المحبة والألفة ، و «فاطما» أراد يا فاطمة ، فحذف حرف النداء ورخم المنادى بحذف التاء ، والاستشهاد به في قوله «ألا يا اسلمي» حيث دخل حرف النداء ـ وهو «يا» ـ في اللفظ على فعل متفق على فعليته ، وقد اتفق الفريقان على أن حرف النداء مما يختص به الاسم. فلزمهم أن يقدروا اسما يكون حرف النداء داخلا عليه ، وأصل الكلام : ألا يا فاطمة اسلمي لا صرم لي ـ الخ ، وهذا مما يؤنس بأن يكون قول حسان بن ثابت «ألست بنعم الجار» الذي استدل به الكوفيون على أن نعم اسم ـ ليس مما يصح التمسك به ؛ لأن الباء داخلة على اسم مقدر ، وأصل الكلام : ألست بجار مقول فيه نعم الجار ، على ما قررناه سابقا.

[٥٤] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وظعين : أراد يا ظعينة ، فحذف حرف النداء ورخم الاسم المنادى بحذف التاء ، وجاء به على لغة من ينتظر الحرف المحذوف فأبقى فتحة النون التي كانت لها قبل الحذف ، وهذه الألف للإطلاق ، والظعينة : المرأة ما دامت في الهودج ، وقد تطلق على المرأة مطلقا ، وتحية : يجوز فيه النصب على أن يكون مفعولا مطلقا عامله محذوف يدل عليه سابق الكلام ، وكأنه قال : أحييك تحية ، ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وكأنه قال : هذه تحية ـ الخ ، والاستشهاد به في قوله «يا اسلمي» حيث اقترن حرف النداء ـ وهو «يا» ـ بكلمة وقع الإجماع على أنها فعل ؛ فدل على أن اقتران حرف النداء في اللفظ بكلمة ما لا يقطع بأنها اسم ، ويكون نظير ذلك أن اقتران حرف الجر بالكلمة لا يدل دلالة قاطعة على أن هذه الكلمة اسم ؛ لجواز أن يكون مدخول حرف الجر محذوفا من اللفظ ، كما أن مدخول حرف النداء في هذا البيت محذوف.

[٥٥] هذا البيت ـ كما قال المؤلف ـ من كلام الكميت بن زيد الأسدي ، والترب ـ بكسر التاء وسكون الراء ـ الذي يساويك في سنك. والاستشهاد بالبيت في قوله «يا اسلمي» والقول فيه كالقول في الأبيات السابقة.

٨٤

وقال الآخر ، وهو العجّاج :

[٥٦] يا دار سلمى يا اسلمي ثمّ اسلمي

بسمسم وعن يمين سمسم

وقال الآخر :

[٥٧] أمسلم يا اسمع يا بن كلّ خليفة

ويا سائس الدّنيا ويا جبل الأرض

[٤٩] أراد «يا هذا اسمع». وقال الآخر :

[٥٨] وقالت : ألا يا اسمع نعظك بخطّة

فقلت : سميعا فأنطقي وأصيبي

______________________________________________________

[٥٦] هذان بيتان من الرجز المشطور للعجاج بن رؤبة ، الراجز المشهور ، وقد أنشدهما ابن منظور (س م م) ونسبهما إليه ، ووقع عنده «بسمسم أو عن يمين سمسم» وسمسم : اسم موضع بعينه ، وقال ابن السكيت : هو رملة معروفة ، وفيها يقول طفيل الغنوي :

أسف على الأفلاج أيمن صوبه

وأيسره يعلو مخارم سمسم

وموطن الاستشهاد قوله «يا اسلمي» حيث اقترن حرف النداء بكلمة اتفق الفريقان على أنها فعل ، فكان مما لا بدّ منه تقدير اسم يقترن به حرف النداء ليصح قولهم : إن حرف النداء مما يختص بالأسماء ، وقد أرشد العجاج نفسه إلى هذا الاسم المقدر ، فأنت تراه قد قال في صدر الشاهد «يا دار سلمى» ثم قال «يا اسلمي» فكأنه قال : يا دار سلمى يا دار سلمى اسلمي ثم اسلمي» والكلام فيه كالكلام فيما مر من الأبيات.

[٥٧] ورد هذا البيت في اللسان (ن ف ض) منسوبا إلى أبي نخيلة ، وقوله «أمسلم» الهمزة فيه لنداء القريب ، ومسلم ـ بفتح الميم الأولى ـ مرخم مسلمة ، وقوله «يا جبل الأرض» أراد به أن الذي يحفظ توازن هذه الأرض من أن ترجف بها الراجفة وتزعزعها أعاصير الاضطرابات ، أخذه من قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ). والاستشهاد بالبيت في قوله «يا اسمع» فإن حرف النداء ـ وهو «يا» ـ قد اقترن في هذه العبارة بكلمة اتفق الطرفان جميعا على أنها فعل ـ وهي قوله «اسمع» ـ والكلام فيه نظير ما قلناه فيما قبله ، ورواية اللسان «أمسلم إني يا ابن ـ الخ» ولا شاهد فيها.

[٥٨] وهذا البيت مما لم نعثر له على نسبة إلى قائل معين ، وقوله «نعظك» مجزوم في جواب الأمر السابق عليه ، وكأنه قال : إن تسمع نعظك ، والخطة ـ بضم الخاء وتشديد الطاء ـ شبه القصة ، وهو أيضا الأمر ، ويقال : سمته خطة سوء ، وقال تأبط شرا :

هما خطتا إما إسار ومنة

وإما دم ، والقتل بالحر أجدر

وقوله «فقلت سميعا» ينتصب على أنه مفعول ثان لفعل محذوف أو على أنه حال حذف عامله ، وتقدير الكلام : وجدتني سميعا ، أو لقيتني سميعا ، ونحو ذلك. والاستشهاد بالبيت في قوله «ألا يا اسمع» والقول فيه كالقول في نظائره من الأبيات السابقة ونحوها. وكلها يدل على أن اقتران علامة من العلامات الدالة على اسمية الكلمة في اللفظ لا يدل دلالة قاطعة على اسميتها في اللفظ وفي التقدير جميعا ، فالاقتران في اللفظ وحده غير كاف في القطع باسمية الكلمة ؛ لجواز أن يكون قد حذف من الكلام شيء يكون هو المقترن بهذه

٨٥

أراد «وقالت يا هذا اسمع» فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه.

وإنما اختصّ هذا التقدير بفعل الأمر دون الخبر لأن المنادى مخاطب ، والمأمور مخاطب ، فحذفوا الأول من المخاطبين اكتفاء بالثاني عنه ، وإذا كان هذا المنادى إنما يقدر محذوفا فيما إذا ولي حرف النداء فعل أمر فلا خلاف أن «نعم المولى» خبر ؛ فيجب أن لا يقدّر المنادى فيه محذوفا ، يدل عليه أن النداء لا يكاد ينفكّ عن الأمر أو ما جرى مجراه من الطلب والنهي ، ولذلك لا يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهي ، ولهذا لما جاء بعده الخبر في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) [الحج : ٧٣] شفعه الأمر في قوله : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) فلما كان النداء لا يكاد ينفكّ عن الأمر وهما جملتا خطاب جاز أن يحذف المنادى من الجملة الأولى ، وليس كذلك «يا نعم المولى ونعم النصير» لأن نعم خبر ؛ فلا يجوز أن يقدّر المنادى فيه محذوفا.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه لا يحسن اقتران الزمان بهما كسائر الأفعال ، ألا ترى أنك لا تقول «نعم الرجل أمس» ولا «نعم الرجل غدا» وكذلك أيضا لا تقول «بئس الرجل أمس» ولا «بئس الرجل غدا» فلما لم يحسن اقتران الزمان بهما علم أنهما ليسا بفعلين.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنهما غير متصرفين ، لأن التصرف من خصائص الأفعال ؛ فلما لم يتصرّفا دل على أنهما ليسا بفعلين.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه قد جاء عن العرب «نعيم الرجل زيد» وليس في أمثلة الأفعال فعيل ألبتة ، فدلّ على أنهما اسمان ، وليسا بفعلين.

وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أنهما فعلان اتصال الضمير المرفوع بهما على حدّ اتصاله بالفعل المتصرف ؛ فإنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا «نعما رجلين ، ونعموا رجالا» وحكى ذلك الكسائي ، وقد رفعا مع ذلك المظهر في نحو «نعم الرجل ، وبئس الغلام» والمضمر في نحو «نعم رجلا زيد ، وبئس غلاما [٥٠] عمرو» فدلّ على أنهما فعلان.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنهما فعلان اتصالهما بتاء التأنيث

______________________________________________________

العلامة ، كما كان اقتران حرف النداء في هذه الشواهد واقتران حرف الجر في بيت حسان غير دليل على اسمية ما دخل عليه حرف النداء وحرف الجر ؛ لأن الكلام على تقدير محذوف ألبتة.

٨٦

الساكنة التي لا يقلبها أحد من العرب في الوقف هاء كما قلبوها في نحو رحمة وسنة وشجرة ، وذلك قولهم «نعمت المرأة ، وبئست الجارية» لأن هذه التاء يختصّ بها الفعل الماضي لا تتعدّاه ، فلا يجوز الحكم باسمية ما اتصلت به.

اعترضوا على هذا بأن قالوا : قولكم «إن هذه التاء يختصّ بها الفعل» ليس بصحيح ؛ لأنها قد اتصلت بالحرف في قولهم «ربّت ، وثمّت ، ولات» في قوله تعالى : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : ٣] قال الشاعر :

[٥٩] ماويّ بل ربّتما غارة

شعواء كاللّذعة بالميسم

______________________________________________________

[٥٩] هذا البيت لضمرة بن ضمرة النهشلي ، ويروى صدره :

* ماوي يا ربتما غارة*

وهو من شواهد ابن عقيل (رقم ٢١٦) وأنشده ابن منظور (ر ب ب). والغارة : الاسم من قولك «أغار القوم» أي أسرعوا السير إلى الحرب ، وقوله «شعواء» يريد متفرقة منتشرة ، و «اللذعة» مأخوذ من قولك «لذعته النار تلذعه» من باب قطع ـ أي أحرقته ، وـ «الميسم» بكسر الميم أوله : اسم الآلة من الوسم ، وبها توسم الإبل ، توضع في النار ثم تمس بها الإبل لتكون علامة على أصحابها ، وكان لكل قبيلة ميسم على هيئة وشكل مخصوص يعلمون بها إبلهم حتى يعرفها الناس ويفسحوا لها المجال لتشرب الماء. وموطن الاستشهاد بهذا البيت هنا قوله «ربتما» حيث اقترنت تاء التأنيث برب ، وقد علم أن تاء التأنيث لا تقترن إلا بالأفعال ، وقد اتفق الفريقان على أن رب ليس فعلا ، فيكون اقتران رب بتاء التأنيث كاقتران حرف النداء بالفعل وبالحرف فيما مضى من الشواهد ، ونظير اقتران تاء التأنيث برب في هذا البيت اقترانها بها في قول الآخر وأنشده ابن منظور :

وربت سائل عني حفي

أعارت عينه أم لم تعارا

وبعض الكوفيين ينشد هذه الأبيات ونحوها لنقض دليل البصريين الذي استدلوا به على أن نعم وبئس فعلان ، فيقولون : أنتم تستدلون على أن نعم وبئس فعلان باقتران كل واحدة من هاتين الكلمتين بتاء التأنيث ، وتزعمون أن تاء التأنيث مختصة بالدخول على الأفعال ، ولكنا لا نسلم أن كل ما تدخل عليه تاء التأنيث يكون فعلا ، بدليل أن هذه التاء قد دخلت على «ثم» وهو حرف عطف بالإجماع ، كما دخلت على «لا» وهو حرف نفي بالإجماع ، ودخلت على «رب» ونحن وأنتم متفقون على أنه ليس فعلا ، فيكون هذا نظير ما نقضتم به مذهبنا حيث قلتم : إن دخول حرف الجر على الكلمة لا يكون دليلا قاطعا على اسمية الكلمة ؛ لأن حرف الجر قد دخل في اللفظ على الفعل وعلى الحرف وإن حرف النداء الذي هو من خصائص الأسماء قد دخل في اللفظ على الفعل المتفق على فعليته وعلى الحرف المتفق على حرفيته ، وإذن فلم يتم دليلكم كما لم يتم دليلنا ، فما المرجح لمذهبكم على مذهبنا؟. وهذا كلام ظاهره صحيح ، ولكنه عند البحث والتحقيق لا ينهض ولا يستقيم ، وبيان ذلك من ثلاثة أوجه : الوجه الأول : أن تاء التأنيث التي تلحق الفعل والتي هي خاصة من خصائصه ساكنة ، تقول : قامت ، وقعدت ، وأقامت ، وسافرت ، فتجد تاء

٨٧

وقال الآخر :

[٦٠] ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة

أعرافهنّ لأيدينا مناديل

فلحاقها بالحرف يبطل ما ادّعيتموه من اختصاص الفعل بها ، وإذا بطل الاختصاص جاز أن تكون نعم وبئس اسمين لحقتهما هذه التاء كما لحقت ربّت وثمّت. هذا على أن نعم وبئس لا تلزمهما التاء بوقوع المؤنث بعدهما كما تلزم الأفعال ، ألا ترى أن قولك «قام المرأة ، وقعد الجارية» لا يجوز في سعة الكلام ،

______________________________________________________

التأنيث اللاحقة لهذه الأفعال ساكنة ، بخلاف تاء التأنيث في ثمت وفي ربت وفي لات ، فإنها متحركة مفتوحة ، فلما اختلفت التاء في هذه الكلمات عن التاء اللاحقة للأفعال دل على أنها ليست هي التاء التي نجعلها خاصة من خصائص الأفعال ، بدليل أننا نقول : إن تاء التأنيث المختصة بالأفعال هي تاء التأنيث الساكنة ، والوجه الثاني : أن تاء التأنيث اللاحقة للأفعال والتي هي خاصة من خصائص الفعل الماضي إنما تلحق الفعل لتدل على أن فاعله مؤنث ؛ فأنت تقول : قامت هند ، وقعدت فاطمة ، وأقامت سلمى ، وسافرت سعدى ، فتأتي بهذه التاء ألبتة مع الفاعل المؤنث للفرق بين الفعل المذكر وفعل المؤنث ؛ لأن بعض الأسماء يشترك في التسمية بها المذكر والمؤنث فلا يكفي ذكر هذه الأسماء من غير تأنيث الفعل للدلالة على أن المراد بها مؤنث ، أما التاء اللاحقة لرب وثم ولا فليست بهذه المنزلة ، بل المراد بها تأنيث اللفظ ، فلتكن التاء التي هي من خصائص الأفعال هي التاء الدالة على تأنيث الفاعل الذي يسند الفعل المقترن بها إليه ، والوجه الثالث : أنا نقول : إن لحاق هذه التاء لهذه الحروف شاذ عن القياس بالإجماع منا ومنكم ، والحكم فيما عدا هذه الكلمات المحفوظة المعروفة باق على أصله لا ينقضه شيء.

[٦٠] هذا البيت من قصيدة مستجادة لعبدة بن الطبيب ، وهو شاعر مخضرم ، وقصيدته التي منها بيت الشاهد هي المفضلية رقم ٢٦ ، والجرد : جمع أجرد أو جرداء ، والأجرد من الخيل : القصير الشعر ، والمسومة : المعلمة ، والأعراف : جمع عرف ـ بالضم ـ وهو الشعر الذي في عنق الفرس ، والمناديل : جمع منديل ، وهو الذي تمسح به يديك من وضر الطعام ونحوه ، يقول : إنهم بعد أن طعموا ركبوا الخيل الجرداء المعلمة ومسحوا أيديهم من آثار الطعام بأعرافها ، والاستشهاد بالبيت في قوله «ثمت» حيث اتصلت تاء التأنيث بثم ، ومن المتفق عليه بين الفريقين أن ثم حرف من حروف العطف ، وقد بينا وجه الاستشهاد بذلك في شرح البيت السابق ، ونظير بيت عبدة هذا في اقتران ثم بتاء التأنيث قول شمر بن عمرو الحنفي ، وهو من شعر الأصمعيات :

ولقد مررت على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت : لا يعنيني

وقول الآخر وأنشده ابن منظور (ب ى ع ـ ث م م) :

* ثمت ينباع انبياع الشجاع*

وقول عمر بن أبي ربيعة (د ٢٥٨ بتحقيقنا) :

اسأليه ثمت استمعي

أينا أحق بالظلم؟

٨٨

بخلاف قولك «نعم المرأة ، وبئس الجارية» فإنه حسن في سعة الكلام؟ فبان الفرق بينهما.

وهذا الاعتراض الذي ذكروه ساقط ، وأما التاء التي اتصلت بربت وثمّت وإن كانت للتأنيث إلا أنها ليست التاء التي في نعمت وبئست ، والدليل على ذلك من وجهين ؛ أحدهما : أن التاء في «نعمت المرأة ، وبئست الجارية» لحقت الفعل لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل ، كما لحقت في قولهم «قامت المرأة» لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل ، والتاء في «ربت ، وثمت» لحقت لتأنيث الحرف ؛ لا لتأنيث شيء آخر ، ألا ترى أنك تقول «ربّت رجل أهنت» كما تقول «ربّت امرأة أكرمت» ولو كانت كالتاء في نعمت وبئست لما جاز أن تثبت مع المذكر كما لا يجوز أن تثبت مع المذكر في قولك «نعمت الرجل ، وبئست الغلام» فلما جاز أن تثبت التاء في ربّت [٥١] مع المذكر دل على الفرق بينهما ، والوجه الآخر : أن التاء اللاحقة للفعل تكون ساكنة ، وهذه التاء التي تلحق هذين الحرفين تكون متحركة ، فبان الفرق بينهما ، وأما «لات» فلا نسلم أن التاء مزيدة فيها ، بل هي كلمة على حيالها ، وإن سلمنا أن التاء مزيدة فيها فالجواب من أربعة أوجه : وجهان ذكرناهما في ربت وثمت ، ووجهان نذكرهما الآن ؛ أحدهما : أن الكسائي كان يقف عليها بالهاء ؛ فاحتجّ بأنه سأل أبا فقعس الأسديّ عنها فقال : «ولاه» فإذا لا تكون بمنزلة التاء في ربّت وثمت ، ولا بمنزلة التاء في نعمت وبئست ، والوجه الثاني : أن تكون التاء في (لاتَ حِينَ) متصلة بحين ، لا بلا ، كذلك ذكره أبو عبيد القاسم بن سلّام ، وحكى أنهم يزيدون التاء على حين وأوان والآن ؛ فيقولون : «فعلت هذا تحين كذا ، وتأوان كذا ، وتألآن» أي : حين كذا ، وأوان كذا ، والآن. وقال الشاعر وهو أبو وجزة السعدي :

[٦١] العاطفون تحين ما من عاطف

والمطعمون زمان أين المطعم

______________________________________________________

[٦١] هذا البيت لأبي وجزة كما قال المؤلف ، وقد أنشده ابن منظور (ح ى ن) عن ابن سيده وعن الجوهري ، ونسبه في المرتين لأبي وجزة ، وقد لفق كل واحد من هؤلاء الأئمة البيت من بيتين ، وصواب الإنشاد هكذا :

العاطفون تحين ما من عاطف

والمسبغون يدا إذا ما أنعموا

والمانعون من الهضيمة جارهم

والحاملون إذا العشيرة تغرم

واللاحقون جفانهم قمع الذرى

والمطعمون زمان أين المطعم

والاستشهاد بالبيت في قوله «العاطفون تحين» وللعلماء في هذه العبارة رأيان : أحدهما : وهو الذي ذكره المؤلف ههنا ـ أن هذه التاء زائدة في أول كلمة «حين» وأصل هذا الرأي لأبي زيد ، زعم أنه سمع من بعض العرب زيادة التاء في أوائل بعض الظروف مثل الحين

٨٩

وقال أبو زبيد الطّائي :

[٦٢] طلبوا صلحنا ولا تأوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء

______________________________________________________

والآن ، قال أبو زيد «سمعت من يقول : حسبك تلان ، يريد الآن ، فزاد التاء» اه. والرأي الثاني : أن هذه التاء زائدة في قوله «العاطفون» وأصلها هاء الوقف ، ثم أجرى الكلمة في حال الوصل مجراها في حال الوقف ، ثم قلب الهاء تاء مبسوطة ، وعلى ذلك ينبغي أن تكتب «العاطفونت حين ـ الخ» وقد ذكر هذا الرأي ابن سيده بعد أن ذكر الرأي الأول عن أبي زيد ، قال : «وقيل : أراد العاطفونه ، فأجراه في الوصل على حد ما يكون عليه في الوقف ، وذلك أنه يقال في الوقف : هؤلاء مسلمونه ، وضاربونه ، فتلحق الهاء لبيان حركة النون كما أنشدوا :

أهكذا يا طيب تفعلونه

أعللا ونحن منهلونه

فصار التقدير : العاطفونه ، ثم إنه شبه هاء الوقف بهاء التأنيث ، فلما احتاج لإقامة الوزن إلى حركة الهاء قلبها تاء ، كما تقول : هذا طلحة ، فإذا وصلت صارت الهاء تاء فقلت : هذا طلحتنا ، فعلى هذا قال : العاطفونة ، وفتحت التاء كما فتحت في آخر ربت وثمت وذيت وكيت» اه. وقال ابن بري في بيت أبي وجزة : «هذه الهاء هي هاء السكت اضطر إلى تحركها ، قال : ومثله :

هم القائلون الخير والآمرونه

إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما» اه

ونريد أن نبين لك أن هذه الهاء في قول أبي وجزة «العاطفونه» وفي تمثيل ابن سيده بقوله «هؤلاء مسلمونه» و «ضاربونه» ليست هاء ضمير الغائب على ما قد يتسرب إلى ذهنك ، وذلك أن هذه الهاءات لو كانت ضمائر لكان الاسم مضافا إليها ، فكان يجب أن تحذف النون التي تلي علامة الإعراب وهي الواو في كل هذه الأمثلة ، لما تعرف من أنه يحذف للإضافة تنوين الاسم المفرد ونون المثنى وجمع المذكر السالم ، فتنبه لهذا ، على أن من هذه الأمثلة ما لا يتعدى بنفسه مثل «الآمرونه» في البيت الذي أنشده ابن بري ، وإنما يتعدى بالباء إلى المأمور به ، فتقول : أمرته بكذا ، ولا تقول : أمرته كذا ، إلا على التوسع كما جاء في قول الشاعر :

أمرتك الخير ، فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

[٦٢] هذا البيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي ، كما قال المؤلف ، وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ٤١٦) وشواهد الأشموني (رقم ٢٢٩) والاستشهاد بهذا البيت في قوله «ولات أوان» وفي هذه التاء رأيان للنحاة ؛ أحدهما : أنها مزيدة على لا النافية ، وأنها نظير التاء في ربت وثمت ، وقد مضى بيان ذلك ، والرأي الثاني : أن هذه التاء مزيدة في أول كلمة «أوان» كما زيدت في أول الآن فقيل : تالآن ، وقيل : تلان ، على ما رواه أبو زيد ، وقد ذكرنا ذلك في شرح الشاهد السابق (رقم ٦١) وهذا هو الوجه الذي روى المؤلف البيت في هذا الموضع لتقريره. ثم إن في جر «أوان» أربعة آراء للعلماء ، الأول : أن «لات» في هذا ونحوه عاملة الجر ، وكلمة «أوان» مجرورة بالكسرة الظاهرة ، وتنوينها تنوين التمكين الذي يلحق الأسماء المعربة ، وهذا رأي الفراء ، ولا يجري إلا على أن التاء متصلة بلا ، والرأي الثاني : أن

٩٠

وقال الآخر :

[٦٣] نوّلي قبل يوم نأيي جمانا

وصلينا كما زعمت تلانا

واحتجّ بحديث ابن عمر حين ذكر لرجل مناقب عثمان فقال له «اذهب بها تالآن إلى أصحابك» واحتجّ بأنه وجدها مكتوبة في المصحف الذي يقال له الإمام (تحين) فدلّ على ما قلناه.

وقولهم «إن التاء لا تلزم نعم وبئس إذا وقع المؤنث بعدهما» فليس بصحيح ، لأن التاء تلزمهما في لغة شطر العرب ، كما تلزم في قام ، ولا فرق عندهم بين «نعمت المرأة» ، و «قامت المرأة» وإنما جاز عند الذين قالوا «نعم المرأة» ولم يجز عندهم «قام المرأة» لأن المرأة في قولهم «نعم المرأة هند» واقعة على الجنس كقولهم «الرجل أفضل من المرأة» أي جنس الرجال أفضل من جنس النساء ، وكقولهم «أهلك الناس الدينار والدرهم» أي [٥٢] الدراهم والدنانير ، وكوقوع الإنسان على الناس ، قال الله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] أراد الناس ، وإذا كان المراد بالمرأة استغراق الجنس فلا خلاف أن أسماء الأجناس والجموع يجوز تذكير أفعالها وتأنيثها ؛ فلهذا المعنى حذف تاء التأنيث من حذفها من «نعم المرأة» وإذا كانوا قد حذفوها في حال السعة من فعل المؤنث الحقيقي من قولهم «حضر القاضي اليوم امرأة» فلا يبعد أن يحذفوها من فعل المؤنث الواقع

______________________________________________________

«لات» ههنا حرف نفي يعمل عمل إن ويدل على نفي الجنس ، و «أوان» في هذا البيت مبني لا معرب ، وبناؤه على السكون الذي هو الأصل في المبنيات ، ولكنه لما اجتمع ساكنان : سكون البناء ، وسكون الألف السابقة ، كسر آخره على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين ، ثم نون للضرورة ، والرأي الثالث : أن «لات» حرف نفي ، و «أوان» مبني على الكسر تشبيها له بنزال ونحوه لأنه على وزنه ، وتنوينه للضرورة أيضا ، وهذان الرأيان يجريان على أن التاء مزيدة على «لات» ويجريان أيضا على أن التاء مزيدة على أوان ، وعليه يكون العامل هو «لا» النافية للجنس ، والرأي الرابع : أن تكون «لا» نافية ، والتاء مزيدة على «أوان» وتأوان : مجرور بحرف جر محذوف ، وحرف الجر هو من الاستغراقية ، وكأنه قال : لا من أوان صلح لهم ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.

[٦٣] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين. وقد أنشده ابن منظور (ح ى ن) ولم يعزه لقائل معين ، و «نولي» أصل معناه أعطي وامنحي ، وأراد هنا صليني وكفي عن الهجر ، وما يؤدي هذا المعنى ، والنأي : البعد والفراق ، و «جمانا» اسم امرأة ، وهو منادى بحرف نداء محذوف ، وأصله «جمانة» فرخمه الشاعر بحذف التاء ، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله «تلانا» حيث زاد على «الآن» تاء في أوله وفي حديث ابن عمر «اذهب بها تالآن معك» قال أبو زيد : سمعت من يقول «حسبك تلان» يريد الآن ، فزاد التاء ، وقال ابن سيده في بيت الشاهد : أراد الآن ، فزاد التاء ، وألقى حركة الهمزة على ما قبلها. اه.

٩١

على الجنس. وقد قالوا «ما قعد إلا المرأة ، وما قام إلا الجارية» فحذفوا تاء التأنيث ألبتة ، ولم تأت مثبتة إلا في ضرورة.

فإن قالوا : إنما حذفت تاء التأنيث هاهنا تنبيها على المعنى ؛ لأن التقدير : ما قعد أحد إلا المرأة ، وما قام أحد إلا الجارية.

قلنا : هذا مسلّم ، ولكن اللفظ يدل على أن المرأة والجارية غير بدل من أحد ، وإن كان المعنى يدلّ على أنهما بدل ، كما أن اللفظ يدل على أن «شحما» في قولك «تفقّأ الكبش شحما» غير فاعل ، وإن كان المعنى يدلّ على أنه فاعل ، فكما أنهم حذفوا تاء التأنيث من قولهم «ما قعد إلا المرأة» تنبيها على المعنى فكذلك حذفوها من قولهم «نعم المرأة» تنبيها على أن الاسم يراد به الجنس.

ومنهم من تمسّك بأن قال : الدليل على أنهما فعلان ماضيان أنهما مبنيان على الفتح ، ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه ؛ إذ لا علة هاهنا توجب بناءهما. وهذا تمسّك باستصحاب الحال ، وهو من أضعف الأدلة ، والمعتمد عليه ما قدمناه.

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين : أما قولهم «الدليل على أنهما اسمان دخول حرف الجر عليهما في قوله :

* ألست بنعم الجار يؤلف بيته* [٥٠]

وقول بعض العرب : نعم السير على بئس العير ، وقول الآخر : والله ما هي بنعم المولودة» فنقول : دخول حرف الجر عليهما ليس لهم فيه حجة ؛ لأن الحكاية فيه مقدّرة ، وحرف الجر يدخل مع تقدير الحكاية على ما لا شبهة في فعليته ، قال الراجز :

[٦٤] والله ما ليلي بنام صاحبه

ولا مخالط اللّيان جانبه

______________________________________________________

[٦٤] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين ، وقد أنشده ابن منظور (ن وم) ولم يعزه ، وهو من شواهد الأشموني في باب نعم وبئس (رقم ٧٤٤) وابن هشام في شرح قطر الندى (رقم ٨) والرضي في باب أفعال المدح ، وانظر الخزانة (٤ / ١٠٦) ويروى صدره :

* والله ما زيد بنام صاحبه*

والليان ـ بفتح اللام والياء جميعا ـ أحد مصادر «لان» تقول : لان فلان يلين لينا وليانا ؛ إذا سهل. ومحل الاستشهاد بالبيت قوله «بنام» حيث دخل حرف الجر ـ وهو الباء ـ على الفعل ، في اللفظ ، وقد علم أن حرف الجر مختص بالدخول على الأسماء فلزم تقدير اسم يكون معمولا لحرف الجر ، وتقدير الكلام : ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه ، وقد روى البصريون هذا البيت لإبطال حجة الكوفيين القائلين إن نعم وبئس اسمان بدليل دخول

٩٢

[٥٣] ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يحكم لنام بالاسمية ؛ لدخول الباء عليه ، وإذا لم يجز أن يحكم له بالأسمية لتقدير الحكاية فكذلك هاهنا لا يجوز أن يحكم لنعم وبئس بالاسمية لدخول حرف الجر عليهما لتقدير الحكاية ، والتقدير في قولك :

* ألست بنعم الجار يؤلف بيته* [٥٠]

ألست بجار مقول فيه نعم الجار ، وكذلك التقدير في قول بعض العرب «نعم السير على بئس العير» [نعم السير على عير مقول فيه بئس العير] وكذلك التقدير في قول الآخر «والله ما هي بنعم المولودة» والله ما هي بمولودة مقول فيها نعم المولودة ، وكذلك أيضا التقدير في البيت الذي ذكرناه «والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه» إلا أنهم حذفوا منها الموصوف وأقاموا الصفة مقامه. كقوله تعالى : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) [سبأ : ١١] أي دروعا سابغات ، وكقوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة : ٥] أي الملّة القيمة ؛ فصار التقدير فيها ألست بمقول فيه نعم الجار ، ونعم السير على مقول فيه بئس العير ، وما هي بمقول فيها نعم المولودة ، وما ليلي بمقول فيه نام صاحبه ، ثم حذفوا الصفة التي هي «مقول» وأقاموا المحكيّ بها مقامها ؛ لأن القول يحذف كثيرا كما يذكر كثيرا ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] أي

______________________________________________________

حرف الجر عليهما ، ووجه الإبطال أنه لا يلزم من دخول حرف الجر في اللفظ على كلمة ما أن تكون هذه الكلمة اسما ؛ لأن حرف الجر قد يدخل في اللفظ على كلمة قد اتفقنا على أنها فعل مثل نام في هذا البيت. وهذا الذي ذكرناه وذكره مؤلف الكتاب في هذا البيت أحد رأيين للعلماء في هذا الشاهد ، والرأي الآخر حكاه ابن منظور ، وخلاصته أن «نام» ليس فعلا باقيا على فعليته ، ولكنه صار مع ما بعده علما ، فهو من باب الأعلام المحكية عن الجمل ، وأنت خبير أن الأعلام المحكية عن الجمل تدخل عليها عوامل الأسماء ، ويجوز أن تضاف إليها الأسماء كما قال الشاعر :

كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصر وتحلب

فقول الشاعر هنا «نام صاحبه» مثل قول الشاعر «شاب قرناها» وهذا التخريج إنما ذهب إليه من روى في بيت الشاهد :

* والله ما زيد بنام صاحبه*

فكأنه قال : ما زيد بهذا الرجل المسمى نام صاحبه ، إلا أن قوله بعد ذلك «ولا مخالط الليان» لا يلتئم مع الكلام السابق ، على هذا التخريج ، فإنه يسأل : على م يعطف قوله «ولا مخالط الليان»؟ فإنه لا يجوز حينئذ أن يعطف على «نام صاحبه» لكونه في هذا الحالة ليس صفة ، إلا إذا لحظت معناه الأول قبل أن يصير علما ، ولهذا استبعد جماعة من العلماء أن يكون «نام صاحبه» في هذا البيت علما.

٩٣

يقولون : ما نعبدهم ، وقال تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] أي : يقولون ربّنا ، وقال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] أي يقولون : سلام عليكم ، وقال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة : ١٢٧] أي يقولون : ربنا ؛ وقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] أي يقال لهم : أكفرتم ، وقال تعالى : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) [الواقعة : ٦٥ ، ٦٦] أي تقولون : إنا لمغرمون.

وهذا في كلام الله تعالى وكلام العرب كثير جدا ، فلما كثر حذفه كثرة ذكره حذفوا الصّفة التي هي مقول ؛ فدخل حرف الجر على الفعل لفظا وإن كان داخلا على غيره تقديرا ، كما دخلت الإضافة على الفعل لفظا وإن كانت [٥٤] داخلة على غيره تقديرا في قوله :

[٦٥] ما لك عندي غير سهم وحجر ،

وغير كبداء شديدة الوتر

* جادت بكفّي كان من أرمى البشر*

أي : بكفّي رجل كان من أرمى البشر ، فحذف الموصوف الذي هو «رجل» وأقام الجملة مقامه ، فوقعت الإضافة إلى الفعل لفظا وإن كانت داخلة على غيره تقديرا ، فكذلك هاهنا : دخل حرف الجر على الفعل لفظا ، وإن كان داخلا على غيره تقديرا.

______________________________________________________

[٦٥] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين ، وهو من شواهد مغني اللبيب (رقم ٢٦٦) والأشموني (رقم ٧٩١ بتحقيقنا) وشواهد الرضي ، وقال البغدادي (٢ / ٣١٢) «لم يعرف له قائل» والسهم : واحد السهام ، وهي النبال ، وهو أيضا حجر يوضع فوق باب بيت يبنى لاصطياد الأسد فإذا دخل الأسد هذا البيت وقع الحجر فسد الباب عليه ، والكبداء ـ بفتح فسكون ـ القوس إذا كانت واسعة المقبض ، والوتر : مجرى السهم من القوس ، والضمير المستتر في «ترمي» راجع على الكبداء التي هي القوس ، وأرمى البشر : أشدهم رميا وأكثرهم إصابة للهدف ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بكفي كان من أرمى البشر» حيث حذف الموصوف وأبقى صفته ، وأصل الكلام : بكفي رجل كان من أرمى البشر» أما الموصف فهو «رجل» الذي يضاف قوله «بكفي» إليه ، وأما الصفة فهي جملة «كان من أرمى البشر» ويجوز لك أن تعتبر «كان» زائدة لا تعمل شيئا ؛ لوقوعها بين شيئين متلازمين ليسا جارا ومجرورا وهما النعت ومنعوته ، وعلى هذا يكون قوله «من أرمى البشر» جارا ومجرورا متعلقا بمحذوف نعت للمنعوت المحذوف.

٩٤

ونحو هذا من الاتّساع مجيء الجملة الاستفهامية وصفا في نحو قوله :

[٦٦]* جاءوا بضيح هل رأيت الذّئب قطّ*

فقوله «هل رأيت الذّئب قط» جملة استفهامية في موضع وصف لضيح ، وإن كانت لا تحتمل صدقا ولا كذبا ، ولكنه كأنه قال : جاءوا بضيح يقول من رآه هل رأيت الذئب قطّ ، فإنه يشبهه.

ونحو ذلك أيضا من الاتساع مجيء الجملة الأمرية حالا في قوله :

[٦٧] بئس مقام الشّيخ أمرس أمرس

إمّا على قعو ، وإمّا اقعنسس

______________________________________________________

[٦٦] ينسب بعض الناس هذا الرجز إلى العجاج بن رؤبة الراجز المشهور ، ولكن الأكثرين على أنه لراجز لا يعلم ، وكان قد نزل بقوم وانتظر طويلا عساهم أن يجيئوه بقراه ، ثم جاءوه بلبن مشوب بكثير من الماء ، فقال فيهم :

بتنا بحسّان ومعزاه تئط

تلحس أذنيه ، وحينا تمتخط

ما زلت أسعى بينهم وألتبط

حتى إذا جن الظلام واختلط

* جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط*

وقد أنشده ابن منظور (ض ى ح) ولم يعزه إلى معين ، والبيت من شواهد الأشموني (رقم ٨٧٤) وابن عقيل (رقم ٢٨٧) وأوضح المسالك (رقم ٢٩٤) ومغني اللبيب (رقم ٤٠٨) والرضي في باب المبتدأ والخبر وفي باب النعت ، وشرحه البغدادي (١ / ٢٧٥). وحسان : جعله البغدادي اسم رجل ، وقيل : هو موضع بين دير العاقول وواسط ، والصواب ما قاله البغدادي ؛ لقوله فيما بعد «تلحس أذنيه» وتئط : تصوّت ، وجن الظلام : ستر كل شيء ، والمذق : اللبن إذا كثر خلطه بالماء ، ويروى «بضيح» وهي الرواية التي حكاها المؤلف ، والضيح ـ بفتح الضاد وسكون الياء ـ هو اللبن الرقيق الذي خلط كثيرا بالماء ، ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله «بضيح هل رأيت ـ الخ» فإن ظاهر هذه العبارة يفيد أن الجملة الإنشائية ـ وهي جملة الاستفهام التي هي قوله «هل رأيت الذئب قط» ـ قد وقعت نعتا للنكرة التي هي قوله «مذق» أو «ضيح» ولما كان العلماء جميعا متفقين على أن الجملة الإنشائية لا يجوز أن تقع نعتا للنكرة فإنهم اتفقوا جميعا على أن هذا الظاهر في هذا البيت ونحوه غير مراد ، ومن أجل ذلك اتفقوا على أن جملة الاستفهام معمولة لعامل مقدر هو الذي يقع نعتا لهذه النكرة ، وأصل الكلام : جاءوا بضيح مقول عند رؤيته هل رأيت الذئب قط.

[٦٧] أنشد ابن منظور هذين البيتين (ق ع س ـ م ر س) ولم يعزهما إلى معين والمقام : اسم مكان الإقامة ، و «أمرس» فعل أمر أصله المرس ، والمرس : مصدر «مرس الحبل يمرس مرسا» وهو أن يقع الحبل في أحد جانبي البكرة بين الخطاف والبكرة ، وتقول «أمرس الحبل يمرسه ، مثل أكرمه يكرمه» إذا أعاده إلى موضعه وتأمر من ذلك فتقول «أمرس حبلك ، على مثال أكرم ضيفك» أي أعده إلى مجراه ، والقعو ـ بفتح القاف وسكون العين

٩٥

أراد بئس مقام الشيخ مقولا فيه أمرس ، أمرس ، ذمّ مقاما يقال له ذلك فيه ، و «أمرس» أعد الحبل إلى موضعه من البكرة.

وإنما جاءت هذه الأشياء في غير أماكنها لسعة اللغة ؛ وحسّن ذلك ما ذكرناه من إضمار القول ؛ فدلّ على أن ما تمسّكوا به من دخول حرف الجر عليهما ليس بحجة يستند إليها ، ولا يعتمد عليها.

وأما قولهم «إن العرب تقول : يا نعم المولى ويا نعم النصير» فنقول : المقصود بالنداء محذوف للعلم به ، والتقدير فيه : يا الله نعم المولى ونعم النصير أنت.

وأما قولهم : «إن المنادى إنما يقدر محذوفا إذا ولي حرف النداء فعل أمر» فليس بصحيح ؛ لأنه لا فرق بين الفعل الأمريّ والخبريّ في امتناع مجيء كل واحد منهما بعد حرف النداء ، إلا أن يقدّر بينهما اسم يتوجه النداء إليه ، والذي يدلّ على أنه لا فرق بينهما مجيء الجملة الخبرية بعد حرف النداء بتقدير حذف المنادى كما

______________________________________________________

المهملة ـ هو أحد خشبتين يكتنفان البكرة وفيهما المحور ، وهما قعوان ، وقيل : القعوان الحديدتان اللتان تجري البكرة بينهما ، وقال الأصمعي : إذا كان ما تجري البكرة وتدور فيه من حديد فهو خطاف ، وإن كان من خشب فهو القعو ، واقعنسس : تأخر وارجع إلى خلف ، ومعنى قوله «إما على قعو وإما اقعنسس» قال ابن منظور : إن استقى المستقي ببكرة فوق حبلها في غير موضعه قيل له : أمرس ، أي أعد حبلك إلى موضعه ، وإن كان يستقي بغير البكرة ومتح حتى أوجعه ظهره فيقال له : اقعنسس واجذب الدلو ، والاستشهاد بالبيت في قوله «بئس مقام الشيخ أمرس أمرس» فإن قوله «أمرس» جملة إنشائية لكونها مؤلفة من فعل أمر وفاعله وهو الضمير المستتر فيه وجوبا ، وقد وقعت هذه الجملة حالا في ظاهر الأمر ، ولما كان العلماء لا يجيزون مجيء الجملة الإنشائية حالا ، إلا من لا يعتد بقوله ، فقد جعلوا هذه الجملة معمولة لعامل محذوف هو الذي يقع حالا ، وتقدير الكلام : بئس مقام الشيخ مقولا فيه : أمرس أمرس ، وصاحب الحال هو قوله «الشيخ» المضاف إليه ، وفي كلام ابن منظور ما يفيد أن هذه الجملة الإنشائية معمولة لعامل محذوف يقع نعتا لمخصوص بالذم ، وكأنه قال : بئس مقام الشيخ مقام مقول له فيه أمرس أمرس ، وهو كلام مستقيم ؛ فإن مجيء بئس وقائلها في أول الكلام يرشح لمجيء المخصوص بالذم ؛ لأنه هو الذي جرت عادتهم في هذا الأسلوب أن يأتوا به ، ولو قلت : إن هذه الجملة معمولة لقول محذوف يقع تمييزا ، وإن التقدير : بئس مقام الشيخ مقاما مقولا فيه أمرس أمرس ، لم تكن قد أبعدت ، والاستشهاد على أية هذه الأحوال الثلاثة جار مؤد للغرض الذي يريده المؤلف ، فإنه يقصد إلى أن يقول : إن من سنن العرب في كلامهم أن يحذفوا الكلمة من الكلام ـ وخاصة ما كان من مادة القول ـ وهم يريدونها ، وإن ذلك واقع في أساليب كثيرة من أساليبهم.

٩٦

تجيء الجملة الأمرية بعد حرف النداء [٥٥] بتقدير حذف المنادى ، قال الشاعر :

[٦٨] يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصّالحين على سمعان من جار

أراد : يا هؤلاء لعنة الله على سمعان ، وقال الآخر :

[٦٩] يا لعنة الله على أهل الرّقم

أهل الحمير والوقير والخزم

وقال الآخر :

[٧٠] يا لعن الله بني السّعلات

عمرو بن ميمون شرار النّات

______________________________________________________

[٦٨] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب (رقم ٦٢٠) وهو من شواهد سيبويه (١ / ٣٢٠) وابن يعيش (ص ١١٧٣). والاستشهاد به في قوله «يا لعنة الله» فقد وقع بعد حرف النداء جملة مؤلفة من مبتدأ هو قوله «لعنة الله» وخبر وهو الجار والمجرور الذي هو قوله «على سمعان» وذلك مبني على أن الرواية برفع «لعنة الله» فلو رويته بنصب اللعنة كان الكلام على تقدير عامل يعمل النصب وعلى تقدير المنادى بيا أيضا ، وتقدير الكلام على هذا : يا هؤلاء أستدعي لعنة الله ، ويكون الجار والمجرور متعلقا باللعنة ، وهذا أحد تخريجات ثلاثة في البيت ، والتخريج الثاني : أن تعتبر «يا» لمجرد التنبيه ، والثالث : ولا يتم إلا على رواية النصب ـ أن تكون اللعنة نفسها هي المنادى ، وكأنه قال : يا لعنة الله انصبي على سمعان ، كما نودي الأسف في قوله تعالى : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وكما نوديت الحسرة في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) وفي قوله سبحانه (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

[٦٩] هذا البيت لابن دارة ، واسمه سالم بن مسافع ، ودارة أمه ، وقد أنشده ابن منظور (خ ز م) ونسبه إليه. والرقم ـ بفتح الراء والقاف جميعا ـ جمع رقمة ، والرقمة : نبات يقال إنه الخبازي ، وقيل : الرقمة من العشب العظام تنبت متسطحة وهي من أول العشب خروجا ، تنبت في السهل ، ولا يكاد المرء يأكلها إلا من حاجة ، والحمير : جمع حمار ، وهو معروف ، والوقير : صغار الشاء ، وقال أبو النجم :

* نبح كلاب الشاء عن وقيرها*

والخزم ـ بضم الخاء والزاي جميعا ـ جمع خزومة ، وهي البقرة ، والاستشهاد به في قوله «يا لعنة الله» وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.

[٧٠] هذان بيتان من الرجز المشطور ، وهما لعلباء بن أرقم اليشكري أحد شعراء الجاهلية ، وهما من شواهد شرح الرضي على شافية ابن الحاجب (رقم ٢٢٣) وشرح المفصل لموفق الدين ابن يعيش (ص ١٣٨٠ أوربة) وقد أنشدهما مع ثالث ابن منظور تبعا للجوهري (ن وت ـ س ى ن) ونسبهما في المرتين لعلباء بن أرقم ، والرواية عنده ـ وهي المشهورة في كتب الصرف ـ هكذا :

يا قبح الله بني السعلات

عمرو بن يربوع شرار النات

* غير أعفاء ولا أكيات*

٩٧

أراد بالنّات الناس فحول السين تاء ، وقال الآخر :

[٧١] يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم

أمّ الهنيبر من زند لها واري

وهي جملة خبرية ، فدلّ على أنه لا فرق في ذلك بين الجملة الأمرية والخبرية ؛ فوجب أن يكون المنادى محذوفا في قولهم «يا نعم المولى ويا نعم النّصير».

والذي يدلّ على فساد ما ذهبوا إليه أنا أجمعنا على أن الجمل لا تنادى ؛ وأجمعنا على أن «نعم الرّجل» جملة ، وإن وقع الخلاف في نعم هل هي اسم أو فعل ، وإذا امتنع للإجماع قولنا «يا زيد منطلق» فكذلك يجب أن يمتنع «يا نعم الرجل» إلا على تقدير حذف المنادى على ما بينّا.

وأما قولهم «إن النداء لا يكاد ينفك عن الأمر أو ما جرى مجراه ، ولذلك لا

______________________________________________________

و «قبح الله فلانا» أي نحاه وأبعده عن الخير ، ويروى «يا قاتل الله» وهو دعاء بالهلكة ، و «السعلاة» بكسر السين وسكون العين المهملة ـ أنثى الغول ، ويقال : هي ساحرة الجن ، وقد زعموا أن عمرو بن يربوع تزوج سعلاة فأقامت دهرا في بني تميم وأولدها عمرو أولادا ، و «عمرو بن يربوع» قالوا : هو بدل من السعلاة ، ولو جعلته معطوفا عليه بعاطف محذوف لم تكن قد أبعدت ، و «النات» أراد به الناس ، و «أكيات» أراد به الأكياس : جمع كيس ، وهو الحاذق الفطن. ومحل الاستشهاد به ههنا قوله «يا قبح الله» حيث اقترن حرف النداء بجملة فعلية دعائية ، وقد اتفق الفريقان على أن المنادى لا يكون جملة ؛ فلزمهما جميعا أن يقدرا اسما مفردا ليكون هو المنادى بهذا الحرف ، وأصل الكلام عندهم : يا قوم قبح الله ، أو يا هؤلاء قبح الله ، وما أشبه ذلك. وهذا أحد توجيهين في هذا البيت ونحوه ، والثاني : أن «يا» ههنا حرف تنبيه ، لا حرف نداء ، وحرف التنبيه يدخل على الجمل الفعلية والاسمية ، ونظير هذا البيت قول جرير :

يا حبذا جبل الريان من بلد

وحبذا ساكن الريان من كانا

وقول الفرزدق :

يا أرغم الله أنفا أنت حامله

يا ذا الخنى ومقال الزور والخطل

[٧١] هذا البيت للقتال الكلابي ، واسمه عبيد بن المضرجي ، وقد أنشده ابن منظور (ه ن ب ر) ونسبه إليه ، وأنشد بعده :

من كل أعلم مشقوق وتيرته

لم يوف خمسة أشبار بشبار

وقال بعد إنشاد البيتين «ويروى يا قبح الله ضبعانا ، وفي شعره : من زند لها حاري ، والحاري : الناقص ، والواري : السمين ، والأعلم : المشقوق الشفة العليا ، والوتيرة : إطار الشفة ، وأبو الهنبر : الضبعان ، ثم قال : وأم الهنبر : الضبع ، وقيل : هي الحمارة الأهلية ، والهنبر ـ بوزن الخنصر ، بكسر أوله وثالثه ـ ولد الضبع ، ويقال الهنبر الجحش» اه. ومحل الاستشهاد قوله «يا قاتل الله ـ الخ» والقول فيه كالقول في الشاهد السابق.

٩٨

يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن أمر أو نهي» قلنا : لا نسلم ، بل يكثر مجيء الخبر والاستفهام مع النداء كثرة الأمر والنهي ، أما الخبر فقد قال الله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الزخرف : ٦٨] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) [مريم : ٤٥] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف : ٤] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ١٠٠] وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : ٢٣] وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥] إلى غير ذلك من المواضع ، وأما الاستفهام فقد قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ؟) [التحريم : ١] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ؟) [الصف : ٢] ، وقال تعالى في موضع آخر : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا [٥٦] يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢] ، وقال تعالى في موضع آخر : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر : ٤١] إلى غير ذلك من المواضع ؛ فإذا كثر مجيء الخبر والاستفهام كثرة الأمر والنهي فقد تكافا في الكثرة ؛ فلا مزية لأحدهما عن الآخر.

وأما قولهم «إنه لا يحسن اقتران الزمان بهما ؛ فلا يقال : نعم الرجل أمس ، ولا بئس الغلام غدا ، ولا يجوز تصرفهما» فنقول : إنما امتنعا من اقترانهما بالزمان الماضي ، وما جاء التصرف لأن «نعم» موضوع لغاية المدح و «بئس» موضوع لغاية الذم ؛ فجعل دلالتهما مقصورة على الآن ؛ لأنك إنما تمدح وتذم بما هو موجود في الممدوح أو المذموم ، لا بما كان فزال ، ولا بما سيكون ولم يقع.

وأما قولهم «إنه قد جاء عن العرب نعيم الرّجل» فهذا مما ينفرد بروايته أبو علي قطرب ، وهي رواية شاذة ، ولئن صحت فليس فيها حجة ؛ لأن نعم أصله نعم على وزن فعل ـ بكسر العين ـ فأشبع الكسرة فنشأت الياء كما قال الشاعر :

تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة

نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف [١٣]

أراد الدراهم والصيارف ، والذي يدلّ على أن أصل نعم نعم أنه يجوز فيها أربع لغات : نعم ـ بفتح النون وكسر العين ـ على الأصل ، ونعم ـ بفتح النون وسكون العين ـ ونعم ـ بكسر النون والعين ـ ونعم ـ بكسر النون وسكون العين.

فمن قال نعم ـ بفتح النون وكسر العين ـ أتى بها على الأصل كقراءة ابن

٩٩

عامر وحمزة والكسائي والأعمش وخلف (فَنَعِمّا) ـ بفتح النون وكسر العين ـ وكما قال طرفة :

[٧٢] ما أقلّت قدم ناعلها

نعم السّاعون في الأمر المبرّ

______________________________________________________

[٧٢] هذا البيت من كلام طرفة بن العبد البكري (د ٧٣) وقد أنشده الرضي في شرح الكافية (٢ / ٢٩٠) وشرحه البغدادي في الخزانة (٤ / ١٠١) وابن منظور في اللسان (ن ع م) وقد اختلفت الرواية في صدر هذا البيت اختلافا كثيرا ؛ فيروى :

* ما أقلت قدم ناعلها*

وهي رواية المؤلف هنا ، ويروى :

* ما أقلت قدماي إنهم*

وهي رواية ابن منظور ، ويروى :

* ما أقلت قدمي إنهم*

وعلى الروايتين الأخيرتين يكون مفعول أقلت محذوفا ، والتقدير ، ما أقلتني قدماي ، أو ما أقلتني قدمي ، و «ما» مصدرية ظرفية ، وأقلت : معناه حملت أو رفعت ، والقدم ـ بالتحريك ـ الرجل ، والناعل : لابس النعل ، وجملة «إنهم نعم الساعون ـ الخ» للتعليل ، والساعون : جمع ساع ، والأمر المبر : الذي يعجز الناس عن دفعه ؛ لأنه يفوق طاقتهم ويزيد على قدر ما يحتملونه ، ويروى :

* نعم الساعون في القوم الشطر*

والشطر ـ بضم الشين والطاء جميعا ـ جمع شطير ، ويراد به هنا الغرباء ، وأصل الشطير الناحية ، وسمي الغريب به لأن كل من بعد عن أهله يأخذ في ناحية من نواحي الأرض ، والاستشهاد به في قوله «نعم الساعون» حيث استعمل هذا الفعل على ما هو الأصل فيه بفتح النون وكسر العين ، على مثال علم وفهم وضحك ، وإنما قالوا فيه «نعم» بكسر النون وسكون العين للتخفيف ، وذلك أن حرف الحلق في ذاته ثقيل ، والكسرة ثقيلة أيضا ، ولهذا يفر العرب في كل كلمة ثلاثية مفتوحة الأول مكسورة الثاني إذا كان الحرف الثاني من حروف الحلق ـ وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء ـ إلى تغيير هذه الزنة إلى واحد من ثلاثة أوزان : الأول : أن يسكنوا الحرف المكسور ويبقوا ما عداه على حاله ، فيقولون : نعم ، وضحك ، وفهم ، وبأس ـ بفتح أوائل هذه الأفعال وسكون ثانيها ، والثاني : أن يسكنوا الحرف المكسور بعد أن ينقلوا كسرته إلى الحرف الأول ، فيقولون : نعم ، وضحك ، وفهم ، وبئس ـ بكسر أوائل هذه الكلمات وسكون ثانيها ـ والثالث : أن يبقوا الثاني مكسورا على حاله ، ويكسروا الأول إتباعا لثانية ، فيقولون : نعم ، وضحك ، وفهم ، وبئس ـ بكسر أوائل هذه الكلمات وكسر ثانيها أيضا ، فإن قلت : فقد ذكرت أن الكسرة ثقيلة ، وهم إنما خرجوا بهذا النوع من الكلمات عن أوزانها الأصلية إلى أوزان أخرى غير أصلية قصدا إلى التخفيف ، وفرارا من الثقل الذي جلبه أمران : كون ثاني الكلمة من حروف الحلق المستفلة التي يشبه النطق بها التهوع ، وكون هذا الحرف مكسورا ، فكيف يجيئون بكسرة أخرى وهي ثقيلة فيزيدوا الكلمة ثقلا؟ فالجواب عن هذا أن من أسباب

١٠٠